التفسير بالمأثور/سيرة وتاريخ/النبي محمد (صلى الله عليه وآله)
أخبرنا جماعة، عن أبي المفضل، قال: حدثنا
أبو العباس أحمد ابن عبيد الله بن عمار الثقفي سنة إحدى وعشرين وثلاث مائة، قال:
حدثنا علي بن محمد بن سليمان النوفلي سنة خمسين ومائتين، قال: حدثني الحسن بن حمزة
أبو محمد النوفلي، قال: حدثني أبي وخالي يعقوب بن الفضل بن عبد الرحمن بن العباس
بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، عن الزبير بن سعيد الهاشمي، قال: حدثنيه أبو
عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر (رضي الله عنه) بين القبر والروضة، عن أبيه وعبيد
الله بن أبي رافع جميعا، عن عمار بن ياسر (رضي الله عنه) وأبي رافع مولى النبي
(صلى الله عليه وآله). قال أبو عبيدة: وحدثنيه سنان بن أبي سنان: أن هند بن هند بن
أبي هالة الأسدي حدثه عن أبيه هند بن أبي هالة ربيب رسول الله (صلى الله عليه
وآله) وأمه خديجة زوج النبي (صلى الله عليه وآله) وأخته لأمه فاطمة (صلوات الله
عليها).
قال أبو عبيدة: وكان هؤلاء الثلاثة هند بن
هالة وأبو رافع وعمار بن ياسر جميعا يحدثون عن هجرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
صلوات لله عليه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالمدينة ومبيته قبل ذلك على
فراشه.
قال: وصدر هذا الحديث عن هند بن أبي هالة،
واقتصاصه عن الثلاثة: هند وعمار وأبي رافع، وقد دخل حديث بعضهم في بعض، قالوا: كان
الله (عز وجل) مما يمنع نبيه (صلى الله عليه وآله) بعمه أبي طالب، فما كان يخلص
إليه من قومه أمر يسوؤه مدة حياته، فلما مات أبو طالب نالت قريش من رسول الله (صلى
الله عليه وآله) بغيتها وأصابته بعظيم من الأذى حتى تركته لقى ، فقال (صلى الله
عليه وآله): لأسرع ما وجدنا فقدك يا عم! وصلتك رحم، فجزيت خيرا يا عم. ثم ماتت
خديجة بعد أبي طالب بشهر فاجتمع بذلك على رسول الله (صلى الله عليه وآله) حزنان
حتى عرف ذلك فيه.
قال هند: ثم انطلق ذوو الطول والشرف من
قريش إلى دار الندوة، ليأتمروا في رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأسروا ذلك
بينهم، فقال بعضهم: نبني له علما، وينزل برجا نستودعه فيه، فلا يخلص من الضباة إليه
أحد، ولا يزال في رنق من العيش حتى يتضيفه ريب المنون، وصاحب هذه المشورة العاص بن
وائل وأمية وأبي ابنا خلف.
وقال قائل: بئس الرأي ما رأيتم، ولئن صنعتم
ذلك ليتنمرن له الحدب الحميم والمولى الحليف، ثم ليأتين المواسم والأشهر الحرم
بالأمن فلينتزعن من أنشوطتكم قولوا قولكم.
قال عتبة وشيبة وشركهما أبو سفيان، قالوا:
فإنا نرى أن نرحل بعيرا صعبا، ونوثق محمدا عليه كتافا وشدا، ثم نقصع البعير بأطراف
الرماح، فيوشك أن يقطعه بين الدكادك إربا إربا.
فقال صاحب رأيهم: إنكم لم تصنعوا بقولكم
هذا شيئا، أرأيتم إن خلص به البعير سالما إلى بعض الأفاريق، فأخذ بقلوبهم بسحره
وبيانه وطلاوة لسانه، فصبا القوم إليه، واستجابت القبائل له قبيلة فقبيلة، فليسيرن
حينئذ إليكم بالكتائب والمقانب ، فلتهلكن كما هلكت إياد ومن كان قبلكم؟! قولوا
قولكم.
فقال له أبو جهل: لكن أرى لكم أن تعمدوا
إلى قبائلكم العشرة، فتنتدبوا من كل قبيلة رجلا نجدا ، ثم تسلحوه حساما عضبا ،
وتمهل الفتية حتى إذا غسق الليل وغور بيتوا بابن أبي كبيشة بياتا، فيذهب دمه في
قبائل قريش جميعا فلا يستطع بنو هاشم وبنو المطلب مناهضة قبائل قريش في صاحبهم،
فيرضون حينئذ بالعقل منهم، فقال صاحب رأيهم: أصبت يا أبا الحكم.
ثم أقبل عليهم فقال: هذا الرأي فلا تعدلوا
به رأيا، وأوكئوا في ذلك أفواهكم حتى يستتب أمركم، فخرج القوم عزين ، وسبقهم
بالوحي بما كان من كيدهم جبرئيل (عليه السلام)، فتلا هذه الآية على رسول الله (صلى
الله عليه وآله): ﴿وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون
ويمكر الله والله خير الماكرين﴾ .
فلما أخبره جبرئيل (عليه السلام) بأمر الله
في ذلك ووحيه، وما عزم له من الهجرة، دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليا
(عليه السلام)، وقال له: يا علي إن الروح هبط علي بهذه الآية آنفا، يخبرني أن
قريشا اجتمعوا على المكر بي وقتلي، وأنه أوحى إلي ربي (عز وجل) أن أهجر دار قومي،
وأن انطلق إلى غار ثور تحت ليلتي، وأنه أمرني أن آمرك بالمبيت على ضجاعي - أو قال:
مضجعي - ليخفى بمبيتك عليه أثري، فما أنت قائل، وما صانع؟ فقال علي (عليه السلام):
أو تسلم بمبيتي هناك يا نبي الله؟ قال: نعم، فتبسم علي (عليه السلام) ضاحكا، وأهوى
إلى الأرض ساجدا، شكرا بما أنبأه رسول الله (صلى الله عليه وآله) من سلامته، وكان
علي (صلوات الله عليه) أول من سجد لله شكرا، وأول من وضع وجهه على الأرض بعد سجدته
من هذه الأمة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلما رفع رأسه قال له: امض لما
أمرت فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي، ومرني بما شئت أكن فيه كمسرتك، واقع منه بحيث
مرادك، وإن توفيقي إلا بالله.
قال: وإن القى عليك شبه مني، أو قال: شبهي،
قال: إن - بمعنى نعم – قال : فارقد على فراشي واشتمل ببردي الحضرمي، ثم إني أخبرك
يا علي أن الله (تعالى) يمتحن أولياءه على قدر إيمانهم ومنازلهم من دينه، فأشد
الناس بلاء الأنبياء ثم الأوصياء ثم الأمثل فالأمثل، وقد امتحنك يا بن عم وامتحنني
فيك بمثل ما امتحن به خليله إبراهيم والذبيح إسماعيل، فصبرا صبرا، فإن رحمة القريب
من المحسنين.
ثم ضمه النبي (صلى الله عليه وآله) إلى
صدره وبكى إليه وجدا به، وبكى علي (عليه السلام) جشعا لفراق رسول الله (صلى الله
عليه وآله).
واستتبع رسول (صلى الله عليه وآله) أبا بكر
بن أبي قحافة وهند بن أبي هالة، فأمرهما أن يقعدا له بمكان ذكره لهما من طريقه إلى
الغار، ولبث رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمكانه مع علي (عليه السلام) يوصيه
ويأمره في ذلك بالصبر حتى صلى العشاءين.
ثم خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) في
فحمة العشاء الآخرة، والرصد من قريش قد أطافوا بداره، ينتظرون أن ينتصف الليل
وتنام الأعين، فخرج وهو يقرأ هذه الآية ﴿وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا
فأغشيناهم فهم لا يبصرون﴾ وأخذ بيده قبضة من تراب، فرمى بها على رؤوسهم، فما شعر
القوم به حتى تجاوزهم، ومضى حتى أتى إلى هند وأبي بكر فنهضا معه، حتى وصلوا إلى
الغار.
ثم رجع هند إلى مكة بما أمره به رسول الله
(صلى الله عليه وآله)، ودخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبو بكر إلى الغار،
فلما غلق الليل أبوابه وأسدل أستاره وانقطع الأثر، أقبل القوم على علي (عليه
السلام) يقذفونه بالحجارة والحلم ، ولا يشكون أنه رسول الله (صلى الله عليه وآله)،
حتى إذا برق الفجر وأشفقوا أن يفضحهم الصبح، هجموا على علي (صلوات الله عليه)،
وكانت دور مكة يومئذ سوائب لا أبواب لها، فلما بصر بهم علي (عليه السلام) قد
انتضوا السيوف وأقبلوا عليه بها، وكان يقدمهم خالد بن الوليد بن المغيرة، وثب له
علي (عليه السلام) فختله وهمز يده ، فجعل خالد يقمص قماص البكر ، ويرغو رغاء
الجمل، ويذعر ويصيح، وهم في عرج الدار من خلفه، وشد عليهم علي (عليه السلام) بسيفه
- يعني سيف خالد - فأجفلوا أمامه إجفال النعم إلى ظاهر الدار، فتبصروه فإذا هو علي
(عليه السلام)، فقالوا: إنك لعلي؟ قال: أنا علي. قالوا: فإنا لم نردك، فما فعل
صاحبك؟ قال: لا علم لي به، وقد كان علم - يعني عليا (عليه السلام) - أن الله
(تعالى) قد أنجى نبيه (صلى الله عليه وآله) بما كان أخبره من مضيه إلى الغار
واختبائه فيه، فأذكت قريش عليه العيون ، وركبت في طلبه الصعب والذلول، وأمهل علي
(صلوات الله عليه) حتى إذا أعتم من الليلة القابلة انطلق هو وهند بن أبي هالة حتى
دخلا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الغار، فأمر رسول الله (صلى الله عليه
وآله) هندا أن يبتاع له ولصاحبه بعيرين، فقال أبو بكر: قد كنت أعددت لي ولك يا نبي
الله راحلتين نرتحلهما إلى يثرب. فقال: إني لا آخذهما ولا أحدهما إلا بالثمن. قال:
فهي لك بذلك، فأمر (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) فأقبضه الثمن، ثم
أوصاه بحفظ ذمته وأداء أمانته.
وكانت قريش تدعو محمدا (صلى الله عليه
وآله) في الجاهلية الأمين، وكانت تستودعه وتستحفظه أموالها وأمتعتها، وكذلك من
يقدم مكة من العرب في الموسم، وجاءته النبوة والرسالة والأمر كذلك، فأمر عليا
(عليه السلام) أن يقيم صارخا يهتف بالأبطح غدوة وعشيا: ألا من كان له قبل محمد
أمانة أو وديعة فليأت فلتؤد إليه أمانته.
قال: وقال النبي (صلى الله عليه وآله):
إنهم لن يصلوا من الآن إليك يا علي بأمر تكرهه حتى تقدم علي، فأد أمانتي على أعين
الناس ظاهرا، ثم إني مستخلفك على فاطمة ابنتي ومستخلف ربي عليكما ومستحفظه فيكما،
وأمره أن يبتاع رواحل له وللفواطم ومن أزمع للهجرة معه من بني هاشم.
قال أبو عبيدة: فقلت لعبيد الله - يعني ابن
أبي رافع - أو كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يجد ما ينفقه هكذا؟ فقال: إني
سألت أبي عما سألتني، وكان يحدث بهذا الحديث، فقال: فأين يذهب بك عن مال خديجة
(عليها السلام)؟ وقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: ما نفعني مال قط
مثل ما نفعني مال خديجة (عليها السلام)، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يفك
من مالها الغارم والعاني ويحمل الكل ، ويعطي في النائبة، ويرفد فقراء أصحابه إذ
كان بمكة، ويحمل من أراد منهم الهجرة، وكانت قريش إذا رحلت عيرها في الرحلتين -
يعني رحلة الشتاء والصيف - كانت طائفة من العير لخديجة، وكانت أكثر قريش مالا،
وكان (صلى الله عليه وآله) ينفق منه ما شاء في حياتها ثم ورثها هو وولدها بعد
مماتها.
قال: وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله)
لعلي وهو يوصيه: وإذا أبرمت ما أمرتك فكن على أهبة الهجرة إلى الله ورسوله، وسر
إلي لقدوم كتابي إليك، ولا تلبث بعده.
وانطلق رسول الله (صلى الله عليه وآله)
لوجهه يؤم المدينة، وكان مقامه في الغار ثلاثا، ومبيت علي (صلوات الله عليه) على
الفراش أول ليلة.
قال عبيد الله بن أبي رافع: وقد قال علي بن
أبي طالب (عليه السلام) شعرا يذكر فيه مبيته على الفراش ومقام رسول الله (صلى الله
عليه وآله) في الغار ثلاثا.
وقيت بنفسي خير من وطئ الحصا * ومن طاف
بالبيت العتيق وبالحجر
محمد لما خاف أن يمكـــــــــروا به *
فوقاه ربي ذو الـجلال من المــــكر
وبت أراعيهم متـى ينــــــــشرونني * وقد
وطنت نفسي على القتل والأسر
ويأت رسول الله فـي الغار آمنــــــا *
هناك وفي حفظ الإله وفي ســـــــتر
أقام ثلاثا ثم زمت قلائص قلائص * يفرين
الحصا أينـــــــــــــما تــــفري .
ولما ورد رسول الله (صلى الله عليه وآله)
المدينة، نزل في بني عمرو بن عوف بقباء، فأراده أبو بكر على دخوله المدينة وألاصه
في ذلك، فقال: ما أنا بداخلها حتى يقدم ابن عمي وابنتي؟ يعني عليا وفاطمة (عليهما
السلام).
قال: قال أبو اليقظان. فحدثنا رسول الله
ونحن معه بقباء، عما أرادت قريش من المكر به ومبيت علي (عليه السلام) على فراشه،
قال: أوحى الله (عز وجل) إلى جبرئيل وميكائيل (عليه السلام) أني قد آخيت بينكما
وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر صاحبه فأيكما يؤثر أخاه؟ فكلاهما كرها الموت، فأوحى
الله إليهما: عبدي ألا كنتما مثل وليي علي بن أبي طالب، آخيت بينه وبين نبيي فآثره
بالحياة على نفسه، ثم ظل - أو قال: رقد - على فراشه يفديه بمهجته، اهبطا إلى الأرض
كلاكما فاحفظاه من عدوه، فهبط جبرئيل فجلس عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، وجعل جبرئيل
يقول: بخ بخ من مثلك يا بن أبي طالب والله (عز وجل) يباهي بك الملائكة! قال: فأنزل
الله (عز وجل) في علي (عليه السلام): ﴿ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله
والله رؤوف بالعباد﴾ .
قال أبو عبيدة: قال أبي وابن أبي رافع: ثم
كتب رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) كتابا
يأمره فيه بالمسير إليه وقلة التلوم ، وكان الرسول إليه أبا واقد الليثي، فلما
أتاه كتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) تهيأ للخروج والهجرة، فآذن من كان معه
من ضعفاء المؤمنين، فأمرهم أن يتسللوا ويتخففوا إذا ملأ الليل بطن كل واد إلى ذي
طوى، وخرج علي (عليه السلام) بفاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمه
فاطمة بنت أسد بن هاشم، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب - وقد قيل هي ضباعة -
وتبعهم أيمن بن أم أيمن مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبو واقد رسول رسول
الله (صلى الله عليه وآله)، فجعل يسوق بالرواحل فأعنف بهم، فقال علي (صلوات الله
عليه): ارفق بالنسوة يا أبا واقد، إنهن من الضعائف. قال: إني أخاف أن يدركنا
الطالب - أو قال:
الطلب - فقال علي (عليه السلام): أربع عليك
، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لي: يا علي، إنهم لن يصلوا من الآن إليك
بما تكرهه. ثم جعل - يعني عليا (عليه السلام) - يسرق بهن سرقا رفيقا وهو يرتجز
ويقول:
ليس إلا الله فارفع ظنكا * يكفيك رب الناس
ما أهمكا .
وسار فلما شارف ضجنان أدركه الطلب، وعددهم
سبعة فوارس من قريش مستلئمين ، وثامنهم مولى لحرب بن أمية يدعى جناحا، فأقبل علي
(عليه السلام) على أيمن وأبي واقد، وقد تراءى القوم، فقال لهما: أنيخا الإبل
واعقلاها، وتقدم حتى أنزل النسوة، ودنا القوم فاستقبلهم (عليه السلام) منتضيا
سيفه، فاقبلوا عليه فقالوا: أظننت أنك يا غدر ناج بالنسوة؟! ارجع لا أبا لك.
قال: فإن لم أفعل؟ قالوا: لترجعن راغما، أو
لنرجعن بأكثرك شعرا وأهون بك من هالك، ودنا الفوارس من النسوة والمطايا ليثوروها،
فحال علي (عليه السلام) بينهم وبينها، فأهوى له جناح بسيفه، فراغ علي (عليه
السلام) عن ضربته وتختله علي (عليه السلام) فضربه على عاتقه، فأسرع السيف مضيا فيه
حتى مس كاثبة فرسه ، فكان (عليه السلام) يشد على قدمه شد الفرس، أو الفارس على
فرسه، فشد عليهم بسيفه وهو يقول :
خلوا سبيل الجاهد المجاهد آليت لا أعبد غير
الواحد فتصدع عنه القوم وقالوا له: اغن عنا نفسك يا بن أبي طالب. قال: فإني منطلق
إلى ابن عمي رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيثرب، فمن سره أن أفري لحمه وأريق
دمه فليتعقبني أو فليدن مني. ثم أقبل على صاحبيه أيمن وأبي واقد فقال لهما: أطلقا
مطايا كما.
ثم سار ظاهرا قاهرا حتى نزل ضجنان، فتلوم
بها قدر يومه وليلته، ولحق به نفر من المستضعفين من المؤمنين وفيهم أم أيمن مولاة
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فظل ليلته تلك هو والفواطم - أمه فاطمة بنت أسد،
وفاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفاطمة بنت الزبير - طررا يصلون وطورا
يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم فلم يزالوا كذلك حتى طلع الفجر فصلى (عليه السلام)
بهم صلاة الفجر، ثم سار لوجهه يجوب منزلا بعد منزل لا يفتر عن ذكر الله، والفواطم
كذلك وغيرهم ممن صحبه حتى قدموا المدينة، وقد نزل الوحي بما كان من شأنهم قبل
قدومهم بقوله (تعالى): (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في
خلق السماوات والأرض) إلى قوله: (فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من
ذكر أو أنثى) الذكر علي، والأنثى الفواطم المتقدم ذكرهن، وهن فاطمة بنت رسول الله
(صلى الله عليه وآله) وفاطمة بنت أسد، وفاطمة بنت الزبير (بعضكم من بعض) يقول: علي
من فاطمة - أو قال: الفواطم - وهن من علي ﴿فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا
في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجرى من تحتها
الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب﴾ وتلا (صلى الله عليه وآله): ﴿ومن الناس من يشرى
نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد﴾ .
قال: وقال. يا علي، أنت أول هذه الأمة
إيمانا بالله ورسوله، وأولهم هجرة إلى الله ورسوله، وآخرهم عهدا برسوله، لا يحبك -
والذي نفسي بيده - إلا مؤمن قد امتحن الله قلبه للايمان، ولا يبغضك إلا منافق أو
كافر.
المصدر : الأمالي
المؤلف : شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي
الجزء والصفحة : ص 463
تاريخ النشر : 2024-05-14