أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-03-04
721
التاريخ: 2024-01-16
1005
التاريخ: 22-12-2014
4999
التاريخ: 2024-10-22
96
|
صدر الدين الشيرازي (ت : 1050 هـ)
يتحرّك صدر الدين الشيرازي على هدي المنظومة
الوجودية ذاتها التي وضع ابن عربي مرتكزاتها. والأمر لا يقتصر على نظرية مراتب فهم
القرآن ، بل هو يحذو حذوه في جميع اشتغالاته الحكمية ورؤاه في المعرفة الإلهية.
أ- مرتكزات النظرية :
فبشأن مراتب الفهم يصدر الشيرازي عن التصوّر
ذاته الذي يذهب إلى الموازاة بين الوجود والقرآن والإنسان ، وأنّها جميعا تجليات
لأسماء اللّه ومجالي لها. فالإنسان والقرآن والوجود وإن كانت مظاهر لاسم اللّه
الأعظم وما تحته من أسماء ، إلّا أنّها تنطوي على مراتب ودرجات يناظر كلّ واحد
منها ما هو موجود في الآخر ويوازيه.
على أساس هذه المطابقة صحّ أن يكون بين
أيدينا قرآن تدويني وتكويني وآفاقي وأنفسي ، ونصوص الشيرازي وافية في التدليل على
هذا المعنى وإثباته ، وهي في الغالب مقاربة لنصوص ابن عربي بل مقتبسة منها في غالب
الأحيان ، تماما كما سنرى في نصوص الإمام الخميني ، ممّا يدلّ على وحدة المدرسة.
يقدّم صدر الدين نصوصا مكثّفة للتوازي
القائم بين الإنسان والعالم ، وأنّ الإنسان هو على صورة العالم يحاكيه في المراتب
الوجودية وما تنطوي عليه من درجات ، منها : «كما أنّ العالم بتمامه منقسم إلى غيب وشهادة
، كذلك الإنسان الذي هو على صورة العالم؛ عالم صغير مشتمل على غيب وشهادة ، أي
روح وجسم» (1).
هذا التوازي الوجودي بين العالم والإنسان ، له
صورة مماثلة تماما بين الإنسان والقرآن : «وبالجملة إنّ للقرآن درجات ومنازل كما
للإنسان ، وأدنى مراتب القرآن وهو ما في الجلد والغلاف كأدنى مراتب الإنسان ، وهو
ما في الإهاب البشرة» (2).
من مقتضيات الفلسفة الوجودية في الخط الذي
يتبنّاه ابن عربي وصدر الدين ومن والاه تبعا له ، وحدة حقيقة الإنسان كما القرآن ،
بيد أنّ لهذه الحقيقة أسماء ومجالي وتجليات تبعا لمراتبها الوجودية : «فكما أنّ الإنسان حقيقة واحدة
وله مراتب كثيرة وأسامي مختلفة يسمّى في كلّ عالم باسم خاص مناسب لمقامه الخاص في
الصعود ، فكذلك القرآن حقيقة واحدة وله مراتب كثيرة وأسامي مختلفة يسمّى في كلّ
عالم باسم خاص مناسب لمقامه الخاص في النزول» (3). في نص آخر يتناول صدر الدين علاقة التوازي
الوجودي بين القرآن والإنسان على نحو أكثر تفصيل ، نقرأ فيه : «اعلم أنّ القرآن كالإنسان
ينقسم إلى سرّ وعلن ، ولكلّ منها أيضا ظهر وبطن ولبطنه بطن آخر إلى أن يعلمه اللّه
، ولا يعلم تأويله إلّا اللّه. وقد ورد أيضا في الحديث (أنّ للقرآن ظهرا وبطنا ولبطنه بطنا إلى
سبعة أبطن) ، وهو
كمراتب باطن الإنسان من الطبع والنفس والصدر والقلب والعقل والروح والسرّ والخفي» (4).
ثمّ انعطف لبيان النتيجة المعرفية المترتبة
على هذا التناظر الوجودي القائم بين القرآن والإنسان ، متمثّلة بتفاوت درجات
المعرفة واختلاف مراتب الفهم تبعا لذلك ، حيث أضاف : «أمّا ظاهر علّته فهو المصحف المحسوس
الملموس والرقم المنقوش الممسوس ، وأمّا باطن علّته فهو ما يدركه الحسّ الباطن ويستثبته
القرّاء والموجودون في خزانة مدركاتهم ومخزوناتهم كالخيال ونحوه .. فهاتان
المرتبتان من القرآن دنياويتان ممّا يدركه كلّ إنسان بشري. وأمّا باطنه وسرّه فهما
مرتبتان أخراويتان ، ولكلّ منهما مراتب ودرجات ومنازل ومقامات» (5).
يوضّح صدر الدين الرؤية ذاتها على نحو آخر
عند ما يسجّل : «إنّ
العوالم بكثرتها ثلاثة ، والمدارك الإنسانية على شجونها ثلاثة ، والإنسان بحسب
غلبة كلّ واحد منها يقع في عالم من هذه العوالم والنشآت ، فبالحسّ يقع في العالم
الدنياوي وبه ينال الصور الحسّية ... وبالقوّة
الباطنية الجزئية يقع في النشأة الثانية ... وبالقوّة الباطنة يقع في النشأة الثالثة ... فالناس أصناف ثلاثة أهل الدنيا وهم أهل
الحس ...
وأهل الآخرة وهم الصلحاء ... وأهل اللّه وهم العرفاء باللّه وملائكته وكتبه
ورسله واليوم الآخر»(6).
والعوالم المشار لها ليست متناظرة وجوديا وحسب
، بل هي متطابقة بالصورة أيضا : «فاللّه تعالى ما خلق شيئا في عالم الصورة إلّا وله نظير في عالم
المعنى ، وما خلق شيئا في عالم المعنى وهو الآخرة إلّا وله حقيقة في عالم الحقّ وهو
غيب الغيب ، إذ العوالم متطابقة الأدنى مثال الأعلى ، والأعلى حقيقة الأدنى وهكذا
إلى حقيقة الحقائق» (7).
على ضوء هذا التطابق يكتسب العالم المادّي
عمقه في عالم أرقى منه وأكثر تكاملا ، بحيث يكون الأدنى مثالا للأعلى ومرقاة إليه
: «ما من شيء في
هذا العالم إلّا وهو مثال لأمر روحاني من عالم الملكوت كأنّه روحه ومعناه ، وليس
هو في صورته وقالبه ، والمثال الجسماني مرقاة إلى المعنى الروحاني» (8).
إمعانا في تركيز هذا التصوّر وعطفا له على
الإنسان ، نقرأ في نص آخر :
«فجميع ما في هذا العالم أمثلة وقوالب لما في عالم الآخرة ، وما
في الآخرة هي مثل وأشباه للحقائق والأعيان الثابتة التي هي مظاهر أسماء اللّه
تعالى ، ثمّ ما خلق في العالمين شيء إلّا وله مثال وأنموذج في عالم الإنسان» (9). وقد مرّ علينا التناظر بين الإنسان والقرآن
، الذي لنا أن نؤكّده بنص جديد يسجّل فيه الشيرازي : «فإذا تقرّر هذا ثبت أنّ للقرآن منازل ومراتب
، كما للإنسان درجات ومعارج» (10). كما قوله أيضا : «وبالجملة للقرآن درجات كما مرّ
، وكذلك للإنسان بحسبها» (11).
وكذلك : «فعلم من هذا أنّ الإنسان ومراتبه مثال
مطابق للإيمان ومراتبه ، وكذا حكم القرآن» (12).
ب- النتائج المترتبة :
أوّل ما يترتب على هذا التصوّر الوجودي
لثلاثية العالم والإنسان والقرآن ، أنّ القرآن الكريم ليس ألفاظا هي هذه التي تقع
بين الدفتين وحسب ، وإنّما هو : «علم بحقائق الأشياء» (13). وما الصورة اللفظية إلّا التنزّل الأخير
لتلك الحقائق أو للحقيقة القرآنية ، فالقرآن : «نزل إلى العالم الأسفل لنجاة المحبوسين في
سجن الدنيا ... [و]
تلبّس بلباس
الحروف والأصوات واكتسى بكسوة الألفاظ والعبارات رحمة من اللّه وشفقة على عباده وتأنيسا
لهم ، وتقريبا إليهم وإلى أفهامهم ومداراة معهم ومنازلة إلى أذواقهم ، وإلّا فما
للتراب وربّ الأرباب» (14).
من النتائج أيضا وجود علاقة تفاعلية بين
الإنسان والقرآن والعالم ، فالإنسان يقرأ العالم من خلال المصحف ، وتتحوّل وجودات
عالم الإمكان إلى شفرات ومفاتيح لقراءة القرآن آفاقيا واستشراف حقائقه ، كما أنّه
يطل على القرآن من داخله ويتلوه أنفسيا وهكذا. يكتسب القرآن عبر شبكة التفاعل
الوجودي هذه صورة أو بعدا تكوينيا وتدوينيا وآفاقيا وأنفسيا. يكتب الشيرازي في
الإيماء إلى أحد مستويات هذه العلاقة التفاعلية : «واعلم أنّ اختلاف صور الموجودات
وتباين صفاتها وتضادّ أحوالها ، شواهد عظيمة لمعرفة بطون القرآن وأنوار جماله وأضواء
آياته وأسرار كلماته ، ولتعلّم أسماء اللّه الحسنى وصفاته العليا ، لما مرّت
الإشارة إليه من أنّ الكتاب الفعلي الكوني بإزاء الكلام القولي العقلي ، وهو بإزاء
الأسماء والصفات الإلهية ، لكن هناك على وجه الوحدة والإجمال وهاهنا على وجه
الكثرة والتفصيل ... وكما أنّ صور الكائنات من الأرض والسماوات وما بينهما- وهي
عالم الخلق- تفصيل لما في عالم العقل وهو عالم الأمر ، فكذلك جميع ما في العالمين
الأمر والخلق كتاب تفصيلي لما في العالم الإلهي من الأسماء والصفات» (15).
يضع النصّ الكون وما فيه بإزاء النصّ
القرآني ، وذلك على النحو الذي تتحوّل به موجودات عالم الإمكان إلى مفاتيح لما
يطويه النص القرآني من بطون ومعان ، والاثنان هما مظاهر لأسماء اللّه. وهذا هو
المعنى ذاته الذي أسس له ابن عربي ، وعاد الشيرازي لتكراره وهو يقول : «فكل ما في عالم الإمكان صورة
اسم من أسماء اللّه ومظهر شأن من شئونه» (16).
أمامنا نص آخر يتحدّث عن العلاقة التفاعلية
بين القرآن والإنسان والوجود ، على النحو التالي : «فعالم الكلام والقول فيه آيات
أمرية عقلية وعلمية ، وعالم الكتاب والفعل فيه آيات خلقية كونية عملية. وما لم
يطّلع الإنسان أوّلا بمشاعر نفسه وبدنه هذه الآيات الفعلية الكتابية والآفاقية والأنفسية
، لم يترقّ بها ذاته من مقام الحسّ والنفس إلى مقام القلب والروح ، فيسمع ويفهم
تلك الآيات العقلية [القولية] الكلامية حتّى يعرف بها الحقّ الأوّل ، كما قال : {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي
الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت : 53] » (17).
صحيح أنّ الإنسان في هذا التصور الفلسفي هو
كون ، بل : «هو
أشرف الأكوان» (18) له في ذاته قابلية الترقّي إلى حد الكمال والتعانق مع أنوار المبدأ ،
وصحيح أيضا أنّ في القرآن سعة ورحابة في الفهم ، حيث أنّ : «العلم بكتاب اللّه أوسع من أن
يحصره حدّ معين أو يضبطه قانون مبين» (19) ؛ إلّا أنّ المقصود من الإنسان بالدرجة
الاولى هو الإنسان الكامل الذي يتحلّى بالمرتبة القصوى من معرفة القرآن ، بل هو
مظهر وجودي للقرآن ، كما القرآن مظهر نصّي له ، وكلاهما مظهران لاسم اللّه الأعظم
وما يندرج تحته من الأسماء ، ثمّ يليه من يليه بحسب سعته الوجودية. وهذه نتيجة
اخرى تترتب على التصور الصدرائي تماما كما لحظنا عند ابن عربي.
يسجّل في نص دال ومكثّف عن مكانة الإنسان
الكامل : «الإنسان الكامل كتاب جامع لآيات ربّه القدّوس ، وسجّل مطوي فيه حقائق
العقول والنفوس ، وكلمة كاملة مملوّة من فنون العلم والشجون ، ونسخة مكتوبة من
مثال كُنْ فَيَكُونُ بل أمر وارد من (الكاف والنون) لكونه مظهر اسم اللّه الأعظم
الجامع لجميع الأسماء» (20). كما قوله أيضا : «إنّ الإنسان الكامل هو الكتاب
الجامع لجميع آيات الحكمة ، المشتمل على حقائق الكون كلّه حديثه وقديمه» (21). ولهذا الإنسان قوّة كلّ موجود في العالم ،
وله جميع المراتب ، لهذا : «اختصّ وحده بالخلافة الإلهية وبكونه مخلوقا على الصورة ، فجمع بين
الحقائق الإلهية وهي الأسماء ، وبين المراتب الكونية وهي الأجزاء ، فيظهر به ما
لا يظهر بجزء جزء من العالم ولا بكلّ اسم من الحقائق الإلهية ، فكان الإنسان أكمل
الموجودات» (22).
وعليه يضحى هذا الإنسان العبد الحقيقي الذي
يجسّد العبودية في وجوده بأعلى ممكناتها ، بحكم ما يحظى به من معرفة ، لأنّ
العبودية فرع المعرفة : «أمّا الإنسان الكامل فهو الذي يعرف الحقّ بجميع المشاهد والمشاعر ،
ويعبده في جميع المواطن والمظاهر ، فهو عبد اللّه يعبده بجميع أسمائه وصفاته ، ولهذا
سمّي بهذا الاسم أكمل أفراد الإنسان محمد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم» (23). على هذا : «فالكتاب إشارة إلى ذات النبي صلّى اللّه
عليه وآله وسلّم المعبّر عنه تارة بالقرآن ... وتارة بالفرقان» (24) وإنّ «حقيقة
القرآن عند المحقّقين من العرفاء هو جوهر ذات النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم» (25).
____________________
(1)-
تفسير القرآن الكريم 6 : 55.
(2)- الحكمة المتعالية 7 : 39.
(3)- تفسير القرآن الكريم 6 : 22- 23.
(4)- الحكمة المتعالية 7 : 36 ، وقد عقب
الشيخ هادي السبزواري المتوفى في سنة 1289 هـ على النص في الهامش ، بقوله : «و لعل
الصدر- وهو مقام الخيال كما مرّ- زيادة من النساخ ، وإلّا لكانت المراتب ثمانية».
(5)- نفس المصدر : 36- 37.
(6)- تفسير القرآن الكريم 4 : 101- 102.
(7)- نفس المصدر : 166.
(8)- نفس المصدر : 172.
(9)- نفس المصدر : 166.
(10)- نفس المصدر 7 : 112.
(11)- نفس المصدر : 109.
(12)- نفس المصدر : 110.
(13)- نفس المصدر : 103.
(14)- نفس المصدر 6 : 8- 9.
(15)- الحكمة المتعالية 7 : 31- 32.
(16)- تفسير القرآن الكريم 1 : 34.
(17)- تفسير القرآن الكريم 7 : 112- 113.
(18)- نفس المصدر 1 : 2.
(19)- نفس المصدر 4 : 338.
(20)- نفس المصدر : 396- 397.
(21)- نفس المصدر 1 : 188.
(22)- نفس المصدر : 190.
(23)- نفس المصدر : 41- 42.
(24)- نفس المصدر 6 : 22 عند تفسير قوله سبحانه : {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة : 2] .
(25)- نفس المصدر.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|