شهادة ابن رئيس وزراء معاصر للإمام ( عليه السلام )
روى في الكافي « 1 / 503 » حديثاً صحيحاً يرسم صورة للإمام العسكري ( عليه السلام ) وأخيه جعفر ، بشهادة ابن رئيس وزراء الخلافة العباسية ، قال :
« كان أحمد بن عبيد الله بن خاقان ، على الضياع والخراج بقم ، فجرى في مجلسه يوماً ذكر العلوية ومذاهبهم ، وكان شديد النُّصْب فقال :
ما رأيتُ ولا عرفتُ بسر من رأى رجلاً من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا ، في هَدْيه وسكونه وعفافه ونُبله وكرمه ، عند أهل بيته وبني هاشم ، وتقديمهم إياه على ذوي السن منهم والخطر ، وكذلك القواد والوزراء وعامة الناس . فإني كنت يوماً قائماً على رأس أبي « رئيس الوزراء » وهو يوم مجلسه للناس ، إذ دخل عليه حجابه فقالوا : أبو محمد ابن الرضا بالباب ، فقال بصوت عال : ائذنوا له ، فتعجبت مما سمعت منهم أنهم جسروا يكنون رجلاً على أبي بحضرته ، ولم يكن عنده إلا خليفة أو ولي عهد ، أو من أمر السلطان أن يكنى !
فدخل رجل أسمر ، حسن القامة ، جميل الوجه ، جيد البدن ، حدث السن ، له جلالة وهيبة ، فلما نظر إليه أبي قام يمشي إليه خُطىً ، ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم والقواد ، فلما دنا منه عانقه وقبَّل وجهه وصدره ، وأخذ بيده وأجلسه على مصلاه الذي كان عليه ، وجلس إلى جنبه مقبلاً عليه بوجهه وجعل يكلمه ويفديه بنفسه ، وأنا متعجبٌ مما أرى منه ، إذ دخل الحاجب فقال : الموفق قد جاء وكان الموفق إذا دخل على أبي ، تقدم حجابه وخاصة قواده ، فقاموا بين مجلس أبي وبين باب الدار سماطين إلى أن يدخل ويخرج ، فلم يزل أبي مقبلاً على أبي محمد يحدثه حتى نظر إلى غلمان الخاصة قال حينئذ : إذا شئت جعلني الله فداك ، ثم قال لحجابه : خذوا به خلف السماطين حتى لا يراه هذا ، يعني الموفق ، فقام وقام أبي وعانقه ومضى .
فقلت لحُجَّاب أبي وغلمانه : ويلكم من هذا الذي كنيتموه على أبي ، وفعل به أبي هذا الفعل ؟ فقالوا : هذا علويٌّ يقال له الحسن بن علي ، يُعرف بابن الرضا ، فازددت تعجباً ، ولم أزل يومي ذلك قلقاً متفكراً في أمره وأمر أبي وما رأيت فيه حتى كان الليل ، وكانت عادته أن يصلي العتمة ثم يجلس فينظر فيما يحتاج إليه من المؤامرات « المشاورات » وما يرفعه إلى السلطان ، فلما صلى وجلس ، جئت فجلست بين يديه وليس عنده أحد فقال لي : يا أحمد لك حاجة ؟ قلت : نعم يا أبَهْ فإن أذنت لي سألتك عنها ؟ فقال : قد أذنت لك يا بني فقل ما أحببت ، قلت : يا أبه من الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والكرامة والتبجيل وفديته بنفسك وأبويك ؟ فقال : يا بني ذاك إمام الرافضة ، ذاك الحسن بن علي المعروف بابن الرضا . فسكتَ ساعة ثم قال : يا بني لو زالت الإمامة عن خلفاء بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غير هذا ، وإن هذا ليستحقها في فضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه . ولو رأيت أباه رأيت رجلاً جزلاً نبيلاً فاضلاً !
فازددت قلقاً وتفكراً وغيظاً على أبي وما سمعت منه ، واستزدته في فعله وقوله فيه ما قال ، فلم يكن لي همة بعد ذلك إلا السؤال عن خبره والبحث عن أمره ، فما سألت أحداً من بني هاشم والقواد والكتاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس ، إلا وجدته عنده في غاية الإجلال والإعظام والمحل الرفيع والقول الجميل ، والتقديم له على جميع أهل بيته ومشايخه ، فعظم قدره عندي ، إذ لم أر له ولياً ولا عدواً إلا وهو يحسن القول فيه والثناء عليه !
فقال له بعض من حضر مجلسه من الأشعريين : يا أبا بكر فما خبر أخيه جعفر ؟ فقال : ومن جعفر فتسأل عن خبره ؟ أوَيُقْرَنُ بالحسن جعفر ، معلنُ الفسق ، فاجرٌ ماجنٌ شريب للخمور ، أقل من رأيته من الرجال وأهتكهم لنفسه ، خفيفٌ قليلٌ في نفسه ! ولقد ورد على السلطان وأصحابه في وقت وفاة الحسن بن علي ما تعجبت منه وما ظننت أنه يكون ! وذلك أنه لما اعتل بعث إلى أبي أن ابن الرضا قد اعتل ، فركب من ساعته فبادر إلى دار الخلافة ، ثم رجع مستعجلاً ومعه خمسة من خدم أمير المؤمنين كلهم من ثقاته وخاصته ، فيهم نحرير ، فأمرهم بلزوم دار الحسن وتعرف خبره وحاله ، وبعث إلى نفر من المتطببين ، فأمرهم بالاختلاف إليه وتعاهده صباحاً ومساءً ، فلما كان بعد ذلك بيومين أو ثلاثة ، أُخبر أنه قد ضعف فأمر المتطببين بلزوم داره ، وبعث إلى قاضي القضاة فأحضره مجلسه ، وأمره أن يختار من أصحابه عشرة ممن يوثق به في دينه وأمانته وورعه ، فأحضرهم فبعث بهم إلى دار الحسن وأمرهم بلزومه ليلاً ونهاراً ، فلم يزالوا هناك حتى توفي ، فصارت سر من رأى ضجة واحدة ، وبعث السلطان إلى داره من فتشها وفتش حجرها ، وختم على جميع ما فيها ، وطلبوا أثر وُلده وجاؤوا بنساء يعرفن الحمل فدخلن إلى جواريه ينظرن إليهن ، فذكر بعضهن أن هناك جارية بها حمل فجعلت في حجرة ، ووكل بها نحرير الخادم وأصحابه ونسوة معهم ، ثم أخذوا بعد ذلك في تهيئته ، وعطلت الأسواق وركبت بنو هاشم والقواد وأبي وسائر الناس إلى جنازته فكانت سر من رأى يومئذ شبيهاً بالقيامة !
فلما فرغوا من تهيئته ، بعث السلطان إلى أبي عيسى بن المتوكل ، فأمره بالصلاة عليه ، فلما وضعت الجنازة للصلاة عليه ، دنا أبو عيسى منه فكشف عن وجهه فعرضه على بني هاشم من العلوية والعباسية والقواد والكتاب والقضاة والمعدلين ، وقال : هذا الحسن بن علي بن محمد بن الرضا ، مات حتف أنفه على فراشه ، حضره من حضره من خدم أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان ، ومن القضاة فلان وفلان ، ومن المتطببين فلان وفلان ، ثم غطى وجهه وأمر بحمله ، فحمل من وسط داره ودفن في البيت الذي دفن فيه أبوه ، فلما دفن أخذ السلطان والناس في طلب ولده ، وكثر التفتيش في المنازل والدور ، وتوقفوا عن قسمة ميراثه ، ولم يزل الذين وكلوا بحفظ الجارية التي توهم عليها الحمل لازمين حتى تبين بطلان الحمل ، فلما بطل الحمل عنهن قسم ميراثه بين أمه وأخيه جعفر ، وادعت أمه وصيته ، وثبت ذلك عند القاضي .
والسلطان على ذلك يطلب أثر ولده .
فجاء جعفر بعد ذلك إلى أبي فقال : اجعل لي مرتبه أخي وأوصل إليك في كل سنة عشرين ألف دينار ، فزبره أبي وأسمعه وقال له : يا أحمق السلطان جرد سيفه في الذين زعموا أن أباك وأخاك أئمة ليردهم عن ذلك ، فلم يتهيأ له ذلك ، فإن كنت عند شيعة أبيك أو أخيك إماماً ، فلا حاجة بك إلى السلطان أن يرتبك مراتبهما ولا غير السلطان . وإن لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها بنا ، واستقله أبي عند ذلك واستضعفه ، وأمر أن يحجب عنه ، فلم يأذن له في الدخول عليه حتى مات أبي ، وخرجنا وهو على تلك الحال ، والسلطان يطلب أثر ولد الحسن بن علي » .
شهادة سائس عند الإمام ( عليه السلام )
روى الطبري الشيعي في دلائل الإمامة / 428 ، حديثاً عن خادم للإمام العسكري ( عليه السلام ) ، قال : ( أخبرني أبو الحسين محمد بن هارون بن موسى ، قال : حدثني أبي رضي الله عنه قال : كنت في دهليز لأبي علي محمد بن همام ( رحمه الله ) على دكة وصفها ، إذ مر بنا شيخ كبير عليه دراعة ، فسلم على أبي علي محمد بن همام فرد ( عليه السلام ) ومضى ، فقال : لي تدري من هذا ؟ فقلت : لا .
فقال : شَاكِريٌّ لمولانا أبي محمد الحسن بن علي ( عليه السلام ) ، أفتشتهي أن تسمع من أحاديثه عنه شيئاً ؟ قلت : نعم . فقال لي : أمعك شئ تعطيه ؟ فقلت : معي درهمان صحيحان . فقال : هما يكفيانه فادعه . فمضيت خلفه فلحقته بموضع كذا ، فقلت : أبو علي يقول لك : تنشط للمسير إلينا ؟ فقال : نعم . فجاء إلى أبي علي محمد بن همام فجلس إليه ، فغمزني أبو علي أن أسلم إليه الدرهمين ، فسلمتهما إليه فقال لي : ما يحتاج إلى هذا ، ثم أخذهما ، فقال له أبو علي : يا أبا عبد الله محمد ، حدثنا عن أبي محمد ( عليه السلام ) فقال : كان أستاذي صالحاً من بين العلويين ، لم أر قط مثله ، وكان يركب بسرج صفته بزيون مسكي وأزرق ( قماش ديباج على حمرة أو على زرقة ) وكان يركب إلى دار الخلافة بسر من رأى في كل اثنين وخميس .
قال أبو عبد الله محمد الشاكري : وكان يوم النوْبة ، يحضر من الناس شئ عظيم ، ويغص الشارع بالدواب والبغال والحمير والضجة ، فلا يكون لأحد موضع يمشي فيه ، ولا يدخل أحد بينهم .
قال : فإذا جاء أستاذي سكنت الضجة ، وهدأ صهيل الخيل ونهاق الحمير ، قال : وتفرقت البهائم حتى يصير الطريق واسعاً ، لا يحتاج أن يُتوقى من المزاحمة ، ثم يدخل فيجلس في مرتبته التي جعلت له .
فإذا أراد الخروج قام البوابون وقالوا : هاتوا دابة أبي محمد ، فسكن صياح الناس وصهيل الخيل ، وتفرقت الدواب حتى يركب ويمضي !
وقال الشاكري : واستدعاه يوماً الخليفة فشق ذلك عليه ، وخاف أن يكون قد سَعَى به إليه بعضُ من يحسده من العلويين والهاشميين على مرتبته ، فركب ومضى إليه ، فلما حصل في الدار قيل له : إن الخليفة قد قام ، ولكن اجلس في مرتبتك وانصرف . قال : فانصرف وجاء إلى سوق الدواب ، وفيها من الضجة والمصادمة واختلاف الناس شئ كثير ، قال : فلما دخل إليها سكنت الضجة بدخوله وهدأت الدواب ، فجلس إلى نخاس كان يشتري له الدواب ، فجئ له بفرس كبوس لا يقدر أحد أن يدنو منه ، فباعوه إياه بوكس فقال لي : يا محمد قم فاطرح السرج عليه فقمت وعلمت أنه لا يقول لي إلا ما لا يؤذيني ، فحللت الحزام وطرحت السرج عليه فهدأ ولم يتحرك ، وجئت لأمضي به فجاء النخاس فقال : ليس يباع ! فقال لي : سلمه إليهم ، قال : فجاء النخاس ليأخذه فالتفت إليه التفاتةً ذهب منه منهزماً . قال : وركب فمضينا فلحقنا النخاس وقال : صاحبه يقول : أشفقت من أن يرده ، فإن كان قد علم ما فيه من الكبس فليشتره . فقال له أستاذي : قد علمت . فقال : قد بعتك .
فقال لي : خذه ، فأخذته . قال : فجئت به إلى الإصطبل ، فما تحرك ولا آذاني ، ببركة أستاذي ، فلما نزل جاء إليه فأخذ بإذنه اليمنى فرقاه ، ثم أخذ بإذنه اليسرى فرقاه ، قال : فوالله ، لقد كنت أطرح الشعير له فأفرقه بين يديه فلا يتحرك ، هذا ببركة أستاذي .
