الفساد الإداري في العراق في فترة العصور القديمة
المؤلف:
صباح عبد الكاظم شبيب الساعدي
المصدر:
دور السلطات العامة في مكافحة ظاهرة الفساد الإداري في العراق
الجزء والصفحة:
ص 10-12
2025-11-01
66
تشير المصادر التاريخية إلى أن أول أشكال الدول التي لها أنظمة سياسية وإدارية كانت (دويلات المدن city-states ) في جنوب العراق وهو ما يسمى بعصر فجر السلالات ما بين 2850-2400ق.م، وقد امتاز سكان العراق القديم دون غيرهم من شعوب العالم القديم بوجود القوانين التي تعتبر من أبرز النتاجات البشرية التي ظهرت من أجل خدمة الصالح العام ومحاربة الفساد (1) . وإن كل شيء ظهر بعد ذلك لا بد وأن يكون له داع ، وقصد، فالمجتمع العراقي كبير ومتقدم حضارياً تتشابك فيه المصالح وتتنوع فيه العلاقات منذ ظهور السفينة الشراعية في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد التي كانت عنواناً للثورة التجارية (2).
وكما ذكرنا فأن من الآثار السلبية التي ترافق الحكم والإدارة الفساد الإداري، لذلك تشير النصوص التاريخية إلى وجود حالات فساد إداري في العصور القديمة، منها نصّ مسماري عثر عليه في تل العمارنة يذكر أن سرجون الأكدي (2371-2316 ق.م) وصل إلى مدينة (بورش خندا) في آسيا الصغرى منتصراً لجماعة من التجار أصابهم الظلم على يد أحد الحكام هناك، وأن حمورابي قد أرسل إلى موظفه (سين ادنام) أمراً يطلب منه إجراء التحقيق مع موظف في إحدى المدن يأخذ الرشوة، وفي إحدى المناسبات حضر دعوى تاجر ضد احد موظفي الوحدات الإدارية وكان الحكم لصالح التاجر (3). لهذا أولت الشرائع العراقية القديمة اهتماماً بمعالجة الفساد الإداري، فجاء في مقدمة شريعة اورنمو التي وضعها الملك اورنمو (2111 - 2003 ) ق.م بعد انتصاره على الكوتيين (4) الذين حكموا العراق وانتشرت في عهدهم الفوضى وعدم الالتزام بالقانون والنظام وهي أقدم الشرائع ما معناه :
(... استطاع اور نمو المحارب الشجاع ملك أور ملك بلاد ( سومر وأكد ) بقوة الإله (ننار)... أن يوطد العدالة في البلاد وأن يزيل البغضاء والظلم والعداوة، وبتوفيره الحرية في بلاد (أكد) للتجارة البحرية ضد سطوة مراقبي الملاحة ولرعاة المواشي ضد سطوة ناهبي الثيران... يكون قد وطد الحرية الكاملة في بلاد سومر وأكد)، كما نصت م/51 من قانون اشنونا على أنه: (إذا قبض رئيس المدينة أو مراقب القنوات أو أي موظف آخر على عبد أبق أو أمة أبقة أو ثور مفقود أو حمار مفقود يعود إلى القصر أو إلى مولى ولم يسلمه في الحال إلى مدينة ايشنونا بل احتفظ به في بيته، وعند مضي سبعة أيام من الشهر والعبد لم يسلم بعد فأن القصر سيعتبره سارقا)(5).
وكنتيجة لوجود مظاهر الفساد الإداري قام بعض الملوك بإصلاحات إدارية، فقد قام الملك الآشوري (تجلاتبليزر الثالث 744-727 ق.م) بمضاعفة عدد المقاطعات الآشورية الموجودة بعد تصغير رقعة كل واحدة منها، واستعاض عن الحكام المحليين في المناطق التي أخضعها لسلطانه بحكام آشوريين ألحقهم بالإدارة الآشورية، وفي المقاطعات البعيدة التي لم يتمكن من إخضاعها لسلطانه المباشر أبقى على حكوماتها المحلية وخضعت لإشراف ممثلين آشوريين(6).
لم يقتصر الأمر على الملوك والحكام في موقفهم من الفساد، بل كان للرسالات السماوية الدور الرئيس في هذا المجال، لأن هدفها الأساسي هو الإصلاح الذي هو نقيض الفساد، فجميع الأنبياء والرسل كانت رسالاتهم إصلاحية لمنع وجود الفساد على الأرض وقد ذكر القرآن الكريم قصصهم بهذا الصدد (7).
فقد كان نبي الله شعيب ينهى قومه عن الفساد، قال تعالى: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبَاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيْنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (8). وكانت ثمود تفسد في الأرض فأرسل الله النبي صالحاً ينهاهم عن الفساد ويريد إصلاحهم، قال تَعَالَى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أن اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ)(9). وقال تعالى: (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ) (10) . ويلاحظ هنا أن القرآن الكريم يربط دائماً بين الفساد والارض، ونعتقد أن ذلك يعني قابلية الفساد على الانتشار في الارض فهو لا يتوقف عند حد معين ولا حالة معينة، لذلك شبه بالمرض المعدي أو السرطان الذي ينتشر في خلايا الجسم المصاب.
وتذكر آيات أخرى قبح الفساد والجزاء القاسي الذي ترتب عليه بحق الأقوام الذين طغوا في البلاد وأفسدوا فيها وهم قوم عاد وثمود وفرعون الذين عذبهم الله سبحانه في الدنيا نتيجة فسادهم، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ) (11) وقال تعالى (وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ، وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ) (12).
______
1. انظر: د. جمال مولود ، ذیبان تطور فكرة العدل في القوانين العراقية دراسة قانونية مقارنة بغداد دار الشؤون الثقافية العامة 2001 ، ص 12 وما بعدها.
2. انظر: د. فوزي رشيد القوانين في العراق القديم، ط /1 ، بغداد، 1988، ص 6.
3. انظر:- د. فاضل عبد الواحد علي العراق في التاريخ، الفصل الثاني، السومريون والأكديون، بغداد، دار الحرية للطباعة، 1983، ص 69 و ما بعدها.
4. الكوتيون قبائل جبلية لا تملك أصولاً حضارية احتلوا بلاد سومر وحكموها (90) عاما وثار ضدهم السومريون بقيادة ملك الوركاء (اوتو) حيكال وأعاد الحكم للسومريين، لكن ملك أور (اورنمو) انتصر عليه وحكم البلاد، للمزيد انظر: د. فوزي رشيد الشرائع العراقية القديمة، بغداد، دار الرشيد للنشر ، 1979، ص 26 وما بعدها.
5- أنظر:- د. فوزي رشيد المصدر السابق، ص27 و 94.
6- للمزيد، انظر: محمد صبحي عبد الله العلاقات العراقية المصرية في العصور القديمة، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، 1999، ص 130
7- أنظر نعمة الله الجزائري، النور المبين في قصص الأنبياء والمرسلين، بدون تاريخ، وأنظر: الإمام أبا الفداء أسماعيل بن كثير، قصص الأنبياء، ط 1 ، دار الكتب الحديثة، 1968.
8- سورة الأعراف الآية / 85.
9- سورة النمل، الآية 45 .
10- سورة النمل، الآية 48
11- سورة الفجر، الآية 6.
12- سورة الفجر الآيات 9 و 10 و 11 و 12 و 13.
الاكثر قراءة في القانون الاداري
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة