تاريخ الفيزياء
علماء الفيزياء
الفيزياء الكلاسيكية
الميكانيك
الديناميكا الحرارية
الكهربائية والمغناطيسية
الكهربائية
المغناطيسية
الكهرومغناطيسية
علم البصريات
تاريخ علم البصريات
الضوء
مواضيع عامة في علم البصريات
الصوت
الفيزياء الحديثة
النظرية النسبية
النظرية النسبية الخاصة
النظرية النسبية العامة
مواضيع عامة في النظرية النسبية
ميكانيكا الكم
الفيزياء الذرية
الفيزياء الجزيئية
الفيزياء النووية
مواضيع عامة في الفيزياء النووية
النشاط الاشعاعي
فيزياء الحالة الصلبة
الموصلات
أشباه الموصلات
العوازل
مواضيع عامة في الفيزياء الصلبة
فيزياء الجوامد
الليزر
أنواع الليزر
بعض تطبيقات الليزر
مواضيع عامة في الليزر
علم الفلك
تاريخ وعلماء علم الفلك
الثقوب السوداء
المجموعة الشمسية
الشمس
كوكب عطارد
كوكب الزهرة
كوكب الأرض
كوكب المريخ
كوكب المشتري
كوكب زحل
كوكب أورانوس
كوكب نبتون
كوكب بلوتو
القمر
كواكب ومواضيع اخرى
مواضيع عامة في علم الفلك
النجوم
البلازما
الألكترونيات
خواص المادة
الطاقة البديلة
الطاقة الشمسية
مواضيع عامة في الطاقة البديلة
المد والجزر
فيزياء الجسيمات
الفيزياء والعلوم الأخرى
الفيزياء الكيميائية
الفيزياء الرياضية
الفيزياء الحيوية
الفيزياء العامة
مواضيع عامة في الفيزياء
تجارب فيزيائية
مصطلحات وتعاريف فيزيائية
وحدات القياس الفيزيائية
طرائف الفيزياء
مواضيع اخرى
طراز بناء العالم الكوني
المؤلف:
ب . ك. و. ديفيس
المصدر:
المكان و الزمان في العالم الكوني الحديث
الجزء والصفحة:
157
2025-08-23
26
إن تحليل الفضاء والزمن لا يكون تاماً إلا إذا ناقشناه بمجمله . فالعالم هو مجمل الفضاء ، ومجمل الزمان هو تاريخ هذا العالم . فماذا يمكن أن نقول عن بنية هذا العالم الكوني وعن مولده وحياته ومماته ؟
لقد كان ينظر بعين الدهشة الى قدرة العلم على أن يسهم ولو قليلا في أمور تخص خلق الكائنات ومصيرها. فقد اعتبرت هذه الأمور ، في معظمها ، من اختصاص الدين أو الفلسفة ، وهذا ما كان قائماً بالفعل خلال القسم الأعظم من تاريخ البشرية . أما العلميون فكانوا يُسألون عما يعتقدونه حول هذه المواضيع . إن هذا السؤال يدل على الجهل في تقدير التقدم الكبير الذي أحرزه العلم مؤخراً في فهم طبيعة وتطور هذا الكون بمجمله فلم يعد العلميون بحاجة لأن يتساءلوا عما يعتقدونه حول خلق الكون متى بدأ ، ولا عن الشكل الذي اتخذه (بل) لهم معتقدات راسخة ، لكن المسألة تتلخص عندهم في استخدام الأدوات الحديثة كي يروا ماذا يشبه هذا الكون وكيف تطور نحو الشكل الذي هو فيه . وهم لا يعالجون مثل هذه الأمور على أساس من الإيمان المسبق ، بل على أنها قضايا تحتاج الى بينة والى نظرية ، على شاكلة ما يفعلون في فروع العلم الأخرى . صحيح أن فهم هذه القضايا الكونية هو في معظمه بدائي واختباري في الوقت الحاضر ، وأن من المؤكد أن تغيرات كبيرة ستطرا في المستقبل على صورة الكون المقبولة اليوم عموماً . بيد أن من المهم أن نعلم أننا نتعامل هنا مع العلم ومع القيم العلمية ، وعلى هذا ، وفي حين أن المعتقدات الدينية والميول الفلسفية يمكن أن تسهم كثيراً في توليد الأفكار الشخصية عن هذا العالم ، فإن الأمور التي سنناقشها في هذا الكتاب لا تتناول إلا الوقائع الملموسة المرصودة والمجادلات التي تحتدم بخصوص تفسيرها النظري
. من الخير أن نبدأ بعرض عام لبنية العالم كما نعرفها اليوم . وربما كان خلوه أبرز سماته ، فهو يكاد أن يكون برمته فضاء خالياً. وهذا الكلام له بالطبع معنى محدد. فبالاستناد الى الاعتبارات الكمومية التي ذكرناها في نهاية الفصل الرابع ، يحوي هذا العالم كميات من الاشعاع ومن الذرات الشاردة النادرة. لكننا ، وبالمعنى الشائع ، يجب أن نتصور أن محتويات هذا الكون المادية مفصولة بعضاً عن بعض بمسافات فضاء شاسعة
إن معظم المادة المنيرة قد اتخذ شكل نجوم . وكل النجوم تشبه شمسنا ، رغم اختلافها البين في الحجم واللون والتركيب والتطور والنجوم تؤلف معاً ، ومع بعض الغازات والغبار وأجسام أخرى سواها، تجمعات هائلة العدد والحجم تسمى المجرات ، ونموذجها المجرة التي نحن منها وتحتوي على ما يقارب مئة مليار نجم (وهو عدد قريب من عدد خلايا المخ البشري) ، ويبلغ اتساعها قرابة 50000 سنة ضوئية . إن المجرة في المقياس البشري هائلة لدرجة لانتصورها. لكنها في المقياس الكوني هباءة مهملة والمجرات منثورة في هذا الكون بصورة أقرب الى العشوائية اذا استثنينا أنها أيضاً تجمعات صغيرة. إن هذه القطعان المجرية هي ذرات هذا الكون .
تؤلف هي والحديث عن سلوك هذا العالم يتناول أشياء بمثل هذه الضخامة وأكثر . فنشاط المجرة الواحدة الداخلي، على أهميته الكبيرة ، غير ذي شأن عظيم في علم الكونيات وقد يجد القارىء فائدة في ربط هذا التسلل البنوي بما يشاهده عندما ينظر في السماء في ليلة حالكة السواد . فأشد الأجرام نوراً مستمراً هي ، باستثناء الشمس والقمر ، الكواكب المجاورة . وهي تؤلف مع الأرض زمرة من تسعة أفراد تدور حول الشمس (التي يبلغ نصف قطرها 700000 کیلو متر أي مئة مرة من نصف قطر الأرض على مسافات تصل الى بضعة مليارات من الكيلو مترات. وهذه الزمرة الكوكبية مع شمسها تسمى المنظومة الشمسية . ورغم شبه هذه الكواكب بالنجوم، إلا أنها في الحق صغيرة جداً ومعتمة إذا قيست بالنجوم . فهي لا ترى إلا بفضل نور الشمس المنعكس عنها ، وتبدو لنا الماعة بسبب قربها منا . لو استطعنا أن ننقل أعظم تيليسكوباتنا الى أقرب النجوم إلينا لعجزنا ، ولو بواسطتها ، عن رؤية هذه الهباءات ، موجبات الشمس .
لكن النجوم الحقة شموس عظيمة التوهج ، وهي تقع منا على مسافات هائلة لدرجة أنها ، رغم نورها الأشد بملايين المرات من نور الكواكب ، تبدو أخفت منها نوراً . ولا غرابة إذا كانت هذه النجوم بمعظمها ذات كواكب تدور حولها ، على شاكلة منظومتنا الشمسية . وقد ذكرنا ، في الفصل الرابع ، نتفاً عن بنية النجوم وتطورها .
إن النجوم العديدة التي نراها بالعين المجردة في سماء ليالينا ليست سوى جاراتنا الأقرب إلينا في مجرتنا . والقسم الأعظم من هذه المجرة هو ذلك الذي يُرى على شكل عصابة ضبابية خافتة النور ممتدة عبر سماء الليل ، ومعروفة باسم درب التبانة . أما التيليسكوبات الشائعة فتظهر أن درب التبانة يضم الوفاً مؤلفة من النجوم المنثورة . ومركز مجرتنا يقع في اتجاه برج السماك الرامح ووراءه .
والمجرات الأخرى لا ترى عملياً بالعين المجردة، لكن بعضاً منها يمكن أن يرى من خلال منظار عادي كبير التجسيم . ومجرة المرأة المسلسلة (أندروميدا) وهي كبيرة وقريبة نسبياً على مسافة مليون ونصف من السينن الضوئية فقط يمكن أن يراها انسان ذو بصر حديد على شكل غيمة متطاولة زغباء في برج المرأة المسلسلة . والمراصد الحديثة قادرة على كشف مئات الملايين من المجرات الأخرى. وبنيتها تتفاوت كثيراً لكن معظمها ذات شكل جميل مميز يشبه قرصاً واسعاً منتفخاً في وسطه وذا أذرع ملتفة حول محيطه ، فكأنه دولاب الألعاب النارية . فمجرة المرأة المسلسلة ومجرتنا الخاصة كلتاهما من هذا الشكل اللولبي . ومنظومتنا تقع على مسافة ثلثي نصف القطر من مركز مجرتنا تقريباً ، في أحد الأذرع اللولبية
هذا ويجب أن نتذكر دوماً أننا عندما ننظر في هذا الكون لا نرى المجرات كما هي الآن . بل كما كانت في ذلك الماضي السحيق . ذلك لأن الضوء الواصل الينا منها قد قطع ملايين ملايين الكيلو مرات واستغرق في سفره هذا ملايين السنين . فالضوء الآتي من مجرة المرأة المسلسلة القريبة يستغرق مليونا ونصف المليون من السنين ليصل الينا . والمراصد العظيمة تكشف مجرات أنأى بكثير، فنزاها كما كانت قبل مليارات من السنين . وبالاضافة الى المجرات التي لاترى الا عبر المرقابات الضخمة يوجد بلا شك أجرام أخرى في الفضاءات العريضة المظلمة بين المجرات. كم عددها وماذا يمكن أن تكون ظروفها الفيزيائية ؟ لا جواب عن ذلك سوى التخمينات. هذا ناهيك عن إشعاعات و جسيمات من كل الأجناس تجوب هذا الفضاء برمته . ففيها الاشعاعات الكهرطيسية والثقالية والنترينوات وسواها من الأشعة الكونية التي تتألف من شتى أنواع الجسيمات الأولية) .
وبعد هذا الحديث الموجز عن توزع المادة في هذا الكون لابد من بضع كلمات نشرح فيها مم تتألف هذه المادة. إن كل المادة تتألف من ذرات . ويوجد على الأرض. 92 نوعاً من الذرات المتشكلة طبيعياً ، ويوجد أيضاً أنواع أخرى نشكلها اصطناعياً . والمادة المؤلفة كلها من نوع ذري واحد تسمى عنصراً . ويمكن أن تتحد ذرات من أنواع مختلفة أو من نوع واحد لتشكل ما يسمى جزيئاً ، وقواعد هذا الاتحاد من اختصاص علم الكيمياء . فالمادة بشتى أشكالها وأجناسها ، من الماس الى الهواء ومن البشر إلى النجوم ، مصنوعة كلها من اتحادات مختلفة من هذه العناصر الأساسية نفسها . وأبسط العناصر هو الهدروجين ، وذرته تتألف من جسمين فقط : الكترون واحد وبروتون واحد . ويليه الهليوم ، وتتألف ذرته من ستة جسيمات من بروتونين ونترونين ملتصقة كلها معاً لتشكل نواة في مركز الذرة، ومن الكترونين يدوران حول النواة وتمسك بهما قوة جذب كهربائية أما أثقل العناصر التي تشكلت طبيعياً فهو الأورانيوم ، وتضم نواته 92 بروتوناً مع حوالي 140 نتروناً ، ويدور حولها 92 الكتروناً .
إن الفروق الرئيسية فيما بين الذرات تعود الى اختلاف عدد البروتونات في النواة . وكل الذرات الممكنة ، من ذات البروتون الواحد الى ذات الـ 92 بروتوناً ، معروفة لدينا اليوم ، لكن بعضها ، كالحديد مثلاً ، نادر جداً. أما العناصر التي يزيد عدد بروتوناتها عن 92 ، والتي استحضرت اصطناعياً كالنبتونيوم والبلوتونيوم) ، فهي قلقة (مشعة) ومصيرها التفكك بشيء من السهولة ، ولذا فهي غير موجودة في الطبيعة على الأرض . تدل دراسات طيف إشعاع الأجرام السماوية على وجود هذه العناصر نفسها . فمن المعروف أن الهليوم قد اكتشف في الشمس (كما يدل اسمه) قبل اكتشافه على الأرض . على أن الوفرات النسبية للعناصر على الأرض ليست نموذجاً لوفراتها في العالم الأوسع.
فالتقديرات تشير الى أن 90٪ من ذرات الكون كله تتألف من الهدروجين ، أما الباقي فمعظمه من الهليوم . لكن العناصر الأثقل ، التي نعلم مبلغ وفرتها على الأرض ، لا تشكل سوى جزء طفيف جداً من المجموع . وهذا دليل قوي على أن شيئاً ما قد فعل فعله الانتقائي أثناء تشكل الأرض .
إن الهبوط السريع في وفرة العناصر ذات الأوزان المتزايدة يوحي بقوة بأن الكون قد ابتدا بدون ذرات ثقيلة وبأن آلية تركيبية قد فعلت فعلها فصنعت العناصر الثقلية من العناصر الأخف الأبسط كالهدروجين. أما أين يتركز فعل هذه الآلية في أثناء تصنيع هذه العناصر فموضوع مطروح للمناقشة في دروس مختصة . وهو لاريب ضالع أكثر من سواه في أسباب اللاتناظر الزمني الذي يعم الكون. أما من أير جاء الهدروجين في بدء البدء فموضوع بحث آخر سنعرضه في الفقرة 6 - 1
لا ريب أن أكثر سمات هذا الكون دلالة هي درجة انتظامه العالية . فهو منتظم حقاً بمعنيين مختلفين . أولهما في البنى التفصيلية للمجرات والنجوم النائية وفي القوانين الفيزيائية السائدة فيها والمقادير التي تتجلى بصورة طبيعية (كشحنة الالكترون مثلا) ، كل هذه الأشياء تظهر مطابقة تماماً لمثيلاتها في المناطق المجاورة لنا من هذا العالم وعلى الأرض أيضاً . فالمجرات التي تبعد عنا بمئات الملايين من السنين الضوئية لاتبدي ، من هذه الزاوية ، أي اختلاف مع مجرتنا . فطيوف ذراتها وبالتالي فيزياؤها وكيمياؤها ، مطابقة لما هو قائم على الأرض . وهذا الواقع يعطينا ثقة عظيمة في تطبيق القوانين الفيزيائية المكتشفة في مخابرنا على الكون بأسره .
والمظهر الثاني للانتظام الكوني يخص توزع المادة . فمن الوصف الذي أتينا على عرضه يتضح بجلاء أن هذا التوزع أجمي متناثر. فالمادة ملمومة على شكل نجوم ، والنجوم منظومة في تجمعات من حجم المجرات ، والمجرات منظومة كلها في زمر عديدة . ويعتقد نفر من علماء الكون أن هذا التسلسل مستمر على هذا النحو من التوالي الى ماشاء الله ، وأن كل تجمع متقدم تفصله عن أمثاله سباسب سحيقة من الفضاء الخالي . على أن المظنون عموماً ، وبالاعتماد على أمارات رصدية معقولة الوضوح ، هو أن هذا التسلسل يقف عند حد التجمعات المجرية ، وأن توزع المادة ، بالتالي وفي السلم العظيم ، سوي جداً في هذا العالم. وهذا التوزع متجانس (لا يتغير من منطقة لأخرى) ومتناح (لا يختلف باختلاف المنحى) . وهذا مرض ، لا من الناحية الجمالية فحسب ، بل أيضاً من ناحية أن بنية عالمنا هذا في السلم العظيم بسيطة جداً وأنها ملائمة جداً من الناحية النظرية لأنها تتيح صنع نماذج رياضية لهذا العالم على أقل درجة من التعقيد التقني. وهذه البنية تتفق ، فوق ذلك، مع الفكرة الكوبرنيقية الحديثة التي تنفي عن الأرض ميزة أن تكون مركز العالم. فقبل كوبرنيق كان الفكر الأوربي يضع الأرض في مركز العالم ويجعل كل الأجرام السماوية دائرة حولها. وكان اكتشاف كوبرنيق الدوران الأرض حول الشمس صدمة قاصمة أبدية لهذا الوهم لم تستعد البشرية بعدها كامل وعيها حتى اليوم . أما في هذه الأيام فمن قبيل الكفر أن يرى المرء في المنطقة المجاورة لنا من العالم أكثر من نموذج نوعي للعالم كله. كما أن الظروف الفيزيائية في جوارنا ليست ظروفاً خاصة ، بل إنها تمثيل صادق لشتى مناطق هذا الكون . فأرضنا وشمسنا ومجرتنا يمكن أن تكون ذات أهمية عظيمة للجنس البشري ، لكنها بمجملها ، وفي المخطط الكوني العام ، ذات شأن لا يزيد ولا يقل عن شئون سواها .
إن الافتراض بأن العالم الكوني منتظم في السلم الواسع العظيم مقبول اليوم لدى أغلبية علماء الكون (لا) كلهم ، وهو معروف باسم المبدأ الكوني . وبالاندفاع مع هذا المبدأ إلى مداه البعيد نجد أن الفلسفة الكوبرنيقية الحديثة لا تقتضي فقط أن تكون المنطقة الكونية المجاورة لنا نموذجاً لكل أجزاء المكان ، بل وأن يكون عصرنا الحاضر أيضاً نموذجاً لكل أجزاء الزمان . وهذا يتضمن بأن أي مكان وأي زمان نتحراهما سيبدوان مماثلين تقريباً لما هما عليه .
إن الصورة التي رسمناها لهذا الكون في هذه السطور كانت مقبولة عموماً لدى الفلكيين منذ قرن مضى . فقد كانت النجوم الملتهبة تُعتبر دوماً مبعثرة بشكل واحد في الفضاء اللا متناهي كله . إن هذا النموذج المرهف، والعقيم نوعاً ما يعاني مع ذلك عدداً من العيوب الخطيرة . أحدها ، وهو المعروف باسم مفارقة أو لبرس (باسم الفلكي الألماني H.Olbers ، 1758 - 1840) ، يرتكز على التعارض بين فكرة كون لانهائي ولا متغير وبين ظلام السماء في الليل . فقد يبدو من السخف أن نتساءل عن سبب ظلام السماء في الليل ، غير أن ظروف هذا النموذج الكوني تخلق لنا معضلة حقيقية . وأحسن ما تقدمه الفيزياء الحديثة بهذا الصدد تعبر عنه بلغة الترموديناميك . فالسماء المظلمة سماء باردة ، وهذا ما يجعلنا نستنتج أن الكون بارد جداً وسطياً (الواقع أن درجة حرارته الوسطية لاتزيد عن ثلاث درجات فوق الصفر المطلق) . لكن النجوم ، كالشمس ، حارة جداً ؛ فسطحها يبلغ آلاف الدرجات، في حين أن داخلها يبلغ مئات الملايين . فلماذا إذن ، وبكل بساطة ، لم تسخن النجوم هذا الكون حتى الآن ؟ وكيف يمكن لعالم غير متغير أن يظل دوماً في حالة لا توازن ترمودينامي ؟ فإذا كانت الاشعاعات ماتزال تنسكب من النجوم منذ الأزل ، فإن الكون لابد أن يكون حاراً جداً ، ولابد أن تكون سماء الليل غاصة
شكل1 . مفارقة أو لبرس. إذا كان وجود النجوم مستمراً إلى غير نهاية وبكثافة منتظمة على طول أي خط نظر ، فإن أي خط نظر لابد أن يصادف ، عاجلاً أو آجلاً ومهما كان منحاه ، نجماً من النجوم . وعلى هذا فلا يمكن أن يوجد ظلام في أية منطقة من السماء لاحظ أن النجم يخفت نوره ، كلما ازداد بعده عنا ، بنسبة تصاغر سطحه . فكل نجم يغير إذن الرقعة الفضائية التي يحتلها باللمعان نفسه. وبما أنه يوجد ، على مسافة بعيدة ، نجوم أكثر مما يوجد في الجوار، فإن الكسر السماوي الكلي الذي تحتله النجوم الواقعة على مسافة معينة لا يتعلق إذن بهذه المسافة. وعلى هذا لو كنا قادرين على رؤية النجوم مهما كانت نائية عنا فإن السماء كانت ستبدو لنا مغطاة كلياً بالنجوم . ولما كنا لانملك هذه القدرة فإن السماء تبدو لنا مظلمة في الليل. باشعاع يرفع حرارتها الى آلاف الدرجات. ولو كان الأمر كذلك لكنا ، بكل ماعندنا ، قد تبخرنا بأسرع من لمح البصر .
إن علم الترموديناميك لم يصل الى هذه الدرجة من النضج إلا منذ قرن من الزمان . وقد عبر أولبرس عن مفارقته بلغة علم الصوء ومن السهل أن نتبع محاكمته : إذا كان العالم الكوني غير محدود الحجم وغير منعير في الزمان ، وكانت كثافة النجوم الخالدة النور منتظمة ، فإن المرء لابد أن يرى نجماً في أي اتجاه نظر ، أي أن كل خط نظر لابد أن يصادف ، عاجلاً أو آجلاً ، نجماً على امتداده . وعلى ذلك فلا مكان للظلام في أي منطقة من السماء ، فكل خط نظر سيكون لامعاً بشدة أحد النجوم .
ليس من الصعب أن نجد بالفكر عدداً من الحلول المناسبة لمفارقة أولبرس . فالنجوم . مثلا ، وبعد كل شيء ، لا يستمر وجودها على طول خط النظر الى اللا نهاية ، بل هي مجمعة كلها في قطرة عظيمة سابحة في فضاء لا نهائي أوسع وأشد خلاء ، مما يتيح المعظم الاشعاع أن يذهب بعيداً إلى ماوراء ذلك من خلاء ، ودون عودة . وهذا النموذج لم يخطر بالطبع على بال كوبرنيق ، لأن النجوم القريبة من سطح القطرة ذات موقع أقرب الى الخاص منه الى النوعي إنها تطل على الفضاء الخالي في اتجاه واحد) . ونحن لا نملك سوى أن نقبل أن وجودنا قريبين من المركز ليس أكثر من صدفة بحتة . لكن اعتراضاً آخر أكثر خطورة عبر عنه نيوتن حين كتب أن قوة التثاقل تجعل النجوم تتجاذب ، فاذا كان لقطرة النجوم حافة فلابد أن يكون لها مركز ولابد من أن تتهافت نحوه . ولما كان هذا ، في رأي نيوتن ، لم يحدث فلا مناص من القبول بأن النجوم منثورة حتى اللا نهاية .
ويوجد المفارقة أولبرس حل مختلف كلياً يأتي من اقتراح قدمه بولتزمان الذي قال بأن اللاتوازن الترمودينامي للعالم ناجم بالصدفة عن تفاوت عظیم (دورة بوانكاريه ) مما يحدث مرة كل فترة ، 80 (1010) عاماً أو نحوها ! وقد يحدث بين حين وآخر ، والعالم متروك لشأنه على مدى هذا الزمن الطويل ، أن تندفق تلقائياً كل حرارته في النجوم حتى تبلغ ملايين الدرجات. والذي نشهده اليوم هو التفاوت الذي يخرب نفسه ويعود بالنجوم الى حالة التوازن مع الفضاء. وطبقاً لهذا الاقتراح فإن السماء مظلمة في الليل لأن الحرارة قد تدفقت الى داخل النجوم متناسقة. أما سبب أن الجنس البشري هو الذي اختير ليكون شاهداً لهذا الحادث النادر لدرجة لا تصدق فهو ، وبالضبط ، أن الكائنات الحية، بما فيها علماء الكون ، لا تتشكل إلا من اللاتوازن (كوجود ضوء الشمس) الذي حدث فأتاح لها البقاء . الواقع أننا لا نستطيع أن نحمل فكرة بولتزمان على محمل الجد . فليس ثمة سبب يجعل كل مناطق العالم بحاجة الى أن تتفاوت معاً لتولد الحياة على الأرض . ولو كان
شكل2 . كارثة كونية ! اذا كان الكون محدوداً فلابد من وجود مركز له ولابد له من أن يتهافت نحوه ، مجذوباً بثقالة النجوم نحو الداخل . وفي عام 1692 كتب نيوتن أن مثل هذا الكون لابد أن يسقط هاوياً نحو وسط الفضاء كله ، وهناك تتشكل كتلة كروية واحدة عظيمة . أما إذا كانت المادة موزعة بالعدل على فضاء لا نهائي ... فإن بعضها سيندمج في كتلة واحدة وبعض آخر في كتلة أخرى ... وهذه الطريقة يمكن أن تتشكل الشمس والنجوم الثابتة .
اللاتوازن قد حدث على هذا الشكل فمن غير المعقول أن نجد نجماً لماعاً في منطقة نائية نسدد إليها المرقاب . إن هذا التفاوت الكوني أقل احتمالاً بكثير من التفاوت المحلي . لقد كان بامكان أي من فلكيي القرن الماضي أن يتكهن بالحل الصحيح المفارقة أولبرس. لكن الواقع أننا اضطررنا الى الانتظار حتى إنشاء المرقاب الكبير في مرصد جبل ويلسون في الولايات المتحدة الامريكية وحتى حدوث الاكتشاف الرائع الذي يضاهي في معناه اكتشاف كوبرنيق .
الاكثر قراءة في مواضيع عامة في علم الفلك
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة

الآخبار الصحية
