أشرقت الشمس على مدينة إرم.
فانعكست أشعتها على أعمدة المدينة المرصعة بالدر والياقوت.
وشمخ حصنها المنيع يناطح السحاب.
وتألقت قصورها في جلال الشروق.
وكانت قصورا معلقة وتحت كل قصر منها أعمدة من الزبرجد والياقوت والأحجار الكريمة.
وفوق كل قصر غرف وفوق الغرف غرف مبنية من الذهب والفضة واللؤلؤ.
وعلى كل باب من أبواب هذه القصور مصاريع من عود طيب نضدت عليه اليواقيت.
وقد فرشت القصور باللؤلؤ وبنادق المسك والزعفران[1].
ورفرفت على الحصن والقصور آلاف الأعلام الحريرية الخفاقة.
وضجت الشوارع والأزقة بالمارة والعابرين، بينما أخذت نسائم الصباح تتلاعب بالأشجار الخضراء المثمرة وقد جرت من تحتها الأنهار.
وخرج الملك شداد بن عاد في زينته وقد اعتلى عربة فاخرة مرصعة بالذهب واللآليء تحفه الحاشية ويترامى خلفه الركب الملكي في أبهة وعظمة.
بينما كان أهالي إرم ذات العماد مصطفين على جانبي الشوارع يقدمون الولاء لمليكهم ويحيون الركب الملكي الذي تنبعث من جوانبه فواحة رائحة الأطايب وشذى العطور.
وانطلق الركب الملكي في نظام رتيب على إيقاع موسيقى الفرقة الملكية في طريقه إلى معبد إرم المحفوف بالزروع والنخيل.
وعندما استقر الركب الملكي في معبد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد واصطفت جموع الناس كل حسب فئته داخل المعبر وخارجه وقد برزوا بأجسادهم الطويلة ...
تقدم كاهن القصر إلى الملك شداد بن عاد فقبل الأرض بين قدميه وقدم له أسمى آيات التبجيل ثم سأله أن يشرع متكرما بافتتاح مراسم تقديم القرابين.
فاقترب الملك من المذبح وقدم أضحية لإله المطر.
وأضحية لإله الرزق.
وأضحية لإله الشفاء والصحة.
وأخرى لإله السفر.
ثم تبعه الكهنة، ثم الحاشية، ثم الجمهور.
وبينما كان الملأ منهمكين في أداء الشعائر الوثنية وإذا بصوت قادم من بعيد يشق عنان السماء ...
وتردد الصدى في ردهات المعبد لرجل يقول: {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} [هود: 50]
فانتبهت الجموع من غفلتها.
وحدقت بالنذير القادم.
وإذا برجل من الحرس يقول مطمئنا الجمع الوثني وهو يحثه على مواصلة طقوسه
ما عليكم بهذا المزارع المسكين فما هو إلا سفيه مجنون
فارتفع صوت آخر من بين الجموع المحتشدة قائلا: إنه لأخونا هود
وعندئذ تزايد الهمس والهمهمة ثم تصاعد الضجيج.
وفي هذه الأثناء خرج رجل من بين أفراد الحاشية واتجه إلى هود عليه السلام قاطعا طريقه وقال له:
ماذا تبغي يا أخا عاد؟ إن كنت تريد مالا أغنيناك وإن كنت تريد أجرا أجرناك
فقال هو د عليه السلام: {ياقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ } [هود: 51]
فقالت له شرذمة من الأراذل: أفلا تعقل أنت وقد سفهت الهتنا؟
وقالت أخرى أما ترى ما نحن فيه من قوة ونعمة ونعيم فهل هذا من فعل إلهك أم من أفعال الهتنا؟
فقال لهم هو ديالة السلام بلسان الناصح المشفق الواعظ: {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52]
فعارضه القوم قائلين: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } [هود: 53]
وواصل هود عليه السلام رسالته إلى قومه الكافرين غير عابئ بالتهم التي أخذو يصبونها عليه بوحي من الكهنة والملك.
فقال لهم عليه السلام اتركوا الهتكم هذه التي لا تضر ولا تنفع لقد بعثني الله إليكم برسالة التوحيد وهذا قولي لكم فماذا تقولون؟
فأجابه القوم ساخرين وقد دبروا له الكيد إن نراك إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء.
