النبي الأعظم محمد بن عبد الله
أسرة النبي (صلى الله عليه وآله)
آبائه
زوجاته واولاده
الولادة والنشأة
حاله قبل البعثة
حاله بعد البعثة
حاله بعد الهجرة
شهادة النبي وآخر الأيام
التراث النبوي الشريف
معجزاته
قضايا عامة
الإمام علي بن أبي طالب
الولادة والنشأة
مناقب أمير المؤمنين (عليه السّلام)
حياة الامام علي (عليه السّلام) و أحواله
حياته في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)
حياته في عهد الخلفاء الثلاثة
بيعته و ماجرى في حكمه
أولاد الامام علي (عليه السلام) و زوجاته
شهادة أمير المؤمنين والأيام الأخيرة
التراث العلوي الشريف
قضايا عامة
السيدة فاطمة الزهراء
الولادة والنشأة
مناقبها
شهادتها والأيام الأخيرة
التراث الفاطمي الشريف
قضايا عامة
الإمام الحسن بن علي المجتبى
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسن (عليه السّلام)
التراث الحسني الشريف
صلح الامام الحسن (عليه السّلام)
أولاد الامام الحسن (عليه السلام) و زوجاته
شهادة الإمام الحسن والأيام الأخيرة
قضايا عامة
الإمام الحسين بن علي الشهيد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسين (عليه السّلام)
الأحداث ما قبل عاشوراء
استشهاد الإمام الحسين (عليه السّلام) ويوم عاشوراء
الأحداث ما بعد عاشوراء
التراث الحسينيّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن الحسين السجّاد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام السجّاد (عليه السّلام)
شهادة الإمام السجّاد (عليه السّلام)
التراث السجّاديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن علي الباقر
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الباقر (عليه السلام)
شهادة الامام الباقر (عليه السلام)
التراث الباقريّ الشريف
قضايا عامة
الإمام جعفر بن محمد الصادق
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الصادق (عليه السلام)
شهادة الإمام الصادق (عليه السلام)
التراث الصادقيّ الشريف
قضايا عامة
الإمام موسى بن جعفر الكاظم
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الكاظم (عليه السلام)
شهادة الإمام الكاظم (عليه السلام)
التراث الكاظميّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن موسى الرّضا
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الرضا (عليه السّلام)
موقفه السياسي وولاية العهد
شهادة الإمام الرضا والأيام الأخيرة
التراث الرضوي الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن علي الجواد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)
شهادة الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)
التراث الجواديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن محمد الهادي
الولادة والنشأة
مناقب الإمام علي الهادي (عليه السّلام)
شهادة الإمام علي الهادي (عليه السّلام)
التراث الهاديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام الحسن بن علي العسكري
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)
شهادة الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)
التراث العسكري الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن الحسن المهدي
الولادة والنشأة
خصائصه ومناقبه
الغيبة الصغرى
السفراء الاربعة
الغيبة الكبرى
علامات الظهور
تكاليف المؤمنين في الغيبة الكبرى
مشاهدة الإمام المهدي (ع)
الدولة المهدوية
قضايا عامة
الإمام السجّاد "ع" وتجلّيات المواجهة السّياسيّة
المؤلف:
السيد علي الخامنئي
المصدر:
إنسان بعمر 250 سنة
الجزء والصفحة:
ص273-289
2025-07-13
47
ما سنقوم بدراسته هنا هو كلمات الإمام السجّاد عليه السلام الواردة في كتاب "تحف العقول" حيث نُشاهد عدّة أنواع من الأسلوب المذكور والّتي تُشير إلى طبيعة الجهات المخاطَبة.
أحد تلك الأنواع هو الكلمات الموجّهة إلى عامّة النّاس، والّتي يظهر فيها أنّ المستمع ليس من الجماعة المقرّبة والخاصّة للإمام أو من الكوادر التّابعين له. وفي هذه الخطابات يستند الإمام عليه السلام دائمًا إلى الآيات القرآنية، لماذا؟ لأنّ عامّة النّاس لا ينظرون إلى الإمام السجّاد عليه السلام كإمام، بل يطلبون الدّليل في كلماته، ولهذا كان الإمام يستدلّ إمّا بالآيات أو بالاستعارة من الآيات. ولعلّه في هذه الرّوايات، قد استخدم في 50 موردًا أو أكثر آيات قرآنيّة إمّا بصورة مباشرة أو بطريق الاستعارة.
أمّا في الخطاب الموجّه إلى المؤمنين نجد الأمر يختلف، لأنّ هؤلاء المؤمنين يعرفون الإمام السجّاد عليه السلام وقوله مقبول عندهم، لهذا لم يكن يستند في كلامه إلى الآيات القرآنية. ولو أحصينا كلّ كلامه الموجّه إليهم لوجدنا أنّ استخدام الآيات القرآنية فيه قليل جدًّا.
في رواية مفصّلة من كتاب "تحف العقول" تحت عنوان: "موعظته لسائر أصحابه وشيعته وتذكيره إيّاهم كلّ يوم جمعة"[1]، نجد أنّ دائرة المستمعين واسعة وهذا ما نستنتجه من القرائن المفصّلة الواردة فيها. فلم يستخدم الإمام عليه السلام في هذه الرّواية كلمة "أيّها المؤمنون" أو "أيّها الإخوة"، وأمثالها، حتّى نعلم أنّ خطابه موجّه إلى جماعة خاصّة، ولكنّه قال "أيّها النّاس" وهذا يُشير إلى عموميّة الخطاب. في حين أنّه في بعض الروايات الأخرى كان الخطاب موجّهًا بصورة خاصّة إلى المؤمنين.
ثانياً، لا يوجد في هذه الرواية تصريحٌ بشيء معارض للجهاز الحاكم، بل انصرف كلّ الخطاب لبيان العقائد وما ينبغي أن يعرفه الإنسان، وذلك بلسان الموعظة. فالخطاب يبدأ هكذا: "أيها النّاس، اتقّوا الله واعلموا أنّكم إليه راجعون...". ثمّ يتطرّق الإمام عليه السلام إلى العقائد الإسلاميّة ويوّجه النّاس إلى ضرورة فهم الإسلام الصّحيح. وهذا يدلّ على أنّهم لا يعرفون الإسلام الصحيح، وهو يريد بذلك إيقاظهم من غفلة الجهل إلى معرفة الإسلام وتعاليمه.
فانظروا مثلاً كيف يستفيد الإمام السّجاد عليه السلام من الأسلوب الجذّاب، حيث يقول هنا: "ألا وإنّ أوّل ما يسألانك عن ربّك الّذي كُنتَ تعبده"[2] ويمضي على هذا المنوال ناصحًا، ويُخوّف من ذلك الوقت الّذي يوضع المرء في قبره ويأتي منكر ونكير لمساءلته. وبهذا يريد أن يوقظ فيهم الدّافع لمعرفة الله وفهم التوحيد، "وعن نبيّك الّذي أُرسل إليك"، ثمّ الدافع لفهم النبوة، "وعن دينك الّذي كنت تدين به، وعن كتابك الّذي كنت تتلوه..."[3].
وأثناء عرضه لهذه العقائد الأصيلة والمطالب الأساس للإسلام، كالتوحيد والنبوّة والقرآن والدين، يُبيّن هذه النقطة الأساس بقوله عليه السلام: "وعن إمامك الّذي كنت تتولّاه"[4]، فهو هنا يطرح موضوع الإمامة. وقضيّة الإمامة عند الأئمّة تعني قضيّة الحكومة أيضًا، إذ لا يوجد فرق بين الولاية والإمامة على لسان الأئمّة عليهم السلام. وإن كان للوليّ والإمام معانٍ مختلفة عند بعض النّاس ولكن هاتين القضيّتين - الولاية والإمامة ــ على لسان الأئمّة أمرٌ واحدٌ والمراد منهما واحد. وكلمة "الإمام" المقصودة هنا تعني ذلك الإنسان المتكفّل بإرشاد النّاس وهدايتهم من الناحية الدينيّة، والمتكفّل أيضًأ بإدارة أمور حياتهم من النّاحية الدنيويّة، أي خليفة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الإمام هو قائد المجتمع، أي ذلك الإنسان الّذي نتعلّم منه ديننا وتكون بيده إدارة دنيانا أيضًا، بحيث تكون إطاعته في أمور الدّين والدّنيا واجبة علينا.
في عالم التشيّع تعرّضت هذه القضيّة (دور الإمام) إلى فهمٍ خاطئ طيلة قرون متتالية. ففي السّابق، كان النّاس يتصوّرون أنّ الإمام يتفرّد بحكم المجتمع، وهو الّذي ينبغي أن يُدير أمور الحياة بيده وبجهده الذاتيّ: فيُحارب ويُصالح ويعمل ويُنفّذ كلّ طلب بنفسه، فهو يأمر النّاس وينهاهم من جهة، وفي نفس الوقت هو الّذي يُنفّذ هذه الأمور وحده لإصلاح دينهم!
واليوم أيضًا لقد تعرّضت هذه القضيّة للفهم الخاطئ بحيث أصبحنا نعتبر أنّ الإمام في عصر الغيبة ليس سوى عالمًا دينيًّا، وهذا بالطبع تصوّرٌ خاطئ. لفظة "الإمام" تعني المتقدّم والقائد. فالإمام الصادق عليه السلام عندما كان يُخاطب النّاس في منى أو عرفات بقوله: "أيّها النّاس إنّ رسول الله كان الإمام"[5]، كان يُشير إلى أنّ الإمام هو الّذي يتوّلى أمور النّاس الدينيّة والدنيويّة.
لقد كان هذا المعنى يُفهم فهمًا خاطئًا في المجتمع الإسلاميّ، أيّام حكم عبد الملك بن مروان وفي عصر الإمام السجّاد عليه السلام، وذلك لأنّ إمامة المجتمع، وهي إدارة شؤون حياة النّاس وبسط نظام العيش الّذي يُمثّل قسمًا مهمًّا من الإمامة، قد سُلبت من أهلها وأُعطيت إلى من لا أهليّة لهم بها، حيث كانوا يُلقّبون أنفسهم بالأئمّة ويعرفهم النّاس بذلك. فالنّاس كانوا يُطلقون لقب الإمام على عبد الملك بن مروان، ومن قبله أبيه وقبلهما يزيد وغيره. وقد قبلوهم على أساس أنّهم قادة المجتمع والحكّام على النّظام الاجتماعيّ للنّاس. وقد ترسّخ ذلك في أذهان النّاس.
وهكذا عندما كان الإمام السجّاد عليه السلام يقول إنّك ستُسأل عن إمامك في القبر، كان يُشير إلى أنّك هل انتخبت الإمام المناسب والصّحيح؟ وهل أنّ ذلك الشّخص الّذي كان يحكمك، ويقود المجتمع الّذي تعيش فيه هو حقّاً إمام؟ وهل هو ممّن رضي الله عنه؟ لقد كان الإمام بهذا الكلام يوقظ النّاس ليجعل هذه القضيّة حسّاسة في نفوسهم.
بهذه الطريقة كان الإمام يحيي قضيّة الإمامة، فلمّا لم يكن الجهاز الأمويّ الحاكم يرضى بأن يتمّ الحديث عنها، استخدم الإمام أسلوب الموعظة.(كانت هذه من إحدى الوسائل الهادئة الّتي استخدمها الإمام في هذا المجال، وسوف نُشير لاحقًا إلى أساليب أكثر تشدّدًا).
بناءً على هذا، ففي البيان العام الموجّه إلى عامّة النّاس نجد أنّ إمامنا، وبلغة الموعظة، يُحيي المعارف الإسلاميّة، وخاصّة تلك المعارف الحسّاسة في ذهن النّاس، ويسعى لأجل أن يتعرّف النّاس إليها ويتذكّروها. ويُمكن الالتفات في هذا النوع من الخطاب إلى نقطتين اثنتين:
الأولى: أنّ هذا الأسلوب البيانيّ للإمام لم يكن تعليميًّا، بل هو من نوع التّذكير. أي إنّ الإمام لم يكن يجلس ليُبيّن للنّاس دقائق التّوحيد، أو ليُفسّر لهم مسألة النبوّة، وإنّما يُذكّرهم بها. لماذا؟ لأنّ المجتمع الّذي كان يعيش فيه الإمام السجّاد عليه السلام لم تكن تفصله عن مرحلة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مسافة زمنية كبيرة حتّى ينحرف كليًّا عن العقائد الإسلاميّة. بل كان هناك الكثير من الأشخاص الّذين عايشوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومرّت عليهم مرحلة الخلفاء الراشدين، وقد عاصروا أئمّتنا العظام من أمير المؤمنين عليه السلام إلى الإمام الحسن عليه السلام وإلى الإمام الحسين عليه السلام. ومن الناحية الاجتماعيّة لم يكن الوضع قد وصل إلى مرحلة يُعاني فيها المجتمع الإسلاميّ من الانحراف العقائديّ والأصوليّ.
بالنسبة لمسألة التوحيد والنبوّة والمعاد والقرآن. نعم، كانت هذه المسائل تدريجيًّا تخرج من ذاكرتهم، وكانت الحياة المادّية تُحيط بهم إلى درجة تُنسيهم الفكر الإسلاميّ والعقيدة الإلهيّة.
كانت الحياة الدنيويّة والمادّية تسري في المجتمع بحيث لا تُبقي في أذهان النّاس أيّ توجّه للمسابقة في مضمار المعنويّات والخيرات. وإذا وُجد هذا الأمر فإنّه لم يكن ليتعدّى القشور والسّطوح. أمّا بالنّسبة للمفهوم الّذي كان يحمله النّاس في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والعصر المتّصل به، عن التوحيد والحساسية المتميّزة تجاهه، فقد كانوا يفتقدونه في عصر الإمام. وهذا ما كان يستدعي التذكير حتّى يرجع الأمر إلى سابق عهده، لا أنّ هناك أشياء محرّفة ينبغي أن تُصحّح.
وهذا بخلاف المراحل اللاحقة، كمرحلة الإمام الصادق عليه السلام، لأنّ المسألة حينها لم تكن على هذه الشّاكلة. فقد ظهر في ذلك الوقت الكثير من المتكلّمين والمتفلسفين والمفكّرين، وتحت عناوين متعدّدة كانوا يجلسون في المساجد الكبرى، مثل مسجد المدينة وحتّى المسجد الحرام ومسجد الشام، ويُدرّسون العقائد المنحرفة والباطلة. لقد برز حينها أناس مثل "ابن أبي العوجاء" يُدرّسون عقائد الزنادقة والإلحاد. لهذا، بالتأمّل بأحاديث وكلمات الإمام الصادق عليه السلام نجد بيان التوحيد والنبوّة وأمثالها بصورة استدلالية[6]. فالحاجة إلى الاستدلال ضروريّة لمواجهة استدلال الخصم، وهذا ما لا نجده في كلمات الإمام السجّاد عليه السلام، الّتي كانت تعتمد على الحالة الشعوريّة والوجدانيّة الّتي تُذكّر بالقضايا الأساس.
وباختصار، لم يكن عصر الإمام السجّاد عليه السلام يحكي عن خروج عن الفكر الإسلاميّ، حتّى عند الحكّام، إلّا في بعض الموارد الّتي يظهر فيها مثل هذا الأمر. وذلك عندما ألقى يزيد اللعين تلك الأبيات الشعريّة في حالة السكر عندما أُحضر أسرى أهل البيت عليهم السلام فقال:
لعبت هاشم بالملك فلا خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل[7]
ولكنّنا نستطيع أن نقول إنّ هذا الكلام كان تحت تأثير السّكر. فحتّى أمثال عبد الملك أو الحجّاج لم يكونوا يجرؤون على إعلان مخالفتهم لفكرة التّوحيد أو النبوّة. لقد كان عبد الملك بن مروان يقرأ القرآن إلى درجة أنّه عُرف كأحد قرّاء القرآن. ثمّ عندما وصل إليه خبر تنصيبه خليفة قبّل القرآن وقال: ﴿قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾[8]،[9] إنّ هذا ما حدث فعلًا. والحجّاج بن يوسف الّذي سمعتم عن ظلمه (وباليقين إنّ الّذي سمعتموه هو أقلّ بكثير ممّا فعله) كان عندما يخطب في النّاس يأمرهم بالتقوى. وهكذا نفهم سبب اعتماد الإمام السجّاد عليه السلام على التذكير بالأفكار الإسلاميّة لإخراج النّاس من مستنقع الدنيا والأهواء المادّية إلى ساحة معرفة الله والدين والقرآن.
الثانية: وهي ما أشرنا إليه سابقًا، من أنّ الإمام كان يأتي على ذكر مسألة الإمامة من خلال بيانه العامّ بصورةٍ مفاجئة. أي أنّه أثناء ذكره للقضايا الإسلاميّة مثلما كان يحدث في عهد النّظام الشاهنشاهيّ السّابق عندما كان أحدٌ يتحدّث معكم فيقول: أيّها السّادة توجّهوا إلى الله وفكّروا بقضيّة التّوحيد وبقضيّة الإمامة واهتمّوا بقضيّة الحكومة، فانظروا إنّ ما لدينا من إمامةٍ هنا نفهمها دون بيان الإمام السجّاد. نرى أنّ كلمة الحكومة هذه في عصر النّظام السّابق كانت كما تعلمون شيئًا خطيرًا، فلو أراد أحدٌ أن يجعل النّاس يهتمّون بقضيّة الحكومة ما كانت أجهزة السّلطة لتمرّ على هذا الكلام بسهولة. لكن إذا جاء ذلك بلغة الوعظ وعلى لسان رجل زاهد وعابد فإنّه يُمكن أن يُقبل لدى أجهزة السّلطة، وبتعبير آخر لن يُثير الحساسيّات. هذا نوع من بيانات الإمام السجّاد عليه السلام.
تحذير الخواص من الدنيا والرفاهية
أمّا النّوع الثاني فهو ذلك الخطاب الموجّه إلى مجموعة خاصّة لا تُعرف هويّتها. ولكن من الواضح أنّه كان موجّهًا إلى مجموعة من الّذين يُخالفون النّظام الحاكم. فمن يُمكن أن يكون هؤلاء؟ هذه الخطابات وإن لم يُعلم منها بالتّحديد من هي تلك الفئة المخاطَبة، ولكن من الواضح أنّها لفئة مخالفة للنّظام الحاكم، وأفرادها هم في الواقع من أتباع الإمام عليه السلام ومن المعتقدين بحكومة أهل البيت عليهم السلام.
ولحسن الحظّ، إنّنا نجد في كتاب تحف العقول نموذجًا لهذا النّوع من الكلمات الصّادرة عن الإمام السجّاد عليه السلام (وذلك لأنّنا لا نجد في غيره من الكتب موارد أخرى من هذا النوع رغم أنّ هناك الكثير في حياة الإمام السجّاد عليه السلام، ولكن على أثر الحوادث المختلفة الّتي جرت في ذلك العصر من القمع والتنكيل والاضطهاد وقتل الأصحاب زالت تلك الآثار وبقي القليل منها).
يبدأ الخطاب التّابع لهذا النّوع الثاني هكذا: "كفانا الله وإيّاكم كيد الظالمين وبغي الحاسدين وبطش الجبّارين"[10]. ويُعلم من هذا البيان أنّ الإمام والجمع الحاضر مهدّدون من قِبَل السلطات الحاكمة، وأنّ المسألة ترتبط بمجموعة خاصّة: المؤمنين بأهل البيت عليهم السلام، ولذلك جاء الخطاب بصيغة "يا أيّها المؤمنون"، خلافًا للنّوع الأوّل حيث يستعمل "يا أيّها النّاس" أو "يا ابن آدم"، وذلك لأنّ الخطاب موجّه إلى المؤمنين في الحقيقة بأهل البيت وأفكار أهل البيت عليهم السلام.
والدّليل الآخر الواضح جدًّا هو عندما يقول عليه السلام : "أيّها المؤمنون لا يفتننّكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في الدنيا، المائلون إليها المفتونون بها، المقبلون عليها"[11].
فالمقصد الأصليّ من الكلام هو حفظ هؤلاء المؤمنين وبناء الكادر اللازم للمستقبل. ومن الواضح أنّه على أثر الصّراع الشّديد في الخفاء، ما بين أتباع الأئمّة عليهم السلام وأتباع الطواغيت، فإنّ أتباع الأئمّة عانوا من الحرمان الكبير والخطر الأكبر الّذي يُهدّد المجاهدين وهو التوجّه إلى الرفاهية، هذه الرفاهية الّتي لن تجرّهم سوى إلى ترك الجهاد.
لقد كان الإمام عليه السلام يؤكّد كثيرًا على هذه النقطة، ويُحذّر النّاس من حياة التّرف في هذه الدنيا المتلألئة الكاذبة الخدّاعة الّتي لن تؤدّي سوى إلى التقرّب من الطواغيت. لهذا نجد في هذا البيان، وفي العديد من كلمات الإمام السّجّاد عليه السلام، وفي الروايات القصيرة الّتي نُقلت عنه، تأكيدًا على هذا الأمر.
ماذا يعني التّحذير من الدنيا؟ إنّه يعني حفظ النّاس من الانجذاب نحو المترفين والإيمان بهم وتمييزهم بحيث تقلّ حدّة مواجهة النّاس لهم. وهذا النّوع من الخطابات موجّه للمؤمنين، أمّا في الخطاب المتوجّه إلى عامّة النّاس، فقلّما نجد مثل هذا النّوع. ففي خطاب عامّة النّاس، كثيرًا ما يظهر: أيّها النّاس التفتوا إلى الله، إلى القبر والقيامة، إلى أنفسكم والغد. فما هو هدف الإمام عليه السلام من هذا النوع الثاني من الخطاب؟ المقصود هو بناء الكادر.
فهو عليه السلام يريد أن يصنع من المؤمنين كوادر ملائمة للمرحلة، ولهذا يُحذّرهم من الانجذاب نحو أقطاب القدرة والرّفاهية الكاذبة. ويُكرّر ذكر النّظام الحاكم خلافًا للنوع الأوّل من الكلمات، كما يقول مثلاً: "وإنّ الأمور الواردة عليكم في كلّ يوم وليلة من مظلمات الفتن وحوادث البدع وسنن الجور وبوائق الزمان وهيبة السلطان ووسوسة الشيطان"[12].
