تكملة للحلقة السابقة قال الله تعالى عن "مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ" "وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴿النساء 132﴾ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ: مَا اسم موصول، فِي حرف جر، ال اداة تعريف، سَّمَاوَاتِ اسم، وَ حرف عطف، مَا اسم موصول، في حرف جر، الْ اداة تعريف، أَرْضِ اسم، ولله ما في السماوات وما في الأرض: كرره تأكيدا لتقرير موجب التقوى، ولله ملك ما في هذا الكون من الكائنات، وكفى به سبحانه قائمًا بشؤون خلقه حافظًا لها، و "لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا" ﴿النساء 171﴾ أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض: خلقا وملكا وعبيدا، والملكية تنافي النبوة، انتهوا عن هذه المقالة خيرًا لكم مما أنتم عليه، إنما الله إله واحد سبحانه. ما في السموات والأرض مُلْكُه، فكيف يكون له منهم صاحبة أو ولد؟ و "جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ۚ ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" ﴿المائدة 97﴾ أن الله يعلم جميع ما في السموات وما في الأرض، ومن ذلك ما شرعه لحماية خلقه بعضهم من بعض، وأن الله بكل شيء عليم، فلا تخفى عليه خافية، و "قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ۗ سُبْحَانَهُ ۖ هُوَ الْغَنِيُّ ۖ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَـٰذَا ۚ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ" ﴿يونس 68﴾ له ما في السماوات وما في الأرض: ملكا وخلقا وعبيدا، له كل ما في السموات والأرض، فكيف يكون له ولد ممن خلق وكل شيء مملوك له؟ و "اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ" ﴿ابراهيم 2﴾ لذي له ما في السماوات وما في الأرض: ملكا وخلقا وعبيدا، و "وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ" ﴿النحل 49﴾ ولله وحده يسجد كل ما في السموات وما في الأرض مِن دابة، والملائكة يسجدون لله، وهم لا يستكبرون عن عبادته.
جاء في تفسير الميزان للعلامة السيد الطباطبائي: قوله تعالى "وقوله "ِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً" (المائدة 17) إنما قيد المسيح بقوله :"ابْنُ مَرْيَمَ" للدلالة على كونه بشرا تاما واقعا تحت التأثير الربوبي كسائر البشر، ولذلك بعينه عطف عليه "أُمَّهُ" لكونها مسانخة له من دون ريب، وعطف عليه "مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً" (المائدة 17) لكون الحكم في الجميع على حد سواء. ومن هنا يظهر أن في هذا التقييد والعطف تلويحا إلى برهان الإمكان، ومحصله أن المسيح يماثل غيره من أفراد البشر كأمه وسائر من في الأرض فيجوز عليه ما يجوز عليهم لأن حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد، ويجوز على غيره أن يقع تحت حكم الهلاك فيجوز عليه ذلك ولا مانع هناك يمنع، ولو كان هو الله سبحانه لما جاز عليه ذلك. وقوله "وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما" (المائدة 17) في مقام التعليل للجملة السابقة ، والتصريح بقوله :"وَما بَيْنَهُما" (المائدة 17) مع أن القرآن كثيرا ما يعبر عن عالم الخلقة بالسماوات والأرض فقط إنما هو ليكون الكلام أقرب من التصريح ، وأسلم من ورود التوهمات والشبهات فليس لمتوهم أن يتوهم أنه إنما ذكر السماوات والأرض ولم يذكر ما بينهما، ومورد الكلام مما بينهما. وتقديم الخبر أعني قوله "وَلِلَّهِ" للدلالة على الحصر، وبذلك يتم البيان، والمعنى: كيف يمكن أن يمنع مانع من إرادته تعالى إهلاك المسيح وغيره ووقوع ما أراده من ذلك، والملك والسلطنة المطلقة في السماوات والأرض وما بينهما لله تعالى لا ملك لأحد سواه؟ فلا مانع من نفوذ حكمه ومضي أمره. وقوله "يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (المائدة 17) في مقام التعليل للجملة السابقة عليه أعني قوله "وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما" (المائدة 17) فإن الملك بضم الميم وهو نوع سلطنة ومالكية على سلطنة الناس وما يملكونه إنما يتقوم بشمول القدرة ونفوذ المشيئة، ولله سبحانه ذلك في جميع السماوات والأرض وما بينهما، فله القدرة على كل شيء وهو يخلق ما يشاء من الأشياء فله الملك المطلق في السماوات والأرض وما بينهما فخلقه ما يشاء وقدرته على كل شيء هو البرهان على ملكه كما أن ملكه هو البرهان على أن له أن يريد إهلاك الجميع ثم يمضي إرادته لو أراد، وهو البرهان على أنه لا يشاركه أحد منهم في ألوهيته.
عن الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله تعالى "وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَ الْمَلائِكَةُ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ" (النحل 49)، مسلمين للّه و لأوامره تسليما كاملا. و حقيقة السجود نهاية الخضوع و التواضع و العبادة، و ما نؤديه من سجود على الأعضاء السبعة ما هو إلّا مصداق لهذا المفهوم العام و لا ينحصر به. و بما أنّ جميع مخلوقات اللّه في عالم التكوين و الخلق مسلمة للقوانين العامّة لعالم الوجود، التي أفاضتها الإرادة الإلهية فإنّ جميع المخلوقات في حالة سجود له جلّ و علا، و لا ينبغي لها أن تنحرف عن مسير هذه القوانين، و كلها مظهرة لعظمة و علم و قدرة الباري عزّ و جلّ، و لتدلل على أنّها آية على غناه و جلاله. و الخلاصة: كلها دليل على ذاته المقدسة. (الدابة): بمعنى الموجودات الحية، و يستفاد من ذكر الآية لسجود الكائنات الحية في السماوات و الأرض على وجود كائنات حية في الأجرام السماوية المختلفة علاوة على ما موجود على الأرض. و قد احتمل البعض: عبارة "من دابة" (النحل 49) قيد ل "ما في الأرض" (النحل 49) فقط، أي: إنّ الحديث يختص بالكائنات الحية الموجودة على الأرض. و يبدو ذلك بعيدا بناء على ما جاء في الآية (29) من سورة الشورى "وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ" (الشورى 29). صحيح أنّ السجود و الخضوع التكويني لا ينحصر بالكائنات الحية، و لكنّ تخصيص الإشارة بها لما تحمله من أسرار و عظمة الخلق أكثر من غيرها. و بما أنّ مفهوم الآية يشمل كلا من: الإنسان العاقل المؤمن، و الملائكة، و الحيوانات الأخرى، فقد استعمل لفظ السجود بمعناه العام الذي يشمل السجود الاختياري و التشريعي و كذا التكويني الاضطراري. أمّا الإشارة إلى الملائكة بشكل منفصل في الآية فلأنّ الدابة تطلق على الكائنات الحيّة ذات الجسم المادي فقط، بينما للملائكة حركة و حضور و غياب.
جاء في روائع البيان عن الفرق بين استعمال من وما في قوله تعالى: "وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" (الرعد 15) وقوله تعالى "وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ" (النحل 49) للدكتور فاضل السامرائي: (من) تستعمل لذوات العقلاء وأولي العلم فقط أما (ما) فتستعمل لصفات العقلاء "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا" (الشمس 8)، و "فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ" (النساء 3)، و "وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأنْثَى" (الليل 3) والله هو الخالق، "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا" (الشمس 8) والله هو المسوي، وذوات غير العاقل (أشرب من ما تشرب) وهي أعمّ وأشمل. لكن يبقى السؤال لماذا الاختلاف في الاستعمال في القرآن الكريم فمرة تأتي (من) ومرة تأتي (ما)؟ ونستعرض الآيات التي وردت فيها (من) مع السجود : قال تعالى في سورة الرعد: "وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ" (الرعد 15) والطوع والكره من صفات العقلاء فاستعمل (من) والكلام في العقلاء أيضاً فاستخدم (من). أما في سورة النحل في قوله تعالى: "أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)" (النحل 48-49) الدابة أغلب ما تستعمل في اللغة لغير العاقل وهي عامة وشاملة فاستعمل (ما) كما أنه في الآية جاءت كلمة (شيء) وهي أعمّ كلمة. وعليه فإنه من ناحية العموم ناسب استعمال (ما) ومن ناحية استعمالها لغير العاقل ناسب استعمال (ما) لأن الدابة كما أسلفنا تستعمل في الغالب لغير العاقل. ونلاحظ في القرآن أنه تعالى عندما يستعمل (من) يعطف عليها ما لا يعقل كما في قوله تعالى في سورة الحج: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ" (الحج 18). أما عندما يستعمل (ما) فإنه يعطف عليها ما يعقل "وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ" (النحل 49) وهو خط بياني لم يتخلف في القرآن أبدا والحكمة البيانية منه الجمع. وكذلك استعمال من مع فعل يسبّح كما في قوله تعالى في سورة الإسراء: "تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا" (الاسراء 44) وفي سورة النور "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ" (النور 41). واستعمال (ما) كما في قوله تعالى في سورة الحشر "هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (الحشر 24) وسورة الجمعة "يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ" (الجمعة 1) وسورة التغابن "يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (التغابن 1) وسورة الحديد "سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (الحديد 1) والحكمة البيانية من ذلك جمع كل شيء.







وائل الوائلي
منذ 4 ساعات
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN