شخصية الإمام ( عليه السلام ) بكلها معجزة !
تقرأ عن الإمام العسكري ( عليه السلام ) من كلامه أو كلام غيره ، فتجد أنه شخصية ربانية مليئة بالإعجاز . ملكَ إعجاب المسلمين وغير المسلمين ، فأسلم على يده راهب مسيحي وقال : وجدت المسيح وأسلمت على يده !
وظهرت معجزاته وكراماته في صغير الأمور وكبيرها ، فهو يعرف ما في ذهنك ، ويجيبك على سؤال فكرت فيه ، ويستجيب الله تعالى دعاءه فوراً ، وتعرفه الحيوانات وتخضع له . وعلمه الرباني يتجدد ولا ينضب .
وقد رأيت في الفصلين السابقين عدداً من معجزاته وكراماته ، صلوات الله عليه وعلى آبائه . ونختار في هذا الفصل مجموعة أخرى ، وكلها نماذج ، ولا يتسع الكتاب لاستقصائها أو لتحليها إلا بتعليقات بسيطة .
مع أنوش النصراني
روى في الهداية الكبرى / 334 : ( عن جعفر بن محمد القصيرالبصري قال : حضرنا عند سيدنا أبي محمد ( عليه السلام ) المكنى بالعسكري فدخل عليه خادم من دار السلطان جليل القدر ، فقال له : أمير المؤمنين يقرؤك السلام ويقول لك : كاتبُنا أنوش النصراني ، يريد أن يُطّهِّرَ ابنين له ، وقد سألنا مسألتك أن تركب إلى داره ، وتدعو لابنيه بالسلامة والبقاء ، فأُحِبُّ أن تركب وأن تفعل ذلك ، فإنا لم نجشمك هذا العناء إلا لأنه قال : نحن نتبرك بدعاء بقايا النبوة والرسالة .
فقال مولانا : الحمد لله الذي جعل اليهود والنصارى أعرف بحقنا من المسلمين ! ثم قال أسرجوا الناقة فركب وورد إلى دار أنوش ، فخرج مكشوف الرأس حافي القدم وحوله القسيسون والشمامسة والرهبان ، وعلى صدره الإنجيل ، وتلقاه على باب داره وقال : يا سيدنا أتوسل إليك بهذا الكتاب الذي أنت أعلم به مني ، إلا غفرت لي ذنبي في عنائك . وحق المسيح عيسى بن مريم وما جاء به من الإنجيل من عند الله ما سألت أمير المؤمنين مسألتك هذه ، إلا لأنا وجدناكم في هذا الإنجيل مثل المسيح عيسى بن مريم عند الله .
فقال مولانا ( عليه السلام ) : الحمد لله ، ودخل على فراشه والغلامان على منصة ، وقد قام الناس على أقدامهم ، فقال : أما ابنك هذا فباقٍ عليك ، والآخر مأخوذٌ منك بعد ثلاثة أيام ، وهذا الباقي عليك يُسلم ويحَسن إسلامه ويتولانا أهل البيت ! فقال أنوش : والله يا سيدي قولك حق ، ولقد سهل عليَّ موت ابني هذا لما عرفتني أن ابني هذا يسلم ويتوالى أهل البيت . فقال له بعض القسيسين : وأنت مالك لا تُسلم . فقال له أنوش : أنا مسلم ومولاي يعلم هذا ، فقال مولانا : صدق أنوش ، ولولا أن يقول الناس إنا أخبرناك بوفاة ابنك ، ولم يكن كما أخبرناك ، لسألنا الله بقاءه عليك . فقال أنوش : لا أريد يا مولاي إلا كما تريد .
قال جعفر بن أحمد القصير : مات والله ذلك الابن لثلاثة أيام ، وأسلم الآخر بعد ستة أيام ، ولزم الباب معنا إلى وفاة سيدنا الحسن ( عليه السلام ) ) .
ملاحظات
1 . كان الختان من شريعة إبراهيم ( عليه السلام ) وموسى وعيسى ( عليهم السلام ) حتى زعم بولس أن المسيح رفعه عن أتباعه ! والظاهر أن أنوش الكاتب هذا كان مسيحياً ، ثم اسلم وكتم إسلامه بتوجيه الإمام العسكري ( عليه السلام ) . ويدل احتفاله بختان ابنيه أو تطهيرهما ، على أنه لم يكن مسيجياً على مذهب بولس ، بل على مذهب بطرس ( عليه السلام ) الذي كان يوجب الختان . وبطرس هو شمعون الصفا ( عليه السلام ) وصي المسيح ( عليهما السلام ) ، وهو نبي رسول ، أما بولس فهو عندنا مذموم .
2 . يدل ركوب الإمام ( عليه السلام ) على جمل إلى دار أنوش ، أنها كانت خارج المدينة ، وقد كان في شواطئ دجلة مسيحيون قبل الإسلام ، وكانت سامراء قرية مسيحية ، وقد اشترى الإمام الهادي ( عليه السلام ) بيته من مسيحي .
3 . كان كثير من المحاسبين وكتاب الخلافة شيعة أو مسيحيين ، بسبب تميزهم بالكفاءة والأمانة ، ومنهم أنوش الكاتب ، ويظهر أنه كان مسلماً باطناً .
4 . يدل طلب الخليفة من الإمام ( عليه السلام ) حضور احتفال رئيس كُتَّابه والدعاء له ، على عقيدة كاتبه أنوش بأن الإمام ( عليه السلام ) بقية النبوة .
لا بد أن يكون الخليفة زاره وهنأه الحفلة أيضاً ، لكن الرواية لم تذكر ذلك .
قصة فَصْد الإمام ( عليه السلام ) ومعجزة الدم الأبيض !
الحجامة والفصد : إخراج الدم من أماكن في البدن ، وفائدته التخلص من أمراض قد يحملها الدم الذي يتجمع هناك . وهو علمٌ له أصوله وفروعه .
وقد روى القطب الراوندي ( رحمه الله ) في الخرائج ( 1 / 422 ) : ( عن طبيب نصراني بالري يقال له مَرْعَبْدَا ، وكان أتى عليه مائة سنة ونيف ، قال : كنت تلميذ بختيشوع طبيب المتوكل وكان يصطفيني ، فبعث إليه الحسن بن علي بن محمد بن الرضا ( عليهم السلام ) أن يبعث إليه بأخص أصحابه عنده ليفصده فاختارني وقال : قد طلب مني ابن الرضا من يفصده فصِْر إليه ، وهو أعلم في يومنا هذا من تحت السماء فاحذر أن تعترض عليه فيما يأمرك به .
فمضيت إليه فأمر بي إلى حجرة ، وقال : كن هاهنا إلى أن أطلبك . قال : وكان الوقت الذي دخلت إليه فيه عندي جيداً محموداً للفصد ، فدعاني في وقت غير محمود له وأحضر طشتاً عظيماً ففصدت الأكحل ، فلم يزل الدم يخرج حتى امتلأ الطشت . ثم قال لي : اقطع فقطعت ، وغسل يده وشدها ، وردني إلى الحجرة ، وقدم من الطعام الحار والبارد شئ كثير . وبقيتُ إلى العصر ثم دعاني فقال : سَرِّحْ ودعا بذلك الطشت ، فسرحت وخرج الدم إلى أن امتلأ الطشت ، فقال : اقطع ، فقطعت ، وشد يده ، وردني إلى الحجرة ، فبتُّ فيها .
فلما أصبحت وظهرت الشمس دعاني وأحضر ذلك الطشت ، وقال : سرِّح فسرحت ، فخرج من يده مثل اللبن الحليب ، إلى أن امتلأ الطشت ثم قال : اقطع فقطعت ، وشد يده .
وقدم إليَّ تخت ثياب وخمسين ديناراً ، وقال : خذها واعذر ، وانصرف .
فأخذت وقلت : يأمرني السيد بخدمة ؟ قال : نعم ، تحسن صحبة من يصحبك من دير العاقول ! فصرت إلى بختيشوع ، وقلت له القصة . فقال : أجمعت الحكماء على أن أكثر ما يكون في بدن الإنسان سبعة أمنان من الدم ، وهذا الذي حكيت لو خرج من عين ماء لكان عجباً ، وأعجب ما فيه اللبن ! ففكر ساعة ، ثم مكثنا ثلاثة أيام بلياليها نقرأ الكتب ، على أن نجد لهذه الفصدة ذكراً في العالم ، فلم نجد !
ثم قال : لم يبق اليوم في النصرانية أعلم بالطب من راهب بدير العاقول .
فكتب إليه كتاباً يذكر فيه ما جرى ، فخرجت وناديته ، فأشرف عليَّ فقال : من أنت ؟ قلت : صاحب بختيشوع . قال : أمعك كتابه ؟ قلت : نعم ، فأرخى لي زبيلاً فجعلت الكتاب فيه فرفعه فقرأ الكتاب ، ونزل من ساعته فقال : أنت الذي فصدت الرجل ؟ قلت : نعم . قال : طوبى لأمك ! وركب بغلاً ، وسرنا ، فوافينا سر من رأى ، وقد بقي من الليل ثلثه ، قلت : أين تحب : دار أستاذنا أم دار الرجل ؟ قال : دار الرجل . فصرنا إلى بابه قبل الأذان الأول ، ففُتح الباب وخرج إلينا خادم أسود ، وقال : أيكما راهب دير العاقول ؟ فقال : أنا جعلت فداك . فقال : إنزل ، وقال لي الخادم : إحتفظ بالبغلين ، وأخذ بيده ودخلا ، فأقمت إلى أن أصبحنا وارتفع النهار . ثم خرج الراهب وقد رمى بثياب الرهبانية ، ولبس ثياباً بيضاء وأسلم ، فقال : خذني الآن إلى دار أستاذك !
فصرنا إلى باب بختيشوع ، فلما رآه بادر يعدو إليه ثم قال : ما الذي أزالك عن دينك ؟ ! قال : وجدت المسيح وأسلمت على يده ! قال : وجدت المسيح ! قال : أو نظيره ، فإن هذه الفصدة لم يفعلها في العالم إلا المسيح ، وهذا نظيره في آياته وبراهينه . ثم انصرف إليه ولزم خدمته إلى أن مات ) !
ورواه في الكافي ( 1 / 513 ) بتفاوت ، وفيه : ( فقال لي : أفصد هذا العرق قال : وناولني عرقاً لم أفهمه من العروق التي تفصد ، فقلت في نفسي : ما رأيت أمراً أعجب من هذا ، يأمر لي أن أفصد في وقت الظهر ، وليس بوقت فصد ، والثانية عرق لا أفهمه ، ثم قال لي : إنتظر وكن في الدار ، فلما أمسى دعاني وقال لي : سَرِّحِ الدم ، فسرحت ، ثم قال : لي أمسك فأمسكت ، ثم قال لي : كن في الدار ، فلما كان نصف الليل أرسل إليَّ وقال لي : سرح الدم ، قال : فتعجبت أكثر من عجبي الأول ، وكرهت أن أسأله قال : فسرحت فخرج دم أبيض كأنه الملح !
قال : ثم قال لي : إحبس ، قال : فحبست . قال ثم قال : كن في الدار ، فلما أصبحت أمر قهرمانه أن يعطيني ثلاثة دنانير ، فأخذتها وخرجت حتى أتيت ابن بختيشوع النصراني فقصصت عليه القصة ، قال فقال لي : والله ما أفهم ما تقول ولا أعرفه في شئ من الطب ، ولا قرأته في كتاب ولا أعلم في دهرنا أعلم بكتب النصرانية من فلان الفارسي فأخرج إليه . قال : فاكتريت زورقاً إلى البصرة ، وأتيت الأهواز ، ثم صرت إلى فارس إلى صاحبي فأخبرته الخبر ، قال وقال : أنظرني أياماً فأنظرته ، ثم أتيته متقاضياً قال : فقال لي : إن هذا الذي تحكيه عن هذا الرجل فعله المسيح في دهره مرة ) !
ملاحظات
1 . العاقول : شوك صحراوي ، ودير العاقول متعدد ، وذكر الزبيدي في تاج العروس أنه ثلاثة أماكن ، والمشهور منه قرب بغداد جنب النعمانية : ( بينه وبين بغداد خمسة عشر فرسخاً على شاطئ دجلة ) . ( معجم البلدان : 2 / 520 ) .
وعنده قتل المتنبي الشاعر . والمذكور في الرواية يقع في بلاد فارس بعد الأهواز .
2 . توجد فروقات بين رواية الكافي والخرائج ، والكافي أدق منه ، وهي تذكر أن دير العاقول في فارس ، وأن الفصد الذي ظهر فيه دم أبيض كان في الليل ، وفيها فروقات أخرى .
3 . تعرض فقهاؤنا للدم الأبيض ، وهل أنه محكوم بالنجاسة كالدم الأحمر . لكن القضية الأهم فيه : هل يوجد في بدن الإنسان كمية كبيرة من الدم الأبيض ، وهل يمكن تفريغها بالفصد ؟
وقد قرأت مصادر طبية وسألت عدة أطباء عن ذلك ، فذكروا أن الكريات البيضاء موجودة في كل البدن ، ويتركز وجودها في عدد من الغدد .
وأن وظيفتها الدفاع عن الجسم ومقاومة الأجسام الغريبة ، ومعدلها 7000 في كل ملم مكعب . وذكروا أن حجم الدم عند الإنسان البالغ 5 . 5 لتر تقريباً .
وقالوا هناك عدة أنواع من كرات الدم البيضاء ، منها كثيرات النوى وتبلغ نسبتها حوالي 47 - 77 % من تعداد كرات الدم البيضاء . والخلايا الليمفاوية وتبلغ نسبتها بين 16 - 43 % ، ثم وحيدات النوى وتتراوح نسبتها بين 1 - 10 % ثم كرات الدم البيضاء المحبة بلايوزين ، وتبلغ نسبتها 0 . 3 - 7 % ، وكرات الدم البيضاء القلوية ونسبتها بين 0 . 3 - 2 % .
ولعل أفضل جواب سمعته عن فصد الإمام العسكري ( عليه السلام ) ما قاله أستاذ في جامعة عين شمس المصرية ، قال : يمكننا أن نفرغ الكريات البيض من الغدد المنتشرة في بدن إنسان ، وذلك يحتاج إلى عدة أطباء يعملون عدة ساعات ، لكن معرفة شبكة العروق التي تربط هذه الغدد ببعضها ، وطريقة تفريغها دفعة واحدة ، لا يعرفها الطب ، فهي من مختصات صاحب ذلك الفصد !
على أن هناك احتمالاً في رأيي أرجح ، وهو أن أحجام هذه الكريات متفاوت وأحجام منافذ عروق البدن متفاوتة كذلك ، وقد توجد عروق تسمح لنوع من الكريات بالعبور منها دون الباقي ، فإذا فصدتها خرجت تلك الكريات دون غيرها ! وتقدم أن في الكريات البيض نوع يسمى كثيرات النوى ، وتبلغ نسبتها حوالي 47 - 77 % من تعداد كرات الدم البيضاء ، فقد يكون نوع منها هو المقصودة بالفصد والإخراج من البدن لتجديده .
صلوات الله على أهل البيت معدن العلم والوحي ، ولا غفر الله لمن حرم الأمة من علومهم وبركاتهم .
صلاة الاستسقاء
في الخرائج ( 1 / 442 ) : ( عن علي بن الحسن بن سابور قال : قُحط الناس بسر من رأى في زمن الحسن الأخير ( عليه السلام ) فأمر المعتمد بن المتوكل الحاجب وأهل المملكة أن يخرجوا إلى الاستسقاء ، فخرجوا ثلاثة أيام متوالية إلى المصلى يستسقون ، ويدعون فما سقوا . فخرج الجاثليق في اليوم الرابع إلى الصحراء ومعه النصارى والرهبان ، وكان فيهم راهب ، فلما مد يده هطلت السماء بالمطر ! وخرج في اليوم الثاني فهطلت السماء بالمطر ، فشك أكثر الناس وتعجبوا وصَبَوْا إلى النصرانية ، فبعث الخليفة إلى الحسن وكان محبوساً فاستخرجه من حبسه وقال : إلحق أمة جدك فقد هلكت !
فقال له : إني خارج في الغد ، ومزيلٌ الشك إن شاء الله .
فخرج الجاثليق في اليوم الثالث والرهبان معه ، وخرج الحسن ( عليه السلام ) في نفر من أصحابه فلما بصر بالراهب وقد مد يده ، أمر بعض مماليكه أن يقبض على يده اليمنى ، ويأخذ ما بين إصبعيه ، ففعل وأخذ من بين سبابته والوسطى عظماً أسود ، فأخذه الحسن ( عليه السلام ) بيده ثم قال له : إستسق الآن . فاستسقى وكانت السماء متغيمة فتقشعت وطلعت الشمس بيضاء ! فقال الخليفة : ما هذا العظم يا أبا محمد ؟ فقال : هذا رجل مر بقبر نبي من أنبياء الله ، فوقع في يده هذا العظم ، وما كشف عن عظم نبي إلا هطلت السماء بالمطر ) !
وروى ابن حجر المكي في الصواعق المحرقة / 208 ، وابن حمزة في الثاقب في المناقب / 575 ، والقطب في الخرائج : 1 / 442 : ( لما حُبِسَ ، قُحِط الناس بسر من رأى قحطاً شديداً ، فأمر الخليفة المعتمد بن المتوكل بالخروج للإستسقاء ثلاثة أيام فلم يُسقوا ! فخرج النصارى ومعهم راهب كلما مد يده إلى السماء هطلت ، ثم في اليوم الثاني كذلك ، فشك بعض الجهلة وارتد بعضهم ، فشق ذلك على الخليفة ، فأمر بإحضار الحسن الخالص ( عليه السلام ) وقال له : أدرك أمة جدك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قبل أن يهلكوا !
فقال الحسن ( عليه السلام ) : يخرجون غداً وأنا أزيل الشك إن شاء الله ، وكلَّم الخليفة في إطلاق أصحابه من السجن فأطلقهم ، فلما خرج الناس للإستسقاء ورفع الراهب يده مع النصارى غيمت السماء ، فأمر الحسن بالقبض على يده فإذا فيها عظم آدمي فأخذه من يده ، وقال : إستسق ، فرفع يده فزال الغيم وطلعت الشمس ، فعجب الناس من ذلك !
فقال الخليفة للحسن ( عليه السلام ) : ما هذا يا أبا محمد ؟ فقال : هذا عظم نبي ظفر به هذا الراهب من بعض القبور . وما كشف عظم نبي تحت السماء إلا هطلت بالمطر ! فامتحنوا ذلك العظم فكان كما قال ، وزالت الشبهة عن الناس ! ورجع الحسن إلى داره ، وأقام عزيزاً مكرماً ، وصلات الخليفة تصل إليه كل وقت ، إلى أن مات بسر من رأى ودفن عند أبيه وعمه ، وعمره ثمانية وعشرون سنة ، ويقال إنه سُمَّ أيضاً . ولم يخلف غير ولده أبي القاسم محمد الحجة ، وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين ، لكن آتاه الله فيها الحكمة ، ويسمى القائم المنتظر ، قيل لأنه ستر بالمدينة ، وغاب فلم يعرف أين ذهب ) .
أقول : نلاحظ أن ابن حجر السني يروي هذه المعجزة للإمام العسكري ( عليه السلام ) بإعجاب ، فهو يشير إلى أن القحط والجفاف حصل بمجرد أن حبست السلطة الإمام ( عليه السلام ) ، ثم ذكر رواية قتل السلطة له بالسم رغم احترامهم له في الظاهر ! كما ذكر ولادة ابنه المهدي المنتظر صلوات الله عليهم .
ويوجد إشكال في هذه الرواية هو أن أجساد الأنبياء ( عليهم السلام ) لا تبلى ولا تنفصل عنها عظامها ، فقد روى الحاكم ( 4 / 560 ) : ( إن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ) . وصححه على شرط الشيخين ، ورواه غيره أيضاً .
لكن يظهر أنه مخصوص ببعض الأنبياء ( عليهم السلام ) . قال السيد الخوئي ( قدس سره ) : ( ثبت نقل عظام بعض الأنبياء غير أولي العزم ( عليهم السلام ) كما ورد بالنسبة إلى بعض آخر منهم ، وهذا معناه أنه لم يبق من جسدهم عند النقل إلَّا العظام ، وأما بالنسبة إلى الأنبياء أولي العزم ( عليهم السلام ) فلا يحضرني الآن شئ ، لكن ورد بالنسبة إلى الأئمة أن أجسادهم لا تبقى في القبر بل ترفع إلى السماء ولو بعد أيام ، وهذا يقتضي أن يكون الأمر بالنسبة إلى النبي الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) أيضاً كذلك ، ونفس الأمر بالنسبة إلى الأنبياء أولي العزم أيضاً كذلك ) . ( صراط النجاة : 5 / 286 ) .
مسجد الإمام العسكري ( عليه السلام ) ومقامه في جرجان
قال الراوندي في الخرائج ( 1 / 424 ) وابن حمزة في الثاقب / 215 : ( عن جعفر بن الشريف الجرجاني ، حججت سنةً فدخلت على أبي محمد ( عليه السلام ) بسر من رأى ، وقد كان أصحابنا حملوا معي شيئاً من المال ، فأردت أن أسأله إلى من أدفعه ؟ فقال قبل أن قلت له ذلك : إدفع ما معك إلى المبارك خادمي . قال : ففعلت وخرجت ، وقلت : إن شيعتك بجرجان يقرؤون عليك السلام . قال : أولستَ منصرفاً بعد فراغك من الحج ؟ قلت : بلى ! قال : فإنك تصير إلى جرجان من يومك هذا إلى مائة وسبعين يوماً ، وتدخلها يوم الجمعة لثلاث ليال يمضين من شهر ربيع الآخر في أول النهار ، فأعلمهم أني أوافيهم في ذلك اليوم آخر النهار ، فامض راشداً ، فإن الله سيسلمك ويسلم ما معك ، فتُقْدَمُ على أهلك ووُلدك ، ويولد لولدك الشريف ابنٌ فَسَمِّهِ الصلت بن الشريف بن جعفر بن الشريف ، وسيبلغه الله ويكون من أوليائنا .
فقلت : يا ابن رسول الله إن إبراهيم بن إسماعيل الجرجاني وهو من شيعتك ، كثير المعروف إلى أوليائك ، يخرج إليهم في السنة من ماله أكثر من مائة ألف درهم ، وهو أحد المتقلبين في نعم الله بجرجان .
فقال : شكر الله لأبي إسحاق إبراهيم بن إسماعيل صنيعته إلى شيعتنا ، وغفر له ذنوبه ، ورزقه ذكراً سوياً قائلاً بالحق ، فقل له : يقول لك الحسن بن علي : سم ابنك ، أحمد .
فانصرفت من عنده وحججت وسلمني الله حتى وافيت جرجان في يوم الجمعة في أول النهار من شهر ربيع الآخر على ما ذكر ( عليه السلام ) ، وجاءني أصحابنا يهنؤوني ، فأعلمتهم أن الإمام وعدني أن يوافيكم في آخر هذا اليوم ، فتأهبوا لما تحتاجون إليه ، وأعدوا مسائلكم وحوائجكم كلها .
فلما صلوا الظهر والعصر اجتمعوا كلهم في داري ، فوالله ما شعرنا إلا وقد وافانا أبو محمد ( عليه السلام ) ! فدخل إلينا ونحن مجتمعون فسلم هو أولاً علينا فاستقبلناه وقبلنا يده . ثم قال : إني كنت وعدت جعفر بن الشريف أن أُوافيكم في آخر هذا اليوم ، فصليت الظهر والعصر بسرَّ من رأى وصرت إليكم لأجدد بكم عهداً ، وها أنا جئتكم الآن ، فاجمعوا مسائلكم وحوائجكم كلها . فأول من انتدب لمسائلته النضر بن جابر ، قال : يا ابن رسول الله إن ابني جابراً أُصيب ببصره منذ أشهر ، فادع الله له أن يرد عليه عينيه . قال : فهاته ، فمسح بيده على عينيه فعاد بصيراً .
ثمّ تقدم رجل فرجل يسألونه حوائجهم ، وأجابهم إلى كل ما سألوه حتى قضى حوائج الجميع ، ودعا لهم بخير ، وانصرف من يومه ذلك ) !
ملاحظات
1 . مدينة جرجان جزء من طبرستان ، وكان فيها شيعة لأهل البيت ( عليهم السلام ) من أول الفتح الإسلامي ، وكانت في عهد الإمام العسكري ( عليه السلام ) تحت حكم الحسن بن زيد العلوي المعروف بالداعي الكبير ، فقد ثار سنة 250 على الخلافة العباسية ، وتغلب على آمل وسارية وجرجان وبقية طبرستان ، وحكم بعده محمد بن زيد العلوي إلى سنة 287 ، فأرسلت الخلافة الأمير إسماعيل الساماني فغلب محمداً وقتله وحكم طبرستان ، حتى قام الناصر الكبير الحسن بن علي الأطروشي في سنة 301 ، فاستعاد طبرستان وحكمها حتى توفي سنة 304 ، فقام بعده صهره الداعي الصغير محمد بن القاسم ، حتى قتل سنة 316 . وبموته انتهت الدولة الزيدية من طبرستان .
2 . وردت رواية في مقدمة التفسير المنسوب للإمام العسكري ( عليه السلام ) عن يوسف بن محمد بن زياد ، وعلي بن محمد بن سيار ، فقد قالا إن أبويهما كانا إماميين ، وكانت الزيدية غالبين بأستراباذ ، وكان الحسن بن زيد العلوي يصغي إليهم ويقتل الناس بسعايتهم ، فهربا منه إلى سامراء فطمأنهما الإمام العسكري ( عليه السلام ) وأخبرهما بتغير الحال ، فاكتشف الحاكم الزيدي كذب الساعين على الشيعة الجعفرية ، فعاقبهم ونذر لله عز وجل أن لا يعرض للناس في مذاهبهم .
وذكر الراويان أن الإمام العسكري ( عليه السلام ) طلب من أبويهما إبقاءهما عنده ليدرسها تفسير القرآن ، ثم رويا كتاب التفسير .
وقد ضَعَّفَ السيد الخوئي هذه الرواية في شرح العروة ( 1 / 184 ) بأن الراويين مجهولان ، وتفسيرالإمام العسكري ( عليه السلام ) كما ذكر ابن شهرآشوب في معالم العلماء / 70 : كتبه عنه الحسن بن خالد البرقي أخو محمد بن خالد في ماية وعشرين مجلدة ! فهو غير هذا التفسير المنسوب اليه ، الذي يقع في مجلد واحد .
وسيأتي بحث ذلك في فصل خاص .
3 . كان الأئمة ( عليهم السلام ) يسافرون بنحو الإعجاز ، وهذا معروفٌ في سيرتهم ( عليهم السلام ) ، بواسطة طيِّ الأرض أو غيره ، فقد ذهب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى المدائن وصلى على جنازة سلمان الفارسي ( رحمه الله ) ، ورجع إلى المدينة في نفس اليوم !
وكل المعصومين ( عليه السلام ) عندهم القدرة على ما يريدون ، لأنهم لا تُرّدُّ لهم دعوة ، لكنهم لا يستعملون هذه القدرات إلا أن يأمرهم الله تعالى .
وقد ذكرنا في سيرة الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) أن رجلاً شكى اليه فأعطاه قوت يومه قرصيْن ، وأمره أن يبيعهما في السوق ويشتري بهما شيئاً ، فاشترى سمكتين غير مرغوبتين ، فوجد في جوفها لؤلؤتين ثمينتين : ( وباع الرجل اللؤلؤتين بمال عظيم قضى منه دينه ، وحسنت بعد ذلك حاله ، فقال بعض المخالفين : ما أشد هذا التفاوت ! بينا علي بن الحسين لا يقدر أن يسد منه فاقة إذ أغناه هذا الغناء العظيم ! كيف يكون هذا وكيف يعجز عن سد الفاقة من يقدر على هذا الغناء العظيم ؟ فقال علي بن الحسين ( عليه السلام ) : هكذا قالت قريش للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : كيف يمضي إلى بيت المقدس ويشاهد ما فيه من آثار الأنبياء ( عليهم السلام ) من مكة ويرجع إليها في ليلة واحدة ، مَن لا يقدر أن يبلغ من مكة إلى المدينة إلا في اثني عشر يوماً ! وذلك حين هاجر منها .
ثم قال ( عليه السلام ) : جهلوا والله أمر الله وأمر أوليائه معه ! إن المراتب الرفيعة لا تنال إلا بالتسليم لله جل ثناؤه ، وترك الاقتراح عليه ، والرضا بما يدبرهم به .
إن أولياء الله صبروا على المحن والمكاره صبراً لمَّا يساوهم فيه غيرهم ، فجازاهم الله عز وجل عن ذلك بأن أوجب لهم نجح جميع طلباتهم ، لكنهم مع ذلك لا يريدون منه إلا ما يريده لهم ) ! ( أمالي الصدوق / 539 ) .
4 . حفظ أهل جرجان ذلك المكان المبارك الذي زارهم فيه الإمام الحسن العسكري ( عليه السلام ) . ففي وسط مدينتهم مسجد باسم : مسجد وقدمگاه إمام حسن عسكري ( عليه السلام ) . ومعنى قدمگاه : موطئ قدم . وهم يفتخرون به ويحيون يوم زيارة الإمام ( عليه السلام ) لهم في الثالث من شهر ربيع الثاني كل سنة ، لأنه ( عليه السلام ) قال لجعفر بن الشريف : ( وتدخلها يوم الجمعة لثلاث ليال يمضين من شهر ربيع الآخر في أول النهار ، فأعلمهم أني أوافيهم في ذلك اليوم آخر النهار ) .
5 . لنا أن نتصور سرعة الحركة وسعة التواصل بين الناس ، في عصرالإمام المهدي ( عليه السلام ) . فقد وردت أحاديث عن تطور التواصل والتنقل بين الناس في الأرض ، ومع سكان الكواكب الأخرى .
كان يخرج من السجن لملاقاة شيعته ويعود !
في عيون المعجزات / 126 : ( حدثني أبو التحف المصري يرفع الحديث برجاله إلى أبي يعقوب إسحاق بن أبان قال : كان أبو محمد ( عليه السلام ) يبعث إلى أصحابه وشيعته : صِيروا إلى موضع كذا وكذا ، والى دار فلان بن فلان العشاءَ والعتمةَ في ليلة كذا ، فإنكم تجدوني هناك !
وكان الموكلون به لا يفارقون باب الموضع الذي حبس فيه ( عليه السلام ) بالليل والنهار ، وكان ( الخليفة أو المسؤول ) يعزل في كل خمسة أيام الموكلين ويولى آخرين بعد أن يجدد عليهم الوصية بحفظه والتوفر على ملازمة بابه ، فكان أصحابه وشيعته يصيرون إلى الموضع ، وكان ( عليه السلام ) قد سبقهم إليه فيرفعون حوائجهم إليه ، فيقضيها لهم على منازلهم وطبقاتهم وينصرفون إلى أماكنهم بالآيات والمعجزات ) !
معجزة حصاة أم غانم وأخواتها !
روى ابن حمزة في الثاقب / 561 ، والإربلي في كشف الغمة ( 3 / 228 ) : ( عن أبي هاشم الجعفري قال : كنت عند أبي محمد الحسن فاستؤذن لرجل من أهل اليمن ، فدخل رجل طويل جسيم جميل وسيم ، فسلم عليه بالولاية فرد عليه بالقبول وأمره بالجلوس فجلس ملاصقاً بي ، فقلت في نفسي : ليت شعري من هذا ؟ فقال أبو محمد ( عليه السلام ) : هذا من ولد الأعرابية صاحبة الحصاة التي طبع فيها آبائي بخواتيمهم فانطبعت ، فقد جاء بها معه يريد أن نطبع فيها . ثم قال : هاتها فأخرج حصاة من جانب منها موضع أملس فأخذها ثم أخرج خاتمه ، فطبع فيها فانطبع ، وكأني أقرأ نقش خاتمه الساعة : الحسن بن علي .
فقلت لليماني : أرأيته قبل هذا ؟ قال : لا والله ، وإني منذ دهر لحريص على رؤيته حتى كان الساعة أتاني شاب لست أراه فقال لي : قم فادخل ، فدخلت ، ثم نهض اليماني وهو يقول : رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت ، ذريةٌ بعضها من بعض . أشهد أن حقك لواجب كوجوب حق أمير المؤمنين ( عليه السلام ) والأئمة من بعده ، وإليك انتهت الحكمة والإمامة ، وأنك ولي الله ، لا عذر لأحد في الجهل بك .
فسألته عن اسمه فقال : اسمي مهجع بن الصلت بن عقبة بن سمعان بن غانم بن أم غانم ، وهي الأعرابية اليمانية صاحبة الحصاة التي ختم فيها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) . وقال أبو هاشم الجعفري في ذلك :
بدربِ الحصا مولىً لنا يختمُ الحَصَا * له الله أصفى بالدليل وأخلصَا
وأعطاه آياتِ الإمامة كلِّهَا * كموسى وفَلْقَ البحر واليدَ والعصا
وما قَمَّصَ الله النبيين حجةً * ومعجزةً إلا الوصيينَ قَمَّصَا
فمن كان مرتاباً بذاك فقَصْرُه * من الأمر أن يتلوالدليل ويفحصا ) .
وأم غانم هذه صاحبة الحصاة ، غيرصاحبة الحصاة المشهورة ، وهي أم الندى بنت جعفر حبابة الوالبية الأسدية ، من أسد بن خزيمة بن مدركة من بني سعد بن بكر بن زيد مناة .
وأما ثالثتهن وأولهن فهي أم مسلم وقيل أم أسلم ، جاءت إلى منزل أم سلمة فسألتها عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقالت : خرج في بعض الحوائج ، الساعة يجئ ، فانتظرته عند أم سلمة حتى جاء .
روى حديثها في الكافي ( 1 / 355 ) : ( جاءت أم أسلم يوماً إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو في منزل أم سلمة فسألتها عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقالت خرج في بعض الحوائج والساعة يجيئ ، فانتظرته عند أم سلمة حتى جاء ( صلى الله عليه وآله ) ، فقالت أم أسلم : بأبي أنت وأمي يا رسول الله إني قد قرأت الكتب وعلمت كل نبي ووصي ، فموسى كان له وصي في حياته ووصي بعد موته ، وكذلك عيسى ، فمن وصيك يا رسول الله ؟ فقال لها : يا أم أسلم وصيي في حياتي وبعد مماتي واحد ، ثم قال لها : يا أم أسلم من فعل فعلي هذا فهو وصيي ، ثم ضرب بيده إلى حصاة من الأرض ففركها بأصبعه فجعلها شبه الدقيق ثم عجنها ثم طبعها بخاتمه ، ثم قال : من فعل فعلي هذا فهو وصيي في حياتي وبعد مماتي ، فخرجتُ من عنده فأتيت أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقلت : بأبي أنت وأمي أنت وصي رسول الله ؟ قال : نعم يا أم أسلم ، ثم ضرب بيده إلى حصاة ففركها فجعلها كهيئة الدقيق ، ثم عجنها وختمها بخاتمه ، ثم قال : يا أم أسلم من فعل فعلي هذا فهو وصيي ! فأتيت الحسن ( عليه السلام ) وهو غلام فقلت له : يا سيدي أنت وصي أبيك ؟ فقال : نعم يا أم أسلم ، وضرب بيده وأخذ حصاة ففعل بها كفعلهما ، فخرجت من عنده فأتيت الحسين ( عليه السلام ) وإني لمستصغرة لسنه فقلت له : بأبي أنت وأمي ، أنت وصي أخيك ؟ فقال ، نعم يا أم أسلم إيتيني بحصاة ، ثم فعل كفعلهم ! فعمرت أم أسلم حتى لحقت بعلي بن الحسين بعد قتل الحسين في منصرفه ، فسألته أنت وصي أبيك ؟ فقال : نعم ، ثم فعل كفعلهم ، صلوات الله عليهم أجمعين ) .
ملاحظات
1 . نلاحظ أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) فتَّ الحصاة بيده فجعلها طحيناً ، ثم عجيناً ، ثم ياقوتةً ، ثم طبعها ! قالت الرواية : ( ثم ضرب بيده إلى حصاة من الأرض ففركها بأصبعه فجعلها شبه الدقيق ، ثم عجنها ، ثم طبعها بخاتمه ) .
2 . قال القطب الراوندي ( رحمه الله ) في الخرائج ( 1 / 428 ) : ( وصاحبات الحصى ثلاث : إحداهن هي وتكنى أم غانم . والثانية : أم الندى حُبابة بنت جعفر الوالبية ، والأولى : اسمها سعاد من بني سعد بن بكر بن عبد مناف . والثالثة : تدعى أم سليم كانت قارئة الكتب ، ولكل واحدة خبر ) .
3 . أما أم الندى حبابة بنت جعفر الوالبية الأسدية ، فقد روى خبرها الطوسي في الغيبة / 75 ، وذكر أنها عاشت إلى زمن الإمام الرضا ( عليه السلام ) قال : ( وقصته مع حبابة الوالبية صاحبة الحصاة التي طبع فيها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقال لها : من طبع فيها فهو إمام ، وبقيت إلى أيام الرضا ( عليه السلام ) فطبع فيها ، وقد شهدت من تقدم من آبائه ( عليهم السلام ) وطبعوا فيها ، وهو آخر من لقيتهم وماتت بعد لقائها إياه ، وكفنها في قميصه .
وكذلك قصته مع أم غانم الأعرابية صاحبة الحصاة أيضاً التي طبع فيها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وطبع بعده سائر الأئمة إلى زمان أبي محمد العسكري معروفة مشهورة . فلو لم يكن لمولانا أبي الحسن الرضا والأئمة من ولده ( عليهم السلام ) غير هاتين الدلالتين في نص أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على إمامتهم ، لكان في ذلك كفاية لمن أنصف من نفسه ) .
4 . وروى ابن عياش الجوهري في مقتضب الأثر / 18 ، حديث أم سليم بتفصيل بسندين من طريقنا وطريق مخالفينا ، قال : ( حدثا أبو صالح سهل بن محمد الطرطوسي القاضي ، قدم علينا من الشام في سنة أربعين وثلاث مائة قال : حدثنا أبو فروة زيد بن محمد الرهاوي قال : حدثنا عمار بن مطر قال : حدثنا أبو عوانة ، عن خالد بن علقمة ، عن عبيدة بن عمرو السلماني قال : سمعت عبد الله بن خباب بن الأرت قتيل الخوارج يقول : حدثني سلمان الفارسي والبراء بن عازب قالا : قالت أم سليم .
ومن طريق أصحابنا : حدثني أبو القاسم علي بن حبشي بن قوني قال : حدثنا جعفر بن محمد بن ملك الفزاري قال : حدثني الحسين بن أحمد المنقري التميمي قال : حدثني الحسن بن محبوب قال : حدثني أبو حمزة الثمالي ، عن زر بن حبيش الأسدي ، عن عبد الله بن خباب بن الأرت قتيل الخوارج ، عن سلمان الفارسي والبراء بن عازب ، قالا : قالت أم سليم ، وبين الحديثين خلاف في الألفاظ ، وليس في عدد الاثني عشر خلاف ، إلا أني سقت حديث العامة لما شرطناه في هذا الكتاب .
قالت أم سليم : كنت امرأة قد قرأت التوراة والإنجيل ، فعرفت أوصياء الأنبياء ، وأحببت أن أعرف وصيَّ محمد ( صلى الله عليه وآله ) فلما قدمت ركابنا المدنية أتيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وخلفت الركاب مع الحي فقلت له : يا رسول الله ما من نبي إلا وكان له خليفتان ، خليفة يموت قبله وخليفة يبقى بعده ، وكان خليفة موسى في حياته هارون فقبض قبل موسى ، ثم كان وصيه بعد موته يوشع بن نون . وكان وصيُّ عيسى في حياته : كالب بن يوفنا ، فتوفى كالب في حياته عيسى ، ووصيه بعد وفاته شمعون بن حمون الصفا ابن عمة مريم . وقد نظرت في الكتب الأولى فما وجدت لك إلا وصياً واحداً في حياتك وبعد وفاتك ، فبين لي بنفسي أنت يا رسول الله من وصيك ؟ فقال رسول الله : إن لي وصياً واحداً في حياتي وبعد وفاتي ، قلت له : من هو ؟ فقال : إيتني بحصاة ، فرفعت إليه حصاةً من الأرض فوضعها بين كفية ثم فركها بيده كسحيق الدقيق ، ثم عجنها فجعلها ياقوتة حمراء ختمها بخاتمه ، فبدا النقش فيها للناظرين ، ثم أعطانيها وقال : يا أم سليم من استطاع مثل هذا فهو وصيِّي . قالت : ثم قال لي : يا أم سليم وصيي من يستغنى بنفسه في جميع حالاته كما أنا مستغن !
فنظرت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقد ضرب بيده اليمنى إلى السقف وبيده اليسرى إلى الأرض قائماً لاينحنى في حالة واحدة إلى الأرض ، ولا يرفع نفسه بطرف قدميه . قالت : فخرجت فرأيت سلمان يكنف علياً ويلوذ بعقوته ، دون من سواه من أسرة محمد ( صلى الله عليه وآله ) وصحابته ، على حداثة من سنه ، فقلت في نفسي هذا سلمان صاحب الكتب الأولى قبلي صاحب الأوصياء وعنده من العلم ما لم يبلغني ، فيوشك أن يكون صاحبي ، فأتيت علياً فقلت : أنت وصيُّ محمد ؟ قال : نعم وما تريدين ؟ قلت له : وما علامة ذلك ؟ فقال : إيتيني بحصاة ، قالت : فرفعت إليه حصاة من الأرض فوضعها بين كفيه ، ثم فركها بيده ، فجعلها كسحيق الدقيق ، ثم عجنها فجعلها ياقوتة حمراء ، ثم ختمها فبدا النقش فيها للناظرين ، ثم مشى نحو بيته فاتبعته لأسئله عن الذي صنع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فالتفت إليَّ ففعل مثل الذي فعله فقلت : من وصيك يا أبا الحسن ؟ فقال : من يفعل مثل هذا ، قالت أم سليم : فلقيت الحسن بن علي ( عليه السلام ) فقلت : أنت وصى أبيك ؟ هذا وأنا أعجب من صغره وسؤالي إياه ، مع أني كنت عرفت صفته الاثني عشر إماماً وأبوهم سيدهم وأفضلهم ، فوجدت ذلك في الكتب الأولى ، فقال لي : نعم أنا وصيُّ أبي . فقلت : وما علامة ذلك ؟ فقال إيتيني بحصاة ، قالت : فرفعت إليه حصاة من الأرض فوضعها بين كفية ثم سحقها كسحيق الدقيق ، ثم عجنها فجعلها ياقوتة حمراء ، ثم ختمها فبدا النقش فيها ثم دفعها إليَّ فقلت له : فمن وصيك ؟ فقال : من يفعل مثل هذا الذي فعلت ، ثم مد يده اليمنى حتى جاوزت سطوح المدينة وهو قائم ، ثم طأطأ يده اليسرى فضرب بها الأرض من غير أن ينحنى أو يتصعد ، فقلت في نفسي : من يرى وصيه ؟ فخرجت من عنده فلقيت الحسين ( عليه السلام ) وكنت عرفت نعته من الكتب السالفة بصفته وتسعة من ولده أوصياء بصفاتهم ، غير أني أنكرت حليته لصغر سنة ، فدنوت منه وهو على كسرة رحبة المسجد فقلت له : من أنت يا سيدي ؟ قال : أنا طلبتك يا أم سليم ، أنا وصيُّ الأوصياء ، وأنا أبو التسعة الأئمة الهادية ، أنا وصيُّ أخي الحسن وأخي وصيُّ أبي علي ، وعليٌّ وصيُّ جدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . فعجبت من قوله فقلت : ما علامة ذلك ؟ فقال : إيتني بحصاة فرفعت إليه حصاة من الأرض ، قالت أم سليم : لقد نظرت إليه وقد وضعها بين كفيه ، فجعلها كهيئة السحيق من الدقيق ، ثم عجنها فجعلها ياقوتة حمراء ، فختمها بخاتمه فثبت النقش فيها ، ثم دفعها إليَّ وقال لي : أنظري فيها يا أم سليم فهل ترين فيها شيئاً ؟
قالت أم سليم : فنظرت فإذا فيها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعليٌّ والحسن والحسين وتسعة أئمة صلوات الله عليهم أوصياء من ولد الحسين ( عليه السلام ) ، قد تواطأت أسماؤهم إلا اثنين منهم أحدهما جعفر والآخر موسى ، وهكذا قرأت في الإنجيل فعجبت ثم قلت في نفسي : قد أعطاني الله الدلائل ولم يعطها من كان قبلي ، فقلت يا سيدي أعد على علاةً أخرى ! قالت : فتبسم وهو قاعد ثم قام فمد يده اليمنى إلى السماء ، فوالله لكأنها عمود من نار تخرق الهواء حتى توارى عن عيني ، وهو قائم لا يعبأ بذلك ولا يتحفز ، فأسقطت وصعقت فما أفقت إلا به ، ورأيت في يده طاقة من آس يضرب بها منخري ، فقلت في نفسي : ماذا أقول له بعد هذا ؟
وقمت وأنا والله أجد إلى ساعتي رائحة هذه الطاقة من الآس ، وهي والله عندي لم تذو ولم تذبل ولا تنقص من ريحها شئ ، وأوصيت أهلي أن يضعوها في كفني . فقلت : يا سيدي من وصيك ؟ قال : من فعل مثل فعلى ، قالت : فعشت إلى أيام علي بن الحسين ( عليه السلام ) .
قال زرّ بن حبيش خاصة دون غيره : وحدثني جماعة من التابعين سمعوا هذا الكلام من تمام حديثها ، منهم مينا مولى عبد الله بن عوف وسعيد بن جبير مولى بني أسد ، سمعاها تقول هذا ، وحدثني سعيد بن المسيب المخزومي ببعضه عنها . قالت : فجئت إلى علي بن الحسين ( عليه السلام ) وهو في منزله قائماً يصلي ، وكان يطول فيها ولا يتحوز فيها ، وكان يصلي ألف ركعة في اليوم والليلة ، فجلست ملياً فلم ينصرف من صلاته ، فأردت القيام فلما هممت به حانت مني التفاتة إلى خاتم في إصبعه : عليه فص حبشي ، فإذا هو مكتوب مكانك يا أم سليم أنبأك بما جئتني له .
قالت : فأسرع في صلاته فلما سلم قال لي : يا أم سليم أنبؤك بما جئتني له إيتني بحصاة ، من غير أن أسأله عما جئت له ، فدفعت إليه حصاة من الأرض فأخذها فجعلها بين كفيه فجعلها كهيئة الدقيق السحيق ، ثم عجنها فجعلها ياقوتة حمراء ، ثم ختمها فثبت فيها النقش ، فنظرت والله إلى القوم بأعيانهم كما كنت رأيتهم يوم الحسين ( عليه السلام ) فقلت له : فمن وصيك جعلني الله فداك ؟ قال : الذي يفعل مثل ما فعلت ولا تدركين من بعدي مثلي . قالت أم سليم : فنسيت أن أسأله أن يفعل مثلما كان قبلة من رسول الله وعلي والحسن والحسين صلوات الله عليهم .
فلما خرجت من البيت ومشيت شوطاً ناداني : يا أم سليم ، قلت : لبيك ، قال : إرجعي ، فرجعت فإذا هو واقف في صرحة داره وسطاً ، ثم مشى فدخل البيت وهو يتبسم ، ثم قال : اليَّ يا أم سليم ، فجلست فمد يده اليمنى فانخرقت الدور والحيطان وسكك المدينة ، وغابت يده عني ، ثم قال : خذي يا أم سليم ، فناولني والله كيساً فيه دنانير وقرطان من ذهب وفصوص كانت لي من جَزْع ، في حُقٍّ لي كانت في منزلي ، فقلت يا سيدي أما الحُق فأعرفه ، وأما ما فيه فلا أدري ما فيه غير أني أجده ثقيلاً !
قال : خذيها وامض لسبيلك . قالت : فخرجت من عنده فدخلت منزلي وقصدت نحو الحق فلم أجد الحق في موضعه ، فإذ الحق حقي ، قالت : فعرفتهم حق معرفتهم بالبصيرة والهداية فيهم من ذلك اليوم ، والحمد لله رب العالمين .
قال الشيخ أبو عبد الله : سألت أبا بكر محمد بن عمر الجعابي ، عن هذه أم سليم ، وقرأت عليه إسناد الحديث للعامة ، واستحسن طريقها وطرىق أصحابنا فيه ، فما عرفت أبا صالح الطرطوسي القاضي فقال : كان ثقة عدلاً حافظاً ، وأما أم سليم فهي امرأة من النمر بن قاسط ، معروفة من النساء اللاتي روين عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . قال : وليست أم سليم الأنصارية أم أنس ابن مالك ، ولا أم سليم الدوسية ، فإنها لها صحبة ورواية ، ولا أم سليم الخافضة التي كانت تخفض الجواري على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ولا أم سليم الثقفية وهي بنت مسعود أخت عروة بن مسعود الثقفي ، فإنها أسلمت وحسن إسلامها ، وروت الحديث ) .
5 . كفى بالحديث المتقدم دليلاً على إمامة أئمة العترة الاثني عشر ( عليهم السلام ) . ويظهر من ألفاظه أن بعضهم طبع على نفس الحصاة ، وبعضهم أخذ حصاة أخرى وطبع عليها ، فظهر عليها خاتمه وخاتم من قبله من المعصومين ( عليهم السلام ) .
كما أن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) أعطى أم سليم جواهر ودنانير ، وأحضر حُقها أي صندوقها الذي تضع فيه حليها ، وأعطاها إياه وكان وزنه أثقل . . الخ .
مع يونس الصائغ
روى الطوسي في أماليه / 288 ، عن كافور الخادم قال : ( كان في الموضع مجاورَ الإمام من أهل الصنائع صنوفٌ من الناس وكان الموضع كالقرية ، وكان يونس النقاش يغشي سيدنا الإمام ويخدمه ، فجاءه يوماً يرعد فقال له : يا سيدي أوصيك بأهلي خيراً ، قال ( عليه السلام ) : وما الخبر ؟ قال : عزمت على الرحيل . قال ( عليه السلام ) : ولمَ يا يونس وهو يتبسم ( عليه السلام ) . قال قال يونس : ابن بغا : وجه إليَّ بفصٍّ ليس له قيمة ، أقبلت أنقشه فكسرته باثنين وموعده غداً وهو موسى بن بغا ، إما ألف سوط ، أو القتل !
قال ( عليه السلام ) : إمض إلى منزلك ، إلى غدٍ فَرَجٌ ، فما يكون إلا خيراً . فلما كان من الغد وافى بكرةً يَرْعُد فقال : قد جاء الرسول يلتمس الفص . قال ( عليه السلام ) : إمض إليه فما ترى إلا خيراً . قال : وما أقول له يا سيدي ! ؟ قال : فتبسم ، وقال : إمض إليه واسمع ما يخبرك به ، فلا يكون إلا خيراً !
قال : فمضى وعاد يضحك . قال : قال لي : يا سيدي ! الجواري اختصموا فيمكنك أن تجعله فصين حتى نغنيك ؟ فقال سيدنا الإمام ( عليه السلام ) : اللهم لك الحمد ، إذ جعلتنا ممن يحمدك حقاً ، فأي شئ قلت له ؟ قال قلت له : أمهلني حتى أتأمل أمره كيف أعمله ؟ فقال : أصبت ) .
مع الغفاري من ذرية أبي ذر ( رحمه الله )
في الخرائج ( 1 / 440 ) : ( روي عن علي بن جعفر الحلبي قال : اجتمعنا بالعسكر وترصدنا لأبي محمد ( عليه السلام ) يوم ركوبه ، فخرج توقيعه : ألا لا يسلمن عليَّ أحد ، ولا يشير إليَّ بيده ، ولا يومئ أحدكم ، فإنكم لا تأمنون على أنفسكم . قال : وإلى جانبي شاب ، قلت : من أين أنت ؟ قال : من المدينة . قلت : ما تصنع هاهنا ؟ قال : اختلفوا عندنا في أبي محمد ( عليه السلام ) فجئت لأراه وأسمع منه ، أو أرى منه دلالته ليسكن قلبي ، وإني من ولد أبي ذر الغفاري ، فبينا نحن كذلك إذ خرج أبو محمد ( عليه السلام ) مع خادم له ، فلما حاذانا نظر إلى الشاب الذي بجنبي فقال : أغفاري أنت ؟ قال : نعم . قال : ما فعلت أمك حمدويه ؟ فقال : صالحة . ومَرَّ !
فقلت للشاب : أكنت رأيته قط وعرفته بوجهه قبل اليوم ؟ قال : لا . قلت : فيقنعك هذا ؟ قال : وما دون هذا ) !
المعجزات التسع التي نقلها عنه الطبري
الطبري المشهور منسوبٌ إلى طبرستان في شمال إيران ، وهو من مدينة آمل ، واسمه محمد بن جرير بن يزيد ، وهو مشتركٌ في اسمه واسم أبيه ومدينته مع عالمين شيعيين : محمد بن جرير بن رستم الطبري ، مؤلف المسترشد ، ومحمد بن جرير بن رستم الطبري ، مؤلف دلائل الإمامة .
والطبري المشهور سنيٌّ لكن لا يبعد أنه تسنن بعد أن سكن في بغداد ، فقد كانت طبرستان على مذهب الشيعة ، اشتهر منهم آل رستم ، وقامت في طبرستان دولة زيدية من سنة 250 - 316 هجرية .
قال الحموي في معجم البلدان ( 1 / 57 ) : ( أبو جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ المشهور ، أصله ومولده من آمل ، ولذلك قال أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمي ، وأصله من آمل أيضاً ، وكان يزعم أن أبا جعفر الطبري خاله :
بآملَ مولدي وبنو جريرٍ * فأخوالي ويحكي المرءُ خالَهْ
فها أنا رافِضِيٌّ عن تُراثٍ * وغيري رافضيٌّ عن كَلَالَهْ
وكذبَ ، لم يكن أبو جعفر ( رحمه الله ) رافضياً ، وإنما حسدته الحنابلة فرموه بذلك فاغتنمها الخوارزمي ، وكان سباباً رافضياً ، مجاهراً بذلك متبجحاً به ، ومات ابن جرير في سنة 310 ) .
لكن تحاملَ الحموي على الخوارزمي تعصبٌ بلا موجب فقد شهد الخوارزمي بأن أخواله بني جرير رافضة ، أما الطبري المؤرخ فقد يكون أظهر التسنن عندما جاء إلى بغداد ، فقد كان له مع الحنابلة قصة ، ذكرها الحموي في معجم الأدباء : 9 / 18 / 57 ، قال : ( فلما قدم إلى بغداد من طبرستان بعد رجوعه إليها تعصب عليه أبو عبد الله الجصاص وجعفر بن عرفة والبياضي . وقصده الحنابلة فسألوه عن أحمد بن حنبل في الجامع يوم الجمعة ، وعن حديث الجلوس على العرش فقال أبو جعفر : أما أحمد بن حنبل فلا يُعَدُّ خلافُه . فقالوا له : فقد ذكره العلماء في الاختلاف فقال : ما رأيته رويَ عنه ، ولا رأيت له أصحاباً يُعَوَّلُ عليهم . وأما حديث الجلوس على العرش فمحال ، ثم أنشد :
سبحان من ليس له أنيسُ * ولا له في عرشه جليسُ
فلما سمع ذلك الحنابلة منه وأصحاب الحديث وثبوا ورموه بمحابرهم ! وقيل كانت ألوفاً ، فقام أبو جعفر بنفسه ودخل داره فرموا داره بالحجارة حتى صارت على بابه كالتل العظيم ! وركب نازوك صاحب الشرطة في ألوف من الجند يمنع عنه العامة ، ووقف على بابه يوماً إلى الليل ، وأمر برفع الحجارة عنه ، وكان قد كَتَبَ على بابه :
سبحان من ليس له أنيسُ * ولا لهُ في عرشه جليسُ
فأمر نازوك بمحو ذلك ، وكتب مكانه بعض أصحاب الحديث :
لأحمدَ منزلٌ لا شكَّ عالٍ * إذا وافى إلى الرحمن وافدْ
فيدنيه ويقعده كريماً * على رغم لهم في أنف حاسدْ
على عرش يغلفه بطيب * على الأكباد من باغ وعاند
له هذا المقام الفرد حقاً * كذاك رواه ليثٌ عن مجاهدْ
فخلا في داره وعمل كتابه المشهور في الاعتذار إليهم ، وذكر مذهبه واعتقاده ، وجرح من ظن فيه غير ذلك ، وقرأ الكتاب عليهم وفَضَّلَ أحمد بن حنبل ، وذكر مذهبه وتصويب اعتقاده ! ولم يزل في ذكره إلى أن مات ! ولم يخرج كتابه في الاختلاف حتى مات ، فوجدوه مدفوناً في التراب فأخرجوه ونسخوه ، أعني اختلاف الفقهاء ، هكذا سمعت من جماعة ، منهم أبي ( رحمه الله ) ) !
لكن موجة الحنابلة انحسرت فألف الطبري كتابه ضدهم وسماه : الرد على الحرقوصية ! فنسبهم إلى حرقوص إمام الخوارج ، لأن ابن حنبل من ذريته !
وغرضنا هنا ما رواه في دلائل الإمامة من معجزات الإمام العسكري ( عليه السلام ) عن محمد بن جرير ، فهل هو الطبري المعروف أم غيره ؟
وقد رويا هذه المعجزات في دلائل الإمامة / 426 ، قال : ( قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري : حدثنا عبد الله بن محمد قال : رأيت الحسن بن علي السراج ( عليه السلام ) كلم الذئب فكلمه ، فقلت له : أيها الإمام الصالح ، سل هذا الذئب عن أخ لي بطبرستان خلفته وأشتهي أن أراه . فقال لي : إذا اشتهيت أن تراه فانظر إلى شجرة دارك بسر من رأى !
وكان قد أخرج في داره عيناً تنبع عسلاً ولبناً ، فكنا نشرب منه ونتزود !
قال أبو جعفر : دخل على الحسن بن علي ( عليه السلام ) قوم من سواد العراق يشكون قلة الأمطار ، فكتب لهم كتاباً فأمطروا ، ثم جاءوا يشكون كثرته فختم في الأرض ، فأمسك المطر !
قال أبو جعفر : رأيت الحسن بن علي السراج ( عليه السلام ) يمشي في أسواق سُرَّ من رأى ولا ظلَّ له ، ورأيته يأخذ الآس فيجعلها ورقاً ، ويرفع طرفه نحو السماء ويده فيردها ملأى لؤلؤاً . قال أبو جعفر : قلت للحسن بن علي أرني معجزة خصوصية أحدث بها عنك ، فقال : يا ابن جريرلعلك ترتد ! فحلفت له ثلاثاً ، فرأيته غاب في الأرض تحت مصلاه ، ثم رجع ومعه حوت عظيم فقال : جئتك به من الأبحر السبعة ، فأخذته معي إلى مدينة السلام ، وأطعمت منه جماعة من أصحابنا !
قال أبو جعفر : ورأيت الحسن بن علي السراج ( عليه السلام ) يمر بأسواق سر من رأى ، فما مر ببابٍ مقفلٍ إلا انفتح ، ولا دارٍ إلا انفتحت ، وكان ينبؤنا بما نعمله بالليل سراً وجهراً !
قال أبو جعفر : أردتُ التزويج والتمتع بالعراق ، فأتيتُ الحسن بن علي السراج ( عليه السلام ) فقال لي : يا ابن جرير ، عزمت أن تتمتع فتمتع بجارية ناصبة معقبة تفيدك مائة دينار . فقلت : لا أريدها . فقال : قد قضيت لك بها ، فأتيت بغداد وتزوجت بها فأعقبتُ ، وأخذت منها مالاً ثم رجعت فقال : يا ابن جرير ، كيف رأيت آيةالإمام ) .
ملاحظات
1 . خلاصة هذه المعجزات : تكليم الإمام ( عليه السلام ) للذئب . وأن الإمام ( عليه السلام ) جعل الطبري يرى أخاه وهو بعيد عنه ، واستخرج عيناً تنبع عسلاً ولبناً وأرسل رسالة إلى أهل السواد فمطروا ، ثم أوقف المطر بختم الأرض .
وأنه كان يمشي ولا ظل له ، ويأخذ الآس فيجعله عملةً ، ويرفع طرفه نحو السماء ويده ، فيردها ملأى لؤلؤاً ، وما مر بباب مقفل إلا انفتح ، وكان ينبؤهم بما يعملون . وأنه أخبر عن جارية الطبري فكانت كما قال !
2 . من المستبعد أن يكون ابن جرير هذا هو الطبري المشهور ، وإن كان ذلك ممكناً لأن الطبري ولد سنة 224 ، وأكثر من الترحال في طلب العلم حتى استقر في بغداد . لكن لا يوجد مؤيد قوي لهذا الاحتمال ، فلا بد أن يكون أحد الطبريين الشيعيين .
وقد رجح في مقدمة عيون المعجزات لابن جرير الطبري الشيعي / 122 ، أن يكون هو المقصود ، وليس ابن جرير المعروف ، قال : ( من المحتمل جداً أن الطبري صاحب الترجمة كان معاصراً للطبري صاحب التاريخ والتفسير ، وأنه هو الطبري الكبير الذي أدرك أبا محمد الحسن العسكري ( عليه السلام ) ورأى منه تسع معجزات وعبر عنه بالحسن بن علي السراج ، وقد خاطبه الإمام ( عليه السلام ) بقوله : يا ابن جرير ، وأنه رأى خط الإمام بهلاك الزبير بن جعفر المتوكل بعد ثلاثة أيام ، وأنه روى عن علي بن محمد بن زياد الصيمري ، وهو من أصحاب الإمام الهادي ( عليه السلام ) ) .
3 . نلاحظ أنه روى المعجزة الأولى عن : عبد الله بن محمد ، وروى البقية عن الإمام ( عليه السلام ) مباشرة . ويظهر أن عبد الله بن محمد هذا هو البلوي الذي يروي عنه أبو جعفر بن جرير ، كما في دلائل الإمامة / 362 ، ونوادر المعجزات / 113 ، وو 163 و 166 ، وغيرها . وقد ضعفوه ، واتهموه .
دعاء الإمام ( عليه السلام ) على موظف كان يؤذيه
روى في الخرائج ( 2 / 784 ) : ( حدثنا أبو الحسن الموسوي : حدثنا أبي أنه كان يغشى أبا محمد العسكري ( عليه السلام ) بسر من رأى كثيراً ، وأنه أتاه يوماً ، فوجده وقد قدمت إليه دابته ليركب إلى دار السلطان ، وهومتغير اللون من الغضب ، وكان بجنبه رجل من العامة فإذا ركب دعا له وجاء بأشياء يشنع بها عليه ، فكان ( عليه السلام ) يكره ذلك . فلما كان في ذلك اليوم زاد الرجل في الكلام وألح ، فسار حتى انتهى إلى مفرق الطريقين ، وضاق على الرجل أخذهما من كثرة الدواب ، فعدل إلى طريق يخرج منه ويلقاه فيه . فدعا ( عليه السلام ) بعض خدمه وقال له : إمض فكفن هذا . فتبعه الخادم فلما انتهى ( عليه السلام ) إلى السوق ونحن معه ، خرج الرجل من الدرب ليعارضه فكان في الموضع بغل واقف ، فضربه البغل فقتله ! ووقف الغلام فكفنه كما أمره ، وسار ( عليه السلام ) وسرنا معه ) .
أقول : معناه أن ذلك الشخص كان ينتظر الإمام ( عليه السلام ) حتى يركب ليذهب إلى الخليفة أو غيره ، فيرافقه ، ويتكلم بكلام ويتصرف تصرفات لا يرضى بها الإمام ( عليه السلام ) ، ولم تذكر الرواية نوع تصرفات وكلامه .
ويظهر أن الإمام ( عليه السلام ) كان غاضباً منه ودعا عليه وعرف أنه استجيب له وأنه سيضربه بغل ويقتله ، فأرسل خادمه خلفه ليغطي جنازته !
حديث خادمه أبي الأديان ( رحمه الله )
روى الصدوق ( رحمه الله ) في كمال الدين / 475 ، عن أبي الأديان ، قال : ( كنت أخدم الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) وأحمل كتبه إلى الأمصار فدخلت عليه في علته التي توفي فيها صلوات الله عليه ، فكتب معي كتباً وقال : إمض بها إلى المدائن فإنك ستغيب خمسة عشر يوماً وتدخل إلى سر من رأى يوم الخامس عشر ، وتسمع الواعية في داري وتجدني على المغتسل !
قال أبو الأديان فقلت : يا سيدي فإذا كان ذلك فمن ؟ قال : من طالبك بجوابات كتبي فهو القائم من بعدي ، فقلت : زدني ، فقال : من يصلي علَّي فهو القائم بعدي ، فقلت : زدني ، فقال : من أخبر بما في الهميان فهو القائم بعدي ، ثم منعتني هيبته أن أسأله عما في الهميان .
وخرجت بالكتب إلى المدائن وأخذت جواباتها ، ودخلت سر من رأى يوم الخامس عشر كما ذكر لي ( عليه السلام ) فإذا أنا بالواعية في داره ، وإذا به على المغتسل ، وإذا أنا بجعفر بن علي أخيه بباب الدار ، والشيعة من حوله يعزونه ويهنونه ، فقلت في نفسي : إن يكن هذا الإمام فقد بطلت الإمامة لأني كنت أعرفه يشرب النبيذ ويقامر في الجوسق ( قصر ومحل للقمار ) ويلعب بالطنبور ، فتقدمت فعزيت وهنيت ، فلم يسألني عن شئ .
ثم خرج عقيد فقال : يا سيدي قد كُفِّنَ أخوك فقم وصلِّ عليه ، فدخل جعفر بن علي والشيعة من حوله يقدمهم السمان والحسن بن علي قتيل المعتصم المعروف بسلمة ( أي أبوه قتله المعتصم ولعله الأطروش ) فلما صرنا في الدار إذا نحن بالحسن بن علي صلوات الله عليه على نعشه مكفناً ، فتقدم جعفر بن علي ليصلي على أخيه ، فلما همَّ بالتكبير خرج صبي بوجهه سمرة ، بشعره قطط ، بأسنانه تفليج ، فجبذ برداء جعفر بن علي وقال : تأخر يا عم ، فأنا أحق بالصلاة على أبي ، فتأخر جعفر وقد ارْبَدَّ وجهه واصفرّ ، فتقدم الصبي وصلى عليه ! ودفن إلى جانب قبر أبيه ( عليهما السلام ) .
ثم قال : يا بصري هات جوابات الكتب التي معك ، فدفعتها إليه فقلت في نفسي : هذه بينتان ، بقي الهميان ، ثم خرجت إلى جعفر بن علي وهو يزفر ، فقال له حاجز الوشاء : يا سيدي من الصبي لنقيم الحجة عليه ؟ فقال : والله ما رأيته قط ولا أعرفه .
فنحن جلوس إذ قدم نفر من قم فسألوا عن الحسن بن علي ( عليهما السلام ) فعرفوا موته فقالوا : فمن نعزي ؟ فأشار الناس إلى جعفر بن علي فسلموا عليه وعَزَّوْهُ وهَنَّوْهُ وقالوا : إن معنا كتباً ومالاً ، فتقول ممن الكتب وكم المال ؟ فقام ينفض أثوابه ويقول : تريدون منا أن نعلم الغيب !
قال : فخرج الخادم فقال : معكم كتب فلان وفلان وفلان ، وهميان فيه ألف دينار وعشرة دنانير منها مطلية ، فدفعوا إليه الكتب والمال وقالوا : الذي وجه بك لأخذ ذلك هو الإمام ، فدخل جعفر بن علي على المعتمد وكشف له ذلك ، فوجه المعتمد بخدمه فقبضوا على صقيل الجارية فطالبوها بالصبي فأنكرته ، وادعت حبلاً بها لتغطي حال الصبي ، فسُلِّمَت إلى ابن أبي الشوارب القاضي ، وبَغَتَهم موت عبيد الله بن يحيى بن خاقان فجأة ، وخروج صاحب الزنج بالبصرة ، فشغلوا بذلك عن الجارية ، فخرجت عن أيديهم ، والحمد لله رب العالمين ) .
ملاحظات
1 . سند الرواية علي بن محمد بن حباب أو خشاب ، عن أبي الأديان . ولم تذكرهما الكتب الخاصة بالرجال . لكن القرائن توجب الاطمئنان بروايته . وقد روى الصدوق ( كمال الدين / 474 ) عن أبي الحسن علي بن محمد بن حباب وعن أبي محمد بن خيرويه التستري ، وعن حاجز الوشاء ، وعن أبي سهل بن نوبخت ، كلهم عن عقيد الخادم أنه قال : ( ولد ولي الله الحجة بن الحسن ابن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، صلوات الله عليهم أجمعين ، ليلة الجمعة ، غرة شهر رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين من الهجرة ، ويكنى أبا القاسم ويقال أبو جعفر ، ولقبه المهدي ، وهو حجة الله عز وجل في أرضه على جميع خلقه ، وأمه صقيل الجارية ، ومولده بسر من رأى في درب الراضة . وقد اختلف الناس في ولادته ، فمنهم من أظهر ، ومنهم من كتم ، ومنهم من نهى عن ذكر خبره ، ومنهم من أبدى ذكره والله أعلم به ) .
أقول : ورواية ابن حباب عن هؤلاء الجماعة الكبار يدل على مستواه العالي . أما قوله إنه المهدي ( عليه السلام ) ولد سنة 254 في أول شهر رمضان وأمه صقيل ، فهو خلاف المتفق عليه عند الشيعة ، وأنه ولد سنة 256 في ليلة النصف من شعبان والظاهر أن هذه رواية التقية التي كانت سائدة لتضليل السلطة وتسكيتها .
وروى عنه عمر بن شبة المعاصر له ، قال : ( وحدثنا علي بن محمد بن حباب بن موسى ) . ( الأغاني : 16 / 330 ) وتوفي ابن شبة سنة 262 ( تاريخ ابن الوردي / 229 ) .
كما ذكر الصفدي محمداً وقد يكون ابنه ، قال في الوافي ( 4 / 100 ) : ( محمد بن علي بن محمد بن حباب أبو عبد الله الصوري الشاعر ، كان فصيحاً توفي بطرابلس وقد نيف على السبعين ، وكانت وفاته سنة ثلاث وستين وأربع مائة ) .
ونقل التستري في قاموس الرجال ( 11 / 203 ) أن في نسخته من الإكمال ( محمد بن خشاب ) . وهو تصحيف .
والنتيجة : أنه شيخ الصدوق ( رحمه الله ) وصفاته تؤشر على وثاقته .
أما أبو الأديان ، فالقرائن على توثيقه أقوى ، لأن علو المتن ، ووعيه العقائدي وعقله الراجح كما تدل روايته ، يكفي لاطمئنان الإنسان بوثاقته .
واسم أبي الأديان مميز ، ولم أجد بهذا الاسم إلا أبا الأديان البغدادي ، وقد ترجم له الخطيب وابن عساكر ، وذكرا أنه شيخ الصوفية ، وأنه صاحب كرامات . وقد يكون من أولاد صاحبنا أبي الأديان السامرائي ، خاصة أن سامراء خربت بعد الإمام العسكري ( عليه السلام ) ونزح أكثر أهلها إلى بغداد .
قال الخطيب ( 5 / 380 ) وابن عساكر ( 5 / 490 ) : ( وكان أبو الأديان من شيوخ الصوفية ، سمع أحمد بن محبوب ، وأبا مسلم الكجي ، ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة ، ومحمد بن يحيى المروزي ، ومحمد بن يوسف بن البركي ، والحسن بن علي بن المتوكل ، ومحمد بن الحسين الأنماطي ، وأبا السري محمد بن نعيم الأنصاري ، وأبا برزة الحاسب ، ويوسف بن يعقوب القاضي ، ومحمد بن عبد الله الحضرمي ، وأبا خليفة الجمحي ، وغيرهم من شيوخ الشام ومصر . حدثنا عنه محمد بن أحمد بن إسحاق البزاز وكان ثقة ، سكن مكة وحدث بها ) .
واشتهر أحد كبار الفقهاء الصوفية باسم : غلام أبي الأديان لقصة له معه .
قال الخطيب : ( 5 / 380 ) : ( أحمد بن محبوب بن سليمان ، أبو الحسن الفقيه الصوفي ، يعرف بغلام أبي الأديان ) . وذكر أنه توفي سنة 357 .
2 . كانت السلطة تعتقد أن أم الإمام المهدي ( عليه السلام ) هي صقيل جارية الإمام ( عليه السلام ) ويظهر من الأحاديث أنها أوثق جواري الإمام ( عليه السلام ) عنده ، وأنها كانت تطيع والدته رضي الله عنها ، وقد ادعت الحمل بأمرها لتسكيت السلطة عن البحث عن المهدي ( عليه السلام ) ، وعن مصادرة منزله .
وكذا يظهر أن غلامه النوبي المدعو عقيداً ( رحمه الله ) ، كان من أقرب الناس اليه ، وكان من خدام أبيه ، ومن تربيته هو ( عليهما السلام ) .
3 . في حديث أبي الأديان حقائق ودقائق عديدة عن علاقة الشيعة بالأئمة ( عليهم السلام ) ، وعن وضع الخلافة في سامراء ، ومكانة الإمام العسكري ( عليه السلام ) عند كبار القوم ، وعن ظهور الإمام المهدي ( عليه السلام ) وظهور معجزاته للناس في الفترات الحساسة وعن يقين السلطة بوجود ولد للإمام ( عليه السلام ) وعجزها عن القبض عليه .
رسالة الإمام "ع" إلى وفد قم وهم في الطريق
في الهداية الكبرى / 342 : « عن أحمد بن داود القمي ، ومحمد بن عبد الله الطلحي ، قالا : حملنا ما جمعنا من خمس ونذور وبِرّ ، من غير ورق وحلي وجوهر وثياب ، من بلاد قم وما يليها ، وخرجنا نريد سيدنا أبا محمد الحسن ( عليه السلام ) ، فلما وصلنا إلى دسكرة الملك تلقانا رجلٌ راكبٌ على جمل ، ونحن في قافلة عظيمة فقصد إلينا وقال : يا أحمد الطلحي معي رسالة إليكم ، فقلنا من أين يرحمك الله ، فقال : من سيدكم أبي محمد الحسن ( عليه السلام ) يقول لكم : أنا راحل إلى الله مولاي في هذه الليلة ، فأقيموا مكانكم حتى يأتيكم أمر ابني محمد ، فخشعت قلوبنا ، وبكت عيوننا ، وقرحت أجفاننا لذلك ، ولم نظهره . وتركنا المسير ، واستأجرنا بدسكرة الملك منزلاً وأخذنا ما حملنا إليه ، وأصبحنا والخبر شائع بالدسكرة بوفاة مولانا أبي محمد الحسن ( عليه السلام ) فقلنا لا إله إلا الله ، ترى الرسول الذي أتانا بالرسالة أشاع الخبر في الناس ، فلما تعالى النهار رأينا قوماً من الشيعة على أشد قلق لما نحن فيه فأخفينا أمر الرسالة ولم نظهره ، فلما جَنَّ علينا الليل جلسنا بلا ضوء حزناً على سيدنا الحسن ( عليه السلام ) نبكي ونشكي إلى الله فقده ، فإذا نحن بيد قد دخلت علينا من الباب فضاءت كما يضئ المصباح ، وهي تقول : يا أحمد هذا التوقيع إعمل به وبما فيه ، فقمنا على أقدامنا وأخذنا التوقيع فإذا فيه : بسم الله الرحمن الرحيم : من الحسن المسكين لله رب العالمين ، إلى شيعته المساكين : أما بعد ، فالحمد لله على ما نزل منه ، ونشكر إليكم جميل الصبر عليه ، وهو حسبنا في أنفسنا وفيكم ونعم الوكيل . ردوا ما معكم ، ليس هذا أوان وصوله إلينا ، فإن هذا الطاغي قد دنت غشيته إلينا ، ولو شئنا ما ضركم ، وأمرنا يرد عليكم .
ومعكم صرة فيها سبعة عشر ديناراً في خرقة حمراء ، إلى أيوب بن سليمان ، الآن فردوها ، فإنه حملها ممتحناً لنا بها بما فعله ، وهو ممن وقف عند جدي موسى بن جعفر ( عليه السلام ) فردوا صرته عليه ، ولا تخبروه !
فرجعنا إلى قم ، فأقمنا بها سبع ليال ، ثم جاءنا أمر ابنه : قد بعثنا إليكم إبلاً غير إبلكم ، إحملا ما قِبَلَكُما عليها واخليا لها السبيل فإنها واصلةٌ إليَّ ! وكانت الإبل بغير قائد ولا سائق ، على وجه الأول منها بهذا الشرح ، وهو مثل الخط الذي بالتوقيع التي أوصلته إلى الدسكرة ، فحملنا ما عندنا واستودعناه وأطلقناهم .
فلما كان من قابل خرجنا نريده ( عليه السلام ) فلما وصلنا إلى سامرا دخلنا عليه فقال لنا : يا أحمد ومحمد أدخلا من الباب الذي بجانب الدار ، وانظرا ما حملتماه على الإبل فلا تفقدا منه شيئاً . فدخلنا من الباب فإذا نحن بالمتاع كما وعيناه وشددناه لم يتغير ، فحللناه كما أمرنا وعرضنا جمعه ، فما فقدنا منه شيئاً ، فوجدنا الصرة الحمراء والدنانير فيها بختمها ، وكنا قد رددناها على أيوب ، فقلنا : إنا لله وإنا إليه راجعون ، فقلنا : إنها من سيدنا فصاح بنا من مجلسه : فما لكما بدت لكما سوءاتكما ! فسمعنا الصوت فأتينا إليه فقال : من أيوب وقتَ وردت الصرة عليه فقبل الله إيمانه وقبل هديته فحمدنا الله وشكرناه على ذلك ، فكان هذا من دلائله ( عليه السلام ) » .
ملاحظات
وصل وفدٌ من قم إلى سامراء قر ب وفاة الإمام العسكري ( عليه السلام ) ، وكان وفد آخر في الطريق ، وهذا يدل على أهمية قم وأن أكثر الشيعة في إيران كانوا يراجعون وكلاء الأئمة ( عليهم السلام ) فيها ، ويرسلون بواسطتهم مسائلهم وحقوقهم .
وقد يشكل على الرواية بأنها من كتاب الهداية ، وهو ومؤلفه محل بحث عند علمائنا ، وأكثرهم لا يقبلونه ، ويتهمونه بالغلو والانحراف .
والإشكال الآخر : أنه بعد أن أرجعهم الإمام ( عليه السلام ) إلى قم ، وأرسل لهم إبلاً أخرى وحملوها الهدايا والحقوق وأوصلتها إلى الإمام ( عليه السلام ) ، كيف أبقاها سنة حتى جاؤوا ، قالت الرواية : ( فلما كان من قابل خرجنا نريده ( عليه السلام ) فلما وصلنا إلى سامرا . . . فإذا نحن بالمتاع كما وعيناه وشددناه لم يتغير ) .
ومهما يكن ، فإن مقام الإمام ( عليه السلام ) ومعجزاته أبلغ من هذه وأكبر .
معجزاته التي رواها أبو هاشم الجعفري
قال السيد الخوئي في معجمه ( 8 / 122 ) : ( داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، أبو هاشم الجعفري ( رحمه الله ) : كان عظيم المنزلة عند الأئمة ( عليهم السلام ) شريف القدر ، ثقة ، من أهل بغداد ، وقد شاهد جماعة منهم : الرضا والجواد والهادي والعسكري وصاحب الأمر ، وقد روى عنهم كلهم ، وله أخبار ومسائل ، وله شعر جيد فيهم ) .
وفي المناقب ( 3 / 525 ) : ( ومن ثقاته علي بن جعفر ، قيَّمٌ لأبي الحسن ، وأبو هاشم داود بن القاسم الجعفري ، وقد رأى خمسة من الأئمة ) .
وقد ذكرنا في سيرة الإمام الهادي ( عليه السلام ) موقفه مع حاكم بغداد ابن طاهر ، عندما أراد صلب رأس الثائر يحيى بن عمر العلوي . قال الطبري ( 7 / 427 ) : ( فدخل عليه داود بن القاسم أبو هاشم الجعفري فيمن دخل ، فسمعهم يهنونه فقال : أيها الأمير إنك لتُهنأ بقتل رجل لو كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حياً لعُزِّيَ به !
فما رد عليه محمد بن عبد الله شيئاً ، فخرج أبو هاشم الجعفري وهو يقول :
يا بني طاهر كُلُوهُ وَبِيّاً * إن لحمَ النبيِّ غيرُ مَرِيِّ
إن وتراً يكونُ طالبهُ الله * لوترٌ نجاحُهُ بالحرِيِّ ) .
وآل طاهر أسرة قديمة تنتسب إلى أمراء الفرس الأولين ، نبغ منها في عهد بني العباس طاهر بن الحسين ، قاد جيش المأمون ودخل بغداد وقتل أخاه ووطد ملكه ، فولاه خراسان وأطلق يده فيها .
ويظهر أن بني طاهر كانوا كالعباسيين يعتقدون بصدق النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فقد روى أبو الفرج أن محمد بن طاهر والي بغداد تشاءم من قتل يحيى بن عمر العلوي ، فأرسل عائلته إلى خراسان : « وأمر محمد بن عبد الله حينئذ أخته ونسوة من حرمه بالشخوص إلى خراسان ، وقال : إن هذه الرؤس من قتلى أهل هذا البيت لم تدخل بيت قوم قط إلا خرجت منه النعمة ، وزالت عنه الدولة ، فتجهزن للخروج » ! « مقاتل الطالبيين / 423 » .
وبالفعل جاءهم الشؤم في الصراعات بين خلفاء بني عباس ، وانتهت دولتهم بعد قتلهم يحيى فما انتعشوا بعد ذلك ! « نثر الدرر : 1 / 265 » .
وفي مستدرك سفينة البحار ( 5 / 228 ) أن أبا هاشم الجعفري توفي سنة 261 ( رحمه الله ) ، بعد أن تشرف برؤية الإمام المهدي صلوات الله عليه .
وقد روى أبو هاشم عدداً من معجزات الإمام الحسن العسكري ( عليه السلام ) ، منها :
في الكافي ( 1 / 512 ) : ( عن أبي هاشم الجعفري قال : دخلت على أبي محمد ( عليه السلام ) يوماً وأنا أريد أن أسأله ما أصوغ به خاتماً أتبرك به ، فجلست وأنسيت ما جئت له ، فلما ودعت ونهضت رمى إليَّ بالخاتم فقال : أردت فضة فأعطيناك خاتماً ، ربحت الفص والكرا ، هناك الله يا أبا هاشم .
فقلت : يا سيدي ، أشهد أنك ولي الله وإمامي الذي أدين الله بطاعته ، فقال : غفر الله لك يا أبا هاشم ) .
في الخرائج للقطب الراوندي ( 2 / 682 ) والثاقب لابن حمزة / 577 : ( عن أبي هاشم الجعفري قال : كنت في الحبس مع جماعة ، فحُبس أبو محمد ( عليه السلام ) وأخوه جعفر ، فحففنا به وقبلت وجه الحسن ، وأجلسته على مُضََّربَةٍ ( بساط مخطط ) كانت تحتي ، وجلس جعفر قريباً منه . فقال جعفر : واشطناه بأعلى صوته يعني جارية له ، فزجره أبو محمد وقال له : أسكت . وإنهم رأوا فيه أثر السكر ! وكان المتولي لحبسه صالح بن وصيف ، وكان معنا في الحبس رجل جُمحي يدعي أنه علوي ، فالتفت أبو محمد ( عليه السلام ) وقال : لولا أن فيكم من ليس منكم ، لأعلمتكم متى يفرج الله عنكم ، وأومأ إلى الجمحي فخرج ، فقال أبو محمد : هذا الرجل ليس منكم فاحذروه ، وإن في ثيابه قصة قد كتبها إلى السلطان يخبره بما تقولون فيه !
فقام بعضهم ففتش ثيابه فوجد فيها القصة يذكرنا فيها بكل عظيمة ، ويعلمه على أنا نريد أن ننقب الحبس ونهرب !
ومنها : ما قال أبو هاشم : إن الحسن ( عليه السلام ) كان يصوم ، فإذا أفطرأكلنا معه مما كان يحمله إليه غلامه في جونة مختومة ، وكنت أصوم معه ، فلما كان ذات يوم ضعفت فأفطرت في بيت آخر على كعكة وما شعر بي أحد ثم جئت وجلست معه فقال لغلامه : أطعم أبا هاشم شيئاً فإنه مفطر ، فتبسمت فقال : مايضحكك يا أبا هاشم ؟ إذا أردت القوة فكل اللحم فإن الكعك لا قوة فيه . فقلت : صدق الله ورسوله وأنتم عليكم السلام . فأكلت فقال : أفطر ثلاثاً فإن المنة ( القوة ) لا ترجع لمن أنهكه الصوم في أقل من ثلاث . فلما كان في اليوم الذي أراد الله أن يفرج عنا ، جاءه الغلام فقال : يا سيدي أحمل فطورك ؟ فقال : إحمل وما أحسبنا نأكل منه . فحمل طعام الظهر وأطلق عند العصر عنه وهو صائم فقال : كلوا هنأكم الله ) .
في كشف الغمة ( 3 / 220 ) : ( عن محمد بن حمزة السروري قال : كتبت على يد أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري ، وكان لي مواخياً ، إلى أبي محمد ، أسأله أن يدعو لي بالغنى ، وكنت قد أملقت ، فأوصلها وخرج الجواب على يده : أبشر فقد جاءك الله تبارك وتعالى بالغنى ، مات ابن عمك يحيى بن حمزه وخلف مائة ألف درهم ، وهي واردةٌ عليك فاشكر الله ، وعليك بالإقتصار وإياك والإسراف فإنه من فعل الشيطنة .
فورد عليَّ بعد ذلك قادم معه سفاتج من حران ، وإذا ابن عمي قد مات في اليوم الذي رجع إليَّ أبو هاشم بجواب مولاي أبي محمد ، فاستغنيت وزال الفقر عني كما قال سيدي ، فأديت حق الله في مالي وبررت إخواني وتماسكت بعد ذلك ، وكنت رجلاً مبذراً ، كما أمرني أبو محمد ( عليه السلام ) ) .
إثبات الوصية للمسعودي ( 1 / 248 ) : ( شكوت إلى أبي محمد ( عليه السلام ) ضيق الحبس وثقل القيد ، فكتب إليَّ : تصلي اليوم الظهر في منزلك ، فأخرجت في وقت الظهر ، فصليت في منزلي كما قال ( عليه السلام ) ) .
إثبات الوصية للمسعودي ( 1 / 249 ) : ( كتبت إلى أبي محمد ( عليه السلام ) حين أخذ المهتدي : يا سيدي الحمد لله الذي شغله عنا ، فقد بلغني أنه يتهدد شيعتك ويقول والله لأجلينهم عن جديد الأرض ! فوقع بخطه ( عليه السلام ) : ذاك أقصر لعمره ، عُدَّ من يومك هذا خمسة أيام ، فإنه يقتل في يوم السادس بعد هوان واستخفاف وذل يلحقه ! فكان كما قال ( عليه السلام ) ) .
إثبات الوصية / 249 : ( قال : سأل محمد بن صالح الأرمني أبا محمد ( عليه السلام ) عن قول الله عز وجل : يَمْحُواْ اللَّه مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ، فقال : هل يمحوإلا ما كان ، وهل يثبت إلا ما لم يكن ؟ فقلت في نفسي : هذا خلاف ما يقول هشام الفوطي إنه لا يعلم الشئ حتى يكون . فنظر إليَّ شزراً وقال : تعالى الله الجبار العالم بالشئ قبل كونه ، الخالق إذ لا مخلوق ، والرب إذ لا مربوب ، والقادر قبل المقدور عليه . فقلت : أشهد أنك ولي الله وحجته ، والقائم بقسطه ، وأنك على منهاج أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ) .
في الثاقب في المناقب لابن حمزة / 217 ، والخرائج ( 1 / 421 ) : ( قال أبو هاشم : إن أبا محمد ( عليه السلام ) ركب يوماً إلى الصحراء فركبت معه ، فبينا نسير وهو قدامي وأنا خلفه ، إذ عرض لي فكر في دَيْن كان عليَّ قد حان أجله ، فجعلت أفكر من أي وجه قضاؤه . فالتفت إليَّ فقال : يا أبا هاشم ، الله يقضيه . ثم انحنى على قربوس سرجه فخط بسوطه خطة في الأرض وقال : إنزل فخذ واكتم ، فنزلت فإذا سبيكة ذهب ! قال : فوضعتها في خفي وسرنا ، فعرض لي الفكر فقلت : إن كان فيها تمام الدَّيْن وإلا فإني أرضي صاحبه بها ، ويجب أن ننظرالآن في وجه نفقة الشتاء وما نحتاج إليه فيه من كسوة وغيرها . فالتفت إليَّ ثم انحنى ثانيةً وخط بسوطه خطةً في الأرض مثل الأولى ، ثم قال : إنزل ، فخذ واكتم ، قال : فنزلت وإذا سبيكة فضة ، فجعلتها في خفي الآخر وسرنا يسيراً ، ثم انصرف إلى منزله وانصرفت إلى منزلي ، فجلست فحسبت ذلك الدين ، وعرفت مبلغه ، ثم وزنت سبيكة الذهب ، فخرجت بقسط ذلك الدين ، ما زادت ولا نقصت ! ثم نظرت فيما نحتاج إليه لشتوتي من كل وجه ، فعرفت مبلغه الذي لم يكن بد منه على الإقتصاد ، بلا تقتير ولا إسراف ، ثم وزنت سبيكة الفضة فخرجت على ما قدرته ما زادت ولا نقصت ) !
في الكافي ( 1 / 507 ) : ( عن أبي هاشم الجعفري قال : شكوت إلى أبي محمد ( عليه السلام ) فحك بسوطه الأرض ، قال : وأحسبه غطاه بمنديل وأخرج خمس مائة دينار ، فقال : يا أبا هاشم : خذ واعذرنا . .
حدثني أبو هاشم الجعفري قال : شكوت إلى أبي محمد ( عليه السلام ) ضيق الحبس وكتل القيد ، فكتب إلي أنت تصلي اليوم الظهر في منزلك ، فأخرجت في وقت الظهر فصليت في منزلي كما قال ( عليه السلام ) .
وكنت مضيقاً فأردت أن أطلب منه دنانير في الكتاب فاستحييت ، فلما صرت إلى منزلي وجه إلي بمائة دينار وكتب إلي : إذا كانت لك حاجة فلا تستحِ ولا تحتشم واطلبها ، فإنك ترى ما تحب إن شاء الله ) .
في الكافي ( 1 / 495 ) : ( عن داود بن القاسم الجعفري قال : دخلت على أبي جعفر ( عليه السلام ) ومعي ثلاث رقاع غير معنونة ، واشتبهت عليَّ فاغتممت فتناول إحداهما وقال : هذه رقعة زياد بن شبيب ، ثم تناول الثانية ، فقال هذه رقعة فلان ، فبهتُّ أنا ، فنظر إليَّ فتبسم .
قال : وأعطاني ثلاث مائة دينار وأمرني أن أحملها إلى بعض بني عمه وقال : أما إنه سيقول لك : دلني على حريف يشتري لي بها متاعاً ، فدله عليه ، قال : فأتيته بالدنانير فقال لي : يا أبا هاشم دلني على حريف يشتري لي بها متاعاً ، فقلت : نعم . قال : وكلمني جَمَّالٌ أن أكلمه له يدخله في بعض أموره ، فدخلت عليه لأكلمه له فوجدته يأكل ومعه جماعة ولم يمكني كلامه ، فقال ( عليه السلام ) : يا أبا هاشم كل ووضع بين يدي ثم قال ابتداء منه من غير مسألة : يا غلام أنظر إلى الجمال الذي أتانا به أبو هاشم ، فضمه إليك !
قال : ودخلت معه ذات يوم بستاناً فقلت له : جعلت فداك إني لمولع بأكل الطين فادع الله لي ، فسكت ثم قال لي بعد ثلاثة أيام ابتداءً منه : يا أبا هاشم قد أذهب الله عنك أكل الطين . قال أبو هاشم : فما شئ أبغض إليَّ منه اليوم ) .
وفي إعلام الورى ( 2 / 142 ) : ( عن أبي هاشم قال : كتب إليه بعض مواليه يسأله أن يعلمه دعاءً فكتب إليه : أدع بهذا الدعاء : يا أسمع السامعين ، ويا أبصر المبصرين ، ويا أنظر الناظرين ، ويا أسرع الحاسبين ، ويا أرحم الراحمين ، ويا أحكم الحاكمين ، صلِّ على محمد وآل محمد وأوسع لي في رزقي ، ومُدَّ لي في عمري ، وامنن عليَّ برحمتك ، واجعلني ممن تنتصر به لدينك ، ولا تستبدل به غيري . قال أبو هاشم : فقلت في نفسي : اللهم اجعلني في حزبك وفي زمرتك .
فأقبل عليَّ أبو محمد ( عليه السلام ) فقال : أنت في حزبه وفي زمرته إن كنت بالله مؤمناً ، ولرسوله مصدقاً ، وبأوليائه عارفاً ، ولهم تابعاً ، فأبشر ، ثم أبشر ) .
وفي مناقب آل أبي طالب ( 3 / 528 ) : ( أبو هاشم الجعفري ، عن داود بن الأسود وَقَّاد حمام أبي محمد ( عليه السلام ) قال : دعاني سيدي أبو محمد فدفع إليَّ خشبة كأنها رجل باب مدورة طويلة ، ملء الكف ، فقال : صِرْ بهذه الخشبة إلى العمري ، فمضيت فلما صرت إلى بعض الطريق عرض لي سَقَّاءٌ معه بغل ، فزاحمني البغل على الطريق ، فناداني السقاء ضَحِّ على البغل فرفعت الخشبة التي كانت معي فضربت البغل فانشقت ، فنظرت إلى كسرها فإذا فيها كتب ، فبادرت سريعاً فرددت الخشبة إلى كمي فجعل السقاء يناديني ويشتمني ويشتم صاحبي ، فلما دنوت من الدار راجعاً استقبلني عيسى الخادم عند الباب فقال : يقول لك مولاي أعزه الله : لم ضربت البغل وكسرت رجل الباب ؟ فقلت له : يا سيدي لم أعلم ما في رجل الباب ، فقال : ولم احتجت أن تعمل عملاً تحتاج أن تعتذر منه ! إياك بعدها أن تعود إلى مثلها ، وإذا سمعت لنا شاتماً فامض لسبيلك التي أمرت بها ، وإياك أن تجاوب من يشتمنا أو تعرفه من أنت ، فإننا ببلد سوء ومصر سوء ! وامض في طريقك فإن أخبارك وأحوالك ترد الينا ، فاعلم ذلك ) !
ملاحظات
1 . معنى وَقَّاد الحمام : الخادم الذي يهئ حطب الحمام ويُحميه ، فقد كانت حماماتهم غرفة منفصلة عن مبنى البيت ، وكانوا يوقدون تحتها النار حتى تكون أرضها حارة ، مضافاً إلى حوض مائها .
2 . أرسل الإمام ( عليه السلام ) هذه الرسائل مع هذا الخادم إلى وكيله العمري ، ليرسلها إلى أصحابها في بلادهم . ومعناه أن رقابة الخليفة كانت شديدة على العمري ، ولم يكن يستطيع المجئ إلى بيت الإمام ( عليه السلام ) بحريته !
3 . لعل العَمْري أرسل الرسائل إلى الإمام ( عليه السلام ) في تلك العلبة التي تشبه رجل الباب لإخفائها عن رقابة الخليفة . ورِجْلُ الباب خشبة مدورة يغرز رأسها في عتبة الباب السفلى ، ومثلها في العليا ليدور عليها الباب عند فتحه وغلقه .
4 . متابعة الإمام لهذا الخادم يدل على أهمية تلك الرسائل ، وعلى الضرر الكبير لو انكشفت ووصلت أسماء أصحابها أو مضامينها إلى الخليفة .
5 . قول الإمام ( عليه السلام ) أو وكيله للخادم : ( وإياك أن تجاوب من يشتمنا ، أو تُعرفه من أنت ، فإننا ببلد سوء ومصر سوء ، وامض في طريقك ) .
يدل على أن البلد يستعمل بمعنى المدينة ، والمصر بمعنى المنطقة والدولة . وعلى أن سامراء ومحيطها كان سيئاً لا التزام عند أهله بقيم الدين ، ولا معرفة لهم بحق أهل البيت ( عليه السلام ) ، بل هم يتزلفون إلى السلطة . .
6 . قوله ( عليه السلام ) : ( فإن أخبارك وأحوالك تَرِدُ الينا ) ! يدل على أن الإمام ( عليه السلام ) يستطيع أن يراقب من يؤدي مهمته ، وهذه عقيدتنا في الأئمة المعصومين ( عليهم السلام ) .
ففي بصائر الدرجات / 325 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إن الإمام مؤيدٌ بروح القدس ، وبينه وبين الله عز وجل عمود من نور ، يرى فيه أعمال العباد ، وكلما احتاج إليه لدلالةٍ اطلع عليه ) .
( إذا أراد الإمام أن يعلم شيئاً أعلمه الله ذلك ) . ( الخصال / 528 ) .
أعاذ الله أولياءه من لمة الشيطان
في الكافي ( 1 / 509 ) : ( عن الأقرع قال : كتبت إلى أبي محمد أسأله عن الإمام هل يحتلم ؟ وقلت في نفسي بعدما فصل الكتاب : الاحتلام شيطنة ، وقد أعاذ الله تبارك وتعالى أولياء ه من ذلك ، فورد الجواب : حال الأئمة في المنام حالهم في اليقظة ، لا يغير النوم منهم شيئاً ، وقد أعاذ الله أولياءه من لمة الشيطان ، كما حدثتك نفسك ) .
كن حلساً من أحلاس بيتك
في الخرائج ( 1 / 451 ) : ( قال علي بن محمد بن زياد : إنه خرج إليه توقيع أبي محمد ( عليه السلام ) فيه : فكن حلساً من أحلاس بيتك . قال : فنابتني نائبة فزعت منها ، فكتبت إليه : أهي هذه ؟ فكتب : لا ، أشد من هذه ! فطلبت بسبب جعفر بن محمود ونودي عليَّ : من أصابني فله مائة ألف درهم ) .
أقول : علي بن محمد بن زياد الصيمري ، من وجهاء الشيعة وشخصياتهم ، وكان صهر رئيس وزراء العباسيين .
قال عنه الوحيد في تعليقته / 258 : ( قوله علي بن محمد الصيمري : الآتي ترحم عليه الصدوق ، وفي كمال الدين أنه سأل من الصاحب كفناً فبعث اليه قبل موته بشهر ، وفي الكافي بدل بشهر بأيام ، وفيه أيضاً السائل علي بن زياد الصيمري ، وهو قرينة الاتحاد كما ذكره المصنف ، وفي مهج الدعوات لابن طاوس ( رحمه الله ) أن كتاب الأوصياء تأليف السعيد علي بن محمد بن زياد الصيمري ، إلى أن قال : ووجد هذا الكتاب في خزانة مصنفه بعد وفاته سنة ثمانين ومأتين ، وكان رضي الله عنه قد لحق مولانا الهادي ومولانا العسكري صلوات الله عليهما وخدمهما ، وكاتبا ودفعا اليه توقيعات كثيرة انتهى .
وربما يعبر عنه بعلي بن محمد الصيمري ، وفيه أيضاً أنه صهر جعفر بن محمود الوزير ، على ابنته أم أحمد وإنه كان رجلاً من وجوه الشيعة وثقاتهم ومقدماً في الكتابة والعلم والأدب والمعرفة ، فثبت توثيقه مضافاً إلى تجليله وتعظيمه وأنه من خدامهما ( عليهما السلام ) وقد أكثر من الترضي عليه ) .
وكان صهر جعفر بن محمود وزير المعتز والمهتدي ، وقد غضب عليه المعتز في صراعه مع الأتراك وعزله ، وغضب معه على صهره الصيمري ، وجعل جائزة لمن وجده مئة ألف درهم . ولهذا نبهه الإمام العسكري ( عليه السلام ) قبل الحادثة .
قال الصفدي في الوافي ( 11 / 118 ) : ( جعفر بن محمود أبو الفضل الإسكافي ولي الوزارة للمعتز حين خرج المستعين إلى بغداد ، وبايع الأتراك المعتز بسر من رأى في المحرم سنة إحدى وخمسين ومئتين ، ولم يكن للوزير أدبٌ وكان ثقيلاً على قلب المعتز ، وكان يصبر عليه لميل الأتراك إليه وكان وزيره أيام الفتنة ، وبعد أن صحت له الخلافة أشهراً ، وكان المغاربة يبغضونه لحب الأتراك إياه ، حتى وقعت بينهم حروب وشكوه إلى المعتز فقال جعفر يضرب بينكم ، فعزله في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وخمسين ومئتين ، ونفاه إلى تكريت . وكان جعفر من كبار الشيعة .
ثم إنه ولي الوزارة للمهتدي حين ولي الخلافة ، وأخذ له البيعة على الناس فوزر له مُدَيْدَةً ، ثم إن الهاشميين دخلوا على المهتدي وقالوا له إنه رافضي وإن أصحابه يكاتبون العلوية بخراسان بأخبار المملكة ، فنفاه إلى بغداد وحبسه . وفي جعفر يقول بعض الكُتاب :
لسنا نؤملُ جعفراً لسَدادِ * بل جعفرٌ أصلٌ لكلِّ فسادِ
مترفضٌ بالنقص لا ببصيرةٍ * لا يهتدي جهلاً لأمر رشاد
يُزري على لبس السواد فوجهه * من أجل ذاك مربَّدٌ بسواد
قل للخليفة يا ابن عم محمد * كن من خيانته على أرصاد
لا تركننَّ إلى لعينٍ مبغضٍ * يختص غيركم بصفو وداد
شرد به يا ابن الخلائف وانْفِهِ * لأشَطِّ قِطْرٍ نازعٍ وبلاد
وتوقَّ آراءً له معكوسةً * تمضي بأخبث نيةٍ وعناد
وكان إذا أراد أن يولي أحداً ناحية قال في مجلسه : أريد من أوليه ناحية كذا ، ثم يتقدم إلى أصحاب الأخبار أن يكاتبوه بقول الناس ومن الذي يرجفون له بها ، فإن أرجفوا لواحد ولاه ، وإن أرجفوا لجماعة اختار منهم واحداً ، وكان يقول : من مروءة الكاتب كمال آلة دواته . وتوفي في المحرم سنة ثمان وستين ومئتين ) .
أقول : الظاهر أن سبب عزل جعفر بن محمود الإسكافي سياسي ، وليس لأنه شيعي ، وذلك لأن المهتدي عينه بعدها رئيس وزرائه .
قال الذهبي في تاريخ الإسلام وهو يمدح المهتدي ( 19 / 328 ) : ( وكان شديد الإشراف على أمر الدواوين ، يجلس بنفسه ، ويجلس الكتاب بين يديه فيعملون الحساب . وكان لا يخل بالجلوس الخميس والاثنين . وقد ضرب جماعة من الرؤساء . ونفى جعفر بن محمود إلى بغداد ، وكره مكانه لأنه نسب عنده إلى الرفض ) .
وكانت خلافة المعتز « 252 - 255 » والمهتدي « 255 - 256 » فإن كان القبض على صهره الصيمري بعد عزله الأول ، فهو في حياة الإمام الهادي ( عليه السلام ) ، وإن كان في عزله الثاني فهو في عصر المهتدي بعد وفاة الإمام الهادي ( عليه السلام ) .
وفي كلتا الحالتين فهي كرامة للإمام العسكري ( عليه السلام ) لأنه حذره قبل الحادثة .
إن أجاب عن كتاب بلا مداد !
في مناقب آل أبي طالب ( 3 / 538 ) : ( محمد بن عياش قال : تذاكرنا آيات الإمام فقال ناصبي : إن أجاب عن كتاب بلا مداد علمت أنه حق ! فكتبنا مسائل وكتب الرجل بلا مداد على ورق ، وجُعل في الكتب ، وبعثنا إليه ، فأجاب عن مسائلنا ، وكتب على ورقه اسمه واسم أبويه ، فدهش الرجل ، فلما أفاق اعتقد الحق ) .
أبرأ الأبرص
في نوادر المعجزات / 188 : ( قال أحمد بن علي : دعانا عيسى بن الحسن القمي أنا وأبا علي وكان أهوجاً ( كالأحمق ) فقال لنا : أدخلني ابن عمي أحمد بن إسحاق إلى أبي الحسن ( عليه السلام ) فرأيته وكلمه بكلام لم أفهمه . فقال له : جعلني الله فداك ، هذا ابن عمي عيسى بن الحسن وبه بياض في ذراعه كأمثال الجوز . قال : فقال لي : تقدم يا عيسى فتقدمت .
قال فقال لي : أخرج ذراعك ، فأخرجت ذراعي فمسح عليها ، وتكلم بكلام خفي طوَّل فيه ، ثم قال في آخره ثلاث مرات : بسم الله الرحمن الرحيم ، ثم التفت إلى أحمد بن إسحاق فقال له : يا أحمد ، كان علي بن موسى ( عليهما السلام ) يقول : بسم الله الرحمن الرحيم أقرب إلى الاسم الأعظم من بياض العين إلى سوادها . ثم قال : يا عيسى ، قلت : لبيك . قال : أدخل يدك في كمك ثم أخرجها ، فأدخلتها ثم أخرجتها وليس في يدي قليل ولا كثير من ذلك البياض ) !
كان يعرف لغات الناس
الكافي ( 1 / 509 ) : ( إسحاق ، عن أحمد بن محمد بن الأقرع قال : حدثني أبو حمزة نصير الخادم قال : سمعت أبا محمد غير مرة يكلم غلمانه بلغاتهم : ترك وروم وصقالبة ، فتعجبت من ذلك وقلت : هذا ولد بالمدينة ولم يظهر لأحد حتى مضى أبو الحسن ( عليه السلام ) ولا رآه أحد فكيف هذا ؟
أحدث نفسي بذلك ، فأقبل علي فقال : إن الله تبارك وتعالى بين حجته من سائر خلقه بكل شئ ، ويعطيه اللغات ومعرفة الأنساب والآجال والحوادث ، ولولا ذلك لم يكن بين الحجة والمحجوج فرق ) .
الاكثر قراءة في مناقب الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة