حين يتحالف الطغيان والنفاق لخنق الشعوب

الرئيسة / مقالات اجتماعية

نوري حسين نور الهاشمي

عدد المقالات : 47

حين يتحالف الطغيان والنفاق لخنق الشعوب
الأستاذ الدكتور نوري حسين نور الهاشمي
16/8/2025
منذ فجر التاريخ، لم يكن الطغيان قادرًا على الاستمرار وحده؛ فالقوة الغاشمة تحتاج دائمًا إلى لسان يبررها وقلم يلمّعها. ولهذا كان النفاق السياسي والإعلامي هو الظل الذي لا يفارق الحاكم المستبد، يغطي جرائمه بأوراق التوت، ويحوّل الهزائم إلى انتصارات كاذبة. وفي كل عصر، تتغيّر الوجوه وتتبدل الشعارات، لكن التحالف القاتل بين الطغيان والنفاق يبقى ثابتًا، كجرثومة تعيش في جسد الأمة، تنهش كرامتها وتخنق صوتها.
كان اسم صدام حسين يختصر في ذاكرة العراقيين والعالم حقبة كاملة من الخوف والدم والحديد والنار. دكتاتور جمع في شخصيته مزيجًا قاتمًا من جنون العظمة الذي ميّز هتلر، وهيبة الرعب التي أحاطت بموسوليني، وقسوة الدم البارد التي اشتهر بها ستالين. لم يكن يتردد في إصدار أحكام الإعدام، بل كان في أحيان كثيرة يشرف على تنفيذها بنفسه، وكأن في ذلك إثباتًا إضافيًا لسطوته ورغبته في أن يكون الحاكم والقاضي والجلاد في آن واحد.
لقد كان مجرمًا من الطراز الأول، لا يتورع عن سحق خصومه أو التنكيل بالمقربين منه إذا شعر بأن ظلهم قد يطغى على حضوره. حمل العراقيون في ذاكرتهم عنه آلاف القصص التي تتناقلها الأجيال: إعدامات ميدانية، وسجون لا يخرج منها أحد إلا جثة، ومقابر جماعية طمرت مدنًا وأحياء كاملة في صمت ثقيل. على الصعيد الإقليمي، كان منبوذًا حتى بين بعض من تحالفوا معه يومًا، إذ تحوّل مع مرور الزمن إلى ظل ثقيل على المسرح السياسي، لا فعل له إلا ما يخدم تثبيت كرسيه، ولا ردّة فعل إلا ما يحفظ بقاءه ولو على أنقاض وطن كامل.
ومع ذلك، كان هناك دائمًا من يهيئ الأرضية لبقاء الطغيان: أقلام مأجورة وإعلام أصفر لا يرى في الكلمة إلا سلعة تُباع وتشترى. هؤلاء رفعوه إلى مقام "القائد الضرورة"، وكتبوا مئات المقالات التي تسهب في تعداد مناقبه المزعومة وتضخم إنجازاته الوهمية. عُقدت له مهرجانات تمجيدية تحوّلت إلى مسارح لتأليه الفرد، حتى صار حضوره أشبه بالطوطم الذي يجب السجود له صباح مساء، وكأن الولاء للحاكم أهم من الولاء للوطن.
لكن الصخب المصطنع انهار فجأة، حين خرج الرجل من جحره لا ليخطب أو يهدد، بل ليمتطي حبل المشنقة أمام أعين العالم. طويت الصفحة التي اعتقد أتباعه أنها أبدية، وتحوّلت هالته إلى سراب. الأغرب أن الأقلام التي تغنت بحكمته بالأمس القريب انقلبت عليه في لحظة، فصار نصفها ينهش سمعته بلا رحمة، والنصف الآخر يبحث عن "ضرورة" جديدة يعلّق عليها أكاذيبه. القلم المأجور لا دين له ولا مبدأ، إنما يعرف دائمًا حيث تهب الرياح.
سقط الدكتاتور سقوطًا مدويًا، لكن من يظن أن القصة عراقية خالصة فهو واهم. فبمجرد أن تجول ببصرك في خرائط المنطقة، ستلمح بسهولة دكتاتورًا آخر يكرر فلسفة الأول بحذافيرها، وربما يزيد عليها دهاءً في البطش وحنكةً في صناعة الأكاذيب، وكأن الدكتاتورية فيروس يتكيف مع بيئته ليبقى ويعيد إنتاج نفسه.
هذا الدكتاتور الجديد تسلح بشعار "محاربة الإرهاب" ليبرر قبضته الحديدية. لم يكتفِ باعتقال المعارضين أو إخراس الأصوات الحرة، بل حوّل القضاء إلى أداة قتل بدم بارد. خلال سنواته الأولى، أصدر أحكام إعدام على أكثر من ألفين وخمسمائة إنسان، ونُفذ الحكم في المئات منهم دون محاكمات عادلة أو حتى فرصة للدفاع عن أنفسهم. أما السجون فقد اكتظت بمائةٍ وعشرين ألف معتقل، كثير منهم ذنبهم الوحيد أنهم عبّروا عن رأي أو شاركوا في احتجاج، ليعيشوا في زنازين ضيقة تفتك فيها الأمراض قبل أن يفعل الجلاد.
وبالذريعة نفسها، مد يده إلى جرح أبعد من حدود بلاده، فتورط في خنق غزة، حصار ازداد قسوة منذ أن قبض على السلطة، حتى أصبح خانقًا للأرواح، خاصة منذ أكتوبر 2023. على أعتاب المعابر، وقفت شاحنات المساعدات الأممية أياما وربما أسابيع، لا تمر إلا بعد دفع إتاوات لشركات يديرها زبانية النظام، في استغلال فج لمعاناة المحاصرين. وفي الوقت نفسه، يطل إعلامه لبيع الوهم، مزينًا صور القوافل القليلة التي سُمح بمرورها، مدعيًا أنه يمد يد العون لغزة، بينما الحقيقة أن يده الأخرى تُحكم الخناق عليها.
وفي قاعة محكمة الجنايات الدولية، حيث يُفترض أن تُرفع راية العدالة فوق كل سلطة، وقف ممثلو الاحتلال متحدّين، يلقون بالمسؤولية عن إغلاق المعبر على الدكتاتور نفسه. لم يكن ذلك اتهامًا سياسيًا عابرًا، بل اعترافًا صريحًا يكشف التنسيق، ويؤكد أن ما يجري ليس خيالًا بل واقع ثقيل على أعناق المحاصرين.
ذرائع الحاكم محفوظة عن ظهر قلب: "إرهاب"، "إخوان"، "مؤامرات خارجية" شعارات مستهلكة تحوّلت إلى سيوف مسلطة على رقاب كل من يطالب بفتح المعبر أو إيصال المساعدات. وفي الوقت الذي سالت فيه دماء أكثر من عشرين ألف طفل في غزة، وارتجف العالم أمام صور الجثامين الصغيرة، لم يرَ الدكتاتور في ذلك إرهابًا، بل اكتفى بعبارة باهتة: "ما يجري غير مقبول ويهدد استقرار المنطقة". أما أبواقه الإعلامية، فواصلت الزعم بأنه مستهدف، وأن هناك من يسعى لجره إلى حرب، بينما الحقيقة أن حكومة الفاشيين في إسرائيل تقدر خدماته وتشجعه على المضي، بل وتطالبه بالمزيد.
أما أنتم يا أصحاب الأقلام المأجورة يا من جعلتم الحبر سمًا والكلمة خنجرًا في ظهر المظلوم، فأنتم شركاء في الجريمة قبل الجلاد. شهود زور على التاريخ، كتبة على أبواب الطغاة، تبيعون الحق بالباطل وتسترون الدماء بالنفاق، وتطعنون الضحية بسطوركم، ولو توهمتم أنكم تكتبون بالحبر.
وما يسمى بـ"طرق أبواب السفارات" ليس إلا مسرحية هزيلة أخرجتها المخابرات لتلميع صورته أمام الداخل والخارج. مسرحية مكشوفة لا تنطلي على أهل غزة ولا على الشعوب ولا حتى على أبناء دولته الذين يعرفون أن هذه العروض لا تغيّر شيئًا من حقيقة التواطؤ.
إما أن ينهض أبناء تلك الدولة ليقولوا للعالم إن غزة ليست وحيدة، أو سيكتب التاريخ أن أطفالها ماتوا جوعًا وعلى بعد خطوات، والجارة لاذت بالصمت خلف الجدار، لا ترى ولا تسمع، وكأنها في عالم آخر تحكمه دكتاتورية لا تقل بطشًا عن غيرها.
اليوم يُعاد نفس سيناريو الدكتاتور الأول؛ عزلة خانقة يعيشها الحاكم الجديد وسط شعبه، ودولة تمرغت في وحل الخذلان، ارتمت في أحضان المعتدي وانهارت كرامتها. يعيش بين أسوار قصوره محاطًا بالمنافقين الذين يزينون له مواقفه ويستأجرون الأقلام الرخيصة لتلميع صورته الباهتة. إقليميًا، صار مهمشًا لا يؤثر في مجريات الأحداث، حتى صارت دول صغيرة تملي عليه أجنداتها وتحدد له مواقفه.
وهو يدرك أن الإعلام المحلي والانتهازيين لا يصنعون قائدًا، فصفة القائد لها أصولها ومستلزماتها، ولا يحملها من هب ودب. القائد الحقيقي يعيش في وجدان شعبه، لا على صفحات جرائد قد تنتهي كورق يلف وجبة رخيصة. وربما يشهد التاريخ نهاية شبيهة بسيناريو الدكتاتور الأول؛ نهاية مذلة، يسقط فيها القناع ويبصق عليه كل من مشى في طريق الحرية، لتبقى ذكراه وصمة عار في سجل أمة لن تغفر لمن خانها.

اعضاء معجبون بهذا

جاري التحميل

ثقافية

الإمارات بين بريق الأبراج وفراغ الإنسان

الإمارات بين بريق الأبراج وفراغ الإنسان الأستاذ الدكتور نوري حسين نور الهاشمي 13/8/2025 لا يختلف اثنان على أن دولة الإمارات العربية المتحدة قد حققت نهضة عمرانية مبهرة، تجسدها أبراجها الشاهقة التي تناطح السحاب، وشوارعها العصرية الممتدة كخيوط ضوء، وتقنياتها المتقدمة التي تضيء موانئها ومطاراتها،... المزيد

نوري حسين نور الهاشمي

عدد المقالات : 47

طقوس الظهيرة برفقة الشيخ الوائلي

حين كانت الجدران تتجسس علينا،تراقب أنفاسنا،كُنّا نرادوها عن عاداتها،فتسلّم نفسها لمشيئة الظهيرة،مختمرةً،طريةً، طيّعةً هناك حيث كانت الحياة بقيادة أمهات( معدلات يسون من الماكو اكو) فلابد أن تدبر الأم حالها وتنظم أمور المنزل،وريثما يعود الأبناء من مدارسهم أوكلياتهم،يكون الغداء قد نضج(والجدورة... المزيد

د.أمل الأسدي

عدد المقالات : 67

نجد والحجاز قراءة أكاديمية في ذاكرة الحضارة وصراع الهوية

نجد والحجاز قراءة أكاديمية في ذاكرة الحضارة وصراع الهوية الأستاذ الدكتور نوري حسين نور الهاشمي 11/8/2025 التاريخ ليس سردًا جامدًا للأحداث، بل هو شريان الهوية الحيّ الذي يمدّ الحاضر بمعناه، ويحفظ للأمة ملامحها وسط تقلبات الزمان. فمن خلال صفحاته تتشكل خرائط الحضارة، حين تتلاقى الشعوب وتتبادل المعارف،... المزيد

نوري حسين نور الهاشمي

عدد المقالات : 47

استكان جاي عراقي مهيل.. الأصالة تواجه الثقافة الدخيلة

لكل شعب من الشعوب طقوسه الخاصة وعاداته وتقاليده التي تميزه عن غيره،وأحيانا تجمعه مع غيره من الشعوب،وفي العراق تجد الكرم المتفرد وتشهد حالات عجيبة من الكرم وحسن الاستقبال والإيثار ولاسيما في مواسم الضيافة كأيام الزيارة الأربعينية والزيارة الرجبية وزيارة استشهاد الإمام الكاظم (ع) والزيارة... المزيد

د.أمل الأسدي

عدد المقالات : 67

أدبية

الشعراء المغمورون في الدفاع عن أهل البيت عليهم السلام

رُوَّادُ الولاء : شعراء أضاءوا بالحقِّ فطُمِسَ نورُهم لطالما تهادت على بساط التاريخ أسماءٌ كالشموس، بينما توارت في حنايا الظل أسماءٌ أُخر، لوّحتْ أقلامُها بمِدادٍ من لهيبٍ لا يقلُّ حممًا عن دماء السيوف في ساحات الوغى. أولئك كانوا حَمَلَةَ هَمِّ آل البيت الكرام، فكانت قصائدُهم صرخةَ حقٍّ تُردِّدُها... المزيد

وائل الوائلي

عدد المقالات : 38

وَالْمُقِلُّ غَرِيبٌ فِي بَلْدَتِهِ (قصة قصيرة)

في قريةٍ صغيرةٍ محاطةٍ بجبالٍ شاهقة، عاش رجلٌ يدعى هشام، معروفٌ بحكمته وطيب قلبه، لكنه كان يعاني من فقرٍ شديد. رغم ذلك، لم يشكُ يومًا ولم يطلب من أحد، بل كان دائم التوكل على الله. في ليلةٍ شتويةٍ عاصفة، ضاعت ماشية أحد أغنياء القرية في الجبال. أرسل الرجل خدمه للبحث، لكنهم عادوا خائبين. حينها، تقدم هشام... المزيد

قصص وعظات

عدد المقالات : 12

فالح حسون الدراجي شاهدٌ بلسان الوجع.. وقيثارة المقاومة

في فضاءات القصيدة العراقية، ينهض فالح حسون الدراجي كصرحٍ شعريٍّ نادر، يُجسّد آلام أمةٍ وهموم وطنٍ مزقته رياحُ الظلم. إنه ليس مجرد شاعرٍ ينسج الكلمات، بل **مؤرِّخٌ للجرح** بصوته الشعبي الصادق، و**مناضلٌ بالكلمة** في ساحات المواجهة ضد الطغيان. فشعره **سيفٌ مصقول** من حقائق المعاناة، و**مرآةٌ عاكسة** لتاريخ... المزيد

وائل الوائلي

عدد المقالات : 38

وَالفَقْرُ يُخْرِسُ الْفَطِنَ عَنْ حُجَّتِهِ (قصة قصيرة)

في زاوية السوق، جلس رجل أشيب، يضم كفيه الفارغتين إلى صدره كمن يحمي كنزًا لا يُرى. كان اسمه "يعقوب"، رجل عُرف يومًا بحكمته الراجحة ولسانه البليغ، لكنه اليوم بات شبحًا لمن كان. نشب خلاف بين تاجرين، وارتفعت الأصوات، فتوجهت الأنظار إلى يعقوب، الذي كان الحَكم في مثل هذه النزاعات. قال أحدهم: "يا يعقوب، احكم... المزيد

قصص وعظات

عدد المقالات : 12

علمية

جوائز مسابقة كنز المعرفة لشهر حزيران 2025

استلام المتسابقة : ( زينب عبد الرحمن حسين ) الفائزة بالمرتبة الأولى لجائزتها في مسابقة كنزالمعرفة لشهر حزيران/ 2025 ألف مبارك للأخوة الفائزين، وحظا أوفر للمشتركين في الأعداد القادمة.. يمكنكم الاشتراك في المسابقة من خلال الرابط : (http://almerja.com/knoze/ المزيد

سلسلة في مفاهيم الفيزياء (ج39): في قلب الميكانيكا الكمومية والواقع يكمن جدل المتغيرات الخفية

سلسلة في مفاهيم الفيزياء الجزء التاسع والثلاثون: في قلب الميكانيكا الكمومية والواقع يكمن جدل المتغيرات الخفية الأستاذ الدكتور نوري حسين نور الهاشمي لقد هيمنت "الأدلة" المزعومة ضد نظريات المتغيرات الخفية على النقاش الفيزيائي لعقود طويلة،... المزيد

مصطلح "عشبي آمن وخالٍ من المواد الكيميائية" : بين التسويق والواقع العلمي

أصبح مصطلح عشبي آمن وخالٍ من المواد الكيميائية شائعاً بشكل واسع على وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصاً في الترويج للمنتجات الغذائية والمكملات العشبية ومستحضرات التجميل الطبيعية ويستهدف هذا المصطلح جمهوراً يبحث عن حلول صحية وطبيعية بعيداً عن... المزيد