قبل أن يبعث الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، والانعزال، وكان يخلو بغار حراء يتعبد ويتحنث فيه، وهو التعبد في الليالي العددية، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك جبرائيل. فقال: إقرأ؟ قلت: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني. فقال: إقرأ؟ فقلت: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني. فقال: إقرأ؟ فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني.

فقال {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [العلق: 1 - 5] إلى آخر سورة العلق. فلما قرأ السورة ونطق بها أبلغه جبرائيل بأنه رسول الله وهنأه بالرسالة والنبوة. فسمع صوتا من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبرئيل. فنزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من غار حراء ورجع إلى منزله يرتجف فؤاده، فما مر بشجر ولا مدر إلا وسلم عليه وهنأه بالرسالة وشهد له بها، فدخل على زوجته خديجة بنت خويلد. فقال: زملوني زملوني، فزملوه (1) حتى ذهب عنه الروع، فأخبرها الخبر وقال: لقد خشيت على نفسي. فقالت خديجة: كلا ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب (2) المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق (3). وبينما هو في نومه وإذا به قد اهتز واضطرب، وثقل نفسه، وبلل العرق وجهه فاستيقظ من نومه ليستمع إلى الوحي يقول له: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } [المدثر: 1 - 7] (4). عظم على خديجة ما رأت من حاله، وتوسلت إليه أن يسلم نفسه للراحة، فقال لها: لقد انقضى يا خديجة عهد النوم والراحة. فلبست خديجة جلبابها وانطلقت به إلى ورقة بن نوفل ابن عم خديجة وكان شيخا كبيرا وقد تنصر وهو مشغول بكتابة الإنجيل بالعبرانية، وقيل أنه كان من المتألهين. فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا بن أخي ما ترى؟ فأخبره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما رأى. فقال له ورقة: سبوح قدوس، هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى بن عمران، قدوس قدوس، يا ليتني أكون جدعا شابا يا ليتني أكون حيا، إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) متعجبا أو مخرجي هم؟ قال: نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وأن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ويروى أنه قبله من رأسه، ولم يلبث ورقة بعده إلا فترة قصيرة حتى مات.

ثم كان جبرئيل (عليه السلام) يأتيه، فلا يدنو منه إلا بعد أن يستأذن عليه، فأتاه يوما وهو بأعلى مكة، فغمر بعقبه بناحية الوادي فانفجرت عين ماء، فقال جبرئيل (عليه السلام) قم يا محمد فتوضأ للصلاة فتوضأ جبرئيل (عليه السلام) وتوضأ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم صلى الظهر وهي أول صلاة فرضها الله عز وجل. فعلمه جبرئيل (عليه السلام) الوضوء: وغسل الوجه واليدين من المرافق، ومسح الرأس والرجلين، وعلمه الركوع والسجود وحدود الصلاة. فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلي ركعتين ركعتين في كل وقت، وتابعته في صلاته زوجته السيدة خديجة، وعلي بن أبي طالب وهو حدث لم يبلغ العاشرة من عمره، وهما أول من آمن بالله ورسوله. وهكذا تم تبليغ الرسالة. ولقد ورد في الصحاح: أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتعبد ويتحنث في غار حراء، من كل سنة شهرا واحدا، وإذا انفتل ونزل من حراء، فأول ما يبدأ به أن يأتي الكعبة فيطوف بها سبعا أو أكثر. وهناك روايات متعددة بألفاظ مختلفة لا تخرج عن المعنى.

البيت الأول في الإسلام:

نعم،... اجتمع شمل محمد وخديجة، وتأسست الأسرة، وبني البيت الذي يغمره الحب والسعادة والحنان والدف ء العائلي والتفاهم، فقد كانت خديجة أول من آمن من النساء بدعوة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبذلت كل ما بوسعها من أجل أهدافه المقدسة، وجعلت ثروتها بين يديه وقالت: جميع ما أملك بين يديك وفي حكمك، إصرفه كيف تشاء في سبيل إعلاء كلمة الله ونشر دينه. وتأسست أول أسرة في الإسلام من لبنات ثلاث:

محمد، وخديجة، وعلي (5)، وكانت بذرة الثورة الإسلامية العالمية، وتحملت وظائفها الجسام، ومسؤوليتها الشاقة في محاربة الكفر والشرك وعبادة الأوثان، ونشر راية التوحيد في العالم، وإشاعة العدل في ربوعه. ولم يك على وجه الأرض بيت إسلامي سواه، فعميد البيت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد قال الله فيه { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] (6) وسيدة شؤونه الداخلية خديجة (عليها السلام)، وهي القاعدة الأولى للتوحيد التي ضمت جنودا أوفياء، تجهزوا واستعدوا للنفوذ إلى العالم، وفتح قلوب الناس، وبث عقيدة التوحيد فيها. وكان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يحب خديجة من أعماق قلبه، ويحترمها غاية الاحترام. يقول هشام: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يودها ويحترمها ويشاورها في أموره كلها، وكانت وزير صدق، وهي أول امرأة آمنت به، ولم يتزوج في حياتها واحدة غيرها (7). ويروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:... وخير نساء أمتي خديجة بنت خويلد (8). وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): خير نسائها خديجة (9). وفي رواية عن عائشة قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا ذكر خديجة لم يسأم من الثناء عليها والاستغفار لها، فذكرها ذات يوم فحملتني الغيرة، فقلت: وهل كانت إلا عجوزا قد أخلف الله لك خيرا منها.

قالت: فغضب حتى أهتز مقدم شعره وقال: والله ما أخلف لي خيرا منها، لقد آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وأنفقتني مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله أولادها إذ حرمني أولاد النساء . قالت: فقلت في نفسي: والله لا أذكرها بسوء أبدا (10). وقد ورد في الرواية: أن جبرئيل (عليه السلام) أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد، هذه خديجة قد أتتك، فاقرأها السلام من ربها، وبشرها ببيت في الجنة من قصب (11)، لا صخب فيه ولا نصب (12). وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): يا خديجة... إن الله - عز وجل – ليباهي بك كرام ملائكته كل يوم مرارا (13). ولذا قال فيها رسول لله (صلى الله عليه وآله وسلم): أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون (14). وقابلته خديجة حبا بحب، ووفاء بوفاء، وتضحية بتضحية، وآمنت به وبدعوته وبأهدافه المقدسة، وبذلت تمام وجودها من أجل ذلك، وقالت له بتواضع وخشوع: البيت بيتك، وجميع ما أملك تحت يدك، وأنا جاريتك.

________

(1) أي دثروه وغطوه.

(2) تكسب: تكسي.

 (3) الحق: الخلق.

(4) المدثر آية: 1 - 7.

(5) نهج البلاغة: الخطبة القاصعة، مناقب ابن شهرآشوب: 2 / 180.

(6) سورة القلم، الآية: 4.

(7) تذكرة الخواص، سبط بن الجوزي ط النجف 1283: ص 302.

(8) المصدر السابق.

 (9) كشف الغمة: 2 / 71.

(10) تذكرة الخواص: 303، كشف الغمة: 2 / 78.

(11) القصب: الجوهر المستطيلة، الزمرد.

(12) تذكرة الخواص: 302.

(13) بحار الأنوار: 16 / 78.

(14) محب الدين الطبري - ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى: 42 ط 1976، وروى نظيره الحاكم في مستدركه: 3 / 157 و125، وخرجه أحمد وأبو حاتم.