وهنا نجد أنّ الإمام مباشرة بعد ذكر هيبة السّلطان وقدرته يذكر وسوسة الشّيطان، يريد بذلك أن يلفت، وبكلّ صراحة، النّظرَ إلى حاكم ذلك الزّمان ويضعه إلى جانب الشّيطان. وفي تتمّة الكلام جملة لافتة ومهمّة جدًّا لذلك أنقلها، فهي تحكي عن مطلب كُنتُ قد ذكرته سابقًا: "لتثبّط القلوب عن تنبهها وتذهلها عن موجود الهدى ومعرفة أهل الحقّ"[13]. تلك الهداية الموجودة الآن في المجتمع. فهذه الأحداث الّتي ترد على الإنسان في حياته في الليل والنّهار ـ في عصر القمع ـ تمنع القلوب من تلك النيّة والتوجّه والدافع والنشاط المطلوب للجهاد.
فالإمام السجّاد عليه السلام يعظهم بالأسلوب السّابق نفسه، "وإيّاكم وصحبة العاصين ومعونة الظّالمين" فهو يُحذّرهم من مجالسة أهل المعاصي. من هم أهل المعاصي؟ أولئك الذين جُذبوا لنظام عبد الملك الظالم. الآن، حاولوا أن تتصوّروا شخصية الإمام السجّاد وأن تكوّنوا تصوّرًا عنه عليه السلام. هل ما زال ذلك الإمام المظلوم الصّامت المريض الّذي لا شأن له بالحياة؟ كلّا، فالإمام هو الّذي كان يدعو مجموعة من المؤمنين والأصحاب ويُحذّرهم، بهذه الصّورة الّتي ذكرناها من التقرّب إلى الظلَمة ونسيان المجاهدة، ويمنعهم من الانحراف عن هذا الطريق، وكان يحفّزهم ويُشحنهم بالنشاط، ويدفعهم من أجل أن يكونوا مؤثّرين في إيجاد الحكومة الإسلاميّة.
من جملة الأشياء الّتي أراها جليّة وشديدة الأهميّة في هذا القسم من كلمات الإمام السّجاد عليه السلام، تلك الكلمات الّتي يُذكّر فيها بتجارب أهل البيت عليهم السلام الماضية. ففي هذا القسم يُشير الإمام عليه السلام إلى تلك الأيّام الّتي مرّت على النّاس من قِبَل الحكّام الجائرين، مثل معاوية ويزيد ومروان، ووقائع مثل الحرّة وعاشوراء، وشهادة حجر بن عديّ ورشيد الهجريّ، وعشرات الحوادث المهمّة والمعروفة والّتي مرّت على أتباع أهل البيت طيلة الأزمان الماضية واستقرّت في أذهانهم. ويريد الإمام عليه السلام أن يحثّ أولئك المخاطَبين من خلال ذكر تلك الحوادث الشّديدة، على التحرّك والثورة. والتفتوا الآن إلى هذه الجملة: "فقد لعمري استدبرتم من الأمور الماضية في الأيّام الخالية من الفتن المتراكمة والانهماك فيها ما تستدلّون به على تجنّب الغواة"[14].
أي إنّكم تستحضرون تلك التّجارب وتعلمون ماذا سيفعل بكم أهل البغي والفساد ـ وهم حكّام الجور ـ عندما يتسلّطون عليكم. ولذلك يجب عليكم أن تتجنّبوهم وتواجهوهم. وفي هذا الخطاب يطرح الإمام مسألة الإمامة بصورة صريحة، أي قضيّة الخلافة والولاية على المسلمين والحكومة على النّاس وإدارة النّظام الإسلاميّ. هنا يُبيّن الإمام السجّاد عليه السلام قضيّة الإمامة بالصّراحة، في حين أنّه في ذلك الزّمن لم يكن ممكنًا طرح مثل هذه المطالب على العامّة. ثم يقول عليه السلام : "فقدّموا أمر الله وطاعته وطاعة من أوجب الله طاعته".
وهنا يُعيّن الإمام فلسفة الإمامة عند الشّيعة والإنسان الّذي يجب أن يُطاع بعد الله. ولو فكّر النّاس في ذلك الوقت بهذه المسألة لعلموا بوضوح أنّه لا يجب طاعة عبد الملك، لأنّه من غير الجائز أن يوجب الله طاعة عبد الملك، ذلك الحاكم الجائر بكلّ فساده وبغيه. وبعد أن يُقدّم الإمام هذه المسألة يتعرّض لردّ شبهة مقدّرة فيقول: "ولا تقدّموا الأمور الواردة عليكم من طاعة الطّواغيت وفتنة زهرة الدنيا بين يدي أمر الله وطاعته وطاعة أولي الأمر منكم"[15]. فالإمام عليه السلام في هذا القسم من كلمته يعرض بصراحة لقضية الإمامة.
ففي هذا الخطاب والخطاب السّابق يُركّز الإمام عليه السلام على مسألتين أساسيّتين من المسائل الثلاث الّتي أشرنا إليها سابقًا.
الأولى: إعادة تدوين وتجديد الفكر الإسلاميّ والمعتقدات الإسلاميّة وإحياؤها في أذهان النّاس والحثّ على تعلّمها.
والأخرى: البعد السياسيّ لولاية الأمر أي قضيّة الحكومة وقيادة النّظام الإسلاميّ.
وعندما يُعرّف الإمام هاتين المسألتين للنّاس في ذلك الزّمن فإنّه يقوم في الواقع بتعريف النّظام العلويّ والنّظام الإسلاميّ الإلهيّ.
نوعٌ آخر من كلمات الإمام السّجّاد عليه السلام وهو أهمّ من الكلمتين السابقتين. ومن خلاله يدعو الإمام بصراحة النّاس إلى ضرورة إيجاد التشكيلات الإسلاميّة الخاصّة. وبالطبع فإنّ هذه الدعوة موجّهة إلى أولئك الّذين يتّبعون أهل البيت عليهم السلام، وإلّا لو كانت إلى غيرهم من عامّة النّاس لأُفشيت وأدّت إلى إيذاء الإمام عليه السلام وتعرّضه للضغوط الصعبة، وبحمد الله فإنّنا نجد نموذجًا لهذا النّوع من الكلمات في "تحف العقول"[16].
يبدأ الإمام بهذه العبارة: "إنّ علامة الزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة، تركهم كلّ خليط وخليل ورفضهم كلّ صاحب لا يريد ما يريدون"[17]. وهذا تصريح بالدعوة إلى إيجاد تشكيلات شيعيّة.
فهو عليه السلام يُعلّمهم بأنّ عليهم الابتعاد عن أولئك الّذين يُخالفونهم في الدافع ولا يتّبعون الحكومة العلويّة وحكومة الحقّ..[18].
وهناك نوعٌ آخر من كلمات الإمام عليه السلام لا توجد فيه تلك المطالب الكليّة الّتي أشرنا إليها، مثل رسالة الحقوق. للإمام السجّاد عليه السلام رسالة مفصّلة هي بحجم رسالةٍ حقيقية بحسب اصطلاحنا، وهي رسالة كتبها الإمام لأحد أصحابه يذكر فيها حقوق الأفراد والإخوان على بعضهم بعضًا، ويذكر فيها أيضًا حقّ الله عليك، وحقّ أعضائك وجوارحك، وحقّ العين واللسان واليد والأذن... كما يذكر حقّ حاكم المجتمع الإسلاميّ وحقّك عليه، وحقّك على جيرانك، وحقّك على أسرتك. لقد ذكر كلّ هذه الأنواع من الحقوق الّتي تُنظّم العلاقات بين الأفراد في النّظام الإسلاميّ. فالإمام وبهدوءٍ تامّ ومن دون أن يأتي على ذكر الحكومة والجهاد والنّظام المستقبليّ، قد ذكر في هذه الرسالة أسس علاقات النّظام المقبل بحيث إنّه لو جاء يوم وتحقّق نظام الحكومة الإسلاميّة في عصر الإمام السجّاد نفسه ـ وهو بالطبع احتمالٌ بعيد ـ أو في العصور اللاحقة فهو يُعرّف النّاس إلى الإسلام الّذي ستُحقّق حكومته في المستقبل، ليلقي في أذهانهم مسبقًا طبيعة العلاقات الّتي تربط بينهم في ذلك النّظام. هذا نوعٌ آخر من كلمات الإمام السجّاد الّتي تلفت الأنظار كثيرًا.
