تمثيل الجيليّ في معنى «نقطة الوحدة بين قوسي الاحديّة والواحديّة»
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الله
الجزء والصفحة:
ج3/ ص339-343
2025-09-24
253
قَالَ عَبْدُ الكَرِيمِ الجِيلانِيّ في كِتَابِهِ «الإنسَان الكَامِل» بعْدَ كَلَامٍ طَوِيلٍ في اسْمِ اللهِ:
قَالَ: فَاسْتِدَارَةُ رَأسِ الهَاءِ إشَارَةٌ إلَى دَوَرَانِ رَحَى الوُجُودِ الحَقِّيّ والخَلْقِيّ عَلَى الإنسَانِ. فَهُوَ في عَالَمِ المِثَالِ كَالدَّائِرَةِ التي أشَارَ الهَاءُ إلَيْهَا.
فَقُلْ مَا شِئْتَ! أن شِئْتَ قُلْتَ: الدَّائِرَةُ حَقٌّ وجَوْفُهَا خَلْقٌ، وأن شِئْتَ قُلْتَ: الدَّائِرَةُ خَلْقٌ وجَوْفُهَا حَقٌّ؛ فَهُوَ حَقٌّ وهُوَ خَلْقٌ، وأن شِئْتَ قُلْتَ: الأمْرُ فِيهِ بِالإلْهَامِ.
فَالأمْرُ في الإنْسَانِ دَوْرِيّ بَيْنَ أنَّهُ مَخْلُوقٌ لَهُ ذُلُّ العُبودِيَّةِ والعَجْزِ، وبَيْنَ أنَّهُ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ فَلَهُ الكَمَالُ والعِزُّ.
قَالَ اللهُ تَعالَى: فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُ[1] يَعْنِي الإنْسَانَ الكَامِلَ الذي قَالَ فِيهِ: «أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ».[2]
لأنَّهُ يَسْتَحِيلُ الخَوْفُ والحُزْنُ وأمْثَالُ ذَلِكَ عَلَى اللهِ؛ لأنَّ اللهَ هُوَ الوَلِيّ الحَميدُ،[3] «وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»[4]؛ اي الولي.
فَهُوَ حَقٌّ مُتَصَوَّرٌ في صُورَةٍ خَلْقِيَّةٍ؛ أوْ خَلْقٌ مُتَحَقِّقٌ بِمَعَانِي الإلَهِيَّةِ.
فَعَلَى كُلِّ حَالٍ وتَقْدِيرٍ، وفي كُلِّ مَقَالٍ وتَقْرِيرٍ؛ هُوَ الجَامِعُ لِوَصْفَيِ النَّقْصِ والكَمَالِ، والسَّاطِعُ في أرْضِ كَوْنِهِ بِنُورِ شَمْسِ المُتَعَالِ.
فَهُوَ السَّمَاءُ والأرْضُ، وهُوَ الطُّولُ والعَرْضُ؛ وفي هَذَا المعنى قُلْتُ:
لِيَ المُلْكُ في الدَّارَينِ لَمْ أرَ فِيهِمَا *** سِوَايَ فَأرْجُو فَضْلَهُ أوْ فَأخْشَاهُ
إلَى أن قَالَ مِنْ هَذِهِ القَصِيدَةِ وهي طَوِيلَةٌ:
وَإنِّي رَبٌّ لِلأنَامِ وسَيِّدٌ *** جَمِيعُ الوَرَى اسْمٌ وذَاتِي مُسَمَّاهُ
لي المُلْكُ والمَلْكُوتُ نَسْجِي وصَنْعَتِي *** لي الغَيْبُ والجَبْرُوتُ مِنِّيَ مَنْشَاهُ
إلَى آخِرِ القَصِيدَةِ وكَلَامِهِ»[5]
وَقَالَ أيضاً في الكِتَابِ المَذْكُورِ:
وَمَا الخَلْقُ في التِّمْثَالِ إلَّا كَثَلْجَةٍ *** وأنْتَ بِهَا المَاءُ الذي هُوَ نَابِعُ
وَمَا الثَّلْجُ في تَحْقِيقِنَا غَيْرَ مَائِهِ *** وغَيْرَانِ في حُكْمٍ دَعَتْهُ الشَّرَائِعُ
وَلَكِنْ يَذُوبُ الثَّلْجُ يُرْفَعُ حُكْمُهُ *** ويُوضَعُ حُكْمُ المَاءِ والأمْرُ وَاقِعُ
تَجَمَّعَتِ الأضْدَادُ في وَاحِدِ الْبَهَا *** وفِيهِ تَلَاشَتْ وهوَ عَنْهُنَّ سَاطِعُ[6]
وهذا الرجل (الشيخ عبد الكريم الجيليّ) هو من أكابر أئمّة أهل العرفان. ولو تتبّعتَ في كتب المُؤلّف (الملّا صدرا الشيرازيّ) كهذا الكتاب وغيره، لوجدت أن كلامه مشابه لكلام العرفاء، مع اختلاف في عباراته واستدلالاته التي سبكها على نمط الحكماء خلافاً لعبارات أهل العرفان والتصوّف.
ويمكن استشمام العِلم بذات الواجب والحقّ تعالى من تلك المصنّفات دون شكّ أو غموض، لأنّ الوجود عندهم عبارة عن الحقيقة الواحدة؛ مع وجود الاختلاف في أن دلالة العبارات الصوفيّة على مطلوبهم ومرادهم أكثر من عبارة المصنّف نفسه. لكنّه صرّح بذلك في كثير من عباراته، مثل: كَوْنُ الخَلقِ مِنْهُ بِالسِّنْخ، ومثل: الوُجُودُ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ صِرْفُهَا وَاجِبُ الوُجُودِ ومَشُوبُهَا المُمْكِنُ. وبيّنَ في «المشاعر» وغيره أنّ: النقصان الموجود في الموجودات المشوبة ليس ذلك من ذاتها، لأنّ ذاتها مُنزّهة من النقص، وأن عُروض النقصان فقط تنزّل عليها من جهة لحوق خصوص المراتب.
(كان كلّ ذلك بحثاً في معنى الوجود بناء على رأي الحكيم الملّا صدرا الشيرازيّ وعقيدته).
[1] - قسم من الآية 9، من السورة 42: الشوري: فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ.
[2] - الآية 62، من السورة 10: يونس.
[3] - ذيل الآية 28، من السورة 42: الشوري: وهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ.
[4] - ذيل الآية 9، من السورة 42: الشورى.
[5] - بسبب الأخطاء التي كانت موجودة في «شرح العرشيّة» للأحسائيّ فقد أوردنا هنا عبارات العارف الكبير الشيخ عبد الكريم الجيليّ عن النسخة الأصليّة لكتاب «الإنسان الكامل» ص 19 و20، الطبعة الاولى، المطبعة الأزهريّة المصريّة، باعتبارها من أبدع المنظومات سنة 1316 ه-؛ وفي طبعة مطبعة محمّد على صبيح وأولاده، مصر، سنة 1383 هجريّة: ص 19 و20.
و قد ارتأينا نقل قصيدة الشيخ عبد الكريم الجيلانيّ أعلى الله مقامه هنا كاملة في باب توحيد ذات الحقّ تعالى، وهي لا تقلّ شأناً عن القصائد التي نظمها ابن الفارض المصريّ، آملين أن ينتفع بها الطلبة الكرام:
ليَ المُلْكُ في الدَّارَيْنِ لَمْ أرَ فيهِما *** سِوايَ فَأرْجو فَضْلَهُ أوْ فَأخْشاهُ
وَلا قَبْلَ مِنْ قَبْلي فَألْحِقَ شَأنَهُ *** ولا بَعْدَ مِنْ بَعْدي فَأسْبِقَ مَعْناهُ
وَقَدْ حُزتُ أنْواعَ الكَمالِ وإنَّني *** جَمالُ جَلالِ الكُلِّ ما أنَا إلّا هو
فَمَهْما تَرَى مِنْ مَعْدِنٍ ونَباتِهِ *** وحَيْوانِهِ مَعْ إنسِهِ وسَجاياهُ
وَمَهْما تَرَى مِنْ عُنْصُرٍ وطَبيعَةٍ *** ومِنْ هَبَاءِ لِلأصْلِ طيبَ هَيولاهُ
وَمَهْما تَرَى مِنْ أبْحُرٍ وقِفارَةٍ *** ومِنْ شَجَرٍ أو شاهِقٍ طالَ أعْلاهُ
وَمَهْما تَرَى مِنْ صورَةٍ مَعْنَويَّةٍ *** ومِنْ مَشْهَدٍ لِلْعَيْنِ طابَ مُحَيّاهُ
وَمَهْما تَرَى مِنْ فِكْرَةٍ وتَخَيُّلٍ *** وعَقْلٍ ونَفْسٍ أوْ فَقَلْبٍ أوْ حِشاهُ
وَمَهْما تَرَى مِنْ هَيْئَةٍ مَلَكيَّةٍ *** ومِنْ مَنْظَرٍ إبْليسُ قَدْ كانَ مَعْناهُ
وَمَهْما تَرَى مِنْ شَهْوَةٍ بَشَريَّةٍ *** لِطَبْعٍ وإيثارٍ لِحَقٍّ تَعاطاهُ
وَمَهْما تَرَى مِنْ سابِقٍ مُتَقَدِّمٍ *** ومِنْ لاحِقٍ بِالقَوْمِ لَفّاهُ ساقاهُ
وَمَهْما تَرَى مِنْ سَيّدٍ مُتَسَوِّدٍ *** ومِنْ عاشِقٍ صَبٍّ صَبا نَحْوَ لَيْلاهُ
وَمَهْما تَرَى مِنْ عَرْشِهِ ومُحيطِهِ *** وكُرْسيِّهِ أوْ رَفْرَفٍ عَزَّ مَجْلاهُ
وَمَهْما تَرَى مِنْ أنْجُمٍ زُهَريَّةٍ *** ومِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ لَهُمْ طابَ مَثْواهُ
وَمَهْما تَرَى مِنْ سِدْرَةٍ لِنِهايَة *** ومِنْ جَرَسٍ قَدْ صَلْصَلا مِنْهُ طَرْفاهُ
فَإنّي ذاكَ الكُلُّ والكُلُّ مَشْهَدي *** أنا المُتَجَلّي في حَقيقَتِهِ لا هو
وَإنّي رَبٌّ لِلأنامِ وسَيِّدٌ *** جَميعُ الوَرَى اسْمٌ وذاتي مُسَمّاهُ
لي المُلْكُ والمَلْكوتُ نَسْجي وصَنْعَتي *** لي الغَيْبُ والجَبْروتُ مِنّيَ مَنْشاهُ
وَها أنَا فيما قَدْ ذَكَرْتُ جَميعُهُ *** عَنِ الذّاتِ عَبْدٌ آئِبٌ نَحْوَ مَوْلاهُ
فَقيرٌ حَقيرٌ خاضِعٌ مُتَذَلِّلٌ *** أسيرُ ذُنوبٍ قَيَّدَتْهُ خَطاياهُ
فَيا أيُّها العُرْبُ الكِرامُ ومَنْ هُمُ *** لِصَبِّهِمُ الوَلْهانِ أفْخَرُ مَلْجاهُ
قَصَدْتُكُمُ أنْتُم قُصارَى ذَخيرَتي *** وأنْتُمْ شَفيعي في الذي أتَمَنّاهُ
وَيا سَيّداً حازَ الكَمالَ بِإثْرَةٍ *** فَأضْحَى لَهُ بِالسَّبْقِ شَأوَ تَعالاهُ
لُاسْتاذِ شَيْخِ العالَمينَ وشَيْخِهِمْ *** ونورٌ حَواهُ الأكْمَلونَ ولألاهُ
عَلَيْكُمْ سَلامي كُلَّ يَوْمٍ ولَيلَةٍ *** تَزيدُ على مَرِّ الزَّمانِ تَحاياهُ
***
[6] - لقد نقلنا هنا جميع الأبيات الواردة في كتاب «الإنسان الكامل» عن طبعة سنة 1316، ص 28، وعن طبعة سنة 1383: ص 28.
الاكثر قراءة في فرق واديان ومذاهب
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة