التفسير بالمأثور/الامامة/الإمام الباقر (عليه السلام)
ابي رحمه الله،
عن سعد بن عبد الله، عن محمد بن أحمد السياري، عن محمد بن عبد
الله بن مهران الكوفي ؟ عن حنان بن سدير، عن أبيه، عن أبي إسحاق الليثي قال: قلت
لابي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام: يا بن رسول الله أخبرني عن المؤمن المستبصر
إذا بلغ في المعرفة وكمل هل يزني ؟ قال: اللهم لا، قلت: فيلوط ؟ قال: اللهم لا،
قلت: فيسرق ؟ قال: لا، قلت: فيشرب الخمر ؟ قال: لا ; قلت: فيأتي بكبيرة من هذه الكبائر
أو فاحشة من هذه الفواحش ؟ قال: لا ; قلت: فيذنب ذنبا ؟ قال: نعم وهو مؤمن مذنب
مسلم ; قلت: ما معنى مسلم ؟ قال: المسلم بالذنب لا يلزمه ولا يصير عليه، قال فقلت:
سبحان الله ما أعجب هذا ! لا يزني ولا يلوط ولا يسرق ولا يشرب الخمر ولا يأتي
كبيرة من الكبائر ولا فاحشة ؟ ! فقال: لا عجب من أمر الله، إن الله عز وجل يفعل
ما يشاء ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون ; فمم عجبت يا إبراهيم ؟ سل ولا تستنكف
ولا تستحسر فإن هذا العلم لا يتعلمه مستكبر ولا مستحسر ; قلت: يا بن رسول الله
إني أجد من شيعتكم من يشرب، ويقطع الطريق، ويحيف السبيل، ويزني ويلوط، ويأكل الربا،
ويرتكب الفواحش، ويتهاون بالصلاة والصيام والزكاة، ويقطع الرحم. ويأتي الكبائر،
فكيف هذا ؟ ولم ذاك ؟ فقال: يا إبراهيم هل يختلج في صدرك شئ غير هذا ؟ قلت: نعم
يا بن رسول الله اخرى أعظم من ذلك ; فقال: وما هو يا أبا إسحاق قال: فقلت:
يا بن رسول الله وأجد من أعدائكم ومناصبيكم من يكثر من الصلاة ومن الصيام،
ويخرج الزكاة، ويتابع بين الحج والعمرة، ويحض على الجهاد، ويأثر على البر وعلى
صلة الارحام، ويقضي حقوق إخوانه، ويواسيهم من ماله، ويتجنب شرب الخمر والزنا واللواط
وسائر الفواحش، فمم ذاك ؟ ولم ذاك ؟ فسره لي يا بن رسول الله وبرهنه وبينه
فقد والله كثر فكري وأسهر ليلي وضاق ذرعي ! قال: فتبسم صلوات الله عليه ثم قال:
يا إبراهيم خذ إليك بيانا شافيا فيما سألت، وعلما مكنونا من خزائن علم الله وسره،
أخبرني يا إبراهيم كيف تجد اعتقادهما ؟ قلت: يا بن رسول الله أجد محبيكم
وشيعتكم على ما هم فيه مما وصفته من أفعالهم لو اعطي أحدهم
مما بين المشرق والمغرب ذهبا وفضة أن يزول عن ولايتكم ومحبتكم إلى موالات غيركم
وإلى محبتهم ما زال، ولو ضربت خياشيمه بالسيوف فيكم، ولو قتل فيكم ما ارتدع
ولا رجع عن محبتكم وولايتكم ; وأرى الناصب على ما هو عليه مما وصفته من أفعالهم
لو أعطي أحدهم ما بين المشرق والمغرب ذهبا وفضة أن يزول عن محبة الطواغيت وموالاتهم
إلى موالاتكم ما فعل ولا زال ولو ضربت خياشيمه بالسيوف فيهم، ولو قتل فيهم ما
ارتدع ولا رجع، وإذا سمع أحدهم منقبة لكم وفضلا اشمأز من ذلك وتغير لونه، ورئي كراهية
ذلك في وجهه، بغضا لكم ومحبة لهم. قال: فتبسم الباقر عليه السلام ثم قال: يا
إبراهيم ههنا هلكت العاملة الناصبة، تصلى نارا حامية، تسقى من عين آنية، ومن
أجل ذلك قال عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً
مَنْثُورًا} [الفرقان: 23] ويحك يا إبراهيم أتدري ما السبب والقصة في ذلك؟ وما الذي قد خفي
على الناس منه ؟ قلت: يا بن رسول الله فبينه لي واشرحه وبرهنه. قال: يا إبراهيم
إن الله تبارك وتعالى لم يزل عالما قديما خلق الاشياء لا من شئ ومن زعم أن الله
عز وجل خلق الاشياء من شئ فقد كفر لأنه لو كان ذلك الشيء الذي خلق منه الاشياء قديما
معه في أزليته وهويته كان ذلك أزليا ; بل خلق الله عز وجل الاشياء كلها لا من شئ،
فكان مما خلق الله عز وجل أرضا طيبة، ثم فجر منها ماءا عذبا زلالا، فعرض عليها ولايتنا
أهل البيت فقبلتها، فأجرى ذلك الماء عليها سبعة أيام حتى طبقها وعمها، ثم نضب ذلك
الماء عنها، وأخذ من صفوة ذلك الطين طينا فجعله طين الائمة عليهم السلام، ثم
أخذ ثفل ذلك الطين فخلق منه شيعتنا، ولو ترك طينتكم يا إبراهيم على حاله كما ترك
طينتنا لكنتم ونحن شيئا واحدا.
قلت: يا بن رسول
الله فما فعل بطينتنا ؟ قال: أخبرك يا إبراهيم خلق الله عز وجل بعد
ذلك أرضا سبخة خبيثة منتنة، ثم فجر منها ماءا أجاجا، آسنا، مالحا، فعرض عليها
ولايتنا أهل البيت ولم تقبلها فأجرى ذلك الماء عليها سبعة أيام حتى
طبقها وعمها، ثم نضب ذلك الماء عنها، ثم أخذ من ذلك الطين فخلق
منه الطغاة وأئمتهم، ثم مزجه بثفل طينتكم، ولو ترك طينتهم على حاله ولم يمزج بطينتكم
لم يشهدوا الشهادتين ولا صلوا ولا صاموا ولا زكوا ولا حجوا ولا أدوا أمانة ولا
أشبهوكم في الصور، وليس شئ أكبر على المؤمن من أن يرى صورة عدوه مثل صورته.
قلت: يا بن رسول
الله فما صنع بالطينتين ؟ قال: مزج بينهما بالماء الاول والماء الثاني، ثم
عركها عرك الاديم، ثم أخذ من ذلك قبضة فقال: هذه إلى الجنة ولا أبالي وأخذ قبضة أخرى
وقال: هذه إلى النار ولا أبالي ; ثم خلط بينهما فوقع من سنخ المؤمن وطينته على سنخ الكافر
وطينته، ووقع من سنخ الكافر وطينته على سنخ المؤمن وطينته، فما رأيته من شيعتنا من
زنا، أو لواط، أو ترك صلاة، أو صيام، أو حج، أو جهاد، أو خيانة، أو كبيرة من هذه
الكبائر فهو من طينة الناصب وعنصره الذي قد مزج فيه لان من سنخ الناصب وعنصره وطينته
اكتساب المآثم والفواحش والكبائر ; وما رأيت من الناصب ومواظبته على الصلاة والصيام
والزكاة والحج والجهاد وأبواب البر فهو من طينة المؤمن وسنخه الذي قد مزج فيه
لان من سنخ المؤمن وعنصره وطينته اكتساب الحسنات واستعمال الخير واجتناب المآثم ،
فإذا عرضت هذه الاعمال كلها على الله عز وجل قال: أنا عدل لا أجور، ومنصف لا أظلم، وحكم
لا أحيف ولا أميل ولا أشطط، ألحِقوا الاعمال السيئة التي اجترحها المؤمن بسنخ
الناصب وطينته، وألحقوا الاعمال الحسنة التي اكتسبها الناصب بسنخ المؤمن وطينته
ردوها كلها إلى اصلها، فإني أنا الله لا إله إلا أنا، عالم السر وأخفى وأنا المطلع
على قلوب عبادي، لا أحيف ولا أظلم ولا ألزم أحدا إلا ما عرفته منه قبل أن أخلقه.
ثم قال الباقر عليه السلام: يا إبراهيم أقرأ هذه الآية، قلت: يا بن رسول الله أية
آية ؟ قال: قوله تعالى: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا
مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} [يوسف:79] هو في الظاهر ما تفهمونه،
وهو والله في الباطن هذا بعينه، يا إبراهيم إن للقرآن ظاهرا وباطنا، ومحكما ومتشابها،
وناسخا ومنسوخا.
ثم قال: أخبرني
يا إبراهيم عن الشمس إذا طلعت وبدا شعاعها في البلدان، أهو بائن من القرص ؟ قلت: في حال طلوعه
بائن ; قال: أليس إذا غابت الشمس اتصل ذلك الشعاع بالقرص حتى يعود إليه ؟ قلت: نعم،
قال: كذلك يعود كل شئ إلى سنخه وجوهره وأصله، فإذا كان يوم القيامة نزع الله عز
وجل سنخ الناصب وطينته مع أثقاله وأوزاره من المؤمن فيلحقها كلها بالناصب، وينزع سنخ
المؤمن وطينته مع حسناته وأبواب بره واجتهاده من الناصب فيلحقها كلها بالمؤمن.
أفترى ههنا ظلما وعدوانا ؟ قلت: لا يا بن رسول الله ; قال: هذا والله القضاء
الفاصل والحكم القاطع والعدل البين، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون،
هذا - يا إبراهيم - الحق من ربك فلا تكن من الممترين هذا من حكم الملكوت.
قلت: يا بن رسول
الله وما حكم الملكوت ؟ قال: حكم الله وحكم أنبيائه، و قصة الخضر وموسى
عليهما السلام حين استصحبه فقال: " إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما
لم تحط به خبرا ". افهم يا إبراهيم واعقل، أنكر موسى على الخضر واستفظع أفعاله حتى
قال له الخضر يا موسى ما فعلته عن أمري، إنما فعلته عن أمر الله عز وجل، من
هذا - ويحك يا إبراهيم - قرآن يتلى، وأخبار تؤثر عن الله عز وجل، من رد منها حرفا
فقد كفر وأشرك ورد على الله عز وجل. قال الليثي: فكأني لم أعقل الآيات - وأنا أقرؤها
أربعين سنة - إلا ذلك اليوم، فقلت: يا بن رسول الله ما أعجب هذا ! تؤخذ حسنات
أعدائكم فترد على شيعتكم، وتؤخذ سيئات محبيكم فترد على مبغضيكم ؟ قال: إي والله
الذي لا إله إلا هو، فالق الحبة، وبارئ النسمة، وفاطر الارض والسماء، ما أخبرتك
إلا بالحق: وما أتيتك إلا بالصدق، وما ظلمهم الله وما الله بظلام للعبيد، وإن
ما أخبرتك لموجود في القرآن كله. قلت: هذا بعينه يوجد في القرآن ؟ قال: نعم يوجد
في أكثر من ثلاثين موضعا في القرآن، أتحب أن أقرأ ذلك عليك ؟ قلت: بلى يابن رسول الله
; فقال: قال الله عز وجل: " وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم
وما هم بحاملين من خطاياهم من شئ إنهم لكاذبون وليحملن أثقالهم وأثقالا
مع أثقالهم " الآية.
أزيدك يا إبراهيم
؟ قلت: بلى يا بن رسول الله قال: ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيمة ومن أوزار
الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون " أتحب أن أزيدك ؟ قلت:
بلى يا بن رسول الله، قال: " فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان
الله غفورا رحيما " يبدل الله سيئات شيعتنا حسنات، ويبدل الله حسنات
أعدائنا سيئات ; وجلال الله ووجه الله إن هذا لمن عدله وإنصافه لا راد
لقضائه، ولا معقب لحكمه وهو السميع العليم.
ألم أبين لك أمر
المزاج والطينتين من القرآن ؟ قلت: بلى يا بن رسول الله ; قال: اقرأ يا إبراهيم:
" الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم
إذا أنشأكم من الارض " يعنى من الارض الطيبة والأرض المنتنة " فلا تزكوا
أنفسكم هو أعلم بمن اتقى " يقول: لا يفتخر أحدكم بكثرة صلاته وصيامه وزكاته ونسكه لان
الله عز وجل أعلم بمن اتقى منكم، فإن ذلك من قبل اللمم وهو المزاج.
أزيدك يا إبراهيم
؟ قلت: بلى يا بن رسول الله ; قال: " كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم
الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله " يعني أئمة الجور دون أئمة الحق
" ويحسبون أنهم مهتدون " خذها إليك يا أبا إسحاق، فو الله إنه لمن غرر أحاديثنا وباطن
سرائرنا ومكنون خزائنا وانصرف ولا تطلع على سرنا أحدا إلا مؤمنا مستبصرا فإنك
إن أذعت سرنا بليت في نفسك ومالك وأهلك وولدك.
المصدر : بحار الأنوار
المؤلف : العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي
الجزء والصفحة : جزء 5 / صفحة [ 228 ]
تاريخ النشر : 2024-04-01