كتب التفسير/التفسير المنسوب للامام العسكري (عليه السلام)/الامامة
قوله عز وجل : (
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى
شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللهُ
يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ).
قال موسى بن
جعفر عليهما السلام : وإذا لقي هؤلاء الناكثون لبيعته المواطئون على مخالفة علي
عليه السلام ودفع الأمر عنه ، الذين آمنوا قالوا آمنا كإيمانكم ، إذا لقوا سلمان
والمقداد وأبا ذر وعمارا قالوا لهم : آمنا بمحمد (ص) وسلمنا له بيعة علي عليه السلام
وفضله وأنفذنا لأمره كما آمنتهم [ آمنتم ] إن كان أولهم وثانيهم وثالثهم إلى تاسعهم
، ربما كانوا يلتقون في بعض طرقهم مع سلمان وأصحابه ، فإذا لقوهم اشمأزوا منهم
وقالوا : هؤلاء أصحاب الساحر والأهوج ـ يعنون محمدا وعليا عليهما السلام ـ ، ثم
يقول بعضهم لبعض : احترزوا منهم لا يقفون من فلتات كلامكم على كفر محمد فيما قاله
في علي فينموا عليكم ، فيكون فيه هلاككم ، فيقول أولهم : انظروا إلي كيف أسخر منهم
وأكف عاديتهم عنكم؟. فإذا لقوا قال أولهم : مرحبا بسلمان ابن الإسلام الذي قال فيه
محمد سيد الأنام : لو كان الدين متعلقا بالثريا لتناوله رجال من أبناء فارس ، هذا
أفضلهم ، يعنيك. وقال فيه : سلمان منا أهل البيت ، فقرنه بجبرئيل الذي قال له يوم
العباء لما قال لرسول الله صلى الله عليه وآله : وأنا منكم ، فقال : وأنت منا
حتى ارتقى جبرئيل إلى الملكوت الأعلى يفتخر على أهله يقول : من مثلي؟! بخ بخ وأنا
من أهل بيت محمد صلى الله عليه وآله.
ثم يقول للمقداد
: مرحبا بك يا مقداد! أنت الذي قال فيك رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي عليه
السلام : يا علي! المقداد أخوك في الدين وقد قدمك فكأنه بعضك ، حبا لك وتعصبا على
أعدائك ، وموالاة لأوليائك ، ومعاداة لأعدائك ، لكن ملائكة السماوات والحجب أكثر
حبا لك منك لعلي عليه السلام ، وأكثر تعصبا على أعدائك منك على أعداء علي عليه السلام
، فطوباك ثم طوباك.
ثم يقول لأبي ذر
: مرحبا بك يا أبا ذر! أنت الذي قال فيك رسول الله صلى الله عليه وآله : ما
أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر ، وقيل : بما ذا فضله
الله وشرفه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله : لأنه كان بفضل علي ـ أخي رسول
الله صلوات الله عليهما وآلهما ـ قوالا ، وله في كل الأحوال مداحا ، ولشانئيه
وأعدائه شانئا ، ولأوليائه وأحبائه مواليا ، وسوف يجعله الله في الجنان من أفضل
ساكنيها ، ويخدمه ما لا يعرف عدده إلا الله من وصائفها وغلمانها وولدانها.
ثم يقول لعمار
بن ياسر : أهلا وسهلا ومرحبا بك يا عمار! نلت بموالاة أخي رسول الله صلى الله عليه
وآله مع أنك وادع رافه لا تزيد على المكتوبات والمسنونات من سائر العبادات ما لا
يناله الكاد بدنه ليلا ونهارا ـ يعني الليل قياما والنهار صياما ـ ، والباذل
أمواله وإن كانت جميع أموال الدنيا له ، مرحبا بك ، قد رضيك رسول الله صلى الله عليه
وآله لعلي ـ أخيه ـ مصافيا ، وعنه مناوئا ، حتى أخبر أنك ستقتل في محبته ، وتحشر
يوم القيامة في خيار زمرته ، وفقني الله تعالى لمثل عملك وعمل أصحابك ، حتى توفر
على خدمة محمد رسول الله (ص) وأخي محمد علي ولي الله ـ ومعاداة أعدائهما بالعداوة
، ومصافاة أوليائهما بالموالاة والمتابعة ، سوف يسعدنا الله يومنا إذا التقينا بكم
، فيقول سلمان وأصحابه ظاهرهم كما أمرهم الله ، ويجوزون عنهم ، فيقول الأول
لأصحابه : كيف رأيتم سخريتي لهؤلاء؟و كيف كففت عاديتهم عني وعنكم؟. فيقولون له :
لا تزال بخير ما عشت لنا. فيقول لهم : فهكذا فلتكن معاملتكم لهم إلى أن تنتهزوا
الفرصة فيهم مثل هذا ، فإن اللبيب العاقل من تجرع على الغصة حتى ينال الفرصة ، ثم
يعودون إلى أخدانهم من المنافقين المتمردين المشاركين لهم في تكذيب رسول الله صلى
الله عليه وآله فيما أداه إليهم عن الله عز وجل من ذكر تفضيل أمير المؤمنين عليه
السلام ونصبه إماما على
كافة المكلفين. قالوا لهم : ( إِنَّا مَعَكُمْ ). على ما واطأناكم عليه من دفع علي
عن هذا الأمر إن كانت لمحمد كائنة ، فلا يغرنكم ولا يهولنكم ما تستمعونه منا من
تقريظهم ، وتروننا نجترئ عليه من مداراتهم فإنا ( نَحْنُ مُسْتَهْزِئوُنَ ) بهم ،
فقال الله عز وجل يا محمد (ص)! : ( اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ) يجازيهم جزاء
استهزائهم في الدنيا والآخرة : ( وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ ) يمهلهم ويتأتى
بهم برفقه ويدعوهم إلى التوبة ، ويعدهم إذا أنابوا المغفرة ( يَعْمَهُونَ وهم يعمهون ولا يرعوون.
