الصاحب في اللّغة ، وجمعه صحب وأصحاب وصحاب وصحابة : المعاشر ، الملازم ، ولا يقال إلّا لمن كثرت ملازمته ، فالمصاحبة تقتضي طول لبثه .
وبما أنّ الصّحبة تكون بين اثنين ، فقد لزم إضافة (صاحب) وجمعه إلى اسم آخر في الكلام ، قال تعالى : {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى} [الشعراء : 61] .
واستعمال الكلمة في الكتاب والسنّة مطابق لما ورد في اللّغة ، ولكن الجمهور درجوا على تسمية أصحاب رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بالصحابة والأصحاب ، وتوسّعوا في ذلك حتى قالوا : «إنّ كلّ من رأى النبيّ وهو مؤمن به ولو ساعة من نهار ، ولم يظهر الارتداد بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) فهو صحابيّ» «1» .
وبناء على هذا فإنّ هذا المصطلح عند الجمهور يشمل آلاف الناس ، بل كل المسلمين الذين لقوا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ولم يرتدّوا .
هذا هو المشهور ، إلّا أنّ حقيقة آراء العلماء في حدود الصّحبة ومسمّى الصحابي مختلفة ، فنجد بين الأخباريين والمحدثين من جهة ، والاصوليين من جهة ثانية تباينا كبيرا :
قال ابن الصّلاح : «اختلف أهل العلم في أنّ الصحابي من هو ؟ فالمعروف من طريقة أهل الحديث ، أنّ كلّ مسلم رأى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فهو من الصحابة .
قال البخاري في صحيحه : من صحب النبيّ (صلى الله عليه وآله) أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه» .
وقال : «قلت : وقد روينا عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يعدّ الصحابي إلّا من أقام مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) سنة أو سنتين ، وغزا معه غزوة أو غزوتين ، وكأنّ المراد بهذا- إن صحّ عنه- ، راجع إلى المحكي عن الاصوليين- من أنّ الصحابي من حيث اللّغة والظاهر يقع على من طالت صحبته للنبيّ (صلى الله عليه وآله) وكثرت مجالسته له على طريق التتبّع له والأخذ عنه- ، ولكن في عبارته ضيق يوجب أن لا يعدّ من الصحابة : جرير بن عبد اللّه البجليّ ، ومن شاركه في فقد ظاهر ما اشترطه فيهم ، ممّن لا نعرف خلافا في عدّه من الصحابة» «2» .
وقال : «وروينا عن شعبة عن موسى السيلاني- واثني عليه خيرا- قال : أتيت أنس بن مالك ، فقلت : هل بقي من أصحاب رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) أحد غيرك ؟ قال : بقي ناس من الأعراب قد رأوه ، فأمّا من صحبه فلا . إسناده جيّد حدّث به مسلم بحضرة أبي زرعة» «3» .
أمّا الآمدي ، الاصولي ، فقد حصر الآراء في مسمّى الصحابيّ بثلاثة : قال : «اختلفوا في مسمّى الصحابيّ :
1- فذهب أكثر أصحابنا وأحمد بن حنبل إلى أنّ الصحابي من رأى النبيّ (صلى الله عليه وآله) وإن لم يختص به اختصاص المصحوب ولا روى عنه ولا طالت مدّته .
2- وذهب آخرون إلى أنّ الصحابيّ إنّما يطلق على من رأى النبيّ (صلى الله عليه وآله) واختصّ به اختصاص المصحوب وطالت مدّة صحبته وإن لم يرو عنه .
3- وذهب عمرو بن يحيى إلى أنّ الاسم إنّما يسمّى به من طالت صحبته للنبيّ (صلى الله عليه وآله) وأخذ العلم عنه .
والخلاف في هذه المسألة وإن كان آئلا إلى النزاع في الإطلاق اللّفظي ، فالأشبه إنّما هو الأوّل . . .» «4» .
ولخّص الطيّبي الآراء ناسبها إلى قائليها بثلاثة أيضا :
«1- الصحابيّ عند المحدّثين : هو كل مسلم رأى رسول اللّه (صلى الله عليه واله وسلم) .
2- وعند بعض الاصوليين : من طالت مجالسته على طريق التتبّع والأخذ عنه .
3- وعند سعيد بن المسيب : هو من صحب سنة أو سنتين أو غزا غزوة . . .» «5» .
ويناقش ابن حزم الآراء المختلفة حول الصحابة ، خصوصا التي تعمّم وتوسّع دائرة الصحبة ، وذلك في ضوء واقع بعض من عاصر الرسول (صلى الله عليه وآله) ، فيذهب إلى التأكيد على الصفات الإيمانية للفرد «الصحابي» بدلا من الصفات الحسّيّة كرؤية النبيّ (صلى الله عليه وآله) أو لقياه ومصاحبته ، فهو يقول : «اعلم أنّه ليس كلّ من أدرك النبيّ (صلى الله عليه وآله) ورآه صحابيّا ، ولو كان ذلك لكان أبو جهل صحابيّا لأنّه قد رأى النبيّ (صلى الله عليه وآله) وحادثه وجالسه وسمع منه ، وليس كل من أدركه (صلى الله عليه وآله) ولم يقله ثمّ أسلم بعد موته (صلى الله عليه وآله) أو في حياته إلّا أنّه لم يره معدودا من الصحابة ، ولو كان كذلك لكان كلّ من كان في عصره (صلى الله عليه وآله) صحابيّا ، ولا خلاف في أنّ علقمة والأسود ليسا صحابيّين ، وهما من الفضل والعلم والبرّ ، وقد كانا عالمين جليلين أيّام عمر وأسلما في أيّام النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وإنّما الصحابة الذين قال اللّه فيهم {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } [الفتح : 29] الآية . ومن سمع النبيّ (صلى الله عليه وآله) يحدّث بشيء والسّامع كافر ثمّ أسلم فحدّث به وهو عدل ، وإنّما شرط العدالة في حين النذارة والمجيء بالخبر لا في حين مشاهدة ما أخبر به ، وقد كان في المدينة في عصره (صلى الله عليه وآله) منافقون بنص القرآن ، وكان بها أيضا من لا ترضى حاله كهيث المخنّث الذي أمر (صلى الله عليه وآله) بنفيه ، والحكم الطريد وغيرهما ، فليس هؤلاء ممّن يقع عليه اسم الصّحابة» «6» .
وهكذا نجد اختلافا كبيرا في مسمّى الصحابيّ بين من وسع حتى جعل كل مسلم رأى النبيّ (صلى الله عليه وآله) ولو لساعة صحابيّا ، ليشمل المصطلح حتى المنافقين ومن طردهم النبيّ (صلى الله عليه وآله) ولعنهم ممّن عاصروه ، وبين من اشترط الصّحبة لمدّة معقولة يصحّ معها اطلاق اللّفظ عليه وفاقا مع المعنى اللّغوي الذي تضمّن المباشرة وطول الملازمة ، وأخيرا رأي ابن حزم الواضح في خروج كثير من المعاصرين للنبيّ (صلى الله عليه وآله) عن دائرة الصحابة .
ويمكن تلخيص الآراء السابقة بما يلي :
1- الصحابيّ : هو كلّ مسلم رأى الرسول (صلى الله عليه وآله) ، وهو المشهور ، والمنقول عن البخاري وأحمد بن حنبل وغيرهما .
2- الصحابي : هو من أقام مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) سنة أو سنتين وغزا معه غزوة أو غزوتين ، وهو المحكيّ عن سعيد بن المسيب .
3- الصحابي : هو من رأى النبيّ (صلى الله عليه وآله) واختصّ به اختصاص المصحوب وطالت مدّة صحبته وإن لم يرو عنه ، ذكره الآمدي .
4- الصحابيّ : من طالت صحبته وأخذ العلم عنه ، وهو مذهب عمرو بن يحيى والمحكيّ عن الاصوليين اذا اشترطوا كثرة مجالسته له على طريق التتبّع والأخذ عنه .
5- الصحابيّ : من ينطبق عليه قوله تعالى : {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح : 29] . . . ، ويشترط فيه العدالة حين الانذار والمجيء بالخبر . . . وهو رأي ابن حزم .
ومن الواضح هنا أنّ مصطلح الصحابة في صدر الاسلام لم يكن يشمل كلّ من رأى الرسول (صلى الله عليه وآله) من المسلمين ، ومنهم مسلمة الفتح وغيرهم من الأعراب ، وإلّا كيف يمكن الاطلاق بأنّ «للصحابة بأسرهم خصيصة ، وهي أنّه لا يسأل عن عدالة أحد منهم ، بل ذلك أمر مفروغ منه ، لكونهم معدّلين بنصوص الكتاب والسنّة وإجماع من يعتدّ به في الاجماع من الامّة» «7» ، وقد قال تعالى شأنه في وصف بعض المعاصرين للنبيّ (صلى الله عليه وآله) : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات : 14، 15]
وقال تعالى في وصف بعض من كانوا حول النبيّ (صلى الله عليه وآله) أو ممّن جاوروه في المدينة :
{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } [التوبة : 101] .
وهذه الآيات تدعو إلى أمرين : الأوّل : عدم إطلاق لفظ الصحابيّ ، والثاني : عدم إطلاق العدالة على كل صحابي .
وقد روي عن ابن زرعة أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قبض عن مائة ألف وأربعة عشر ألفا من الصحابة ممّن روى عنه وسمع منه . وقيل له : يا أبا زرعة هؤلاء أين كانوا وأين سمعوا منه ؟ قال : «أهل المدينة وأهل مكّة ومن بينهما والأعراب ومن شهد معه حجّة الوداع ، كلّ رآه وسمع منه بعرفة» «8» .
فهل تحوّل كل من قاتل الرسول (صلى الله عليه وآله) ودخل الاسلام عنوة في فتح مكّة وغيرها إلى صاحب للرسول (صلى الله عليه وآله) فتشمله العدالة والصحّة لكل ما يحدّث به!!
____________________
(1)- قيام الأئمّة بإحياء السنّة/ العلّامة العسكري/ ج 1/ ص 92 ، وراجع مادّة صحب في مفردات الراغب ولسان العرب .
(2)- مقدّمة ابن الصّلاح/ ص 424 .
(3)- م . ن ./ ص 426 .
(4)- الإحكام في اصول الأحكام/ الآمدي/ ج 2/ ص 102 .
(5)- الخلاصة في اصول الحديث/ الطيّبي/ ص 123 .
(6)- الاحكام لابن حزم ، نقلا عن الاحكام للآمدي/ ج 2/ ص 102/ هامش 1 .
(7)- مقدّمة ابن الصّلاح/ ص 427 .
(8)- م . ن ./ ص 432 .