ونوع آخر نجده في الصحيفة السجّادية، وهذا الأمر يتطلّب بحثًا مفصّلًا ربّما هو عمل أولئك الّذين يعملون في هذا المجال. فالصّحيفة السجّادية تتضمّن مجموعة من الأدعية في كافّة المجالات الّتي ينبغي أن يلتفت إليها الإنسان اليقظ والفطن. وأكثرها في الروابط والعلاقات القلبية والمعنوية للإنسان. في هذه الأدعية والمناجاة، توجد مطالب معنوية وتكاملية كثيرة لا حصر لها. والإمام عليه السلام في ثنايا هذه الأدعية، وبلسان الدّعاء، يُحيي في أذهان النّاس الدوافع نحو حياة إسلاميّة ويوقظها. إحدى النتائج الّتي يُمكن أن تحصل من الأدعية، وقد ذكرناها مراراً، هي إحياء الدوافع السليمة والصحيحة في القلوب. فعندما ندعو: "اللهمّ اجعل عواقب أمورنا خيراً".
فإنّ هذا الدّعاء يُحيي في القلوب ذكر العاقبة ويدفع أصحابها للتفكّر في المصير. فقد يغفل الإنسان أحيانًا عن عاقبته، ويعيش ولا يلتفت إلى مصيره. فإذا تلا هذا الدعاء يستيقظ فجأة إلى ضرورة تحسين عاقبته. أمّا كيف يتمّ ذلك فهذا بحثٌ آخر. فقط أردت أن أضرب مثلاً حول الدور الصادق للدعاء. وهذا الكتاب المليء بالدوافع الشريفة للأدعية كافٍ لإيقاظ المجتمع وتوجيهه نحو الصلاح. وإذا تجاوزنا ذلك، وجدنا روايات قصيرة وعديدة نُقلت عن الإمام السجّاد عليه السلام. منها ما ذكرته سابقاً: "أوَلا حرٌّ يدع هذه اللماظة لأهلها"[19]. انظروا كم هو مهمٌّ هذا الحديث. فالزخارف الدنيويّة والزبارج كلّها ما هي سوى بقايا لعاب الكلب التي لا يتركها إلا الحرّ. وكلّ أولئك الّذين يدورون في فلك عبد الملك إنّما يريدون تلك اللماظة. وأنتم أيها المؤمنون لا تنجذبوا إليها. ونجد الكثير من مثل هذه الكلمات الثورية والملفتة في خطب الإمام السجّاد عليه السلام. وسوف نصل إليها فيما بعد إن شاء الله. لقد كان الإمام السجّاد عليه السلام شاعرًا. وشعره يحتوي على معانٍ مهمّة سوف نذكرها لاحقاً إن شاء الله.
[1] تحف العقول، ص 249.
[2] م.ن.
[3] م.س، ص 249.
[4] م.ن.
[5] الكافي، ج4، ص466.
[6] مجموعة رسائل في شرح الأحاديث، الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص 565.
[7] الطبرسي، الاحتجاج، ج2، ص 307.
[8] سورة الكهف، الآية 78.
[9] محمد تقي النقوي النائيني الخراساني، مفتاح السعادة في شرح نهج البلاغة، ج2، ص239.
[10] الكافي، ج8، ص15.
[11] تحف العقول، ص 252.
[12] الشيخ الكليني، الكافي، ج 8، ص 15.
[13] م. ن، ص 15.
[14] تحف العقول، ص 253.
[15] تحف العقول، ص 254.
[16] للأسف الشديد ينبغي أن نقول إنّه لا يوجد في جميع العناوين المتعلّقة بمثل هذه الكلمات الصادرة عن الإمام السجّاد عليه السلام ــ والّتي اختارها المحدّثون ــ أيّ نوع من الإشارة إلى ذلك المحتوى الذي أشرنا إليه. فعلى الأغلب، جعلوا ذيل العنوان هو الزهد. بالطبع إنّ الزهد الواقعيّ هو هذا، لكنّ ذلك الفهم السائد حول الزهد لا يُمكن أن يُستنبط من هذه الكلمات وكان ينبغي أن يُشار إلى أنّ الإمام عليه السلام في هذه الكلمات كان بصدد الإشارة إلى القضايا السّياسيّة (الكاتب).
[17] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 75، ص 128.
[18] برأيي يمكن أن نجد من قبيل هذا البيان في كلمات الإمام السجّاد وكذلك في كلمات سائر الأئمّة وهو في كلماتهم كثير. وقد وجدتُ في حياة الإمام الصادق صلوات الله عليه، وكذلك في حياة الإمام الباقر عليه السلام وأيضاً في حياة أربعة من الأئمة اللاحقين بحدٍّ أدنى. حتى أنّ علامة تشكيل المنظّمة والتشكيلات الإسلاميّة قد وجدت أصولها في كلمات أمير المؤمنين عليه السلام، وليس هنا المجال للبحث والتفصيل فيه (الكاتب).
[19] تحف العقول، ص391.
الاكثر قراءة في قضايا عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة

الآخبار الصحية
