ظهور الطبقة البورجوازية الأوروبية وتطورها
المؤلف:
أ. د. عبد العظيم رمضان
المصدر:
تاريخ أوربا والعالم الحديث من ظهور البرجوازية الأوربية الى الحرب الباردة
الجزء والصفحة:
ج1 ص 14 ــ 19
2025-12-03
9
يعتبر بروز الطبقة البورجوازية (أو الرأسمالية) الأوروبية على المسرح الأوروبي بداية التاريخ الحديث، والعامل الأساسي المحرك لتاريخه. ويمكن تبين أهمية هذه الطبقة في صنع تاريخ أوروبا الحديث، إذا عرفنا أن النظام الرأسمالي ليس نظاما اقتصاديا فحسب، وإنما هو نظام فكرى واجتماعي وسياسي وقانوني وفلسفي. ويكفي معرفة أن الطبقة البورجوازية (الرأسمالية) صبغت التاريخ الحديث بصبغتها بنفس الدرجة التي صبغت بها الطبقة الإقطاعية العصور الوسطى.
من هنا إذا كان الإقطاع هو سمة العصور الوسطى الرئيسية، فإن البورجوازية هي سمة العصور الحديثة الأساسية. والسبب في ذلك واضح كل الوضوح، وهو أنها كانت الطبقة الاجتماعية التي تملك وسائل الإنتاج في العصور الحديثة، في حين كانت الطبقة التي تملك وسائل الإنتاج في العصور الوسطى، هي الطبقة الإقطاعية، وحين تملك طبقة اجتماعية وسائل الإنتاج، فإنها تتمثل فيها علاقات الإنتاج، فنقول: علاقات الإنتاج الإقطاعية ونقول: علاقات الإنتاج الرأسمالية.
ويرتبط ظهور الطبقة البورجوازية الأوروبية بظهور المدن منذ القرن الحادي عشر. وتختلف هذه المدن عن المدن الرومانية القديمة التي ازدهرت في عصر الرومان، والتي كان لها شأن كبير في الإمبراطورية الرومانية كمراكز إدارية وحضارية واقتصادية. فإن هذه المدن كانت قد ذبلت نتيجة لانهيار وسقوط الإمبراطورية الرومانية على يد البرابرة الجرمان، وما تبع ذلك في القرون التالية من انتشار النظام الإقطاعي الذي حلت فيه الضياع الكبيرة محل المدن ولن ندرك أهمية التغيير الذي أحدثه ظهور هذه المدن الجديدة على يد الطبقة البورجوازية في أوروبا في البناء الفوقي السياسي والقانوني والفكري، إلا إذا عرفنا لمحة عن النظام الإقطاعي في أوروبا.
لقد قام النظام الإقطاعي في أوروبا على أساس اقتران امتلاك الأرض بحق امتلاك نواحي الحكم والسلطان على من يكون بتلك الأرض من الناس، وبالتالي أصبح معظم أهل الريف يعيشون في حال انتقالية بين الحرية والرق، وهي الحال التي عرفت باسم القنية Serfdom في مطلع العصور الوسطى وما بعدها. وكانت الزراعة والفلاحة هي قوام ذلك المجتمع الإقطاعي، على العكس من المجتمع البورجوازي، ومن ثم فقد أصبح سواد هذا المجتمع مكوناً من الفلاحين.
وكان محور الدائرة التي عاش فيها فلاحو العصور الوسطى هي القرية، وكانت مظاهر الحياة في تلك القرية هي مظاهر الحياة العادية التي تصحب عادة مجتمعاً يعيش كله على الزراعة. فإلى جانب الكنيسة، وبيوت الفلاحين، وأجران المحاصيل، كانت هناك دكاكين أصحاب الحرف اللازمة لمجتمع ذي اكتفاء ذاتي. وكان الفلاح يزرع حصته من الأرض الزراعية، التي منحها إياه سيده الإقطاعي، ويسكن بيته الحقير، وبجواره حقل صغير يزرع فيه ما يستعين به على قوته اليومي من خضر وبقول.
وكان هذا الفلاح مربوطا إلى أرضه، لا يملك الحرية في الانتقال منها، وعليه أن يؤدى واجبات تبعيته لسيده كاملة، هذا عدا أنه ظل يباع ويشترى ويبدل بغيره حسبما يشاء سيده الإقطاعي.
ولم يكن هذا السيد في الحقيقة إلا تابعاً هو الآخر لسيد أكبر منه يدين له بالولاء ويؤدى له خدمات حربية معينة. وكان السيد الإقطاعي بموجب النظام الإقطاعي هو الحاكم فيما تحت يده من الأراضي التي كان يطلق عليها اسم (الدومين)، وفيمن عليها من السكان. وكان يقوم بتدبير الشئون السياسية والإدارية من قصره الكبير، الذي كان حصنه الحصين وملاذه الأمين بالضرورة.
وهكذا كان شأن المجتمع الإقطاعي في خطوطه العريضة قاعدته الأساسية الزراعة، والغالبية العظمى من السكان هم من الأقنان المرتبطين بالأرض ارتباطا شديدا، والذين يدينون بالتبعية التامة لقلة من النبلاء الإقطاعين الذين يمتلكون الأرض وسكانها معا. والذين يدينون بدورهم بالتبعية لنبلاء أكبر منهم حتى الوصول إلى الملك.
على أن هذا المجتمع الراكد لم يلبث أن دب فيه تطور جديد خطير، أدى في النهاية إلى قلب أوضاعه قلبا تاما. وذلك بظهور النشاط التجاري في أوروبا منذ القرن الحادي عشر، ونمو الطبقة البورجوازية التجارية في عالم السلطتين الاقتصادية والسياسية وازدهار المدن التي أصبحت المراكز الأساسية للحركة التجارية الجديدة.
ويجد المؤرخون صعوبة في اكتشاف السبب الذي دفع بهؤلاء التجار منذ بداية الأمر إلى أن يستبدلوا بحياة الزراعة المضمونة الرزق، والتي يتوافر فيها الأمن والطمأنينة، حياة التجارة الحافلة بالقلاقل والمغامرات والهزات الاقتصادية.
ويعتقد هؤلاء المؤرخون أن هؤلاء التجار كانوا من أولئك المغامرين المهرة الذين نبتوا من بين أسوأ الطبقات حالا ومستوى في المجتمع الإقطاعي، والذين اضطروا نظرا لعدم حيازتهم أية أرض يزرعونها إلى العمل كأجراء في أوقات الحصاد، وكمرتزقة في الجيش.
ولابد أن ظاهرة ازدياد عدد السكان التي ظهرت في القرن العاشر الميلادي قد ساعدت على تضخم أعدادهم. ومثل هؤلاء كانت التجارة تفتح لهم بابا عريضا للربح والثروة، ولذلك فقد أجروا أنفسهم كبحارة أو مجدفين إلى غير ذلك من الأعمال، وعرف الكثيرون منهم اللغات الأجنبية، وعادات الأمم وحاجات الشعوب.
ولا شك أنهم استفادوا من المجاعات التي كانت كثيرا ما تنتشر في تلك العصور، فإن قليلا من زكائب القمح تباع في بلد مهدد بالمجاعة يمكن أن تأتى بربح عظيم.
وعلى ذلك فلم يمض وقت طويل حتى ظهرت طبقة من الأغنياء الجدد من بين تلك الجماعات البائسة، التي لم تكن تمتلك شيئا من الأرض، وكانت مضطرة إلى العيش على صدقات الكنيسة تارة وعلى البحث عن عمل تارة أخرى.
وهذا يؤدى بنا إلى القول بأن طبقة التجار التي ظهرت في القرنين العاشر والحادي عشر قد بدأت نشاطها دون رأس مال وأن القروض قد لعبت الدور الأول في هذا الطور من أطوار حياة هذه الطبقة. وتمتاز هذه الطبقة بأنها طبقة محترفة، لا تعتبر التجارة بالنسبة لها ثانوية أو حرفة تزاول بين الحين والحين، بل حرفة تزاول بانتظام، ويعتمدون عليها، لا على الأرض، في معاشهم وأرزاقهم.
على أن أحوال المجتمع الإقطاعي الذي نشأت فيه هذه الطبقة لم تكن مما يتيح لها النمو فى يسر والتطور في سرعة وسهولة. ففي ذلك الحين كانت قيود المجتمع الإقطاعي تعرقل التجارة الداخلية، فقد كانت تفرض مائة ضريبة وضريبة على انتقال البضائع عبر الثغور وعند عبور القناطر واستخدام الطرق والأنهار والقنوات. وكان سادة الإقطاع يرون أن من حقهم أن يجبوا ضرائب على البضائع المارة بأملاكهم كما تفعل الدول في هذه الأيام. ومن جهة أخرى كان التجار يتعرضون لأشد الأخطار في الطرق البرية والمسالك المائية الموبوءة بالحروب الاقطاعية.
الاكثر قراءة في التاريخ الأوربي الحديث والمعاصر
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة