أنتيوكوس يغزو المواقع التي في أيدي المصريين في سوريا وفلسطين حتى رفح
المؤلف:
سليم حسن
المصدر:
موسوعة مصر القديمة
الجزء والصفحة:
ج15 ص 356 ــ 359
2025-10-28
29
الواقع أن وزراء «بطليموس الرابع» وبطانته لم يكونوا مخلصين فيما عرضوه على «أنتيوكوس الثالث» الذي أوقع نفسه عن طيب خاطر — أو بعبارة أدق على غفلة منه — في الفخِّ الذي نُصِب له، وذلك أن وزراء «بطليموس» قد عملوا بقدر المستطاع على إصلاح الأخطاء التي ارتكبوها في الماضي ظنًّا منهم أن الأحوال في الخارج تجري على حسب ما يريدون؛ وتفسير ذلك أنهم عندما أُخِذوا على غِرَّة بتتابع الحوادث المفجعة التي حاقت بمصر وممتلكاتها وبخاصة في سوريا، أرادوا قبل كل شيء أن يكسبوا بعض الوقت لإصلاح أخطائهم، وقد توصلوا إلى ذلك بأن فتحوا باب المفاوضات السياسية مع خصمهم والإطالة في أجلها إلى أن تكْمُل تجهيزاتهم الحربية، وبعد ذلك يكونون على استعداد لأن يقْلِبوا «لأنتيوكوس» ظهر المِجَنِّ، ويعلنون عليه الحرب، والواقع أنهم خدَّروا أعصاب «أنتيوكوس» ووقع فعلًا في حبائلهم.
ففي أثناء ما كان رجال السياسة من الطرفين يتبادلون المذكرات بين «سليوسي» و«منف» كانت الإسكندرية قد أصبحت معسكرًا مترامي الأطراف حيث كان الضباط المدربين على فنون الحرب يقومون بتدريب الجنود المرتزقين الذين انخرطوا في سلك الجيش المصري من كل حَدَب وصَوْب من البلاد المجاورة، هذا وقد ذكر لنا المؤرخ «بوليبيوس» (1) عند تناوله حوادث هذه الحرب؛ أسماء رؤساء الجنود المرتزقين الذين كانت لهم شهرة واسعة في هذه الفترة في العالم الإغريقي.
وأهم ما يلفت النظر في تكوين هذا الجيش الذي أعده «بطليموس الرابع» لمحاربة «أنتيوكوس» هو أنه كان يحتوي على حوالي عشرين ألف مقاتل من الجنود المصريين القُحِّ، وقد قُدِّر عدد هذا الجيش كله بحوالي خمسة وسبعين ألف مقاتل تجمَّعوا كلهم في صعيد «الإسكندرية» وهؤلاء الجنود نظموا فرقًا بعضها من المشاة يحاربون بالحِراب بقيادة «سوسيبيوس» نفسه، يضاف إلى ذلك ستة آلاف مقاتل من الجنود اللوبيين انقسموا قسمين أحدهما من المشاة، والآخر من جنود الفرسان، وعلى أغلب الظن كانت هذه هي المرة الأولى التي سمح فيها ملوك البطالمة بوضع السلاح في أيدي مواطنين من أصل مصري، وتدريبهم على حسب النظم الحربية الإغريقية المقدونية، والواقع أن «بطليموس الرابع» ورجال حاشيته الذين كانوا يديرون مقاليد الأمور قد اضطُروا إلى ذلك اضطرارًا ملحًّا، على الرغم من أنه — على ما قيل — لم تحدث تجربة مثل هذه في تنظيم الجيش البطلمي وإعداده، وذلك لأن البطالمة كانوا يخشون المصريين بوجه عام، ولا يرغبون في أن يجازفوا بتجنيدهم في الجيش العامل بوجه خاص.
وعلى أية حال انقضى شتاء عام 219-218ق.م في مفاوضات لم تُسْفِر عن أية نتيجة كما توقع «سوسيبيوس»؛ فقد أرسل الأخير وهو في «منف» في صحبة «بطليموس» إلى «سليوسي» سفراء للمفاوضة، مُخْفِين عن «أنتيوكوس» كل التجهيزات والاستعدادات الحربية التي كانت قائمة على قدم وساق في الإسكندرية، وفي خلال هذه المفاوضات قدم المصريون اعتراضات اقتُبست من المعاهدة السابقة التي وقعت في عام 302ق.م بين الملوك الذين تحالفوا على «أنتيجونوس» وهي التي أعلن فيها المتفاوضون السوريون أنها قد أُلغيَت بمقتضى القسمة النهائية التي أُبرِمت بين المتحالفين نهائيًّا.(2) غير أن «بطليموس الأول سوتر» لم يقبل هذه القسمة التي لم تسلِّم له بحق الاستيلاء على «سوريا الجوفاء» التي كان قد وُعِد بها في المعاهدة الأولى، وعلى هذا الأساس نجد أن المناقشة التي دارت حول هذه النقطة لم تسفر عن أي تقدم في حَسْم الخلاف، وفي نهاية الأمر عندما استعدَّ المصريون للحرب، وأرد «بطليموس» أن يوقف المفاوضات؛ معلنًا أنه لا بد من أن المعاهدة التي تُبرَم بينه وبين «أنتيوكوس» تشمل موادها ما يرضي حليفه «آخاوس» وعندئذ ثار «أنتيوكوس» وأبى كلَّ الإباء أن يَدخُل عاصٍ بل وخارجٌ عليه في شروط المعاهدة، ومن ثَم قطع حبل المفاوضات.
والواقع أن خيبة أمله كانت كبيرة؛ وذلك لأنه كان يأمل حتى آخر لحظة أن تصبح «سوريا الجوفاء» وبلاد فينيقيا جميعًا ملكًا له، وأن مستشاري «بطليموس الرابع» لن يجسروا على منازعته في قطعة من تلك البلاد؛ وذلك لأن هذا كان سيجرهم إلى أخطار مهلكة، يضاف إلى ذلك أن «أنتيوكوس» — اتكالًا على تخيلاته هذه — أهمل تدريب جنوده حتى يكونوا على أهبة الاستعداد لخوض غمار الحرب، ومع ذلك فإن الإحوال قد اضطرته إلى خوض نار حرب قد يخسر فيها كل ما أحرزه في حملته المظفرة السالفة.
وعلى أية حال لم يتوان «أنتيوكوس» في أن ساق جيشه لمقابلة العدو من جديد مخترقًا بلاد «سوريا الجوفاء» وقد حاذى في سيره هذه المرة الساحل الفنيقي، وكان أسطوله يمخر عباب البحر في إثره بقيادة «ديوجنيتوس» Diognetos، وقد قدم له أهل «رودس» عن طيب خاطر محالفتهم، كما انضم له — عند «داموراس» Damouras الواقعة على الساحل بين بيروت و«صيدا» — القائد «تيودوتوس» وبعد ذلك بقليل تصادم مع مقدمة جيش «نيكولاوس» الذي كان يحتل وديان «بالاتانوس».
أما المصريون فقد أفادوا من تباطئ المفاوضات؛ إذ في خلال ذلك كانوا قد كدَّسوا المؤن والذخائر عند غزة، وكذلك كانت الإمدادات قد وصلت إلى «نيوكولاوس»، كما أُرسِل إليه أسطول مؤلف من ثلاثين سفينة من ذوات الأسطح. هذا فضلًا عن أربعمائة سفينة حمل بقيادة أمير البحر «بريجين» Perigene، وعلى ذلك كان الجيشان والأسطولان على استعداد لخوض المعركة.
وقد بدأ «أنتيوكوس» بالهجوم وانقض بجيشه، وكان مقسمًا ثلاث فرق لملاقاة «نيكولاوس» في حين أن الأسطولين تقدما لخوض معركة بحرية أيضًا، وقد أسفرت المعركة عن نصر السوريين، وعلى ذلك ولَّى «نيكولاوس» الأدبار مع جنوده مشتَّتين إلى «صيدا»؛ حيث انضم إليه في الحال «بريجين»، وأخذت صيدا دون إبطاء في تحصين نفسها غير أن السوريين لم يروا أنه من الحكمة محاصرته، فأبحر «ديوجنتيوس» إلى صور في حين كان «أنتيوكوس» يبتعد عن الشاطئ، ودخل بجيشه في إقليم الجليلي الخصب، ولم يلبث أن سلَّمتْ «فيلوترا» Philotra الواقعة على الشاطئ الغربي لبحيرة جنيزاريت، ثم استولى على «سيتوبوليس» Scythopolis التي تقع على مسافة من «فيلوترا» وأخيرًا استولى على «أتابيريون» Atabyerion المحصنة بهجومه عليها، وبذلك وجد «أنتيوكوس» أنه أصبح صاحب السلطان على كل الجزء الشمالي من فلسطين، ثم عبر بعد ذلك نهر «الأردن» وغزا بيري Perie، وقضى على الحاميتين المصريتين في «أبيلا» و«جادارا» وبعد ذلك استولى على «فيلادلفيا» (رابات-آمون) بعد حصار مضنٍ، وبعد أن ساعده العرب الذين كانوا يقطنون في الجهات المجاورة.
وهذه الانتصارات السريعة المتتالية قد أسفرت عن انشقاق في صفوف الجنود المرتزقين، بل وبين الموظفين المصريين، ولا أدلَّ على ذلك من أنه بعد الاستيلاء على حصن «أتابيريون» انضم أحد رجال «بطليموس» الذي يُدعَى «سيراس» Ceraeas إلى جانب «أنتيوكوس»، ثم حذا حَذْوَه أحد القواد الحربيين ويُدعَى «هيبولوكوس» Hippolochos التسالي، وقاد معه للمعسكر السوري فرسانه الذين كان يبلغ عددهم أربعمائة فارس (3).
ولما دخل فصل الشتاء رأى «أنتيوكوس» أن ينهي حملته، ولكن ضمانًا للمحافظة على فتوحه وضع حامية عند غزة؛ وفي مدينة «رابات-آمون» كان يعسكر القائد «نيكاركوس» بقوة كبيرة، وفي الشمال وضع تحت قيادة كل من «هيبولوكوس» و«سيراس» خمسة آلاف من جنود «سماريا». أما «أنتيوكوس» نفسه فإنه ذهب بعد ذلك ليقيم معسكرات الشتاء في «بطوليمايس» (4).
وفي خلال هذه الانتصارات لم نسمع شيئًا عن الجانب المصري؛ وكانت كل الأحداث تدل على أن «سوريا الجوفاء» قد فُقِدت من مصر دون شك، وعندما أخذ «سوسيبيوس» يُظهِر بعض النشاط، كان ذلك بعد فوات الوقت؛ إذ لم يكن في مقدوره أن يرسل قوات كافية لملاقاة العدو، هذا إلى أنه لم يجعل حليفه «آخاوس» يقرر مساعدته بصورة جدية؛ وذلك لأن الأخير كان دائمًا مترددًا مما جعله يبقى مع جنوده في «بيزيديا»، في حين كان «آتالوس» ملك برجام يستولي على المدينة تلو المدينة على الساحل الأيوني، ولكن الاستيلاء على «سوريا الجوفاء»، كان له فائدة حيوية مُحسَّة، ومن أجل ذلك نجد أن الحملتين الطاحنتين اللتين شنَّهما «أنتيوكوس» لم يثبِّطا من عزيمة «سوسيبيوس» التي لا تعرف الكلل، والواقع أنه لم يخطر بباله أن يسلِّم للعدو على طول الخط ويخضع له، بل كان في نهاية الأمر مستعدًّا ليجرب حظه بآخر ما لديه من قوة وعتاد؛ ليسترد «سوريا الجوفاء» إلى أملاك مصر.
................................................................
1- Polyb., V, 63, 5; B.L.I. P. 305.
2- راجع مصر القديمة الجزء 14.
3- Polyb. V, 68–71.
4- Polyb., V, 71.
الاكثر قراءة في العصور القديمة في مصر
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة