Logo

بمختلف الألوان
في وطنٍ تئنُّ روحه من ثِقل الأيام، وتتوقُّ أجياله إلى فجرٍ يمحو ظلام اليأس، انبعث نورٌ من قلب مدينة مقدسة، نورٌ يملأ الوطن ضياءً، وأيدٍ أمينة تعانق آماله واحلامه. سطع نور العتبة العباسية المقدسة، التي لطالما كانت مَوئِلاً للعلم والمعرفة، لتتجاوز دورها الديني وتصبح حاضنة حقيقية للطاقات الشابة،... المزيد
أخر المواضيع


مرحبا بكَ زائرنا العزيز
نتمنى أن تكون في تمام الصحة والعافية

تحذير! هل انت متأكد من حذف هذا المقال مع الردود عليه ؟
هكذا عرفت الإمام الحسين.. قنديل صفو يهطل الضياء في زمن الجوع والوجع

منذ 3 سنوات
في 2022/08/31م
عدد المشاهدات :2236
وبعد:
فإنّ الحديث عن الطف ليس حديثا عن معركة، أو حركة ثورية في زمن ما، إنه الآن الذي يصبح فيه الحديث اختصار عصر أمده يربو على القرن إنّه عصر محنة طويل، لقد رافقته زمناً اتقلب بين المصادر والروايات والاحداث فأفدت منه أنّ الإنسان دائما وربما في كل يوم يقع بين حجرتي الرحى في مواقف من شأنها أن تثبته في مجالات الحرية، إن أراد، أو تربط على بطنه حجرة العبودية إن أراد؛ لكنّها حجرة ليست مثل تلك الحجارة فطالما ربطت العرب بطونها بالحجر من ألم الجوع. إنّ الله سبحانه وتعالى الصانعُ الحكيم الخبير يعلم كيف يخفي سرّه في أوليائه.. فوددت أن أوجز أشياء عنه لخصتها بما يأتي:
1- جرى بين الامام الحسين عليه السلام والطرف الآخر المتمثل بالولاة في المدينة وفي مكة والكوفة، مضافا إليهم الجند والقادة في الحواضر وفي ساحة المعركة محاورات وخطب عدة.. فأقول: إذا رأى نقاد التراث السياسي الإسلامي تاريخيا علاقةً بين النفس والباعث الخارجي من المصالح العامة أو الخاصة، الواقع الذي يتمثل في سياق موقف المتكلم وهو يصدر عن واقعه الاجتماعي أو الواقع الديني، أو الاقتصادي، فإذا كان ذلك فإنَّ انبثاق الكلام يؤججه باعث خارجي يصدر عنه المتكلم ويقف وراء دلالات القول الحاملة للصور والمعاني، تلك التي ترقى إلى تعريف الفروق بين المتحاورين، وبيان الهوية المعلمة بالواقع السياسي، أو الديني أو الاجتماعي، وإذا كان هذا فإنّك لا تعدم هذا الترابط الموزع بين طرفي الحوار في مراعاة الاتصال بالهوية في الأمر المتحاور فيه، والتزام سلمه التصاعدي نحو قوة الباعث مهما كانت قوة المؤثرات المضادة، سواء أكانت سلبية أم إيجابية هكذا كانت طبيعة الحوار عند الإمام الحسين المفترض الطاعة عليه السلام، فهو يتكلّمُ بما تتطلبه الحاجة، وهو بذلك يؤسس علاقة خاصة تجاه الواقع، هذه العلاقة ترقى إلى مثال الكليات العامة في الحكمة وقواعد السلوك وقدْ عرِفته منتصرا للحقيقة دائماً.
2- المقولات التي صدرت عنه عليه السلام هيهات منا الذلة، مثلي لا يبايع مثله، إذا حاول الانسان أمرا في معصية الله كان ذلك أفوت لما يرجو، وأقرب لمجيء ما يحذر، لا تتكلف ما لا تطيق، ولا تتعرض لما لا تدرك، لا تعد بما لا تقدر عليه، لا تطلب من الجزاء إلا بقدر ما صنعت، إياك وما تعتذر منه، وقوله لأم سلمة: إن لم أذهب اليوم ذهبت غدا، ما كنت أبدأهم بقتال..
3- منها أيضا ما يقع في مصاف ادعيته عليه السلام قوله في الدعاء على أعدائه بعد أن رماه أبو الحتوف الجعفي بسهم أصاب به جبهته: اللهم إنّك ترى ما أنا فيه من عبادك العصاة، اللهم احصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تذر على وجه الأرض منهم أحدا، اللهم إن متعنهم إلى حين، ففرقهم تفريقا، واجعلهم طرائق قددا ولا ترضي الولاة عنهم أبدا.
4- فطريقةُ القول عنده كما ترى تنبعث عن رؤيته لذلك الواقع قانعاً به أو رافضاً له، لكنّه كان حريصاً على التريث في اخراج الكلام وأبعاده التعبيرية، فإنّ صيرورة الكلام عنده تُبنى على تأمّلٍ فكريٍّ أولاً، ومداد قرآني، ثم يأتي بُعْدُه الأسلوبي الملائم لغرض الكلام، والحوادث الداعية إليه، فالقرآن وأقوال جده وأفعاله هي مصادر ثقافته، كيف لا وهو ابن بيت الوحي، فبذلك تصنع كلماته بُعْدُاً تواصلياً مُقْنعاً مع المتلقي، فالتأني والروية يفوح عبقهما في كلامه، وأنت من كلماته يمكنك بقليل من الحذق معرفة شخصيته، وتحقيق ما يروى من الأحداث في مسيرته، فهذه الحال ترافقه في سكناته وحركاته وكلامه وسكوته، فلا ينفلتُ حاله من سياق واقعه، وكماشة تصوره للأحداث واستشراف آفاق عصره، ومكانته فيه. وذلك كما في نصّ خطابه في ساحة المعركة قوله عليه السلام: ((أيّها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظکم بما هو حق لکم عليّ، وحتى اعتذر إليکم من مقدمي عليکم فانْ قبلتم عذري وصدّقتم قولي واعطيتموني النصف من أنفسکم کنتم بذلك أسعد، ولم يکن لکم عليّ سبيلٌ، وإنْ لم تقبلوا مني العذر، ولم تعطوا النصف من أنفسکم فاجمعوا أمرکم وشرکائکم ثم لا يکن أمرکم عليکم غمّة، ثم اقضوا اليّ ولا تنظرون، إنّ وليّ الله الذي نزل الکتاب وهو يتولي الصالحين...)). وهذا مضمون قرآنيّ من جهة كما هو واضح، وأنّه أوجز فذكر حقهم عليه وترك ذكر حقه عليهم اكتفاء بذكر حقهم فما يكون لك حق على أحد حتى يكون له عليك من الحق ما يوازيه.

وفي هذا مضمون من قول أبيه عليّ بن أبي طالب عليهما السلام في صفين مما جاء في نهج البلاغة: ((أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً بِوِلَايَةِ أَمْرِكُمْ وَلَكُمْ عَلَيَّ مِنَ الْحَقِّ مِثْلُ الَّذِي لِي عَلَيْكُمْ فَالْحَقُّ أَوْسَعُ الْأَشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ وَأَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ لَا يَجْرِي لِأَحَدٍ إِلَّا جَرَى عَلَيْهِ وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ إِلَّا جَرَى لَهُ وَلَوْ كَانَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْرِيَ لَهُ وَلَا يَجْرِيَ عَلَيْهِ لَكَانَ ذَلِكَ خَالِصاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ وَلِعَدْلِهِ فِي كُلِّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ قَضَائِهِ وَلَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ حَقَّهُ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يُطِيعُوهُ وَجَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَيْهِ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ تَفَضُّلًا مِنْهُ وَتَوَسُّعاً بِمَا هُوَ مِنَ الْمَزِيدِ أَهْلُهُ.))، مع تشابه الموقف، ووحدة المقام.
5- ومذ عرفته وأنا أقرأ للشيخ القرشي، وميزان الاعتدال، وتاريخ الإسلام للذهبي، وفضائل الصحابة لابن حنبل، وبلاغة الامام الحسين لمصطفى، وآخر للسيد حسين أبو سعيدة، ومقتل الامام الحسين لبحر العلوم، وأخباره في الطبري، والبلاذري، والمسعودي، وأضرابهم بدءا من منتصف الثمانينات حتى قرابة عام الفين، وأنا أعرضُ ذلك كلّه على مبحث الامامة في شرح تجريد الاعتقاد، الباب الحادي عشر للشيخ الطوسي، وعقائد الامامية للمظفر فمذ عرفته في هذه المسيرة وجدتُه يمتلك معرفةً يوظفها في سياقات كلامه، ويبثّ مضامين قيادته ورئاسته الدينية والشرعية في مجالات متنوعة من العقيدة والحكمة والفقه والدعاء يبث كل ذلك في مقولاته فتتجلّى للمتنبه الصلة بينَه وبينَ المسلمين الأصحاء الحفاظ من جهة وبين وشيعته من الجهة نفسها، فأنت حين تقرؤه تشعر بوقع كلماته مغمَّسَةً بنجيع الإمامة، وظلال وجدانه، لذلك يحقق استجابة وجدانية تقرّبُ الفكرةَ إلى سامعه فتجذبه فيستجيب لها كما حدث مع الحر الرياحي، وزهير بن القين رحمهما الله وجزاهما خيرا عن رسول الله وأمير المؤمنين علي وعن سيدة نساء العالمين فاطمة عليهم أفضل الصلاة وأتمّ التسليم؛ ذلك أنَّ تواصلَه مع الناس جميعا من مريديه ومن أعدائه يضُمُّ في طياتهِ طاقةً تعبيريةً عالية، ونورا وبركة، وروحانية تبعث بالتأثير في الذهن وتطبع على القلب بما هو وتحقق التفاعل أيّا كان وكيفما يكون بحسب واقعه في فهم المطلوب، وتفهمه وإفهامه لذلك تجد مصادر التاريخ والرجال كلها قد حضر فيها الإمام الحسين عليه السلام وعيا وفكرا يأنس به الفكر، وتطمئن إليه الروح فتمكث عليه، من هنا فهمت عزوف أعدائه عن مراجعة مصادره المتنوعة، وخوفهم من اهتداء اتباعهم إلى تلك المنابع.
6- إذا كان الكلامُ (النصَّ المنقول عنه) وثيقةٌ لسانيةٌ تُنْبِئُ عن المزايا الشخصية والمعرفية في بناء الذات للمتكلم، فإنّ الحسين عليه السلام يهتدي بإمعان نحو الإرشاد بما هو إمام معصوم، لكن لا ينفث جبريل عليه السلام على لسانه، ولا يوحى إليه، إنّما قد تولى الله ونبيه إعداد شخصيته وتأهيلها لمركز الإمامة على حدّ ظلال عموم اللفظ من قوله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي(طه39)}، كيف لا وأبوه الإمام علي عليه السلام يخاطب أعداءه من قريش فيما رواه الذهبي في تاريخ الإسلام (ج٥ ص١٠١): قال: ((قال علي يخاطب قريش في كلام طويل منه، أنا وحسين منكم وانتم منا)) وهذه عبارة عجنت بالبيان وشرّبت بالفكرة فهو كلام يخبرنا بدلالته على أنّ ما عليه عليّ عليه السلام وولده الحسين عليه السلام ليس كما هم عليه (قريش) فعاد بنا القول بفكرته الى كلمة ابي عبد الله مثلي لا يبايع مثله.
7- يرشدُ الإمام الحسين كما يفعل أبوه عليهما السلام إلى وجوب الانفلات من سطوة التعصب والانفعالية بالاندفاع في تحرير الخطابات، أو في التحاور حتى يأتي الكلام في حلقات متماسكة في التعبيرِ عن المقاصد المحملة بألوان الفكر، والتي لها ظاهر، وباطن، فهم جميعا عليهم السلام عن القرآن يصدرون، فيسمو كلامهم بنورانية باعثة للطاقاتِ الإيحائيةٍ المختلفةِ، كيف لا وهو ابن عصر الفصاحة وفن الكلام الذي يعد كلامهم فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق، فإنّ الفنّ اللفظي في كلامهم محملٌ بمجالات عدة جاهزة للانطباعات الفكرية والوجدانية المطابقة للعصر وكأنّهم ترجمة حيّة لقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ(الرعد4)}، وهذا مضانّ الاتصال بواقع العصر فليس لله أن يدع الأرض خلوا من حجة له ينطق بالقرآن، فكان النبيّ عليه وآله أفصل الصلاة وأتم التسليم ناطقا بلفظ القرآن وموضوعاته وفكرته، وكان الأئمة متسلسلون ناطقون كلّ بلغة عصره واتصال واقعه بموضوعات القرآن وفكرته، فهم القرآن الناطق تظهر عليهم صورة الواقع برؤية واضحة فكريّاً (علميا وفلسفيا وعقديا) وثقافيّاً (واقع الكون، وأحداث عصره وتطوراته)، وتُصَوّرُ شخصيته، وهو الإمام المعصوم، في ضوء النصوص المضبوطة المتواترة البعد النفسيّ القار، والمهيمن على جيوب الحياة وخفاياها، وسرائر الناس وغاياتهم، وتُمثل بيانا تاما لوعيه بجربتهِ في عصر الامامة السابقة بمجمل أبعادها الثقافية والوظيفية، والانسانية، والحجاجية، والإقناعيّةِ جميعاً، من ذلك وهو كثير قوله لرجل كما في البحار (ج2: 9): ((أيهما أحبّ إليك، رجل يروم قتل مسكين قد ضعف تنقذه من يده وناصب يريد إضلال مسكين مؤمن ضعفاء شيعتنا، تفتح عليه ما يمتنع به، ويقحمه، ويكسوه بحجج الله تعالى)).
8- شخصيته، مثل غيره من الأئمة، ممن سبقه، ومن كان بعده، تكتسبُ مِيّزَةَ التأثيرِ كلّ بحسب عصره فتظهر الميزات أكثرَ فأكثرَ كُلّما ازدادَ التفاعلُ بين (الواقع) طبيعِةِ الحياةِ والشعورِ بحاجات العصر إزاء وظيفته كإمام مفترض الطاعة مما تظهر قدرته لأمته على ما يُحيطُ به من العلوم الإلهامية (لدنية)، أيْ: تظهر ميزات صناعة الصانع على حدّ (لتصنع على عيني) ومراعاة مقتضيات الأحوال العامة سياسيا واجتماعيا ونحو ذلك من ذلك مقالته لعديّ بن حاتم الطائي فيما يذكره الدينوري في الاخبار الطوال (ص203)؛ إذ قصد عديّ الامام فسأله أن ينقض العهد الذي أبرمه الإمام الحسن عليه السلام مع معاوية، فقال له الحسين عليه السلام: ((إنّا قد عاهدنا ولا سبيل لنقض عهدنا)).
9- فمثال الشخصية القارة المحملة بمفاهيم الحياة السياسية، والاجتماعية والنفسية في مواجهة ظلام الجهل وعبثية الجاهل، وفي ضوء هذا المبدأ تجد كلامه لا يتصل بردِّ فعلٍ على موقفٍ ما، لأنَّ ذلك مدعاة لضياع الكلام في ضَبابية انفعال المتكلم ويفقدُ مسار الاقناعِ المطلوب، ومن هذا النحو الحوار بينه عليه السلام وبين عبد الله بن حوزة فيما يرويه غير واحد، كما في تاريخ الطبري (5: 430/ مصر)؛ إذ قال ابن حوزة مستفزا الامام عليه السلام، يا حسين: أبشر بالنار فقال الحسين عليه السلام في جواب غير الانفعالي: ((كلا. إنّي أقدم على ربّ رحيم شفيع مُطاع)). فإنّ مسار سياق الكلامِ مُحمَّلٌ بالصورِ والمعاني المؤثِّرِةِ في اتباعه وشدهم بعزيمة الولاء، فإنّ شخصيته عليه السلام ظاهر عليها صبغة الصانع والإبداع في البناء فإنّ معاني كلامه تستديرُ حولَ رؤيته كإمام معصوم وقائد معسكر الحق الذي يسعى كلُّ مؤمن إلى الانضمام إليه، بما تكون شخصيته ضامن كبير في إيصالُ فكرته خالصة من كلّ لبس أو عتمة تؤثر في مساره عليه السلام في زمن الميل عن الحق والمعروف نحو متطلبات الجاهلية. وهو بهذا النحو يعلم أتباعه اتخاذ الموقف الايجابيّ من الحقيقةِ بلحاظ ما هم عليه لا ما عليه غيرهم وإن كان موقفا سلبيا في نظر اعدائهم، وأن يكونَ الموقف مرآةَ وجودهم؛ لأنّه نتاجَ تجربةٍ وحياة وصحبة مع الإمام (الحسين عليه السلام) هذا الموقف يمثل أفقا تاريخيا على مرّ العصور تتحاورُ فيه الأجيال عبر الزمانَ والمكانَ دائما، وبهذه الفكرة يرتسم الفرق بين الجسمانية والروحانية، بقدر الفرق بين المادية والمعنوية، فالمادة الجسمية تفنيان فضلا عن عدم ثباتهما، وذلك ما أثبته بانشاد أبيات فروة بن مسيك المرادي في ساحة المعركة قوله:

فلو خلد الملوك إذا خلدنا ... ولو بقي الكرام إذا بقينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا

لكنّ الموقف مخلد من ذلك محاورة الشمر بن ذي الجوشن مع أخي الحسين عليه السلام أبا الفضل العباس، حين دعاه الشمر بادعاء القرابة من جهة الخؤولة فأبى العباس عليه ذلك.
10- وهذا يدلّ عَلى أنَّ البعد الولائي لا يتأثر بالمجال العاطفي على الرغم من قرب العصر من ثقافة الفخر والاعتزاز بالمجال العشائري لكنّ أبا الفضل العباس تكلّم بموهبته التي أعدته لمثل هذا الموقف وشخصيته الأخوية معاً، وهو ما يحمل بعدا من التمايزَ بين الناس والمواقف، وذلك يكون حسَبَ البناء الذاتي من المعرفة بالحق ورجاله، والاطلاع على الحقيقة وواقعها غير الملبوس، وانعكاسه على أداء الفرد الايماني بالله، والولائي للإمام، والنفسي في معرفة طاقاتها في تحمل الأعباء بقدر ما غذتها شخصية الامام والمأموم، وجاء الإبداعُ في المواقف على هذا النحو من الفرادةِ ومثار الدهشةِ في صورِها المتنوعة التي نجحت في رسم هذه المواقف المفعمة في الاستجابة التفاعل الوجداني، فمنحَ الأصحاب في معسكر الامام الحسين قوة وثبات نفس وطنت للموت بمحبة عالية ويقين إيماني راسخ على قدر محبة الطفل للرضاع، واستحضار الطاقاتِ الإيجابية التاريخية في سبيل رسم صلتهم بآل الحسين وأرومته - جده وأبيه وأمه وأخيه (أفراد الكساء) - بأشكال مؤثِّرَة، متواترة مطبوعة بألوان اختلاف انسابهم وبيئات نشأتهم وتنوع مشاربهم. ويمكن المرور في هذا على موقف حبيب بن مظاهر وغيره.
11- علمِيّاً تأخذ الشخصية القيادية والإدارية بعدا أفقيا يؤثر في المتلقي غير الشاهد من ذلك موقف أهل الأمصار البعيدين مكانيا عن موقع الامام الحسين عليه السلام في مكة والمدينة وكربلاء نذكر منهم موقف المسيحي (شوذب) عندما قرأ الإمام السبط، ومواقفه، وبعده الديني وصلته بالنبي عليه وآله أفضل الصلاة وأتم التسليم، وبعده الاجتماعي الإنساني فانعكس ذلك كله على محاولاته في اللحاق بالطف، وعلى الرغم من معوقات بقائه على هذا الموقف الولائي مما سنحَتْ له الظروف به بقدر تكليفه الإنساني الاجتماعي غير التبعي كونه مسيحيا، مما منح البعد التاريخي فرصَة أنْ يلتقي الانسان المعاصر اليوم بتاريخ عالمية الحسين مثل: أم وهب، وغيرها، علامات اجتماعية فارقة، وغاندي علامة سياسية في إدارة المجتمع المضلل عبر العصور، ونحو ما كان من قصة الحضرمي ما تناقلته المصادر، أنّ مسروق بن وائل الحضرمي قال: ((كنت في أول الخيل التي تقدمت لحرب الحسين لعلّي ان أصيب رأس الحسين فأحظى به عند ابن زياد؛ فلمّا رأيتُ ما رأيتُ منه، عرفت أنّ لأهل هذا البيت حرمةً ومنزلةً عند الله، فتركت الناس وقلت: لا أقاتلُهم فأكونَ في النار)) وهذا مثال حي لواقع التفاعل الخطابي بينه عليه السلام وبين متلقيه في البعد الفكري المؤثر في الباعث الوجداني على سلوك الترك واتخاذ الموقف عند مسروق الحضرمي مثالا.
12- كانت قصة الحسين إماما، وقتيلا، تجربة تاريخية إنسانية في الثبات على موقف الحق مهما كانت نتائجه، وتجربة تاريخية تنهل منها الأجيال والأمم في تحليل ونقد المسار الحياتي للمجتمع، ومنبعا ثقافيا يلهم الكتاب إذْ لم تتكن لتعني أتباع الحسين عبر العصور في الكتابة عنه ومسيرته إماما وقتيلا؛ بل كانت الكتابات فيه معرفيا تاريخيا، وثقافيا مما عني بها مختلف الكتاب ومختلف المشارب والمنابع السياسية والدينية والعرقية والاجتماعية ذلك أنّ قصة الحسين عليه السلام تسير باتجاهين أفقيا وعموديّا لما لها المؤثرات النفسية والاجتماعيةِ؛ ذلك أن الحسين عليه السلام هو التعبير الحيّ عما يبتغيه ويريد إثباته؛ ولأنه يُريدُ الحفاظ على الامتداد التكويني شرعا لوظيفةَ الإمامة الدينية، وامتداداتها الأخرى فسلك لذلك طريق الافهام والتفهيم لأتباعه فقد عوّل كثيراً في خطابه الإفهامي على القاء الحجة، والدفاع عن الشريعة والحق والعدل بين الناس، فصحب ذلك بالتحليل للمواقف السياسية والاجتماعية والمولوية الدينية في ضرورة الاتصاف بميزات الايمان معيارا قرآنيا والتعليل لذلك بالمفاهيم والآيات القرآنية وربطِ الأسبابِ بالمسبباتِ.
13- ومن الأمثلة هذا، وذاك ما تناقلته المصادر أنّه ((ثم قال الحسين فإنْ کنتم في شكّ من هذا القول، أفتشكّون أني ابن بنت نبيكم، فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري فيکم، ولا في غيركم، ويحكم أتطلبوني بقتيل منكم قتلته أو مال لکم استهلكته أو بقصاص جراحة، فاخذوا لا يكلمونه))، ومنه حين قال له قيس بن الأشعث: أولا تنزل على حكم بني عمّك قال: ((لا والله لا اعطيهم بيدي اعطاء الذليل ولا افر فرار العبيد عباد الله إني عذت بربي وربكم أنْ ترجمون، أعوذ بربي وربكم من كلّ متكبر لا يؤمن بيوم الحساب ... فاذا هم لا يملکون خطاباً))، وهذا افحام للحجة، وقوة لصدق الدليل ويقينه.
14- ونحو قوله عليه السلام: ((أيها الناس انسبوني من أنا ثم ارجعوا الى أنفسکم وعاتبوها وانظروا هل يحلّ لکم قتلي وانتهاك حرمتي ألست ابن بنت نبيكم، وابن وصيه - ابن عمه واول المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء من عند ربه - أو ليس (حمزة سيد الشهداء) عمّ أبي أو ليس (جعفر الطيار) عمّي أو لم يبلغکم قول رسول الله لي ولأخي (هذان سيدا شباب اهل الجنة)، فإنْ صدّقتموني بما اقول وهو الحق - والله ما تعمّدت الكذب منذ علمت ان الله يمقت عليه أهله ويضرّ به من اختلقه - وإنْ کذّبتموني فإنَّ فيکم من إنْ سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا (جابر بن عبد الله الانصاري) و (أبا سعيد الخدري) و (سهل بن سعد الساعدي) و (زيد بن أرقم) و (انس بن مالك) يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله لي ولأخي. أما في هذا حاجز لکم عن سفك دمي))، وهذا نظام قرآني في بناء العبارة من ترك جواب الشرط، فترك الجزاء للشرط من قوله: (فإنْ صدّقتموني بما اقول وهو الحق)، وذكر الحجة والدليل على صدقه في جزاء الشرط الثاني من قوله: (وإنْ کذّبتموني)، وكذلك قوله: ((ثم قال إيها الناس إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم الي مأمن من الارض)).
15- من هنا بلغ غاية الأداء في وظيفته الاقناعية إماما، وقائدا، وقتيلا وأبلغ في الوعظ والتوجيه في خطاباته المتنوعةِ فحظر على المنافقين والنواصب اللبس على الناس، فقال بطلب الصلاح في أمة جده، وأبلغ في الوصف بقوله: لم أخرج أشرا ولا بطرا إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي. كما سلك طريق التعريف الذي ظل علامة فارقة على ذاك العصر والعصور التي تلته وهو بهذا يصِلُ غاياتِه الفكريَّةَ، لذلك حملت نصوصه موضوعاتٍ جديّة، وتنوعا، واختلافا، وغناء وما ذلك إلا لأن منابعه القرآن وجده وأبيه واتصاله بالواقع.
16- وأخيراً.. فإنّ ما يماز به الحسين قتيلا هو اختزاله للعصر، وتصويرا حيا لمسارات المجتمع وتخلفه، وأعطى قاعدة في الحذر من الاعلام الدعائي، بسط ظلاله على العصر وما تلاه بنقاء سريرته، ينشر الصدقَ، يراعي القيمَ والذِّمَمَ والعدل بين الناس، متمسّكٌ بقيم الفضيلةِ ومشاربِها فهو وريث بيت النبوة.. هكذا قرأت الحسين.

العبد المفتقر إلى ألطاف ربه وشفاعة وليّه
رياض البديري
الاثنين 9 / محرم الحرام / 1444هـ الموافق 8 / 8 / 2022
النجف الأشرف

اعضاء معجبون بهذا

حين يسقط القناع: قراءة نفسية في تغيّر الصديق الطيّب
بقلم الكاتب : حنين ضياء عبدالوهاب الربيعي
كان يبدو صديقًا حقيقيًا، قريبًا للروح، تتحدث إليه فيفهمك دون أن تشرح كثيرًا. عاش بينك زمنًا من المودّة والصدق الظاهري، حتى ظننت أن صداقتكما من النوع الذي لا يتبدّل. لكنك كنتَ مخدوعًا أو بالأحرى كنت ترى الوجه الذي أراد أن يُريك إياه. فجأة تغيّر. صار يتصرف بسوء، يتحدث عنك في غيابك، يذكرك بأقبح الكلام،... المزيد
المزيد من المقالات الإجتماعية

المزيد من المقالات الثقافية

كان اسمها (زينب)  ويقال إن للإنسان نصيبا من اسمه،وهي كذلك،ترتدي الخُلق وتنطق... المزيد
ونحنُ في المشتاةِ ندعو الجَفَلَىٰ لا تُرى الآدِبَ فينا يُنتَقَرُ طرفة بن العبد... المزيد
مازلتُ غريقا في جيبِ الذكرياتِ المُرّةِ، أحاولُ أن أخمدها قليلا ؛لكنّ رأسها... المزيد
رُوَّادُ الولاء : شعراء أضاءوا بالحقِّ فطُمِسَ نورُهم لطالما تهادت على بساط... المزيد
في قريةٍ صغيرةٍ محاطةٍ بجبالٍ شاهقة، عاش رجلٌ يدعى هشام، معروفٌ بحكمته وطيب قلبه،... المزيد
في فضاءات القصيدة العراقية، ينهض فالح حسون الدراجي كصرحٍ شعريٍّ نادر، يُجسّد... المزيد
في زاوية السوق، جلس رجل أشيب، يضم كفيه الفارغتين إلى صدره كمن يحمي كنزًا لا يُرى. كان اسمه...
حين نتحدث عن الأجناس الأدبية التي تتصدر المشهد الثقافي العربي عامة، والعراقي خاصة، نُشَخِّص...
في رحاب الكاظمية المقدسة، وُلد جابر بن جليل كرم البديري الكاظمي عام 1956، ليكون نجمًا متألقًا...
كان يتذمر،والشكوی تضحك في فمه كيف يعلِّمني صبيٌّ علی كلٍّتلميذٌ صغير  وسأعيد تربيته أنا...


منذ 3 ايام
2025/11/16
احلفكم بالله ايها المحللون والاعلاميون اتركوا المنتخب العراقي وشأنه ولا تضعوا...
منذ 3 ايام
2025/11/16
سلسلة مفاهيم في الفيزياء الجزء السادس والسبعون: كون داخل الكون: العوالم المتعددة...
منذ 3 ايام
2025/11/16
منذ سنوات برزت ظاهرة من قبل بعض جماهير الاندية الكبيرة ضد نادي الزوراء وانتشرت...
رشفات
( مَن صبر أُعطي التأييد من الله )