قال أبو محمد : قال أبو علي بن همام : هذا الفرس يقال له الصؤول ، يزحم بصاحبه حتى يرجم به الحيطان ، ويقول على رجليه ويلطم صاحبه .
وقال محمد الشاكري : كان أستاذي أصلح من رأيت من العلويين والهاشميين ، ما كان يشرب هذا النبيذ ، وكان يجلس في المحراب ويسجد فأنام وانتبه وأنام وانتبه ، وهو ساجد .
وكان قليل الأكل ، كان يحضره التين والعنب والخوخ وما يشاكله ، فيأكل منه الواحدة والثنتين ، ويقول : شِلْ هذا يا محمد إلى صبيانكم . فأقول : هذا كله ! فيقول : خذه كله ، فما رأيت قط أشهى منه ) .
ملاحظات
1 . النَّصَّانِ المتقدمان صحيحا السند ، وهما غَنِيَّانِ بالمعلومات عن الإمام العسكري ( عليه السلام ) ، ويدلان على أن الربانية أبرز صفات شخصيته .
وهما يرقيان إلى درجة الوثائق التاريخية والاجتماعية ، لأنهما يعطيان أضواء على نظام الحكم والمجتمع في عصرهما .
2 . ذكرت رواية كمال الدين / 40 ، عن سعد الأشعري ، وقت حديث أحمد بن رئيس الوزراء فقالت : ( حضرنا في شعبان سنة ثمان وسبعين ومائتين وذلك بعد مضي أبي محمد الحسن بن علي العسكري ( عليهما السلام ) بثمانية عشرة سنة أو أكثر ، مجلس أحمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان . . )
وكذلك رواية الشيخ الطوسي في الفهرست / 82 ، قالت : ( أحمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان ، له مجلس يصف فيه أبا محمد الحسن بن علي ( عليهما السلام ) .
أخبرنا به ابن أبي جيد ، عن ابن الوليد ، عن عبد الله بن جعفر الحميري ، قال : حضرت وحضر جماعة من آل سعد بن مالك وآل طلحة ، وجماعة من التجار في شعبان لإحدى عشرة ليلة مضت منه سنة ثمان وسبعين ومائتين ، مجلس أحمد بن عبيد الله بكورة قم ، فجرى ذكر من كان بسر من رأى من العلوية وآل أبي طالب ، فقال أحمد بن عبيد الله : ما كان بسر من رأى رجل من العلوية مثل رجل رأيته يوماً عند أبي عبيد الله بن يحيى يقال له : الحسن بن علي . . ثم وصفه وساق الحديث ) .
3 . الموفق الذي قال أحمد إنه جاء إلى أبيه الوزير ، هو ابن المتوكل ، أخ المعتمد وقائد جيشه ، ويبدو أن الوزير لم يُرد أن يَعرف الموفق بوجود الإمام العسكري ( عليه السلام ) عنده ، لئلا يتهمه باللين مع أعداء الخلافة .
4 . الظاهر أن أحمد هو الولد الكبير للوزير عبيد الله بن يحيى بن خاقان ، لأنه أبو أحمد ، والمشهور أكثر أخوه محمد ، وكانت له وزارة بعد أبيه عند خلفاء بني العباس ، لكنه كان ضعيف الشخصية . وذكروا ابنه عبد الله بن محمد ، وأنه ولي الوزارة للمقتدر . ( الوافي : 17 / 257 ) .
وقد ترجمنا لأبيهم عبيد الله في سيرة الإمام الهادي ( عليه السلام ) ، وتوفي سنة 266 ( تاريخ دمشق : 38 / 148 ) وتجد ترجمة ابنه محمد في الوافي للصفدي ( 4 / 7 ) .
أما أحمد صاحب الحديث فقال عنه في الوافي ( 7 / 114 ) : ( أحمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان أبو بكر ، أخو محمد بن عبيد الله الوزير ، كان أديباً فاضلاً يرشح نفسه للوزارة ، أورد أبو محمد بن شيران في تاريخه هذين البيتين ، وذكر أنهما من قوله :
إنَّ للعنكبوتِ بيتاً وما لي * برضا الجودِ والمكارمِ بيتُ
كيف يبني بشطِّ دجلةَ من لَيَ * سَ له في السراجَ بالليلَ زيتُ
توفي سنة سبع وثلاث مائة ) .
5 . الأوصاف التي ذكرها أحمد للإمام العسكري ( عليه السلام ) تدل على أنه كان مدهوشاً بصفاته الربانية ، وأن كل من رأى الإمام ( عليه السلام ) فَضَّلَهُ على أهل عصره . لاحظ قوله : ( ما رأيت ولا عرفت بسر من رأى رجلاً من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن الرضا ، في هَدْيه وسكونه وعفافه ونُبله وكرمه ، عند أهل بيته وبني هاشم ، وتقديمهم إياه على ذوي السن منهم والخطر ، وكذلك القواد والوزراء وعامة الناس ) .
ولاحظ قول أبيه : ( يا بني لو زالت الإمامة عن خلفاء بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غير هذا ، وإن هذا ليستحقها في فضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته ، وجميل أخلاقه وصلاحه . ولو رأيت أباه رأيت رجلاً جَزْلاً ، نبيلاً ، فاضلاً ) !
ثم ذكر أحمد بحثه وسؤاله عن الإمام ( عليه السلام ) ، قال : ( فما سألت أحداً من بني هاشم والقواد والكتاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس ، إلا وجدته عنده في غاية الإجلال والإعظام والمحل الرفيع والقول الجميل ، والتقديم له على جميع أهل بيته ومشايخه ، فعظم قدره عندي ، إذ لم أر له ولياً ولا عدواً إلا وهو يحسن القول فيه والثناء عليه ) !
وكفى بهذا مؤشراً على ما نعتقده في أئمة العترة ( عليهم السلام ) من الكمال والعصمة .
6 . وصف أحمد بن الوزير شمائل الإمام ( عليه السلام ) فقال : ( فدخل رجل أسمر ، حسن القامة ، جميل الوجه ، جيد البدن ، حدث السن ، له جلالةٌ وهيبةٌ ، فلما نظر إليه أبي قام يمشي إليه خُطىً ، ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم والقواد ، فلما دنا منه عانقه وقبَّل وجهه وصدره ، وأخذ بيده وأجلسه على مصلاه الذي كان عليه ) .
وفي الفصول المهمة : ( 2 / 1087 ) : ( صفته : بين السمرة والبياض ) .
أقول : قضت حكمة الله تعالى أن يكون بعض الأئمة ( عليهم السلام ) سُمْرَ البشرة ، إرثاً من أمهاتهم ، لكنها سمرةٌ حلوةٌ فيها بهاءٌ وجمال . كما ورد في الإمام الجواد ( عليه السلام ) .
قال الكشي في رجاله ( 2 / 843 ) : ( حدثني الفضل بن الحارث ، قال : كنت بسر من رأى وقت خروج [ جنازة ] سيدي أبي الحسن ( عليه السلام ) فرأينا أبا محمد ماشياً قد شَقَّ ثيابه ، فجعلت أتعجب من جلالته وما هو له أهل ، ومن شدة اللون والأدمة ، وأشفقت عليه من التعب . فلما كان الليل رأيته في منامي فقال : اللون الذي تعجبت منه اختيار من الله لخلقه يجريه كيف يشاء ، وإنها هي لعبرة لأولي الأبصار ، لا يقع فيه على المختبر ذم ، ولسنا كالناس فنتعب كما يتعبون ، نسأل الله الثبات ، ونتفكر في خلق الله فإن فيه متسعاً . واعلم أن كلامنا في النوم مثل كلامنا في اليقظة ) .
7 . يتضح من رواية أحمد أن الخليفة قد سَمَّ الإمام العسكري ( عليه السلام ) وأرسل إلى رئيس وزرائه إنه اعتل ، أي سقيناه السم فتعال : ( بعث إلى أبي أن ابن الرضا قد اعتل ! فركب من ساعته فبادر إلى دار الخلافة ، ثم رجع مستعجلاً ومعه خمسة من خدم أمير المؤمنين ، كلهم من ثقاته وخاصته ، فيهم نحرير ، فأمرهم بلزم دار الحسن وتعرَّف خبره وحاله ! وبعث إلى نفر من المتطببين فأمرهم بالاختلاف إليه وتعاهده صباحاً ومساءً ، فلما كان بعد ذلك بيومين أو ثلاثة أُخبر أنه قد ضعُف ، فأمر المتطببين بلزوم داره ، وبعث إلى قاضي القضاة فأحضره مجلسه ، وأمره أن يختار من أصحابه عشرة ممن يوثق به في دينه وأمانته وورعه ، فأحضرهم فبعث بهم إلى دار الحسن ، وأمرهم بلزومه ليلاً ونهاراً ، فلم يزالوا هناك حتى توفي ( عليه السلام ) ، فصارت سر من رأى ضجة واحدة !
وبعث السلطان إلى داره من فتشها وفتش حجرها ، وختم على جميع ما فيها ، وطلبوا أثر وَلَده ، وجاؤوا بنساء يعرفن الحمل فدخلن إلى جواريه ينظرن إليهن ، فذكر بعضهن أن هناك جارية بها حمل فجعلت في حجرة ، ووكل بها نحرير الخادم وأصحابه ، ونسوةٌ معهم .
ثم أخذوا بعد ذلك في تهيئته ، وعطلت الأسواق ، وركبت بنو هاشم والقواد وأبي وسائر الناس إلى جنازته ، فكانت سر من رأى يومئذ شبيهاً بالقيامة ، فلما فرغوا من تهيئته بعث السلطان إلى أبي عيسى بن المتوكل ، فأمره بالصلاة عليه ، فلما وضعت الجنازة للصلاة عليه دنا أبو عيسى منه فكشف عن وجهه فعرضه على بني هاشم من العلوية والعباسية والقواد والكتاب والقضاة والمعدلين ، وقال : هذا الحسن بن علي بن محمد بن الرضا مات حتف أنفه على فراشه ! حضره من حضره من خدم أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان ومن القضاة فلان وفلان ، ومن المتطببين فلان وفلان ، ثم غطى وجهه وأمر بحمله . فحمل من وسط داره ودفن في البيت الذي دفن فيه أبوه ، فلما دفن أخذ السلطان والناس في طلب ولده ، وكثر التفتيش في المنازل والدور ، وتوقفوا عن قسمة ميراثه ) !
ولو قرأ هذا النص أي خبير ، لعلم منه المكانة العظيمة للإمام ( عليه السلام ) ، وعلم منه أو ظن أن الخليفة كان يعيش الرعب منه ، وأنه ارتكب جريمة قتله !
8 . يظهر من كلام ابن الوزير المكانة العظيمة للإمام ( عليه السلام ) في كل محافل عاصمة الخلافة ، بل يظهر أن الخليفة كان يعتقد أنه ( عليه السلام ) شخصية ربانية مقدسة . لاحظ قوله : ( فصارت سر من رأى ضجة واحدة . . ثم أخذوا بعد ذلك في تهيئته . وعطلت الأسواق وركبت بنو هاشم والقواد وأبي ، وسائر الناس إلى جنازته ، فكانت سر من رأى يومئذ شبيهاً بالقيامة ) .
9 . وردت هذه العبارة في رواية الإرشاد ( 2 / 325 ) وكشف الغمة ( 3 / 205 ) : ( وخرجنا وهو على تلك الحال ، والسلطان يطلب أثراً لولد الحسن بن علي إلى اليوم ، وهو لا يجد إلى ذلك سبيلاً ، وشيعته مقيمون على أنه مات وخَلَّفَ ولداً يقوم مقامه فيالإمامة ) .
وهو نصٌّ يكفي للباحث ليعرف أن الدولة كانت إلى ثمانية عشرة سنة ، تبحث عن أي خيط يوصلها إلى ابن الحسن العسكري ( عليه السلام ) فلم تجد ، وأن الشيعة كانوا متفقين على وجوده ( عليه السلام ) !
10 . علق الشيخ الصدوق في كمال الدين / 44 ، على تفتيش السلطة عن ابن الإمام العسكري ( عليه السلام ) ، بقوله : ( وإنما كان السلطان لا يفتر عن طلب الولد لأنه قد كان وقع في مسامعه خبره وقد كان ولد ( عليه السلام ) قبل موت أبيه بسنين وعرضه على أصحابه وقال لهم : هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم أطيعوه فلا تتفرقوا من بعدي فتهلكوا في أديانكم ، أما إنكم لن تروه بعد يومكم هذا ، فغيبه ولم يظهره ، فلذلك لم يفتر السلطان عن طلبه !
وقد رويَ أن صاحب هذا الأمر هو الذي تخفى ولادته على الناس ويغيب عنهم شخصه ، لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج ، وأنه هو الذي يُقسم ميراثه وهو حي ، وقد أخرجت ذلك مسنداً في هذا الكتاب في موضعه ، وقد كان مرادنا بإيراد هذا الخبر تصحيحاً لموت الحسن بن علي ( عليهما السلام ) ، فلما بطل وقوع الغيبة لمن ادعيت له من محمد بن علي بن الحنفية والصادق جعفر بن محمد ، وموسى بن جعفر ، والحسن بن علي العسكري ( عليهم السلام ) بما صح من وفاتهم ، فَصَحَّ وقوعها بمن نص عليه النبي والأئمة الأحد عشر صلوات الله عليهم ، وهو الحجة بن الحسن بن علي بن محمد العسكري ( عليهم السلام ) . وقد أخرجت الأخبار المسندة في ذلك الكتاب في أبواب النصوص عليه صلوات الله عليه .
وكل من سألنا من المخالفين عن القائم ( عليه السلام ) لم يخل من أن يكون قائلاً بإمامة الأئمة الأحد عشر من آبائه ( عليهم السلام ) أو غير قائل بإمامتهم ، فإن كان قائلاً بإمامتهم لزمه القول بإمامة الإمام الثاني عشر ، لنصوص آبائه الأئمة ( عليهم السلام ) عليه باسمه ونسبه وإجماع شيعتهم على القول بإمامته ، وأنه القائم الذي يظهر بعد غيبة طويلة ، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً . وإن لم يكن السائل من القائلين بالأئمة الأحد عشر لم يكن له علينا جواب في القائم الثاني عشر من الأئمة ( عليهم السلام ) ، وكان الكلام بيننا وبينه في إثبات إمامة آبائه الأئمة الأحد عشر ( عليهم السلام ) .
وهكذا لو سألنا يهودي فقال لنا : لم صارت الظهر أربعاً والعصر أربعاً والعتمة أربعاً والغداة ركعتين والمغرب ثلاثاً ؟ لم يكن له علينا في ذلك جواب ، بل لنا أن نقول له : إنك منكر لنبوة النبي الذي أتى بهذه الصلوات وعدد ركعاتها ، فكلمنا في نبوته وإثباتها ، فإن بطلت بطلت هذه الصلوات وسقط السؤال عنها ، وإن ثبتت نبوته ( صلى الله عليه وآله ) لزمك الإقرار بفرض هذه الصلوات على عدد ركعاتها ، لصحة مجيئها عنه واجتماع أمته عليها ، عرفت علتها أم لم تعرفها . وهكذا الجواب لمن سأل عن القائم ( عليه السلام ) حذو النعل بالنعل ) .
أقول : كفى بهذا المنطق إثباتاً لولادة الإمام المهدي ( عليه السلام ) لمن عنده إنصاف .
11 . نحرير الذي ورد ذكره في رواية أحمد ، هو كبير غلمان المعتز ثم المعتمد وقد ورد أن الخليفة سلم اليه الإمام العسكري ( عليه السلام ) ليحبسه عنده ، لأنهم كانوا يحبسون الشخصيات عند الوزراء والقادة .
روى في الكافي ( 1 / 513 ) : ( سُلِّمَ أبو محمد ( عليه السلام ) إلى نحرير فكان يضيِّقُ عليه ويؤذيه ، قال فقالت له امرأته : ويلك إتق الله ، لا تدري من في منزلك وعرفته صلاحه ، وقالت : إني أخاف عليك منه ، فقال لأرمينه بين السباع ! ثم فعل ذلك به فرُئِيَ ( عليه السلام ) قائماً يصلي وهي حوله ) !
وورد ذكر نحرير هذا في أحداث خلع المعتز ، وأن الترك اجتمعوا في داره ( الطبري : 7 / 526 )
وفي معركة مع الأعراب في عودته من الحج سنة 285 . ( مروج الذهب : 4 / 175 ) .
ورووا أنه كان مسيطراً على المعتمد بأمر أخيه الموفق ، عندما كان الموفق يقود حرب صاحب الزنج في البصرة .
12 . لاحظ قول الوزير : ( يا بني ذاك إمام الرافضة . . لو زالت الإمامة عن خلفاء بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غير هذا . . ) .
وقوله لجعفر : ( يا أحمق السلطان جرد سيفه في الذين زعموا أن أباك وأخاك أئمة ليردهم عن ذلك ، فلم يتهيأ له ذلك ، فإن كنت عند شيعة أبيك أو أخيك إماماً ، فلا حاجة بك إلى السلطان أن يرتبك مراتبهما ) .
وهذا يدل على أنهم كانوا يعرفون أنه الإمام الحادي عشرمن العترة ( عليهم السلام ) . وأنه والد الإمام الثاني عشر الموعود من جده ( صلى الله عليه وآله ) ، وهي قضية مهمة عندهم !
13 . سند حديث الشاكري صحيح ، وراويه محمد بن هارون ، هو أبو جعفر التلعكبري ، وكان من شخصيات الشيعة في بغداد ، وقد ترحم عليه النجاشي . وأبو علي بن همام ، قال عنه النجاشي / 380 : ( محمد بن أبي بكر همام بن سهيل الكاتب الإسكافي شيخ أصحابنا ومتقدمهم . له منزلة عظيمة ، كثير الحديث ) . وذكر أن أباه كان يراسلالإمام العسكري ( عليه السلام ) .
وروى عنه الصدوق ( كمال الدين / 409 ) عن محمد بن عثمان العمري قال : ( سئل أبو محمد الحسن بن علي ( عليهما السلام ) وأنا عنده عن الخبر الذي رويَ عن آبائه ( عليهم السلام ) : أن الأرض لا تخلو من حجة لله على خلقه إلي يوم القيامة ، وأن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية . فقال ( عليه السلام ) : إن هذا حق كما أن النهار حق ، فقيل له : يا ابن رسول الله فمن الحجة والإمام بعدك ؟ فقال : ابني محمد هو الإمام والحجة بعدي ، من مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية . أما إن له غيبة يحار فيها الجاهلون ، ويهلك فيها المبطلون ، ويكذب فيها الوقاتون ، ثم يخرج فكأني أنظر إلى الأعلام البيض تخفق فوق رأسه بنجف الكوفة ) .
14 . والشاكري : نسبةٌ إلى بني شاكر وهم فرع من قبيلة همدان اليمانية . لكنه هنا بمعنى الأجير والخادم وهو معرب عن ( جاكر ) الفارسية ، وقد غلب على سائس الخيل والبغال . ويظهر من الحديث صدق هذا الشاكري أبو عبد الله محمد ، وإيمانه ، وقد روى يوميات حياة الإمام ( عليه السلام ) في عبادته ، وغذائه ، وعطفه على من يعمل عنده ، وزيارته الأسبوعية التي فرضها عليه الخليفة . وروى خضوع الحيوانات بفطرتها وغريزتها ، أفضل من البشر بعقولهم .
وعرفنا تنظيم الخلافة للشخصيات التي تزور الخليفة ، وترتيبها لهم برتب في الزيارة والمجلس ، ولا بد أن رتبة الإمام ( عليه السلام ) كانت تلي الخليفة ، وتأتي قبل الوزراء والقادة ، لأنه حسب مفاهيمه ابن عمه ، وابن النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
كما بيَّن الشاكري أن الخليفة استدعى الإمام ( عليه السلام ) يوماً فخشي أن يكون أحدٌ فتنه عليه حسداً له ، وكان ذلك سائداً في جو الخلفاء .
ثم وصف زيارة الإمام ( عليه السلام ) لسوق بيع الدواب ، وكيف عرض عليه البائع فرساً شموساً ، فظهرت للإمام ( عليه السلام ) كرامة . ونلاحظ أنه في كل حديثه يصف كرامة الإمام ( عليه السلام ) على ربه ، ومعجزاته ، ونبل أخلاقه !
15 . ما ذكره الشاكري من معجزات الإمام العسكري ( عليه السلام ) وخضوع الحيوانات له ، ظاهرةٌ في كل المعصومين صلوات الله عليهم . وهو مقام تكويني يدل على كرامتهم عند ربهم ، ويدل على أن الحيوانات أصح فطرة وعبادة لله تعالى من أعداء الأئمة .
16 . يظهر أن هذا الحديث كان في بغداد ، بعد وفاة الإمام العسكري ( عليه السلام ) بمدة لأن محمد بن همام ، كان تاجراً في بغداد .
قال العلامة في الخلاصة / 247 : ( محمد بن همام بن سهيل ، ويكنى همام أبا بكر ، ويكنى محمد أبا علي ، البغدادي الكاتب الاسكاني ، شيخ أصحابنا ومتقدمهم ، له منزلة عظيمة ، كثير الحديث ، جليل القدر ، ثقة ) .
ثم ذكر أنه ولد بدعاء الإمام العسكري ( عليه السلام ) سنة 258 ، وتوفي 336 .
الاكثر قراءة في مناقب الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة