قال تعالى : {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا
الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ
مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة
: 105-107] .
{عَذابٌ أَلِيمٌ ( 103) ما يَوَدُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ولَا من الْمُشْرِكِينَ أَنْ
يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ} من زائدة لوقوعها في حيز النفي
وفائدتها بيان الاستغراق وتأكيده {مِنْ
رَبِّكُمْ واللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ} ورسالته {مَنْ
يَشاءُ} على مقتضى المصلحة والأهلية فإنه اعلم حيث يجعل رسالته {واللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} لا يمنع
فضله عمن هو اهل من أي قوم كان {ما نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ} قد سمى القرآن ما جاء في الكتب الإلهية السابقة
بالآية والآيات ومدح من يتلوها ففي سورة آل عمران بعد ذم اهل الكتاب {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ
يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل
عمران : 113] وفي سورة مريم بعد ذكر النبيين والصالحين من السلف {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا
وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} [مريم
: 58، 59] الآية وفي سورة الزمر {أَلَمْ
يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ} [الزمر:
71] والنسخ والتبديل نظيران والظاهر ان المراد تبديلها لا تبديل حكمها بالنسخ
الاصطلاحي فإن في الثاني تجوز لا قرينة عليه بل قد يمنع منه السياق والضماير{أَوْ نُنْسِها} بضم النون الأولى وسكون الثانية
وكسر السين وحذف الياء حرف العلة للجزم بالعطف على ننسخ وهو من النسيان وأنسى
بالألف اللينة حرف العلة ينسى بالياء في آخرها لا من النسيء وانسأ ينسأ بالهمزة
في الأواخر ولو كان من ذلك لكان جزمه بسكون الهمزة أو الياء إذا أبدلت ياء إذ لا يجوز
حذفها لأنها ليست بحرف علة وان مناسبة السياق في الآية التي قبلها لتشير الى ان
المضمون هو انه وان كبر على اهل الكتاب نسخ كتب الأنبياء وآياتها بالقرآن
وآياته في مقام التلاوة والذكر والصلاة والشريعة والهداية وغير ذلك فضلا عن ان تلك
الكتب وآياتها قد حرفت وبدلت حتى صارت حقيقتها نسيا منسيا فإن القرآن منزل من
اللّه بحسب المصلحة التي اقتضت انزاله وانه ما ننسخ من آية او ننسها {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها} في الأثر. {أَوْ مِثْلِها} ونسب الإنساء الى اللّه مجازا
كما نسب الإضلال باعتبار تمرد المنتسبين الى كتابها حتى خرجوا عن أهلية اللطف
والتوفيق فوكلهم اللّه الى أنفسهم الأمارة فحرفوها وبدلوها الى ان صارت نسيا
منسيا. ولا مصداق لهذه الآية في آيات القرآن بعضها مع بعض. اما نسخ نفس الآية القرآنية
بمعنى نسخ تلاوتها فلا تكاد أن تعرف له مصلحة تقتضيه فضلا عما يختلج من وجوه
المفسدة مضافا إلى انه لا دليل على وقوعه ولئن روي في ذلك شيء فقد مرّ في الأمر
الثاني والثالث من الفصل الثاني من المقدمة ما يبطله ويكذبه وقد حكي عن مقالات
الشيخ المفيد ان عدم هذا النسخ مذهب الشيعة وجماعة من اهل الحديث وغيرهم. واما ما
حكي عن العلامة في نهاية الأصول. والكركي في طهارة جامعه والطبرسي. في اقسام النسخ
من القول بوقوعه. فقد استندوا له بما يزعم من آية الرجم وقد أشرنا الى ما فيها
مضافا الى ما ذكر. والظاهر ان نسخه بهذا المعنى مناف لقوله تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر
: 9] واما انساؤها ونسيانها فهو مناف لآية الحفظ المذكورة ولقوله تعالى {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} [الأعلى : 6] ولا
تشبث بقوله تعالى {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}
[الأعلى : 7] فإن حمل الكلام على الاستثناء بالمشيئة لا يبقي وجها للامتنان والوعد
بقوله تعالى {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى} بل
ان المقصود منه الاستدراك لبيان ان عدم النسيان إنما هو بقدرة اللّه ومشيئته لا
لأمر طبيعي لازم بل لو اقتضت المصلحة وشاء اللّه ان يتركه وبشريته لنسي كما في
قوله تعالى في سورة هود {وَأَمَّا الَّذِينَ
سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ
وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود
: 108] وقد أطلنا الكلام في المقام لأنه لم يعط حقه {أَلَمْ تَعْلَمْ} خطاب وتوبيخ للإنسان بدليل
ما يأتي {أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ} ينزل الخير ويرسل الرسل ويرحم ويلطف بهم ويأت بخير مما
نسخ ولا يخص بلطفه قوما دون قوم وهم اهل له.