فقال هود عليه السلام: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} [هود: 54، 55].
وغرت النعمة قوم عاد حتى غيروا ما بأنفسهم
فاستأصلت فيهم الوثنية وتجذرت.
وأطاعوا طغاتهم المستكبرين.
وعصوا أخاهم هودا وبالغوا في التنكيل به.
بينما استمر عليه السلام يدعوهم إلى الحق ويرشدهم إلى عبادة الله ورفض الأوثان والعلم بالعدل والرحمة.
فبالغ في وعظهم وبث النصيحة فيهم وإنارة الطريق وإيضاح السبيل أمامهم حتى قطع عليهم العذر.
فقابلوه بالإباء والامتناع.
وواجهوه بالجحد والانكار.
ولم يؤمن به إلا شرذمة قليلون.
وأصر جمهورهم على البغي والعناد.
وفي ذلك اليوم بالغ شداد بن عاد الملك في تمجيد الأوثان كيدا لهود عليه السلام.
فتأجحت النيران في المحارق.
وسالت دماء القرابين حتى أغرقت المذابح.
وتصاعدت الأبخرة والأدخنة، فاختلطت بأريج المدينة ذات العماد المصقولة.
وانتهت مراسم الولاء الماجنة.
فعاد الملك تحفه حاشيته وقد اشتد غضبه على نبي الله.
وغره ما هو فيه من نعمة ورخاء.
فأضمر النكال لرسول التوحيد الالهي
وبالغ في تبجيل الهته الأوثان.
وبلغ الملك أبواب قصره المرصعة بالجواهر واللآليء.
وكان تاجه الذهبي ما زال يلتمع تحت أشعة الشمس.
وكانت الأنهار ما زالت تجري من تحت المدينة الأسطورة..
عاد الملك شداد بن عاد إلى قصره في مدينة ارم بعد تقديم القرابين لآلهته الأوثان.
وكانت رائحة البخور وأدخنة المحارق ما زالت تتصاعد من المعبد الكبير حيث الردهة الفسيحة بأعمدتها المصقولة وقد نُصبت في أرجائها الأصنام.
وعاشت الأحقاف في ذلك اليوم عيدها السنوي الكبير غارقة في طقوس الكفر والشرك.
وبينما كانت جموع الناس منهمكة في الصخب والمجون في مدينة إرم إذ أقبل عليهم هود من جديد.
ولكن القوم لم يعيروا اهتماما لأخيهم النبي، بل ازدادوا عبثاً إمعانا في التنكيل به والسخرية منه.
فصعد هود عليه السلام على صخرة عالية في ركن من أركان الميدان الكبير ورفع يده داعيا قومه إلى الاصغاء لما يقول.
فلم يأبه به أحد.
فانبرى جماعة منهم قائلين:
وما عليكم لو أصغيتم إلى أخيكم هود؟
وما زالوا بهم حتى توقف الصخب والضجيج.
فرفع هود عليه السلام صوته قائلا: يا قومي لقد جئتكم نذيرا ألا تعبدوا إلا الله.
فتصدى له أحدهم وقال: يا هود {أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا} [الأحقاف: 22]؟ فأجابه هود عليه السلام: بل جئتكم بعبادة الاله الواحد الذي يضر وينفع ويحيي ويميت ويعطي ويمنع وما الهتكم إلا أصنام وأوثان لا حول لها ولا قوة. فعارضه آخر بالقول: ياله من ضلال يا هود أفتأمرنا أن نتخلى عن عبادة الهتنا على كثرتها ونعبد إلهك على وحدته وانفراده فهل هذا إلا الإفك المبين؟
إن إلهي هو الواحد الأحد الفرد الصمد لا يشرك في حكمه أحدا وهو خالقكم وبارئ الحبة والنسمة وفاطر السماوات والأرض.
فأجابوه بصوت واحد دعك من إلهك هذا يا هود، وعد إلى عبادة الهتنا علها تصرف عنك ما اعتراك منها من سوء.
فقال لهم هود عليه السلام متعجبا أفأدعوكم إلى الهدى وتدعونني إلى الضلال؟ أدعوكم إلى الجنة وتدعونني إلى النار؟
فتولوا عنه قائلين: ما نحن بتاركي الهتنا إلى إلهك هذا فماذا بوسعه أن يفعل؟
فأجابهم عليه السلام مشفقا: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام: 15].
فسخروا منه عليه السلام وانصرفوا إلى ما هم فيه من لهو ولعب وصخب وضوضاء.
وفي غمرة الضجة الصاخبة لم يملك هود عليه السلام إلا أن يخاطب قومه بالقول: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56].
وعندئذ خرج رجل عملاق من بين الجموع الحاشدة واتجه إلى هود عليه السلام بخطى واثقة فتوقفت الضوضاء وصمت القوم بانتظار ما ستسفر عنه المواجهة.
فرفع العملاق قبضته في وجه هود عليه السلام مهددا وهو يقول: يا هود لقد أمعنت في تخويفنا وتهديدنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين.
فضحت الأصوات من هنا وهناك بلى يا هود فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين
فأجابهم هود عليه السلام بلسان الوحي: { قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [الأحقاف: 23]
ومرت الأيام وتعاقب الزمان.
حتى جاء أمر الله.
وكانت بدايته أن حبس اللهُ المطر عن قوم عاد سبع سنين حتى أجدبوا وذهب خيرهم.
واستمر هود عليه السلام يدعوهم فلم يؤمنوا.
حتى كان ذات يوم
فرأوا سحابة مقبلة ففرحوا بالمطر.
وسخروا من هود عليه السلام قائلين: لقد غلبت الهتنا إلهك..
فقال لهم: إنها ريح فيها عذاب أليم كما أوحي إلي من ربي.
فأنكروا قوله معرضين: { هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24].
فاستدرك عليهم هود بقوله بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها.
ونزل العذاب بقوم عاد في يوم نحس مستمر.
حيث أرسل الله عليهم ريحا صرصرا عاتية.
واستمرت الريح في أيام نحسات وتواصلت سبع ليال وثمانية أيام حسوما.
فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية.
وكانت الرياح العقيم تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر.
فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم.
وكذلك يجزي الله القوم المجرمين.
ونجى الله هود والذين آمنوا معه برحمة منه.
وما لبثت ان هدأت العاصفة.
وعادت الحياة من جديد.
وأورث الله الأحقاف لعباده الأخيار ومرت آلاف الأعوام.
حتى كان ذات يوم أن خرج رجل في طلب إبل له قد شردت.
فبينما هو في صحاري عدن في الفلوات إذ وقع نظره على مدينة عليها حصن.
وحول ذلك الحصن قصور كثيرة وأعلام طوال.
فعقل ناقته وسل سيفه ودخل من باب الحصن.
فاذا هو ببابين عظيمين لم ير في الدنيا أعظم منهما ولا أطول.
وفتح الرجل أحد البابين ودخل.
فاذا هو بمدينة لم ير الراؤون مثلها قط.
وإذا هو بقصور معلقة تحتها أعمدة من الزبرجد والياقوت.
وقد فرشت هذه القصور بالؤلؤ والمسك والزعفران.
ففزع مما رأى حيث كانت القصور خالية.
فانطلق في شوارع المدينة.
فاذا هو بأشجار عتيقة قد أثمرت ومن تحتها أنهار تجري.
فقال هذه هي الجنة التي وعد الله بها عباده المؤمنين فالحمد لله الذي أدخلني
الجنة وأسكنني غرفها الفسيحة..
ونسي الأعرابي إبله.
وحمل على ناقته ما استطاع من لؤلؤ وياقوت.
وعاد الى الأمير وقص عليه الخبر.
فاستدعى الأمير أحد خواصه واستوضحه الأمر والرجل عنده.
فقال له: أما المدينة فهي إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد. وأما صاحبها فهو شداد بن عاد الذي بناها.
وإن في الكتب أن رجلا يدخلها ويرى ما فيها ثم يخرج فيحدث الناس بما رأى فلا يصدق وسيدخلها أهل الدين في آخر الزمان.
فقال الأمير: فهذا هو الرجل...[2]
[1] كمال الدين وتمام النعمة: ج 2، ص: 552.
[2] كمال الدين وتمام النعمة: ج2، ص: 552
الاكثر قراءة في قصة النبي هود وقومه
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة