تأملات قرآنية
مصطلحات قرآنية
هل تعلم
علوم القرآن
أسباب النزول
التفسير والمفسرون
التفسير
مفهوم التفسير
التفسير الموضوعي
التأويل
مناهج التفسير
منهج تفسير القرآن بالقرآن
منهج التفسير الفقهي
منهج التفسير الأثري أو الروائي
منهج التفسير الإجتهادي
منهج التفسير الأدبي
منهج التفسير اللغوي
منهج التفسير العرفاني
منهج التفسير بالرأي
منهج التفسير العلمي
مواضيع عامة في المناهج
التفاسير وتراجم مفسريها
التفاسير
تراجم المفسرين
القراء والقراءات
القرآء
رأي المفسرين في القراءات
تحليل النص القرآني
أحكام التلاوة
تاريخ القرآن
جمع وتدوين القرآن
التحريف ونفيه عن القرآن
نزول القرآن
الناسخ والمنسوخ
المحكم والمتشابه
المكي والمدني
الأمثال في القرآن
فضائل السور
مواضيع عامة في علوم القرآن
فضائل اهل البيت القرآنية
الشفاء في القرآن
رسم وحركات القرآن
القسم في القرآن
اشباه ونظائر
آداب قراءة القرآن
الإعجاز القرآني
الوحي القرآني
الصرفة وموضوعاتها
الإعجاز الغيبي
الإعجاز العلمي والطبيعي
الإعجاز البلاغي والبياني
الإعجاز العددي
مواضيع إعجازية عامة
قصص قرآنية
قصص الأنبياء
قصة النبي ابراهيم وقومه
قصة النبي إدريس وقومه
قصة النبي اسماعيل
قصة النبي ذو الكفل
قصة النبي لوط وقومه
قصة النبي موسى وهارون وقومهم
قصة النبي داوود وقومه
قصة النبي زكريا وابنه يحيى
قصة النبي شعيب وقومه
قصة النبي سليمان وقومه
قصة النبي صالح وقومه
قصة النبي نوح وقومه
قصة النبي هود وقومه
قصة النبي إسحاق ويعقوب ويوسف
قصة النبي يونس وقومه
قصة النبي إلياس واليسع
قصة ذي القرنين وقصص أخرى
قصة نبي الله آدم
قصة نبي الله عيسى وقومه
قصة النبي أيوب وقومه
قصة النبي محمد صلى الله عليه وآله
سيرة النبي والائمة
سيرة الإمام المهدي ـ عليه السلام
سيرة الامام علي ـ عليه السلام
سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله
مواضيع عامة في سيرة النبي والأئمة
حضارات
مقالات عامة من التاريخ الإسلامي
العصر الجاهلي قبل الإسلام
اليهود
مواضيع عامة في القصص القرآنية
العقائد في القرآن
أصول
التوحيد
النبوة
العدل
الامامة
المعاد
سؤال وجواب
شبهات وردود
فرق واديان ومذاهب
الشفاعة والتوسل
مقالات عقائدية عامة
قضايا أخلاقية في القرآن الكريم
قضايا إجتماعية في القرآن الكريم
مقالات قرآنية
التفسير الجامع
حرف الألف
سورة آل عمران
سورة الأنعام
سورة الأعراف
سورة الأنفال
سورة إبراهيم
سورة الإسراء
سورة الأنبياء
سورة الأحزاب
سورة الأحقاف
سورة الإنسان
سورة الانفطار
سورة الإنشقاق
سورة الأعلى
سورة الإخلاص
حرف الباء
سورة البقرة
سورة البروج
سورة البلد
سورة البينة
حرف التاء
سورة التوبة
سورة التغابن
سورة التحريم
سورة التكوير
سورة التين
سورة التكاثر
حرف الجيم
سورة الجاثية
سورة الجمعة
سورة الجن
حرف الحاء
سورة الحجر
سورة الحج
سورة الحديد
سورة الحشر
سورة الحاقة
الحجرات
حرف الدال
سورة الدخان
حرف الذال
سورة الذاريات
حرف الراء
سورة الرعد
سورة الروم
سورة الرحمن
حرف الزاي
سورة الزمر
سورة الزخرف
سورة الزلزلة
حرف السين
سورة السجدة
سورة سبأ
حرف الشين
سورة الشعراء
سورة الشورى
سورة الشمس
سورة الشرح
حرف الصاد
سورة الصافات
سورة ص
سورة الصف
حرف الضاد
سورة الضحى
حرف الطاء
سورة طه
سورة الطور
سورة الطلاق
سورة الطارق
حرف العين
سورة العنكبوت
سورة عبس
سورة العلق
سورة العاديات
سورة العصر
حرف الغين
سورة غافر
سورة الغاشية
حرف الفاء
سورة الفاتحة
سورة الفرقان
سورة فاطر
سورة فصلت
سورة الفتح
سورة الفجر
سورة الفيل
سورة الفلق
حرف القاف
سورة القصص
سورة ق
سورة القمر
سورة القلم
سورة القيامة
سورة القدر
سورة القارعة
سورة قريش
حرف الكاف
سورة الكهف
سورة الكوثر
سورة الكافرون
حرف اللام
سورة لقمان
سورة الليل
حرف الميم
سورة المائدة
سورة مريم
سورة المؤمنين
سورة محمد
سورة المجادلة
سورة الممتحنة
سورة المنافقين
سورة المُلك
سورة المعارج
سورة المزمل
سورة المدثر
سورة المرسلات
سورة المطففين
سورة الماعون
سورة المسد
حرف النون
سورة النساء
سورة النحل
سورة النور
سورة النمل
سورة النجم
سورة نوح
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة النصر
سورة الناس
حرف الهاء
سورة هود
سورة الهمزة
حرف الواو
سورة الواقعة
حرف الياء
سورة يونس
سورة يوسف
سورة يس
آيات الأحكام
العبادات
المعاملات
ذروني أقتل موسى
المؤلف:
معروف عبد المجيد
المصدر:
تلك الرسل
الجزء والصفحة:
263 - 353
2025-08-12
30
أمر فرعون مصر بأن يأتوه بالكاهن الأكبر لينبئه عما يكون في مستقبل الأيام كعادته كل عام.
وكان القصر المشيد على ضفاف النيل يتألق كجوهرة تحت أشعة الشمس المشرقة.
بينما تحفه البساتين والمزارع الخضراء وتفور حوله العيون وتجري من تحته الأنهار والينابيع.
وكان المشهد أشبه بحلم في يوم ربيعي زها بالألوان الوردية البهيجة...
سوى أن السماء لم تكن صافية على ما يرام..
وانطلق البخور الكهنوتي من محارق المعبد الكبير في قصر الفرعون.
ودخل الكاهن الأكبر في حلته الرسمية يتبعه الكهنة والكتبة والمنجمون وعلماء الفلك والسحرة محاطين بمظاهر الأبهة والجلال.
بينما كانت أصوات الموسيقى تنساب في أرجاء المعبد في إيقاع هادئ تحت ألق الأضواء الخافتة.
والطقوس تجري بدقة ونظام والقرابين تقدم للفرعون_الإله وجلس الفرعون على عرشه المطعم بالذهب والجواهر واليواقيت وقد وضع على رأسه تاجه العظيم متكئا على مسند الملك.
وعلى يمينه ولي عهده...
بينما على يساره تجلس زوجته المحبوبة وابنته الأثيرة.
وخلفه تمثال حوروس ورجاله بملابس الحرس الفرعوني...
وعلى مقربة منه يجلس كاتبه وأمامه لفافة من ورق البردي.
وجاء الكاهن الأكبر ...
واقترب من عرش الفرعون...
فقبل الأرض بين قدميه وقدم له فروض الطاعة والولاء والعبودية...
ثم استوى واقفا في انتظار الأمر الفرعوني.
وعم الصمت وخيم السكون وتشنفت الآذان
فقال الفرعون:
أيها الكاهن أخبرني بخبر النجوم وارفع ستار الغيب عن أنباء المستقبل.
وندت عن الكاهن رعشة وارتجفت جوارحه وبدا عليه التمهل وكأنه يؤثر الصمت.
فابتسم الفرعون وقد أعجبه خضوع الكاهن وتذلله في حضرته...
فقال له مادحا:
يا كاهن مصر الأكبر وقديس النيل واهب الحياة تحدث وإنك لمن المقربين.
فاستجمع الكاهن حواسه ثم قال بصوت متهدج وكأنه يخرج من أعماق الأرض منبعثا في أقطار الفضاء:
أيها الفرعون العظيم يا نفحة الشمس وواهب الأنفاس لشعب مصر وعبيدك الأوفياء يا من يجري النيل بأمرك وتشرق الشمس بكبريائك وتخضر البراعم بلطف عظمتك عندي من خبر النجوم ما قد تأباه عزتك فبدى التوجس على ملامح الفرعون ثم قال:
تحدث ولا تخف فما أنت سوى مخبر لا مدبر
فقال الكاهن:
دام ظلك أيها الملك العظيم يولد في بني اسرائيل غلام يجاهر بعدائك ويسلبك ملكك وقد أظلك زمانه الذي يولد فيه وخرج الأمر الملكي في الحال...
فأمر فرعون بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل.
وانطلق الجلاوزة يجوبون الشوارع ويقتحمون المنازل.
فقتلوا كافة الغلمان من بني اسرائيل
وذبحوا كل من كان يولد منهم حتى أنهم كانوا يعذبون النساء فيضعن حملهن ثم يذبحون المواليد أمام عيون الأمهات والآباء.
فأسرع الموت في بني إسرائيل وعمهم الهلع والخوف...
وظل الأمر الفرعوني قيد التنفيذ على مدى أعوام طويلة ...
حتى ظن الفرعون أنه قضى على غريمه ...
فعاد إليه هدوء البال.
وارتد يتقلب مسروراً في النعمة والرخاء حتى كان ذات صباح...
فخرجت امرأة فرعون بوصيفاتها وجواريها ليغتسلن في مياه النيل...
وأثناء ذلك...
إذا بتابوت مقبل تضرب به الأمواج نحو الشاطئ فأصبن بالدهشة والعجب...
ورحن يتصايحن ويتراشقن بالمياه...
وأطرقت امرأة فرعون هنيهة...
ثم أمرت بانتشال التابوت من الماء...
وإذا بطفل صغير وديع ينظر إليها بهدوء وبين عينيه هالة من النور..
وحملت امرأة فرعون الطفل الصغير بحنان إلى القصر وقد وقع حبه في قلبها وسارت إلى زوجها وقد ضمت الرضيع إلى صدرها وكأنه وليدها ...
فلما وقع عليه نظر الفرعون...
داخله الحذر وصاح قائلا:
اقتلوه.. فانه من العبريين
وتقدم أحد الحرس ليذبح الرضيع بشفرته...
فشهقت امرأة فرعون وأقبلت على زوجها ...
واستعطفته قائلة:
قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا..
ورق فرعون لامرأته...
فرفع يده أمرا الحراس بالابتعاد عن الطفل.
ثم أشاح عنه بوجهه وانصرف إلى شأنه.
وفرحت آسية فرحة غامرة، وسرت أيما سرور..
وحملت الطفل بسرعة إلى وصيفتها...
وأوكلت إليها أمر إرضاعه والعناية به.
ثم داعبت الطفل الذي كان يمص إبهامه جوعا وقالت له:
لا عليك يا صغيري سآتي لك بالمراضع جميعا حتى تصير شابا فتيا في طرفة عين
بينما كانت كلمات الله المنقوشة على عرش القدرة تقول:
{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص: 8] وجاءت وصيفة آسية زوجة فرعون بخبر مرضعة من مراضع القصر لترضع الوليد الذي انتشل توا من مياه النيل.
وكانت الأوامر الملكية قد صدرت بضرورة إيلاء العناية الفائقة لهذا الرضيع.
ولأنهم لم يكونوا قد أعدوا له اسما مسبقا كعادة مواليد القصور...
فانهم أطلقوا عليه اسم (موسى)
ولم يكن هذا اسما بلا مسمى بالطبع.
فماذا يعني إذا.؟
قيل بأنه اسم مركب من لفظين بالهيروغليفية الأول (مو) ويعني الماء والثاني (سى) ويعني الشجر حيث وجد التابوت الذي كان به بين الشجر على وجه الماء.
ولربما قيل أيضا غير ذلك، نعم يا صديقي فكلمة (موشيه) تعني باللغة العبرية (المخلص) و(المخلص) أي اسم مفعول واسم فاعل في آن واحد.. ويقال بأن سبب ذلك هو أن زوجة فرعون انتشلته من الماء وخلصته من الغرق..
ولكن يا صديقي سيبقى إشكال على هذه التسمية عند ذلك وما هو؟
لربما قيل كيف أطلقوا عليه اسما عبريا في قصر فرعون وهم كانوا يحتقرون العبريين ويسومونهم سوء العذاب؟
إشكال وجيه حقا. ولكن ربما وافق اللفظ في الهيروغلفية نفس اللفظ في العبرية كما هو واضح من المعنى.
وربما تدخلت العناية الالهية أيضاً في ذلك الأمر وهم لا يعلمون بالحقيقة..
ولم لا؟ وقد قال الله تعالى بهذا الشأن:
{وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [القصص: 9] فدعنا الآن يا عزيزي نلقي نظرة على موسى وهو في مهده يمص إصبعه استدرارا للحليب نعم يا أخي. جاءوا له بخير مرضعة في القصر فلم يرضع منها.. ثم؟
ثم جاءوا له بمرضعة ثانية وثالثة فكان موسى يرفض المراضع واحدة تلو الأخرى مما أوجد أزمة محيرة في قصر الفرعون وعندئذ إذا بفتاة على باب القصر بعد أن شاع الخبر في المدينة وهي تقول لهم: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون؟
فهل قبلوا بهذا العرض؟
وهل كان أمامهم خيار آخر وهم الحريصون على حياة الوليد لكي يكون قرة عين لفرعون وامرئته {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} [القصص: 13]
{وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص: 13] ولكن يا صديقي من كانت أمه؟ وكيف حدث هذا التسلسل العجيب في هذه القصة المدهشة؟
نعم، يا عزيزي، أمه كانت تسمى (يوخابيد) على ما قيل وكانت من بني إسرائيل. فلما حملت بطفلها لم يظهر عليها أثر الحمل، وبذلك لم يبقر رجال فرعون بطنها ويذبحوا جنينها فلما وضعته؟
لما وضعته أوحى الله إليها أن أرضعيه، فاذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين.
فيا للتدبير الالهي إنها مشيئة الله يا أخي وفي ذلك قصة أخرى فريدة..
فما هي هذه القصة؟
انتظر قليلاً لأقلب بعض الأوراق..
هل وجدتها يا عزيزي؟
نعم يا صديقي وجدتها فاقرأ معي ما كتب في كتب السير.
لما اقترب میلاد موسى (عليه السلام) كانت لأمه قابلة مصافية لها من المصريين فلما ضربها الطلق ...
أرسلت إليها فجاءتها وقامت على أمرها حتى ولد موسى.
فلما خرج من بطن أمه هالها نور بين عينيه.. [1]
فارتعدت مفاصل القابلة ودخل حبه في قلبها فعزمت على ألا تخبر بأمره
قصر الفرعون..
ولكن.. عندما خرجت القابلة أبصرها بعض العيون..
فسألوها.. فأنكرت..
فجاءوا ليدخلوا على أم موسى.
فأسرعت أخته إلى أمها وأخبرتها بأن الحرس بالباب..
فطاش عقلها ووضعته جانبا وهي لا تدري ماذا تفعل..
وكان الحرس قد أقتحموا الدار..
بحث الحرس هنا وهناك وجدوا في العثور على الوليد ليذبحوه كما أمر الفرعون.
وبعد بحث دقيق.
عثروا على خرقة ملفوفة ...
فتأهبوا لذبح الطفل الصغير ...
وعندما فتحوا تلك الخرقة...
لم يجدوا بها شيئا..
فخرجوا مسرعين ونجا موسى (عليه السلام) من الذبح بأمر الله وعنايته..
وأرضعته أمه حتى سرى الدفء بينهما ثم وضعته بعناية في التابوت وألقته في اليم نزولا على الأمر الالهي.
فحملته الأمواج بعيدا بعيدا إلى القدر المرسوم.
بينما وقفت أمه وحيدة على الشاطئ وهي تنظر حزينة إلى كبدها فوق الأمواج الجارية.
ولكنها كانت حريصة على معرفة مصيره.. فقالت لأخته قصيه فمشت أخته تتعقبه متخفية بين الأشجار والحشائش وأوراق البردي.
حتى ألقاه اليم إلى الساحل والتقطه آل فرعون فبصرت به أخته عن جنب وهم لا يشعرون.
وكان ما كان..
فحرم الله عليه المراضع
ثم رده الله إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن..
امتنع موسى عن المراضع جميعا ورفض المرضعات واحدة بعد الأخرى.
فوقع قصر فرعون في حيرة شديدة وهال آل فرعون أن يموت الرضيع الذي شاءوا أن يتخذوه ولدا.
وكلما حاولوا محاولة جديدة لارضاع الطفل باءت بالفشل.
فبينما هم على هذه الحال وإذا بصبية يافعة تقف على باب القصر وتخبرهم أنها تعرف امرأة ترضعه.
ومع أن آل فرعون كانوا على حذر شديد إلا أنهم أرادوا أن يتداركوا أمر الرضيع بكافة الوسائل (ولكن أكثرهم لا يعلمون)..
عادت الصبية بامرأة زعمت لهم بأنها سترضعه وترعاه وتشفق عليه وتكفله.
فلما سألوها عن اسمها قالت:
اسمي (يوخابيد).
الطفل. فأظهروا امتعاضا شديدا عندما علموا أنها من العبريين وحالوا بينها وبين
ولكن بكاء الطفل الجائع ارتفع في مهده بقوة مما أقلق القوم.
عبرانية.
فجاءت آسية وأمرت الوصيفات بقبول المرضعة الجديدة حتى لو كانت
فتلقفته (يوخابید) وضمته بحنان إلى صدرها.
وشعر موسى بدفء بدن أمه فأخذ يمتص الحليب بشراهة من صدرها وقد هدأ وكف عن البكاء.
العناية بالطفل الرضيع ... وعمت القصر فرحة شديدة جعلت القوم يتناسون الأمر برمته وينصرفون إلى ومضت شهور وأعوام وموسى يشب في قصر فرعون مراعيا للتقاليد الملكية.
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [القصص: 14]
حتى أن فرعون مصر كان يوكل إليه الكثير من الأعمال السياسية والعسكرية والعمرانية.
كما كان يشركه في أمور إدارة البلاد أحيانا إعدادا له لولاية العهد وخلافته في أمره وإن كان ينكر عليه بعض أفكاره الدينية.
فكان موسى (عليه السلام) يركب مراكب فرعون وكانوا يدعونه (موسى بن فرعون)
وذات يوم...
ركب فرعون..
وركب موسى معه في أثره.
فأدركه المقيل في مدينة (منف) العاصمة شمال مصر على ضفاف النيل.
وكان الحر شديدا وقد هجع أهل المدينة للقيلولة وأغلقت الأسواق أبوابها وخلت الشوارع وقت الظهيرة.
فلما دخل موسى على هذه الحال.
وجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته من بني إسرائيل وهذا من عدوه من آل فرعون وكان الثاني خبازا لفرعون على ما قيل.
وكان النزاع قد اشتد فيما بينهما وارتفعت أصواتها وعمت الجلبة والضوضاء.
واقترب موسى من الرجلين.
فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه.
وسألهما موسى عن خطبهما فقال له الذي من شيعته: إن هذا يقول بعبادة الفرعون وأنا أقول بعبادة الله الواحد، وقد أمسك بي ليسلمني إلى القصر.
فقال موسى للذي من عدوه ما دليلك على ما تقول به من دينك؟
فأجاب الفرعوني: إن فرعون هو ربي فهو يرزقني ويطعمني ويسقيني.
فسأله موسى:
ومن الذي يرزق فرعون ويطعمه ويسقيه؟
فلم يجر الفرعوني جوابا وأنكر على موسى كلامه.
وأراد الذهاب بالذي هو من شيعة موسى إلى فرعون ليعاقبه على دينه.
وتدخل موسى ليستخلصه منه.
فنازعه القبطي وقد أمسك بزمام العبراني.
فوكزه موسى وكان شديد القوة والبأس فقضى عليه وقتله وهو لا يريد قتله
وهرول العبراني بعيدا ثم ما لبث أن اختفى عن الأنظار وقد لفظ القبطي أنفاسه الأخيرة فوقف موسى أمام القتيل مدهوشا وغارقا في بحر من الفكر والتأمل.
ثم ما لبث أن قال مستنكرا الأقتتال في سبيل الباطل كما فعل القبطي:
هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين:
ثم توجه إلى الله قائلا:
رب إني ظلمت نفسي بدخولي هذه المدينة فاغفر لي واسترني عن عيون القوم فما كان هذا إلا في سبيلك.
وعندئذ شعر موسى (عليه السلام) بأن الشكر قد وجب عليه بما آتاه الله من قوة في الحق فناجي ربه قائلا:
{ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص: 17]
انتشر الخبر في المدينة واستنكر الأقباط الحادث فتوجه ملأ منهم إلى القصر خارج المدينة وقالوا الفرعون:
إن بني إسرائيل قد قتلوا رجلا من آل فرعون فخذ لنا بحقنا.
وسألهم فرعون عن السبب فقالوا:
لأن صاحبنا كان يقول بدين فرعون وأما الآخر فيقول بإله سواك..
فغضب فرعون غضبا شديدا وأصدر أوامره في الحال وصاح في رجاله:
ائتوني بقاتله فورا لأقتص منه..
وركب الحرس في شوارع المدينة وانبثت العيون وأخذ الرجال يتتبعون الأخبار فبينما هم يجولون إذا برجلين يقتتلان مرة أخرى أحدهما عبراني والآخر من آل فرعون...
وإذا بموسى وقد أقبل في هذه اللحظة أيضا وكان قد أصبح في المدينة خائفا يتقرب ولم يعد إلى القصر بعد ما وقع بالأمس.
فاذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه وقد بلغ النزاع أشده بين الرجلين
ولم يكن موسى (عليه السلام) بالذي تأخذه في الحق لومة لائم...
فاقترب من الرجلين...
ولكنه لام الذي من شيعته على إثارة الأجواء في ظروف غير مواتية، وقال له:
إنك لغوي مبين وأراد موسى (عليه السلام) البطش بالذي هو عدو لهما.
فظن الذي هو من شيعته أن موسى (عليه السلام) يريد البطش به عقابا له على ما استنكره منه قبل لحظات.
وخاف أن يقتله بوكزة تقضي عليه فتعجل الأمر مخافة وظنا.
وخاطب موسى (عليه السلام) قائلا:
يا موسى {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ} [القصص: 19]؟
ونظر إليه موسى (عليه السلام) بعجب ودهشة وقد أفشى نبأ الحادث أمام رجال
الفرعون.
ولكن العبراني لم يكتف بهذه الاشارة التي لم تكن غامضة ولا مبهمة.
فأزم الموقف مخاطبا موسى (عليه السلام):
{إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ } [القصص: 19] ولم يكن يتوقع رجال فرعون أن يكون القاتل الذي يبحثون عنه هو موسى.
وكانت لموسى (عليه السلام) هيبة ومكانة عظيمة بصفته ابنا لفرعون كما هو شائع.
فحالت هيبته بينهم وبين إلقاء القبض عليه.
واغتنم موسى (عليه السلام) هذه الفرصة وأسرع بمغادرة المكان...
بينما عادوا هم إلى قصر فرعون ومعهم العبراني كشاهد عيان على الجريمة
ولما تحقق فرعون من الخبر غضب غضبا شديدا
وجال في خاطره أن يكون موسى هو ذلك العبراني الذي سيسلبه ملكه وعادت به الذاكرة إلى نبوءة الكاهن فاستولت عليه الهواجس من جديد.
فصاح في رجاله قائلا:
اطلبوه في المخابئ والطرق واذبحوه على الفور وأتوني برأسه حتى لو كان رأس ولدي موسى وكان من بين آل فرعون رجل مؤمن يكتم إيمانه إذ كان على تقية من دين إبراهيم الخليل (عليه السلام).
ويقال بأنه كان خازن فرعون.
فلما سمع بما قاله فرعون.
اختصر طريقاً ليسبق الذباحين إلى موسى وقد توارى في بعض نواحي المدينة.
{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} [القصص: 20] حتى وصل إليه في محبته، فقال له :
{ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص: 20] ولم يضع موسى (عليه السلام) وقته في المدينة..
{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص: 21] وكان يقول لدى خروجه مناجيا ربه:
{رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [القصص: 21] وتخير موسى (عليه السلام) طريق مدين.
وشعر بأن فيه نجاته وهداه...
فلما توجه تلقاء مدين قال راجيا ربه:
{عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص: 22]
وانطلق موسى (عليه السلام) يضرب في الصحاري والقفار دون زاد ولا راحلة ...
وهو يتلفت خلفه حذرا من أن يلحق به القوم وينظر يمينا ويسارا.
وكلما قطع واديا واجه مرتفعا من الجبال فيصعد.. ويهبط.
ويسلمه سهل إلى وعر ووعر إلى سهل ونهار إلى ليل وليل إلى نهار.
واستمر به الحال على ذلك عدة أيام ولم يكن طعامه سوى أعشاب الأرض وأوراق الشجر وبقل الصحراء.
فسقط مغشيا عليه من التعب.
وبعد ساعة فتح موسى عينيه ثم جلس متأملا ما حوله وكان قد ورد ماء مدين دون أن يراه.
وهنالك { {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص: 23]
{وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} [القصص: 23] فرق لحالهما وقال وقد هب لنجدتها: {مَا خَطْبُكُمَا} [القصص: 23]؟
{ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص: 23] فأشفق موسى عليهما ودنا من البئر وقال لمن على الماء مقترحا:
أستسقي لي دلوا ولكم دلوا وكان الدلو يمده عشرة رجال
فرضي الرعاء بذلك مغتنمين الفرصة والفتاتان ترقبان.
{فَسَقَى لَهُمَا} [القصص: 24] { ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} [القصص: 24]
فقال طالبا العون من رازق الخلق:
{ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] ولم يكن يريد سوى رغيف من الخبز يسد به رمقه حيث كانت خضرة البقل تبدو في صفاق بطنه من ضعفه وهزاله وجوعه الشديد وعادت المرأتان مبكرتين إلى أبيهما الشيخ الكبير على غير عادتهما كل يوم.
فتعجب أبوهما. وقال لهما مستفسرا:
أسرعتما الرجوع هذا اليوم فأخبرتاه بخبر الفتى الغريب.
ولم تكونا قد عرفتا موسى (عليه السلام) فشعر الشيخ الكبير بنور يشع في قلبه فقال لواحدة منهن وكانت الكبرى:
اذهبي إليه فادعيه لنجزيه أجر ما سقى لنا.
ولم تكن هذه الفتاة سوى (صفورة).
ولم يكن الشيخ الكبير سوى نبي الله شعيب (عليه السلام) ...
وبينما كان موسى (عليه السلام) يجلس في ظلال إحدى الأشجار بالقرب من البئر بعد
أن دعا ربه بإنزال الخير ...
جاءته صفورة وهي البنت الكبرى تمشى على استيحاء.
وكان موسى (عليه السلام) سابحا في بحر أفكاره فقالت له: { أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص: 25] فقام معها موسى (عليه السلام) وسارت الفتاة وهو يتبعها.
وهبت رياح خفيفة في صحراء مدين على الطريق نحو منازل شعيب (عليه السلام).
وكانت الرياح قادمة من الخلف
فقال موسى للفتاة: تأخري ودليني على الطريق.
فأكبرت الفتاة مروءته ونبله ونجابته وسارت خلفه وهي تدله على الطريق.
حتى وصلا إلى منزل نبي الله شعيب (عليه السلام).
واستقبل شعيب (عليه السلام) ضيفه بحفاوة بالغة.
وجد في إكرامه وسأله عن خبره فأنبأه بقصته.
فلما قص عليه القصص.
أثنى عليه شعيب (عليه السلام) وقال له مهدئا روعه:
{لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 25] وذات مساء انتحت صفورة بأبيها شعيب النبي.
وأرادت أن تستره بأمر ولكنها كانت تتراجع حياءا وخجلا ويمنعها الحياء من الكلام فلاطفها شعيب (عليه السلام) ومهد لها سبيل الحديث.
حتى زال الاضطراب عنها.
فخفضت رأسها وقالت والحياء قد أسدل على وجهها ستارا ظهرت حمرته على وجنتيها:
{يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26] وابتسم شعيب (عليه السلام) وربت على كتف ابنته بحنان.
والفتاة يخفق قلبها بقوة وضرباته تشتد.
فسألها ملاطفا:
أما قوته فقد عرفتيها بسقي الدلو وحده دون أن يعينه أحد فبم عرفت
أمانته؟
فصمتت الفتاة حياءا ثم استجمعت قوتها وأجابت:
لقد كنت أسير أمامه فقال لي تأخري، فأنا من قوم لا ينظرون أعقاب النساء فبهذا عرفت أمانته.
فأشرقت على ثغر شعيب (عليه السلام) ابتسامة عريضة وقد أدرك ما ترمي إليه ابنته ودعا لها بالخير والسعادة.
وكان موسى يجلس في محضر شعيب وهما يتبادلان أطراف الحديث.
حتى إذا سنحت الفرصة، قال شعيب لموسى:
{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص: 27] ثم بشره باليسر قائلا شفقة عليه:
{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص: 27] وتهلل وجه موسى بالبشر وغمرت قلبه الفرحة فأجاب بالقبول وقال:
{ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 28] وسطعت أنوار العرس النبوي وعاش موسى مع صفورة في سعادة ووثام وهو يثابر على خدمة نبي الله شعيب (عليه السلام).
ووجد في الرعي أفقا مفتوحا على جمال الكون وعظمة خالقه.
فكان ينعم بالتأمل والتفكر بين هدأة المراعي وانبساطة السهول وانفساحة المدى وروعة السماء وتألق النجوم.
وكان يتنقل بين الربوع الخضراء والتلال الممرعة والينابيع الصافية والعيون العذبة وهو يسبح بحمد الله وشكره ويلهج فؤاده بذكره.
حتى إذا ما صفت روحه واغتسل قلبه بندى الصباح المنسكب من رباب العشق..
فتح عينيه منتبها من سبحات التجلي...
فوجد أن عشرا من السنوات قد انقضت.
فلما قضى موسى الأجل وقد أتم ما كان بينه وبين نبي الله شعيب (عليه السلام).
استأذنه في العودة إلى مصر فأذن له حامدا شاكرا...
وزوده من عنده بالمتاع وساق له غنيمات وأجزل له العطاء.
فلما أراد الخروج بأهله سأل شعيبا (عليه السلام) عصا تكون معه
وكانت عصى الأنبياء عند شعيب (عليه السلام) قد ورثها مجموعة في بيت له.
فأذن لموسى بدخول هذا البيت وقال له:
ادخل في هذا البيت وخذ عصا من بين تلك العصي
فلما دخل وثبت إليه عصا إبراهيم (عليه السلام) وصارت في كفه..
فأخرجها وأراد الذهاب بها.
ونظر إليها شعيب (عليه السلام) فقال له:
ردها وخذ غيرها فردها.. وأراد استبدالها بأخرى.
فوثبت إليه تلك العصا بعينها
حتى فعل ذلك عدة مرات
والمعجزة تتكرر كل مرة..
فلما رأى شعیب (عليه السلام) ذلك قال له:
اذهب بها فقد خصك الله بهذه العصا..
وخرج موسى (عليه السلام) بعصاه التي خصه الله بها من عصي الأنبياء السابقين والتي كانت عند نبي الله شعيب (عليه السلام).
وسار يريد مصر ومعه أهله ومتاعه.
الليل. فلما صار في مفازة أصابهم برد شديد وريح عاتية وظلمة حالكة وقد جن
وفي هذه الحالة آنس موسى (عليه السلام) من جانب الطور نارا.
فقال لأهله:
{ٱمۡكُثُوٓاْ إِنِّيٓ ءَانَسۡتُ نَارٗا لَّعَلِّيٓ ءَاتِيكُم مِّنۡهَا بِخَبَرٍ أَوۡ جَذۡوَةٖ مِّنَ ٱلنَّارِ لَعَلَّكُمۡ تَصۡطَلُونَ} [القصص: 29]
ومشى موسى (عليه السلام) نحو النار فاذا بشجرة تلتهب فيها النار عاليا.
فتعجب موسى (عليه السلام) ولكنه أقبل إلى النار ليقتبس منها فأهوت إليه ففزع وعدا وقفل راجعا فرجعت النار إلى الشجرة فالتفت إليها وقد عادت إلى مكانها فعاد موسى (عليه السلام) مرة ثانية ليقتبس منها.
فأهوت نحوه.. فعدا وتركها.
ثم التفت وقد رجعت النار إلى الشجرة.
فعاد إليها للمرة الثالثة فأهوت نحوه.
فعدا هذه المرة خائفا أيضا ولكنه لم يرجع إليها.
ووقف موسى (عليه السلام) مدهوشا مما رأى.
وعندئذ.. {نُودِيَ مِن شَٰطِيِٕ ٱلۡوَادِ ٱلۡأَيۡمَنِ فِي ٱلۡبُقۡعَةِ ٱلۡمُبَٰرَكَةِ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ } [القصص: 30].
وارتفع النداء قائلا:
{يَٰمُوسَىٰٓ إِنِّيٓ أَنَا ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ } [القصص: 30]
فصاح موسى متسائلا:
وما دليلك على ذلك؟
فجاءه النداء:
{وَمَا تِلۡكَ بِيَمِينِكَ يَٰمُوسَىٰ} [طه: 17]
فأجاب موسى (عليه السلام):
{هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُاْ عَلَيۡهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَـَٔارِبُ أُخۡرَىٰ} [طه: 18]
فأمره النداء: {أَلۡقِهَا يَٰمُوسَىٰ} [طه: 19] فألقاها مطيعا الأمر فاهتزت وصارت حية {فَلَمَّا رَءَاهَا تَهۡتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنّٞ وَلَّىٰ مُدۡبِرٗا وَلَمۡ يُعَقِّبۡۚ} [النمل: 10] ولكن النداء كان خلفه فجاءه قائلا:
{يَٰمُوسَىٰٓ أَقۡبِلۡ وَلَا تَخَفۡۖ إِنَّكَ مِنَ ٱلۡأٓمِنِينَ} [القصص: 31]
والتقط موسى العصا فوجدها قد عادت إلى سيرتها الأولى ولم يكد موسى (عليه السلام) يستجمع قواه بعد هذا البرهان - المعجزة..
حتى جاءه النداء من جديد {ٱسۡلُكۡ يَدَكَ فِي جَيۡبِكَ تَخۡرُجۡ بَيۡضَآءَ مِنۡ غَيۡرِ سُوٓءٖ وَٱضۡمُمۡ إِلَيۡكَ جَنَاحَكَ مِنَ ٱلرَّهۡبِۖ} [القصص: 32]
ووضع موسى (عليه السلام) يده في جيبه ثم أخرجها ...
فأضاءت له الدنيا..
ووقف موسى (عليه السلام) مبهورا بالحدث العظيم.
وشعر بكل كيانه سابحا في هالة من النور السماوي.
فامتلأ قلبه باليقين.
وحينئذ زاده النداء طمأنينة وهو يعلو قائلا:
{فَذَٰنِكَ بُرۡهَٰنَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِيْهِۦٓۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمٗا فَٰسِقِينَ} [القصص: 32]
وأيقن موسى (عليه السلام) بأنه في محضر الملكوت الأعلى.
ولكن ذاكرته عادت به إلى سالف عهده مع فرعون وقومه.
فقال مكلما المولى سبحانه:
{رَبِّ إِنِّي قَتَلۡتُ مِنۡهُمۡ نَفۡسٗا فَأَخَافُ أَن يَقۡتُلُونِ} [القصص: 33]
وأحب أن يُشرك معه في رسالته أخاه هارون، فاستطرد بالقول: {وَأَخِي هَٰرُونُ هُوَ أَفۡصَحُ مِنِّي لِسَانٗا فَأَرۡسِلۡهُ مَعِيَ رِدۡءٗا يُصَدِّقُنِيٓۖ إِنِّيٓ أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ} [القصص: 34]
فاستجاب الله تعالى رغبة رسوله وكليمه وجاءه النداء:
{سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجۡعَلُ لَكُمَا سُلۡطَٰنٗا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيۡكُمَا بِـَٔايَٰتِنَآۚ أَنتُمَا وَمَنِ ٱتَّبَعَكُمَا ٱلۡغَٰلِبُونَ} [القصص: 35]
وليس موسى (عليه السلام) نعليه وكان قد خلعهما بأمر ربه حيث كان بالواد المقدس طوى.
وعاد من الوادي محملا بالبشرى ونعمة الرسالة...
وما أعظمها من نعمة ولم لا؟ فقد ذهب يقتبس نارا وانصرف وهو نبي مرسل وعاد الدفء إلى مفازة الجبل وسكنت الريح وأضاء الليل بنور الإله فتوكأ موسى على عصاه وقفل راجعا إلى أهله وقد ألقى الله عليه عبئا ثقيلا.
ونظر إلى عصاه فاذا بها خضراء حيث كانت من عوسج الجنة.
وهي التي وصلت إليه من آدم إلى إبراهيم إلى شعيب عليهم السلام ثم صارت له برهانا ومعجزة.
وفي طريق عودته إلى أهله كان لسان موسى (عليه السلام) يلهج بحب الله.
وكان قد أخلص المحبة له وغسل قلبه عمن سواه.
ولكنه عندما خلع نعليه بالواد المقدس الذي كلم فيه ربه ...
كان قد خلع معهما كل حب آخر وكان قد فرغ قلبه من حب الأهل والمال.
ومن ذكر الدارين.
فتابعت القافلة النبوية طريقها إلى أرض مصر ...
وقد خرج منها موسى (عليه السلام) ذات يوم خائفا يترقب.
فعاد إليها نبيا مرسلا...
وبدأ قلم القدرة والاصطفاء يكتب أقدار صفحة جديدة من حياة نبي الله وکلیمه موسى بن عمران (عليه السلام).
وعندما بعث الله موسى (عليه السلام) إلى فرعون وملئه.
فانه أتى بابه واستأذن بالدخول عليه.
فلم يأذنوا له.
فضرب موسى بعصاه باب القصر فاصطكت الأبواب جميعا.
وحينئذ أخبروا فرعون بالأمر.
فسألهم عن شأن هذا الرجل
فقالوا له:
إنه يزعم بأنه رسول رب العالمين فضحك فرعون حتى استلقى على قفاه من شدة الضحك وقال لهم ساخرا: أدخلوه لنرى ما عنده..
وكان فرعون يجلس على عرشه تحوطه مظاهر الأبهة والعظمة.
فدخل عليه موسى ومعه أخوه هارون غير عابئين به.
وعندما سأله فرعون عن شأنه قال له:
إني أدعوك لعبادة الله الواحد الذي هو ربي وربك ورب جميع العالمين وأسألك أن ترسل معي بني إسرائيل.
وأدرك فرعون أن الذي أمامه هو موسى فقال له مغضبا:
{أَلَمۡ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدٗا وَلَبِثۡتَ فِينَا مِنۡ عُمُرِكَ سِنِينَ } [الشعراء: 18]؟
فأجابه موسى (عليه السلام): بلی..
فتابع فرعون حديثه قائلا:
{وَفَعَلۡتَ فَعۡلَتَكَ ٱلَّتِي فَعَلۡتَ وَأَنتَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} [الشعراء: 19]: بنعمتي؟
فأجابه موسى (عليه السلام) وقال:
{فَعَلۡتُهَآ إِذٗا وَأَنَا۠ مِنَ ٱلضَّآلِّينَ} [الشعراء: 20]: عن سبيلك.
{فَفَرَرۡتُ مِنكُمۡ لَمَّا خِفۡتُكُمۡ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكۡمٗا وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ} [الشعراء: 21] ثم عاد الحديث إلى بني إسرائيل مرة أخرى فقال فرعون متعاليا:
إنهم عبيدي فكيف أرسلهم معك؟ فقال موسى بن السلام
{وَتِلۡكَ نِعۡمَةٞ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنۡ عَبَّدتَّ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ} [الشعراء: 22]
وظل موسى (عليه السلام) وفرعون يتجاوبان الكلام وفرعون يجادل ويعاند ويمتنع.
إلى أن سأل فرعون بتكبر واستهزاء وما رب العالمين:
فأجاب موسى (عليه السلام) غير عابئ باستعلائه:
{رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَآۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ} [الشعراء: 24]
فالتفت فرعون إلى من حوله وقال لهم مستنكرا: ألا تسمعون؟
فنظروا إلى موسى (عليه السلام) تعرو وجوههم الدهشة فقال لهم مؤكدا:
{رَبُّكُمۡ وَرَبُّ ءَابَآئِكُمُ ٱلۡأَوَّلِينَ} [الشعراء: 26]
وتعالت الأصوات هنا وهناك...
وظن فرعون أن النقاش انتهى لصالحه
فقال لقومه:
{إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِيٓ أُرۡسِلَ إِلَيۡكُمۡ لَمَجۡنُونٞ} [الشعراء: 27]
فلم يأبه موسى (عليه السلام) للتهمة الكاذبة بل استمر يعدد صفات رب العالمين وقال: { رَبُّ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَمَا بَيۡنَهُمَآۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡقِلُونَ} [الشعراء: 28]
فاستشاط فرعون غضبا وقال لموسى (عليه السلام) محذرا:
{لَئِنِ ٱتَّخَذۡتَ إِلَٰهًا غَيۡرِي لَأَجۡعَلَنَّكَ مِنَ ٱلۡمَسۡجُونِينَ} [الشعراء: 29]
وأراد موسى (عليه السلام) أن يقيم الحجة على فرعون وملئه ويأتي لهم بالبرهان على مدعاه فخاطب فرعون بالقول:
{أَوَلَوۡ جِئۡتُكَ بِشَيۡءٖ مُّبِينٖ} [الشعراء: 30]
فاستجاب فرعون متحديا وقال:
{فَأۡتِ بِهِۦٓ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ} [الشعراء: 31]
وتعلقت الأنظار بموسى (عليه السلام) والقوم ينتظرون ما سیجی به موسی علیه السلام..
وكان موسى (عليه السلام) يقف مع أخيه هارون (عليه السلام) في مكان أخلي لهما في القاعة الفسيحة التي يعتلي فرعون عرشه في صدارتها.
فتهيأ موسى (عليه السلام) والناس يتطاولون برؤوسهم ليشاهدوا ماذا سيفعل {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ } [الأعراف: 107]
فعم الهلع والخوف جميع الحاضرين ولم يبق أحد منهم إلا وفر هاربا..
وداخل فرعون الرعب حتى أنه عجز عن تمالك نفسه..
فتوجه بالرجاء إلى موسى (عليه السلام) قائلا:
يا موسى أنشدك الله والرضاع ألا كففتها عني.
فنزع موسى (عليه السلام) يده فاذا هي بيضاء للناظرين فأخذ العصى.
حتى إذا عادت لحالتها الأولى أخذ الناس يعودون إلى القاعة وهم في حيرة من الأمر...
ووقفوا بانتظار ما سيفعله فرعون وامتلأت القاعة بالحضور من جديد وهدأ روع فرعون وهم بتصديق موسى (عليه السلام) فمال على وزيره هامان يداوله في الأمر.
وكان هامان من أكبر الدهاة كما كان قد تعلم السحر هو وفرعون حتى أنهما غلبا الناس بالسحر وادعى فرعون الربوبية بالسحر فأخذته العزة بالإثم...
وقال الفرعون منكرا عليه موقفه: بينما أنت إله تعبد تريد أن تصير تابعا لهذا العبد؟
وكان فرعون على جبروته وادعائه الربوبية يستمع إلى وزيره هامان ويأخذ فعاوده طغيانه واستكباره وقد تناسى ما حدث له منذ قليل.
فانقلب على موسى (عليه السلام) بعد خضوعه له وقال لمن حوله من الملأ:
{إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٌ عَلِيمٞ 34 يُرِيدُ أَن يُخۡرِجَكُم مِّنۡ أَرۡضِكُم بِسِحۡرِهِۦ فَمَاذَا تَأۡمُرُونَ} [الشعراء: 34-35]
وظن الملأ بأن ما جاء به موسى (عليه السلام) هو السحر فقالوا لفرعون: {أَرۡجِهۡ وَأَخَاهُ وَٱبۡعَثۡ فِي ٱلۡمَدَآئِنِ حَٰشِرِينَ 36 يَأۡتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٖ} [الشعراء: 36-37]
وضرب فرعون موعدا للفريقين.
وكان موعدهم يوم الزينة..
كان للمصريين القدماء عيد سنوي عظيم يحشدون فيه مسراتهم ويقبلون على اللهو والترف والقصف واللعب.
وكان هذا العيد يسمى بيوم الزينة.
وفي صباح ذلك اليوم مشى فرعون ووزيره هامان وعشيرته وبلاطه إلى ساحة المراسم والاحتفالات.
وكانوا قد ضربوا له قبة مصقولة بالفولاذ اللامع تبلغ في طولها سبعين ذراعا وتضم كل ثمين وبهي من الرياش والأثاث.
وأشرقت الشمس على مدينة رعمسيس حاضرة الفرعون.
فانعكست أشعتها على القبة المصقولة حتى أن الناس عجزوا عن التطلع إليها بعيونهم من التماع الحديد تحت وهج الشمس.
وجلس فرعون في أبهته وخيلائه يحوطه خاصته وحاشيته وملؤه وعلى رأسه تاجه المرضع.
ثم أعطى إشارته لبدء مراسم الاحتفال العظيم.
وكانت الجماهير الغفيرة قد احتشدت في ساحة الاحتفال بعد أن ظلت تتوافد على المكان من كافة مدن وأنحاء مصر طوال الأيام السابقة.
وأما السحرة فكانوا قد تصدروا الساحة بملابسهم الخاصة وأدواتهم المعهودة وفي مقدمتها العصي والحبال.
وكانوا ألف ساحر قد انتقاهم فرعون من خيرة السحرة في البلاد.
وقبل البدء.. تقدم كبير السحرة من فرعون وأدى مراسم التقديس والتبجيل ثم سأله:
لقد علمت يا مليكنا ومليك العباد بأنه ليس في الدنيا من هو أسحر منا فان غلبنا موسى فما عندك؟ أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين؟
فأجاب فرعون اشرككم في ملكي نعم وإنكم إذا لمن المقربين.
فاستطرد كبير السحرة ولكن، إذا غلبنا موسى وأبطل سحرنا علمنا أن ما جاء به ليس بسحر فآمنا به وصدقناه...
فعقب فرعون قائلا: بل وصدقته أنا أيضا وآمنت به معكم؟
وارتفع النهار ...
وبدأت المنازلة ...
فقال كبير السحرة الموسى: {إِمَّآ أَن تُلۡقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحۡنُ ٱلۡمُلۡقِينَ} [الأعراف: 115]
فقال لهم موسى: {أَلۡقُواْ مَآ أَنتُم مُّلۡقُونَ} [يونس: 80]
فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا: {بِعِزَّةِ فِرۡعَوۡنَ إِنَّا لَنَحۡنُ ٱلۡغَٰلِبُونَ} [الشعراء: 44]
فأقبلت حبالهم وعصيهم تسعى كأنها الحيات فتراجع الناس مذعورين وأخذ يطأ بعضهم بعضا من الخوف والرعب.
وشعر فرعون وقومه بنشوة الانتصار.
ووقف موسى (عليه السلام) مدهوشا أمام الحيات التي خيل إليه من سحرهم أنها تسعى وأوجس في نفسه خيفة موسى وظن فرعون أن الحجة قد تمت له على موسى وأنه أحرز قصب السبق في هذه المنافسة.
وفجأة.. سمع موسى (عليه السلام) نداء السماء يطمئنه ويهدئ روعه ويأمره قائلا:
{لَا تَخَفۡ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡأَعۡلَىٰ 68 وَأَلۡقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلۡقَفۡ مَا صَنَعُوٓاْۖ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيۡدُ سَٰحِرٖۖ وَلَا يُفۡلِحُ ٱلسَّاحِرُ حَيۡثُ أَتَىٰ } [طه: 68-69]
وهدأ روع موسى (عليه السلام) وشعر بالقوة واستجمع حواسه.
وألقى عصاه باسم الله قاصم الجبارين.
فذابت في الأرض مثل الرصاص.
ثم طلع رأسها وفتحت فاها.
ووضعت شدقها الأعلى على رأس قبة فرعون...
ثم دارت... فاذا هي تلقف ما يأفكون وعادت مشاعر الرعب لتسيطر على الجموع الغفيرة.
فاضطربت الحشود وتقهقرت وولت هاربة من هول الرؤية حتى قتل جراء
هذا الحادث عدد كبير من الناس ما بين رجل وامرأة وصبي..
ولم تكد عصا موسى (عليه السلام) تلقف حبال السحرة وعصيهم حتى دارت مرة أخرى على قبة فرعون.
فأحدث في ثيابه هو وهامان وزيره وشاب رأسهما من الفزع.
حتى أن موسى (عليه السلام) داخله الخوف من جديد.
فجاءه النداء الإلهي مثبتا:
يا موسى {خُذۡهَا وَلَا تَخَفۡۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا ٱلۡأُولَىٰ} [طه: 21]
فأقبل موسى (عليه السلام) نحو الحية العظيمة ولف على يده عباءة ثم أدخل يده في فمها.
فاذا هي عصا.. كما كانت.
وقبل أن يعود الهدوء للمكان أُلْقِي السحرة ساجدين. وقالوا لما رأوا ذلك:
{ءَامَنَّا بِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ 47 رَبِّ مُوسَىٰ وَهَٰرُونَ} [الشعراء: 47-48]
فاستفاق فرعون على مرارة الهزيمة التي لحقت به أمام عيون الأشهاد.
وغضب غضبا شديدا على السحرة.
فخاطبهم مستنكرا ومهددا:
{قَالَ ءَامَنتُمۡ لَهُۥ قَبۡلَ أَنۡ ءَاذَنَ لَكُمۡۖ إِنَّهُۥ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحۡرَ فَلَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَۚ} [الشعراء: 49]
فقال له السحرة لقد رأينا رجلا ينظر إلى السماء ولم يبلغ سحرنا السماء..
فقال لهم فرعون:
{ لَأُقَطِّعَنَّ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَرۡجُلَكُم مِّنۡ خِلَٰفٖ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمۡ أَجۡمَعِينَ } [الشعراء: 49]
فأجابه السحرة قائلين: {لَا ضَيۡرَۖ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ 50 إِنَّا نَطۡمَعُ أَن يَغۡفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَٰيَٰنَآ أَن كُنَّآ أَوَّلَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} [الشعراء: 50-51]
وانتهت مراسم يوم الزينة...
وقد تبدل العيد هما وغما على فرعون وملئه.
فجمع حاشيته وقومه وقفل عائدا إلى قصره مخلفا وراءه قبته العالية التي كادت تلقفها عصا موسى..
ومع كل ما حدث فقد أبى عليه استكباره الاستسلام للحقيقة..
وكان مازال يقدم قومه نحو السراب والضلال ومازال يستخفهم قائلا:
{أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلۡأَعۡلَىٰ} [النازعات: 24]
وبينما سجد السحرة آمن جمع كبير من الناس بموسى (عليه السلام). فقال هامان لفرعون:
إن الناس قد آمنوا بموسى فانظر من دخل في دينه فاحبسه.
فحبس فرعون كل من آمن بموسى من بني إسرائيل ومن قومه.
وأما السحرة..
فقتلهم وصلبهم في جذوع النخل.
ووقعت فتنة كبرى في مصر سببت تزعزعا في عرش فرعون فقال هو وقومه: {مَا هَٰذَآ إِلَّا سِحۡرٞ مُّفۡتَرٗى وَمَا سَمِعۡنَا بِهَٰذَا فِيٓ ءَابَآئِنَا ٱلۡأَوَّلِينَ } [القصص: 36]
فأجابهم موسى (عليه السلام):
{رَبِّيٓ أَعۡلَمُ بِمَن جَآءَ بِٱلۡهُدَىٰ مِنۡ عِندِهِۦ وَمَن تَكُونُ لَهُۥ عَٰقِبَةُ ٱلدَّارِۚ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ } [القصص: 37]
ولكن فرعون أصر على استكباره وقال لقومه:
{يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَأُ مَا عَلِمۡتُ لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرِي} [القصص: 38]
ثم بالغ في عناده وطغيانه وكفره فأمر وزيره هامان قائلا:
{فَأَوۡقِدۡ لِي يَٰهَٰمَٰنُ عَلَى ٱلطِّينِ فَٱجۡعَل لِّي صَرۡحٗا لَّعَلِّيٓ أَطَّلِعُ إِلَىٰٓ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُۥ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ} [القصص: 38]
فشرع هامان في بناء الصرح المزعوم.
وجمع هامان خيرة أهل مصر من المهندسين والبنائين والعمال.
فعكفوا مدة طويلة على بناء الصرح الذي طلبه فرعون.
حتى إذا تم البناء على أفضل مايكون وبلغ في الهواء مكانا عاليا.
ذهب فرعون وتربع قمته ونادى في الناس:
{أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلۡأَعۡلَىٰ} [النازعات: 24]
فافتتن به جمع من الناس واستخف فرعون قومه فأطاعوه.
ولكن الله بعث رياحا مزجرة فأطاحت بالصرح وجعلته أنقاضا متهاوية..
وكان فرعون كلما أتته آية بينة لج في عتوه واستكباره.
وازداد إنكارا لدعوة موسى وأخيه هارون عليهما السلام.
فجاء إليه موسى (عليه السلام) ذات يوم وقال له بعد أن رأى ثباته على الشرك:
أرسل معي بني إسرائيل وخل عنهم فرفض فرعون وتنكر لموسى كعادته.
فأنذره موسى (عليه السلام) بالبلاء فسخر منه فرعون واستعجله بنزوله فلم تكد تمضي سوى فترة وجيزة.
حتى أنزل الله عليهم الطوفان فخرب دورهم ومساكنهم حتى خرجوا الى البرية وضربوا فيها الخيام...
ولم يستطع فرعون بأوتاده مواجهة البلاء الإلهي العظيم..
فقال لموسى (عليه السلام) مناشدا:
يا موسى أدع لنا ربك حتى يكف عنا الطوفان فأخلي عن بني إسرائيل فقبل موسى (عليه السلام) ودعا الله تعالى فكف عنهم الطوفان وهم فرعون أن يبر بوعده ويخلي عن بني إسرائيل.
فوسوس له هامان قائلا:
أتخلي عن بني إسرائيل؟ إنك إن خليت عنهم غلبك موسى وأزال ملكك فقبل فرعون كلامه ولم يخل عن بني إسرائيل وعاد الى طغيانه...
ومر عام وفرعون مقيم على الصلف والجبروت وإدعاء الربوبية..
فأرسل الله عليهم الجراد فأكلت كل شيء لهم من النبات والزروع والشجر حتى كادت تجرد شعرهم والحاهم..
فلجأ إلى موسى (عليه السلام) مرة أخرى وقال له:
يا موسى أنشدك ربك فادعه أن يكف عنا الجراد حتى أخلي عن بني إسرائيل.
ودعا موسى (عليه السلام) ربه فكف عنهم الجراد.
حتى إذا استقامت الأمور الفرعون أخلف وعده ولم يخل عن بني إسرائيل..
ومضت سنة أخرى...
فأرسل الله عليهم العمل في السنة الثالثة.
وسلطها على أجسامهم وزروعهم حتى استحوذ الهلع وأصابتهم المجاعة.
وتكرر ما كان في السابق من الرجاء والمناشدة، ثم عدم البر بالوعد.
فأرسل الله عليهم الضفادع ...
حتى كانت في طعامهم وشرابهم.
بل وكانت تخرج من أدبارهم وأنوفهم وآذانهم.
فجزعوا من ذلك جزعا شديدا فجاءوا إلى موسى (عليه السلام) والضفادع تنق بين أيديهم وفي أعقابهم فقالوا له متوسلين:
أدع ربك فليذهب عنا الضفادع فانا نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل.
ودعا موسى (عليه السلام) ربه فأذهب عنهم الضفادع ولكنهم أبوا أن يخلوا عن بني إسرائيل أو يؤمنوا بموسى (عليه السلام)..
واستيقظ أهل مصر ذات صباح...
وهرعوا الى النيل واهب الحياة ولكنهم تقهقروا عنه مذعورين وقد هالهم ما رأوا..
حيث كانت مياه النيل قد تحولت دما بأمر الله..
وكان ذلك من أكبر المعجزات حيث كان القبطي يراه دما والعبراني يراه ماءا.
بل إن العبراني إذا شربه كان ماءا وإذا شربه القبطي كان دما..
فكان القبطي يقول للعبراني خذا الماء في فمك وصبه في فمي فكان إذا صبه في فمه تحول دما...
ومع كل ذلك فقد تكرر ما حدث في السابق من المناشدة حتى إذا رفع الله عنهم البلاء عادوا الى الغدر والمراوغة.
فأرسل الله عليهم الرجز وهو الثلج الأحمر وكانوا لم يروه في السابق فجزعوا منه جزعا شديدا وماتوا فيه وأصابهم ما لم يعهدوه من قبل.
فقالوا لموسى (عليه السلام):
{ٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَۖ لَئِن كَشَفۡتَ عَنَّا ٱلرِّجۡزَ لَنُؤۡمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرۡسِلَنَّ مَعَكَ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ} [الأعراف: 134]
فكشف الله عنهم الرجز ...
وعندئذ فقط.. لم يكن لهم إلا أن يخلوا عن بني اسرائيل وهم كارهون..
وفي تلك الأثناء حاول فرعون التخلص من موسى (عليه السلام).
حتى أنه قال لقومه صراحة: ذروني أقتل موسى.
ولكن عبدا صالحا ورجلا مؤمنا من آل فرعون نهاهم عن ذلك قائلا:
{أَتَقۡتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدۡ جَآءَكُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ مِن رَّبِّكُمۡۖ} [غافر: 28]
فانتهي فرعون بأمر الله وظن أنه يستطيع مغالبة موسى (عليه السلام).
وكان مؤمن آل فرعون يكتم إيمانه.
فلما ظهر موسى (عليه السلام) على السحرة أظهر إيمانه وانطلق يدعو الناس إلى التوحيد ويرشدهم الى سبيل الخير.
ومن دعوته الى قومه أنه قال لهم ناصحا:
{يَٰقَوۡمِ ٱتَّبِعُونِ أَهۡدِكُمۡ سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ} [غافر: 38]
{يَٰقَوۡمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا مَتَٰعٞ وَإِنَّ ٱلۡأٓخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلۡقَرَارِ } [غافر: 39]
{مَنۡ عَمِلَ سَيِّئَةٗ فَلَا يُجۡزَىٰٓ إِلَّا مِثۡلَهَاۖ وَمَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ يُرۡزَقُونَ فِيهَا بِغَيۡرِ حِسَابٖ} [غافر: 40]
{وَيَٰقَوۡمِ مَا لِيٓ أَدۡعُوكُمۡ إِلَى ٱلنَّجَوٰةِ وَتَدۡعُونَنِيٓ إِلَى ٱلنَّارِ} [غافر: 41]
{تَدۡعُونَنِي لِأَكۡفُرَ بِٱللَّهِ وَأُشۡرِكَ بِهِۦ مَا لَيۡسَ لِي بِهِۦ عِلۡمٞ وَأَنَا۠ أَدۡعُوكُمۡ إِلَى ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡغَفَّٰرِ} [غافر: 42]
{لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدۡعُونَنِيٓ إِلَيۡهِ لَيۡسَ لَهُۥ دَعۡوَةٞ فِي ٱلدُّنۡيَا وَلَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ هُمۡ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِ} [غافر: 43]
{فَسَتَذۡكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمۡۚ وَأُفَوِّضُ أَمۡرِيٓ إِلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَصِيرُۢ بِٱلۡعِبَادِ} [غافر: 44] وكان هذا الرجل الصالح يسمى حزقيل
وكان من بلاط فرعون وآله.
فلما علم فرعون بذلك غضب غضبا شديدا لمنزلته منه
فأمر بالمجيء به فجاءوا به مكبلا بالحديد.
فخيره فرعون بين العودة عن دينه أو الهلاك.
ففوض الرجل أمره الى الله وظل ثابتا على عقيدته
فأمر فرعون بتقطيعه إربا إربا عله ينصرف عما هو فيه.
فكان الرجل يزداد إيمانا في مواجهة مكرهم وطغيانهم
وكانوا طامعين في أن يفتنوه عن دينه فوقاه الله سيئات ما مكروا ولقي الله راضيا محتسبا وحاق بآل فرعون سوء العذاب.
وكانت امرأة حزقيل ماشطة لبنات فرعون.
وكانت تكتم إيمانها هي الأخرى مع أولادها.
وذات يوم...
كانت تمشط بنتا لفرعون.
فوقع المشط من يدها..
فقالت من فرط الايمان بسم الله
فقالت ابنة فرعون:
أبي؟ فأجابتها
كلا بل ربي وربك ورب أبيك فأخبرت البنت أباها فطاش صوابه ودعا بها وبأولادها فما جاءت سألها:
من ربك؟
فأجابت: الله ربي وربك.
فأمر فرعون بتنور من نحاس فأحمي حتى توهج بالنار.
ثم أمر بإلقاء أولادها واحدا واحدا بالتنور.
حتى جاء دور آخرهم وكان رضيعا فلما هموا بإلقائه نطق الرضيع قائلا يا أماه... إنك على الحق فبهت فرعون وأمر بالقاء المرأة في التنور مع ولدها..
وبينما كان الملائكة يعرجون بروح امرأة حزقيل...
عاينتهم آسية امرأة فرعون..
وكانت مؤمنة صادقة تعبد الله سرا.
فزادت يقينا وإخلاصا لما عاينت الملائكة وحلقت روحها في عالم الملكوت الأعلى وهي جالسة في قصر فرعون.
وبينما هي على هذه الحالة... دخل عليها فرعون وأخبرها بما فعل مع المرأة المؤمنة ... فكبر ذلك عليها وهالها ما به من قسوة ...
وقالت له مستنكرة الويل لك يا فرعون ما أجرأك على الله جل وعلا فدهش فرعون وقال لها: لعلك اعتراك الجنون؟ فأفصحت آسية قائلة: بل آمنت بالله ربي وربك ورب العالمين.
وجن جنون فرعون وأقسم لتذوقن الموت أو تكفرن بإله موسى..
فقالت بنفس مطمئنة:
إما أن أكفر بالله فلا..
فکره فرعون ثباتها على الايمان وتوقدت نار غضبه عليها.
فأمر بأربعة أوتاد فمدت على الحصباء تحت حرارة الشمس الملتهبة.
ثم أمر بمد امرأته بين الأوتاد الأربعة ...
وأوعز الجلاوزته بصب العذاب صبا عليها.
وكان موسى (عليه السلام) يعلم بايمانها..
فمر عليها وهي تكابد العذاب.
فأشارت إليه باصبعها شاكية.
فدعى الله موسى (عليه السلام) أن يخفف عنها فلم تجد للعذاب ألما..
فتوجهت إلى الله بالدعاء وهي في العذاب وقالت:
{رَبِّ ٱبۡنِ لِي عِندَكَ بَيۡتٗا فِي ٱلۡجَنَّةِ} [التحريم: 11]
فأوحى الله إليها أن ارفعي رأسك.
فرفعت رأسها.. والملائكة تظللها.
فشاهدت البيت في الجنة وقد بني لها من الدر والياقوت...
فضحكت ثم ظلت على هذه الحالة حتى عرجت الملائكة بروحها وقد عوضها الله عن قصور فرعون وأنهاره بمنزل عنده في جنان الخلود.
وبعد غلبة موسى (عليه السلام) في يوم الزينة على فرعون.
وبعد نزول العذاب آية آية على فرعون وقومه ...
اقتنع فرعون بأن يخلي عن نبي اسرائيل ويرسلهم مع موسى (عليه السلام) نزولا على طلبه وإن كان كارها لذلك.
وأوحى الله إلى موسى (عليه السلام) أن أسر بعبادي.
ثم نبأه بما سيكون من فرعون فقال:
{إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ} [الشعراء: 52]
فجمع موسى (عليه السلام) بني اسرائيل وخرج من مصر ليقطع بهم البحر.
ولكن فرعون عاد إلى جبروته وغلبه طغيانه واستكباره.
{فَأَرۡسَلَ فِرۡعَوۡنُ فِي ٱلۡمَدَآئِنِ حَٰشِرِينَ} [الشعراء: 53]
وقال لملئه ساخرا من موسى (عليه السلام) ومن بني إسرائيل:
{إِنَّ هَٰٓؤُلَآءِ لَشِرۡذِمَةٞ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54]
{وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ } [الشعراء: 55]
{وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء: 56]
فأثار قومه وألبهم بهذه الكلمات الساخطة.
ثم جمع جيشا عظيما وخرج به مسرعا ليلحق بموسى (عليه السلام).
وعندما كان موسى (عليه السلام) وقومه على مقربة من البحر ...
نظروا.. فاذا بجيش فرعون الجرار قادما في أثرهم.
فخاف أصحاب موسى (عليه السلام)
وغلبهم الجزع فقالوا يائسين: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61]
فأجابهم قائلا: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]
فتقدم يوشع بن نون وقال لموسى (عليه السلام): یا رسول الله ما أمرك ربك؟
فأجابه موسى (عليه السلام): بعبور البحر ...
فاقتحم يوشع بن نون الماء بفرسه واقترب فرعون بفرسانه وخيله حتى كادوا أن يلحقوا بموسى وقومه.
فأوحى الله إلى موسى (عليه السلام) {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء: 63]
فضربه ...
{فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63]
{فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } [الشعراء: 63] وارتفع الماء..
وبدت الأرض يابسة قد طلعت عليها الشم...
فشقوا طريقهم نحو الشاطئ الآخر..
وأقبل فرعون بجنوده...
فلما انتهى إلى البحر ورأى ما رأى، قال لأصحابه وقد أصابتهم الدهشة.
ألا تعلمون أن ربكم الأعلى قد فرج لكم البحر؟
ولكن أحداً لم يجرؤ على دخول البحر وامتنعت الخيل لهول الماء المرتفع على الجانبين...
فأخذ فرعون يلكز فرسه بشدة حتى اقترب به من الرمال في قاع البحر المتفلق.
فلما رأى الفرس الرمال.
تجاسر على السير واقتحم البحر بفرعون.
فاقتحم أصحابه خلفه.
حتى إذا دخلوا جميعا وكان آخر من دخل من أصحاب فرعون.
وآخر من خرج من أصحاب موسى (عليه السلام).
أمر الله تعالى الرياح...
فضربت البحر بعضه ببعض وفي لحظة واحدة...
أقبل الماء يقع على فرعون وجنوده كالجبال...
فارتفع الصراخ والصهيل وأيقن فرعون بالغرق.
حتى إذا رأى بأس السماء صاح قائلا:
{آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس: 90] فأخذ جبرائيل (عليه السلام) كفا من الحمأ فوضعها في فيه لعلمه بكذبه ومكره وقال له:
{لْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91] فأغرقه الله ونجاه ببدنه ليكون لمن خلفه آية.
وأغرق معه جميع جنوده...
ونجى موسى ومن معه أجمعين...
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 8]
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 9]
وعندما كان فرعون يعالج سكرات الموت غرقا تحت الأمواج.
تمثل له مشهد من الماضي وقد قام أمامه جبرائيل (عليه السلام).
وفي يده كتاب فذات يوم بعيد غار ماء النيل حتى عم الجفاف وانتشرت المجاعة.
ففزع أهل مصر إلى فرعون وتوسلوا به قائلين:
يا مليكنا.. أخر لنا النيل، فقد أشرفنا على الهلاك...
ولما كان فرعون يعلم أن ذلك ليس بامكانه فانه خادعهم قائلا:
لست براض عنكم فلن أدع النيل يجري لكم..
فذهبوا وانتظروا زمنا حتى زاد عليهم الجفاف فعادوا إلى فرعون قائلين:
غيرك..
أيها الملك لقد أوشكنا على الموت والهلاك، ولئن لم تجر لنا النيل لنتخذن إلها
فتدبر فرعون ثم قال لهم:
اخرجوا إلى العراء..
وخرج الناس جميعا إلى العراء يتقدمهم فرعون...
حتى إذا صاروا في صحراء فسيحة...
تنحى عنهم بحيث لا يرونه ولا يسمعون كلامه ثم ألصق خده بالتراب
وأشار بسبابته وقال:
اللهم إني خرجت إليك خروج العبد الذليل إلى سيده وإني أعلم أنك تعلم أنه
لا يقدر على إجرائه أحد غيرك، فاجره.
وأراد الله أن يفتن فرعون وقومه ...
فجرى النيل جريانا لم يجر مثله..
فأتاهم الطاغية وقال لهم:
إني قد أجريت النيل.
فخروا له سجدا..
وعندما كان فرعون في طريق العودة...
عرض له جبرائيل وقال له:
أيها الملك؟ أعني على عبد لي ملكته على عبيدي فعاداني فقال له فرعون
بئس العبد عبدك لو كان لي عليه سبيل لأغرقته في البحر..
فطلب منه جبرائيل أن يكتب ذلك في كتاب ويختمه بخاتمه.
حتى إذا كان يوم البحر وهو يقاوم الغرق...
فان جبرائيل (عليه السلام) أبرز له الكتاب قائلا:
هذا ما حكمت به على نفسك ولما أنجى الله موسى ومن معه أجمعين.
ثم أغرق الآخرين.
فان موسى (عليه السلام) سار ببني اسرائيل حتى نزلوا في مفازة.
فشعروا بالتعب والمشقة.
واعترضوا على موسى (عليه السلام) قائلين:
يا موسى أهلكتنا وقتلتنا وأخرجتنا من العمارة إلى المفازة
ودعا موسى ربه.
فظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى.
فكانت تجيء غمامة بالنهار فتظلهم من الشمس.
حتى إذا جن الليل أنزل الله عليهم المن والسلوى فيقع على النبات والشجر
والحجر فيأكلونه.
وبقي الماء..
فاستسقى موسى لقومه.
فقال الله تعالى:
{اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} [البقرة: 60] وكان معه حجر يضعه في وسط الخيام
{فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا } [البقرة: 60] وكانوا اثني عشر سبطا
{قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة: 60] دون مزاحمة الآخرين.
وواعد الله موسى (عليه السلام) ثلاثين ليلة لينزل عليه التوراة والألواح.
وأتمها الله تعالى بعشر فكان تمام الميقات أربعين ليلة.
واختار موسى من قومه سبعين رجلا ليسمعوا تكليمه تعالى إياه في الميقات.
فسمعوا.
ولكنهم قالوا لموسى (عليه السلام):
{ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] فلما قالوا هذا القول العظيم
بعث الله عليهم صاعقة فأخذتهم بظلمهم فماتوا في الحال.
فقال موسى مخاطبا ربه سبحانه يا رب ماذا أقول لبني اسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا لي إنك ذهبت بهم فقتلتهم فأحياهم الله بعد أن أخذتهم الصاعقة وهم ينظرون
ولكن بني اسرائيل ظلوا غارقين بظلمهم رغم هذه الآية الالهية.
فقالوا لموسى:
إنك لو سألت الله أن يريك تنظر إليه لأجابك وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حق معرفته.
فقال لهم موسى (عليه السلام):
يا قوم إن الله لا يرى بالأبصار وإنما يعرف بآياته فأجابوه معاندين مرة أخرى:
لن نؤمن لك حتى تسأله وناجي موسى (عليه السلام) ربه قائلا:
يا رب لقد سمعت مقالة بني اسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم.
فأوحى الله إليه: يا موسى اسألني ما سألوك فلن أواخذك بجهلهم
فعند ذلك قال موسى (عليه السلام):
{رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143]
فقال الله تعالى: {قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143]
وتجلى الله تعالى بنوره العظيم فلما تجلى للجبل بآية من آياته
{جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143]
{وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا } [الأعراف: 143] فلما أفاق قال:
{سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] ورجعت إلى معرفتي بك عن جهل قومي
ثم أكد بعلم الكلام إيمانه قائلا:
{ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143] منهم بأنك لا ترى بالأبصار وفي هذه الأثناء ...
كان بنو إسرائيل الذين تركهم موسى (عليه السلام) خلفه قد دخلوا في الشرك.
وكان سبب ذلك أن موسى (عليه السلام) لما واعده الله تعالى أن ينزل عليه التوراة
والألواح إلى ثلاثين يوما أخبر بني إسرائيل بذلك...
وذهب إلى ميقات ربه مخلفا عليهم أخاه هارون (عليه السلام).
فلما مرت الثلاثون يوما ولم يرجع إليهم موسى (عليه السلام) قال بعضهم لبعض:
إن موسى قد كذب علينا وهرب منا ووسوس لهم الشيطان فقال لهم:
إن موسى قد هرب ولن يرجع إليكم أبدا فاجمعوا ما لديكم من الحلي واتخذوها إلها تعبدونه وكان السامري على مقدمة موسى (عليه السلام) يوم أغرق الله فرعون وجنوده.
فرأى جبرائيل (عليه السلام) وكان على ما يشبه البراق فكان كلما وضع حافره على موضع من الأرض تحرك ذلك الموضع.
فنظر إليه السامري وكان من خيار أصحاب موسى (عليه السلام).
فأخذ التراب من حافر براق جبرائيل (عليه السلام) وجعله في صرة.
ظل عنده يفتخر به على بني إسرائيل وأطاع بنو اسرائيل إبليس...
فجمعوا حليهم وضربوها وجعلوا منها عجلا فجاء إبليس إلى السامري ووسوس له بوضع التراب الذي عنده في جوف العجل.
وعندئذ تحرك العجل وصار له خوار.
وثبت عليه الشعر والوبر فسجد له بنو اسرائيل.
وكان عدد الذين سجدوا له سبعين ألفا.
ثم تحلقوا حوله وأخذوا يرقصون ويصخبون ويعربدون.
وقد نسوا نبيهم الذي ذهب لميقات ربه ولما عبد بنو اسرائيل العجل وسجدوا له وقد ذهب موسى (عليه السلام) لميقات ربه.
فان خليفته عليهم أخاه هارون (عليه السلام) أنكر عليهم ذلك.
وقال لهم ناصحا ومحذرا من المعصية:
{إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} [طه: 90] فأجابه القوم قائلين:
{لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه: 91] وعندما استمر هارون (عليه السلام) في نهيهم عن الشرك بعد التوحيد فانهم هموا به ليؤذوه حتى أنه هرب من بينهم لينجو من أذاهم بينما أقاموا هم على الشرك والعصيان وتم الميقات أربعين يوما فأنزل الله الألواح على موسى (عليه السلام) وفيها التوراة وكافة ما يحتاجون إليه من الأحكام والشرائع والمواعظ وفيها تبيان لكل شيء.
فأخذها موسى بنت السلام فرحا مستبشرا وهم بالرجوع إلى قومه وعند ذلك..
خاطبه المولى سبحانه قائلا:
{وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} [طه: 83] فقال (عليه السلام)
{هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84] فأطلعه ربه على ما أحدثه قومه في غيبته قائلا:
{فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [طه: 85] فقال موسى (عليه السلام) مسلما الأمر ربه {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف: 155]
وشعر موسى (عليه السلام) بالألم والمرارة.
فرجع الى قومه غضبان أسفا.
حتى إذا اقترب من خيامهم وعسكرهم أفزعه ماهم فيه من صخب وعربدة فقال لهم:
{يَاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} [طه: 86] فقال له بنو إسرائيل:
{ قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} [طه: 87] وكان السامري قد أخرج {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه: 88]
فوبخهم (عليه السلام) قائلا:
{بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي} [الأعراف: 150]
وتحول موسى عليه الاسلام من قومه إلى أخيه هارون (عليه السلام).
ولما كان موسى غاضبا فانه ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه.
وقال له وسورة الغضب تحفزه:
{يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 92، 93] فقال له هارون (عليه السلام) موضحا:
{ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 94] وإن القوم استضعفوني وعندما وقف موسى على حجة هارون.
ووجد أن بني اسرائيل قد استضعفوه وهموا به ليقتلوه فانه عذره وأقبل على السامري قائلا:
{ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} [طه: 95] فقال السامري:
{بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي } [طه: 96]
فقال له موسى (عليه السلام) {فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} [طه: 97]
وأخرج موسى (عليه السلام) عجل بني إسرائيل فأحرقه بالنار وألقاه في البحر ونسفه في اليم نسفا.
وقال لقومه:
{إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه: 98] ولما وجد السامري أن الناس لم يعودوا يخالطوه ولا يجالسوه ولا يؤاكلوه بأمر الله حيث لا مساس
وأن التضييق قد اشتد عليه بسبب دعاء موسى (عليه السلام)
فانه خرج من بينهم وهام على وجهه في الصحراء حتى صار عبرة وقد انتهت حياته مع الوحش والسباع
{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ} [الأعراف: 154] {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154]
ثم خاطب قومه لائماً:
{يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] فقالوا له وقد عرتهم الدهشة:
وكيف نقتل أنفسنا؟
فقال لهم موسى (عليه السلام):
اغدوا ومع كل واحد منكم سكين أو حديدة أو سيف فاذا صعدت المنبر فكونوا متلثمين لا يعرف أحد صاحبه فاقتلوا بعضكم بعضا.
فاستجابوا له
واجتمع منهم سبعون ألفا ممن عبدوا العجل.
فلما صلى بهم موسى (عليه السلام) وصعد المنبر أقبل بعضهم يقتل بعضا.
وظلوا على هذه الحال حتى نزل جبرائيل (عليه السلام).
فقال لموسى (عليه السلام):
قل لهم أن يكفوا عن القتل فقد تاب الله عليهم.
فتوقفوا وإذا بعدة آلاف قد قتلوا من بينهم ممن عبدوا العجل.
فعندئذ قال الله تعالى:
{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [البقرة: 54] ووجد موسى وهارون أن القوم قد قتل منهم عدد كبير ...
فبكيا وجزعا وتضرعا واشتد الأمر على موسى (عليه السلام) ورثى لقومه رحمة بهم رغم ما صدر عنهم من الاثم العظيم.
فأوحى الله تعالى إليه
أما يرضيك أن أُدخل القاتل والمقتول الجنة
فكان من قتل منهم شهيدا ومن بقي منهم مكفرا عن ذنبه ...
وبعدما امتحن الله تعالى بني اسرائيل بقتل أنفسهم تطهيرا لهم من ذنوبهم حتى يتوب عليهم ...
فقد توالت عليهم الاختبارات الالهية فتنة لهم حتى يتبين الخبيث من الطيب.
ومن ذلك أمره تعالى لهم بأن يذبحوا بقرة فقي ذلك الزمان ...
كان هناك رجل من علماء بني اسرائيل وخيارهم وكان له ابن عم فاسق سيء الأخلاق فتقدم الأخير ليخطب امرأة ذات دين وجمال...
فرفضت طلبه ... ثم تقدم لها ابن عمه الذي كان عالما فاضلا...
فأجابته واشتدت الغيرة بالفاسق فحسد ابن عمه وأراد التخلص منه فكمن له وقتله غيلة.
ثم حمله إلى موسى (عليه السلام) وقد بدت عليه علامات الحزن والجزع فقال له:
يا نبي الله، لقد قتل ابن عمي هذا ولا أدري من قتله فعظم ذلك على موسى (عليه السلام) نظرا لمنزلة القتيل ثم ما لبث أن اجتمع بنو إسرائيل عند نبيهم وقد بكوا وضجوا وقالوا له بألم ورجاء:
ماذا ترى يا نبي الله؟
وصمت نبي الله موسى (عليه السلام) ثم قال لهم بحلم وطمأنينة:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } [البقرة: 67] فعجبوا ونظر أحدهم إلى الآخر ثم قالوا لموسى (عليه السلام):
{أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} [البقرة: 67]؟ تأتيك في قتيل لتقول لنا اذبحوا بقرة
فقال لهم موسى (عليه السلام):
{أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67]
وكان في بني إسرائيل رجل له بقرة وكان له ابن بار عنده سلعة للبيع فجاء قوم يطلبون سلعته وكان مفتاح بيته تحت رأس أبيه وكان أبوه نائما في تلك الساعة فكره ابنه أن يوقظه وينغص عليه نومه فانصرف القوم ولم يشتروا سلعته.
مما أحزن الابن لذهاب هذه الفرصة..
وانتبه الأب من نومه وكان مهتما بأمر تلك السلعة فسأل ابنه قائلا:
يا بني ماذا صنعت في سلعتك؟
فقص عليه ابنه ما حدث فحمد له ما فعل وأراد مكافأته
فقال له: ما أشفقك علي يا بني قد جعلت لك هذه البقرة عوضا عما فاتك من ربح
سلعتك وكثر القيل والقال من بني اسرائيل وهم عند موسى (عليه السلام) لما أمرهم الله تعالى بأن يذبحوا بقرة وأكثروا من الجدال فقالوا له: {دْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة: 68] فقال لهم موسى (عليه السلام):
{إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة: 68] فما لبثوا أن قالوا لموسى عليه {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} [البقرة: 69] فأجابهم نبي الله موسى (عليه السلام):
{إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة: 69] وكان على بني اسرائيل أن يمتثلوا للأمر الإلهي ولكنهم لجوا وعائدوا فقالوا لموسى (عليه السلام):
{ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة: 70] فأجابهم موسى (عليه السلام) بصبره النبوي:
{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا} [البقرة: 71].
فقالوا: {الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 71] ووجد بنو إسرائيل أنه لا مفر لهم من ذبح البقرة ...
فذهبوا يبحثون عنها
وكانت البقرة هي تلك التي وهبها الأب الكريم لولده البار
وذهب بنو اسرائيل لشراء البقرة وكان الابن قد علم بما حدث فقال لهم:
لا أبيعها إلا بملئ جوفها ذهبا
وكان بنو إسرائيل من البخل بمكان فعادوا إلى موسى (عليه السلام) غاضبين وأخبروه بالأمر.
ولما كان موسى (عليه السلام) على علم بخصالهم وطبائعهم...
فانه أجابهم قائلا:
لابد لكم من ذبحها بعينها
ولأنهم كانوا مصرين على معرفة القاتل
فانهم استسلموا للواقع
واشتروها بملئ جلدها ذهبا..
{ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] ولو أنهم كانوا قد عمدوا إلى أية بقرة فذبحوها لأجزأتهم...
ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم..
وجاء بنو اسرائيل بالبقرة المذبوحة إلى موسى (عليه السلام) ثم قالوا له:
والآن ما تأمر يا نبي الله؟
فقال لهم طاعة للوحي الالهي:
اضربوا القتيل ببعضها واسألوه عن قاتله.
فأخذوا ذنب البقرة وضربوه به ثم قالوا له:
من قتلك يا هذا؟
فأجابهم وقد أحياه الله:
قتلني ابن عمي الذي جاء بي إلى هنا..
وكان الوحي الالهي يتجاوب في سماء العرش قائلا:
{كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [البقرة: 73] ويروى أن موسى (عليه السلام) بعد ذلك سأل ربه قائلا:
إن كان في عبدك من هو أعلم منى فدلني عليه فأجابه تعالى:
أعلم منك الخضر فقال موسى (عليه السلام) وأين أطلبه فقال المولى سبحانه على الساحل عند الصخرة لدى مجمع البحرين فقال موسى (عليه السلام) وكيف لي به؟
فقال تعالى تأخذ حوتا في مكتلك فحيث فقدته فهناك تلقاه.
وأمر موسى (عليه السلام) وصيه يوشع بن نون أن يتزود حوتا وقال له: إن الله أمرني أن أتبع رجلا عند ملتقى البحرين وأتعلم منه.
فخرجا وجدا في السير وقال موسى ان السلام لفتاه يوشع:
{ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا } [الكهف: 60] وأخذا يسيران حتى بلغا مجمع البحرين فجلسا يستريحان.
وأخرج يوشع الحوت وغسله بالماء ووضعه على الصخرة.
وكان هناك رجل ولكنهما لم يعرفاه.
فلما استراحا مضيا ونسيا حوتهما.
{فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} [الكهف: 61] وظل موسى وفتاه يسيران حتى جاوزا ملتقى البحرين بمسافة بعيدة.
فقال موسى لفتاه وقد شعرا بالتعب {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا } [الكهف: 62] وبحث يوشع عن الحوت فلم يجده، فقال لموسى (عليه السلام) متذكرا:
{قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا } [الكهف: 63]
فابتهج موسى (عليه السلام) وقال لفتاه
{ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ } [الكهف: 64]
{فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف: 64]
ولما عادا إلى ذلك المكان عند الصخرة وجدا نفس الرجل الذي شاهداه سابقا ما زال هناك.
ولكنه كان مستغرقا في الصلاة فجلسا حتى فرغ من صلاته.
وقد تبين لهما أنه الخضر (عليه السلام)
وكان الخضر (عليه السلام) عبدا من عباد الله الصالحين
بل وكان نبيا مرسلا...
ووصفه المولى سبحانه بقوله {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا } [الكهف: 65] ويقال بأنه ما زال حيا حتى الآن.
وفرغ الخضر (عليه السلام) من الصلاة.
فسلم عليه.
فرد عليهما السلام.
فتأكد لهما الأمر حيث لم يكن في تلك الديار من يقر بالتوحيد.
فقال له موسى (عليه السلام)
{هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66] فأجابه الخضر (عليه السلام)
{إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف: 67، 68] فتعجب نبي الله وكليمه مما سمع ولكنه قال له بتواضع جم: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف: 69] فوضع الخضر (عليه السلام) شرطا لذلك قائلا:
{فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف: 70] فانطلقا وقد رضي موسى (عليه السلام) بالشرط.
وبلغا ساحل البحر وقد جاءت سفينة تريد أن تعبر فقال أرباب السفينة وقد وجدوا النفر الثلاثة على الشاطئ لنحمل هؤلاء معنا إذ يبدو عليهم أنهم قوم صالحون.
فركب الخضر وموسى ومعهما يوشع.
وأبحرت السفينة تشق عباب الماء.
وبعد أن قطعت السفينة شوطاً فوق الأمواج...
عمد الخضر (عليه السلام) إلى قاعها فخرقها ...
فغضب موسى (عليه السلام) غضبا شديدا وخاطب الخضر (عليه السلام) منكرا عليه فعلته:
{أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا } [الكهف: 71] فذكره الخضر (عليه السلام) قائلا:
{ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا } [الكهف: 72]
فاعتذر موسى (عليه السلام) تأدبا وقال:
{ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف: 73] وانطلقا مرة أخرى بعد النزول من السفينة.
فاذا بصبية يلعبون وبينهم غلام حسن الوجه.
فتأمله الخضر (عليه السلام) ثم أخذه وقتله.
فوثب عليه موسى (عليه السلام) وقد اشتد غضبه مرة أخرى.
وقال للخضر (عليه السلام) معنفا:
{أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف: 74] فأجابه الخضر (عليه السلام) لائما:
{أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا } [الكهف: 75] فبلغ موسى (عليه السلام) منتهى العذر وقال وقد اشترط على نفسه شرطا حاسما:
{ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف: 76] فانطلقا.
حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها.
فأبوا أن يضيفوهما ...
فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه الخضر (عليه السلام).
فلم يستطع موسى (عليه السلام) صبرا وقال له:
{ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا } [الكهف: 77] فأجابه الخضر (عليه السلام) قائلا:
{هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78] وجلس موسى (عليه السلام) صامتا في انتظار سماع تأويل ما لم يستطع عليه صبرا
وقد زاد قناعة أن ثمة من هو أعلم منه
فأنبأه الخضر (عليه السلام) نبأ السفينة قائلا:
{ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79] ثم أنبأه بخبر الغلام قائلا:
{وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف: 80، 81] وبقي خبر الجدار فقال له الخضر (عليه السلام):
{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } [الكهف: 82] ثم ختم الخضر (عليه السلام) حديثه بتواضع العلماء الانهيين مسندا علم ذلك كله إلى الله تعالى وقال مستطردا:
{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا } [الكهف: 82] وحانت ساعة الفراق فذهب كل منهما إلى حال سبيله ...
وفوق كل ذي علم عليم..
وإن في قصصهم لعبرة لأولي الألباب.
وكان الله سبحانه وتعالى قد وعد موسى (عليه السلام) أن يورثه وقومه الأرض المقدسة وهي فلسطين.
وكان يسكنها قوم جبارون من أحفاد سام بن نوح (عليه السلام).
فلما حانت ساعة ذلك.
أمر الله تعالى نبيه موسى (عليه السلام) بالمسير فقال موسى (عليه السلام) لقومه:
{يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } [المائدة: 21] فخاف بنو اسرائيل من قتال العمالقة وأرادوا الرجوع إلى مصر وقالوا:
يا ليتنا متنا بأرض مصر ولا يدخلنا الله إلى هذه الأرض فتكون نساؤنا وأموالنا غنيمة لهؤلاء الجبارين.
واشتد الأمر على موسى (عليه السلام) فقال لهم مطمئنا وواعدا بالنصر الالهي:
إن الله الذي فلق لكم البحر وأنجاكم من فرعون وجوره هو الذي يظهركم
عليهم.
فرفضوا وهموا بالأنصراف إلى مصر وقالوا لموسى (عليه السلام) معاندين:
{وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة: 22] فقام يوشع بن نون وصي موسى (عليه السلام) ومعه رجل آخر وخاطبا القوم قائلين:
{ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] ولكن بني اسرائيل لم يكونوا على درجة من الايمان تؤهلهم لينجز الله وعده لهم، فقالوا لموسى (عليه السلام) وقد سيطر على نفوسهم الذل والهوان والخوف
{يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [المائدة: 24] ولم يجرؤ بنو إسرائيل على الأقتراب من باب أريحا.
وقعدوا يصدون ويثبطون عن القتال.
فخاطب موسى (عليه السلام) ربه قائلا والحال هذه:
{رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25] فأراد الله سبحانه القضاء على بني اسرائيل واستبدالهم بخير منهم.
فدعا موسى (عليه السلام) ربه بالصبر عليهم والمغفرة لهم وعدم أخذهم بالموبقات.
فاستجاب الله تعالى دعاءه ولكنه حرم عليهم دخول الأرض المقدسة وقال لموسى (عليه السلام) مواسيا:
{فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 26] وتمت حجة الله تعالى على بني اسرائيل لفسقهم وعصيانهم.
وظلوا تائهين في الأرض كما كتب الله.
وانصرف موسى ال السلام المناجاة ربه والسعي في إصلاح بني اسرائيل.
وكان الزمن يمر والأعوام تترى حتى حانت ساعة هارون (عليه السلام) فأوحى الله إلى موسى (عليه السلام) بذلك فقال موسى الهارون.
امض بنا إلى جبل طور سيناء فاذا ببيت على بابه شجرة عليها ثوبان ووقف هارون (عليه السلام) منتظرا ماذا سيحدثفقال له موسى (عليه السلام):
ادخل البيت واطرح ثيابك والبس هاتين الحلتين وتم على السرير الذي بالداخل.
ففعل هارون (عليه السلام)..
وعندئذ قبضه الله إليه وارتفع البيت والشجرة..
وعاد موسى (عليه السلام) إلى بني اسرائيل فأخبرهم بما حدث.
فكذبوه واتهموه بقتل أخيه هارون..
فشكى موسى (عليه السلام) ذلك إلى ربه.
فأمر الله تعالى الملائكة، فحملت السرير وعليه هارون (عليه السلام) بين الأرض
والسماء حتى رآه بنو اسرائيل..
وعند ذلك فقط، علموا بأنه مات..
ومضت مدة أخرى من الزمان وإذا موسى (عليه السلام) برجل حسن المنظر يقول له:
السلام عليك يا كليم الله.
فرد (عليه السلام) ثم سأله:
من أنت؟
فأجابه قائلا: أنا ملك الموت جئت لأقبض روحك فقال له موسى (عليه السلام)
ومن أين تقبض روحي؟
فقال ملك الموت من فمك
فقال له موسى (عليه السلام) محتجا:
كيف وقد تكلمت مع ربي جل جلاله؟
فقال ملك الموت:
إذا.. فمن يديك
فقال موسى (عليه السلام)
كيف وقد حملت بهما التوراة؟
فاستطرد ملك الموت قائلا:
فمن رجليك
فقال له موسى (عليه السلام):
كيف وقد وطأت بهما طور سيناء؟
فقال له ملك الموت:
فمن عينيك
فأجاب موسى (عليه السلام):
كيف ولم تزل إلى ربي ممدودة؟
فقال ملك الموت باسما:
فمن أذنيك
فقال له موسى (عليه السلام)
كيف وقد سمعت بهما كلام الله عز وجل؟
ووقف ملك الموت ينتظر الوحي الالهي فجاءه قائلا:
لا تقبض روحه حتى يكون هو الذي يريد ذلك...
فخرج ملك الموت من عند موسى (عليه السلام)
فدعا موسى (عليه السلام) يوشع بن نون وأوصى إليه وأمره بكتمان أمره وبأن
يوصى بعده لمن يقوم بالأمر.
ثم غاب موسى (عليه السلام) عن قومه..
وعندما كان موسى (عليه السلام) في غيبته مر برجل يحفر قبرا
فقال للرجل:
ألا أعينك على حفر هذا القبر؟
فرضي الرجل بمساعدته فأعانه موسى (عليه السلام) على حفر القبر وسوى اللحد ثم اضطجع فيه لينظر كيف هو فكشف له الغطاء عن عالم غيب الرحمان فلم يلبث أن خاطب ربه قائلا:
يارب اقبضني إليك
فقبضت روحه في مكانه
وكان الذي يحفر القبر ملاكا في صورة آدمي فدفنه في القبر وسوى عليه التراب وهو في أرض التيه.
وعند ذلك صاح صائح من السماء:
مات موسى كليم الله فأي نفس لاتموت
الاكثر قراءة في قصة النبي موسى وهارون وقومهم
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة

الآخبار الصحية
