نهج البلاغة/الخطب/الخطبة -32-يصف فيها زمانه بالجور ويقسم النّاس فيه خمسة أصناف
|
كلام له عليه السلام يصف فيه زمانه بالجور ويقسم النّاس فيه خمسة أصناف تاريخ النشر : 2023-06-18
|
ومن
خطبة له (عليه السلام)
([1]) [وفيها يصف
زمانه بالجور، ويقسم النّاس فيه خمسة أصناف، ثم يزهّد في
الدنيا:
أَيُّهَا
النَّاسُ، إِنَّا قَدْ أَصْبَحْنَا في دَهْرٍ عَنُودٍ، وَزَمَنٍ شَدِيدٍ، يُعَدُّ
فِيهِ الْـمُحْسِنُ مُسِيئاً، وَيَزْدَادُ الظَّالِمُ فِيهِ عُتُوّاً، لا
نَنْتَفِعُ بِمَا عَلِمْنَا، وَلا نَسْأَلُ عَمَّا جَهِلْنَا، وَلا نَتَخَوَّفُ
قَارِعَةً حَتَّى تَحُلَّ بِنَا.
فَالنَّاسُ
عَلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ: مِنْهُمْ مَنْ لا يَمْنَعُهُ الفَسَادَ في الأرْضِ
إِلاَّ مَهَانَةُ نَفْسِهِ، وَكَلاَلَةُ حَدِّهِ، وَنَضِيضُ وَفْرِهِ([2]) وَمِنْهُمُ
المُصْلِتُ بِسَيْفِهِ، وَالمُعْلِنُ بِشَرِّهِ، وَالُمجْلِبُ بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ،
قَدْ أَشْرَطَ نَفْسَهُ([3])
، وَأَوْبَقَ دِينَهُ لِـحُطَامٍ يَنْتَهِزُهُ ، أَوْ مِقْنَبٍ([4]) يَقُودُهُ،
أَوْ مِنْبَرٍ يَفْرَعُهُ([5]).
وَلَبِئْسَ
المَتْجَرُ أَنْ تَرَى الدُّنْيَا لِنَفْسِكَ ثَمَناً، وَمِمَّا لَكَ عِنْدَ اللهِ
عِوَضاً! وَمِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ، وَلا يَطْلُبُ
الآخِرَةَ بِعَمَلِ الدُّنْيَا، قَدْ طَامَنَ([6]) مِنْ شَخْصِهِ،
وَقَارَبَ مِنْ خَطْوِهِ([7])،
وَشَمَّرَ مِنْ ثَوْبِهِ، وَزَخْرَفَ مِنْ نَفْسِهِ([8]) لِلأمَانَةِ،
وَاتَّخَذَ سِترَ اللهِ ذَرِيعَةً إِلَى المَعْصِيَةِ.
وَمِنْهُمْ
مَنْ أقْعَدَهُ عَنْ طَلَبِ المُلْكِ ضُؤُولَةُ نَفْسِهِ، وَانقِطَاعُ سَبَبِهِ،
فَقَصَرَتْهُ الـحَالُ عَلَى حَالِهِ، فَتَحَلَّى بِاسْمِ القَنَاعَةِ،
وَتَزَيَّنَ بِلِبَاسِ أَهْلِ الزَّهَادَةِ، وَلَيْسَ مِنْ ذلِكَ في مَرَاحٍ وَلا
مَغْدًى([9]).
وَبَقِيَ
رِجَالٌ غَضَّ أَبْصَارَهُمْ ذِكْرُ الْـمَرْجِعِ، وَأَرَاقَ دُمُوعَهُمْ خَوْفُ
الْـمَحْشَرِ، فَهُمْ بَيْنَ شَرِيدٍ نَادٍّ([10])، وَخَائِفٍ مَقْمُوعٍ([11])،
وَسَاكِتٍ مَكْعُومٍ ([12])،
وَدَاعٍ مُخْلِصٍ، وَثَكْلاَنَ مُوجَعٍ، قَدْ أَخْمَلَتْهُمُ([13]) التَّقِيَّةُ،
وَشَمِلَتْهُمُ الذِّلَّةُ، فَهُمْ في بَحْرٍ أُجَاجٍ، أَفْوَاهُهُمْ ضامِزَةٌ([14])،
وَقُلُوبُهُمْ قَرِحَةٌ، قَدْ وَعَظُوا حَتَّى مَلُّوا، وَقُهِرُوا حَتَّى
ذَلُّوا، وَقُتِلُوا حَتَّى قَلُّوا.
فَلْتَكُنِ
الدُّنْيَا أَصْغَرَ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنْ حُثَالَةِ الْقَرَظِ([15])،
وَقُرَاضَةِ الجَلَمِ([16])،
وَاتَّعِظُوا بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَتَّعِظَ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ;
وَارْفُضُوهَا ذَمِيمَةً، فَإِنَّهَا قَد رَفَضَتْ مَنْ كَانَ أَشْغَفَ([17]) بِهَا مِنْكُمْ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] وهذه الخطبة
رواها جمع كالجاحظ في البيان والتبيين 2: 70 وابن قتيبة في عيون الأخبار، وابن عبد
ربه في العقد الفريد، والباقلاني في إعجاز القرآن، ونسبوها إلى معاوية، فبعضهم
أرسلها وبعضهم رواها عن شعيب بن صفوان.
ولكن
في صحة كلامهم نظر، حيث إنّ الراوي ـ وهو شعيب بن صفوان ـ مختلف فيه والأكثر على أنّه
لا يحتجّ به، قال الذهبي (ت748) في ميزان الاعتدال 2: 276 رقم 3720: «قال فيه أبو
حاتم: لا يحتج به، وقال أحمد: لا بأس به، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع
عليه». هذا أولاً، أما ثانياً ما ذكره الجاحظ نفسه بعد الخطبة ـ وأشار إليه الشريف
الرضي أيضاً ـ حيث قال: «وفي هذه الخطبة ـ أبقاك الله ـ ضروب من العجب: منها انّ
الكلام لا يشبه السبب الذي من أجله دعاهم معاوية، ومنها انّ هذا المذهب في تصنيف
الناس وفي الاخبار عمّا هم عليه من القهر والإذلال، ومن التقية والخوف، أشبه بكلام
عليّ (رضي الله عنه)، ومعانيه وحاله منه بحال معاوية، ومنها انّا لم نجد معاوية في
حال من الحالات يسلك في كلامه مسلك الزهاد، ولا يذهب مذاهب العباد». وثالثاً: ذكر
بعض فقراتها واستشهد بها ونسبها إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) كلّ من ابن
الأثير (ت606) في النهاية 4: 180، وابن منظور (ت711) في لسان العرب 12: 522
والزَّبيدي (ت1205) في تاج العروس، وقالوا: وحديث عليّ: «فهم بين خائف مقموع وساكت
مكعوم» وكذلك استشهدوا في مادة (ضمز) بقوله (عليه السلام) وقالوا: في حديث عليّ:
«أفواههم ضامزة وقلوبهم قرحة». فبعد هذا لا نشكّ انّ الخطبة لعليّ أمير المؤمنين (عليه
السلام)، ويؤيد كون الخطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) وانّ معاوية سرقها وتكلّم
بها أيضاً ما ذكره الراوندي في منهاج البراعة 1: 233 «وسبب نسبة بعض الناس هذه
الخطبة وأمثالها من كلامه (عليه السلام)
إلى معاوية، انّه كان يبعث بعض أصحابه الشاميين إلى الكوفة ليحفظ خطبة يخطبها
عليّ (عليه السلام) يوم الجمعة ويكتبها،
فإذا كان في الجمعة الثانية أو فيما بعدها خطب بها معاوية، فالالتباس من هاهنا.
وقد روى الرواة ذلك على هذا الوجه، وقد أخذ ذلك الرجل الدسيس، فأقرّ بذلك في مسجد
الكوفة».
[2]ـ
نضيض وفره: أي قلّة ماله، من نضّ الماء نضّاً أي سال قليلاً.
[3]ـ
أشرط نفسه: أعدّها للفساد في الأرض.
[4]ـ
المقنب: الخيل ما بين الثلاثين الى الأربعين.
[5]ـ
يفرعه: يعلوه ويصعده.
[6]ـ
طامن: خفض.
[7]ـ
قارب من خطوه: لم يسرع ومشى رويداً.
[8]ـ
زخرف من نفسه: حسّن ونمّق وزيّن.
[9]ـ
المراح: الموضع الذي يروح فيه الناس. والمغدى: على عكسه من الغداة، أي ليس له من
ذلك نصيب.
[10]ـ
الناد: المنفرد.
[11]ـ
المقموع: المغلوب أو المذلّل.
[12]ـ
المكعوم: من كعمت البعير إذا شددت فمه.
[13]ـ
المخمول الذكر: الذي لا يعرفه أحد.
[14]ـ
الضامز: الممسك.
[15]ـ
القرظ: ورق السلم يُدبغ به، وحثالته: ما يسقط منه.
[16]ـ
الجلم: المقصّ تُجزّ به أوبار الابل، وقراضته: ما يقع من قرضه وقطعه.
[17]ـ
أشغف: أي أحرص.
تاريخ النشر : 2023-06-18