قال العالم
صلوات الله عليه : فأما استهزاء الله بهم في الدنيا فإنه مع إجرائه إياهم على ظاهر
أحكام المسلمين لإظهارهم ما يظهرونه من السمع والطاعة والموافقة ، يأمر رسول الله
صلى الله عليه وآله بالتعريض لهم حتى لا يخفى على المخلصين من المراد بذلك
التعريض ، ويأمر بلعنهم.
وأما استهزاؤه
بهم في الآخرة ، فهو أن الله عز وجل إذا أقرهم في دار اللعنة والهوان وعذبهم بتلك
الألوان العجيبة من العذاب ، وأقر هؤلاء المؤمنين في الجنان بحضرة محمد صلى الله عليه
وآله صفي الملك الديان ، أطلعهم على هؤلاء المستهزءين بهم في الدنيا حتى يروا ما
هم فيهم من عجائب اللعائن ، وبدائع النقمات ، فيكون لذتهم وسرورهم بشماتتهم كما
لذتهم وسرورهم بنعيمهم في جنان ربهم ، فالمؤمنون يعرفون أولئك الكافرين المنافقين بأسمائهم
وصفاتهم ، وهم على أصناف :
منهم : من هو
بين أنياب أفاعيها تمضغه.
ومنهم : من هو
بين مخاليب سباعها تعبث به وتفترسه.
ومنهم : من هو
تحت سياط زبانيتها وأعمدتها ومرزباتها يقع من أيديهم عليه [ ما ] تشدد في عذابه ،
وتعظم خزيه ونكاله.
ومنهم : من هو
في بحار حميمها يغرق ويسحب فيها.
ومنهم : من هو
في غسلينها وغساقها تزجره زبانيتها.
ومنهم : من هو
في سائر أصناف عذابها ، والكافرون والمنافقون ينظرون فيرون هؤلاء المؤمنين الذين
كانوا بهم في الدنيا يسخرون لما كانوا من موالاة محمد وعلي وآلهما صلوات الله
عليهم يعتقدون ، فيرونهم منهم من هو على فرشها يتقلب ، ومنهم من هو على فواكهها
يرتع ، ومنهم من هو على غرفاتها أو في بساتينها ومتنزهاتها يتبحبح ، والحور العين
والوصفاء والولدان والجواري والغلمان قائمون بحضرتهم وطائفون بالخدمة حواليهم ،
وملائكة الله عز وجل يأتونهم من عند ربهم بالحباء والكرامات وعجائب التحف والهدايا
والمبرات ، يقولون : ( سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى
الدَّارِ ) ، فيقول هؤلاء المؤمنون المشرفون على هؤلاء الكافرين المنافقين : يا
أبا فلان! ويا فلان! ويا فلان! .. حتى ينادونهم بأسمائهم : ما بالكم في مواقف
خزيكم ماكثون؟! هلموا إلينا نفتح لكم أبواب الجنان لتخلصوا من عذابكم ، وتلحقوا
بنا في نعيمها ، فيقولون : يا ويلنا! أنى لنا هذا؟. يقول المؤمنون : انظروا إلى
هذه الأبواب ، فينظرون إلى أبواب من الجنان مفتحة يخيل إليهم أنها إلى جهنم التي
فيها يعذبون ، ويقدرون أنهم ممكنون أن يتخلصوا إليها ، فيأخذون في السباحة في بحار
حميمها وعدوا من بين أيدي زبانيتها وهم يلحقونهم ويضربونهم بأعمدتهم ومرزباتهم
وسياطهم ، فلا يزالون هكذا يسيرون هناك ، وهذه الأصناف من العذاب تمسهم حتى إذا
قدروا أنهم قد بلغوا تلك الأبواب وجدوها مردومة عنهم ، وتدهدههم الزبانية بأعمدتها
فتنكسهم إلى سواء الجحيم ، ويستلقي أولئك المؤمنون على فرشهم في مجالسهم يضحكون
منهم مستهزئين بهم ، فذلك قول الله عز وجل : ( اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ) ،
وقوله عز وجل : ( فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ ).
المصدر : بحار الأنوار
المؤلف : العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي
الجزء والصفحة : جزء 30 / صفحة [ 224 ]
تاريخ النشر : 2025-08-14