المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 7465 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
الموظف نفرحات.
2024-05-16
الفرعون أمنحتب الثالث.
2024-05-16
الموظف حوي.
2024-05-16
الموظف حقر نحح.
2024-05-16
قبر الموظف بنحت.
2024-05-16
بتاح مس.
2024-05-16

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


قاعدة « أماريّة اليد »  
  
1333   12:39 مساءاً   التاريخ: 18-9-2016
المؤلف : آية اللَّه العظمى الشيخ محمد الفاضل اللنكراني
الكتاب أو المصدر : القواعد الفقهية
الجزء والصفحة : ص373 - 435.
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / القواعد الفقهية / أمارية اليد - اليد /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 21-6-2018 4419
التاريخ: 7-5-2022 1504
التاريخ: 18-9-2016 1936
التاريخ: 10-5-2022 1479

وهي أيضاً من القواعد الفقهية المعروفة، وتحقيق الكلام فيها يقتضي البحث في جهات :

الجهة الاولى: في المراد من اليد في هذه القاعدة، وأنّ اليد التي تكون موضوعاً للأحكام والآثار عند العقلاء، وقد وقع التعبير بها في بعض النصوص الواردة عن العترة الطاهرة عليهم آلآف الثناء و التحيّة ماذا اريد بها ؟ فنقول :

الظاهر أنّ المراد بها هو الاستيلاء الخارجي والسلطة الفعليّة على شي‏ء خارجاً، والتعبير عن الاستيلاء باليد لأجل كونه ملازماً لليد بمعنى الجارحة المخصوصة، غاية الأمر اختلاف مناشئ الاستيلاء وتعدّد مباديه باختلاف الموارد والأشخاص، فالاستيلاء على الخاتم مثلًا إنّما هو بكونه في يد المستولي وكونه محيطاً بأصبعه، أو كونه في جيبه أو صندوقه مثلًا، والاستيلاء على الدار إنّما هو بكونه متصرّفاً فيها بما شاء من التصرف، كما أنّ الاستيلاء على الأراضي إنّما هو بالزرع والغرس فيها، والاستيلاء على الدكان إنّما هو بالكسب و التجارة فيه، أو بأن يكون بابه مغلقاً والمفتاح في يده، و هكذا.

كما أنّ الاستيلاء يختلف باختلاف الأشخاص، فاستيلاء الرّعية لا يتجاوز حدود داره وعقاره مثلًا، وأمّا السلطان فهو مستول على المملكة بأسرها، فالتصرّف في شي‏ء من أراضيها وغيرها ولو كان هي القطعة من السماء المختصّة بها المعبّر عنها بالحريم الفضائي، تصرّف فيما هو تحت يده واستيلائه.

نعم، ربما يتزاحم بعض الجهات الموجبة للاستيلاء مع البعض الآخر، كما إذا كان أحد الشخصين راكباً على الدابّة وزمامها بيد الآخر، وفرض إدّعاء كلّ منهما ملكية تمامها، ولابدّ حينئذ من المراجعة إلى العرف، وأنّه إن حكم بتقدّم أحد الاستيلائين فهو، وإلّا فيسقط كلاهما عن الاعتبار.

وبالجملة: لا شبهة في أنّ المراد باليد هو الاستيلاء الفعلي والسلطة الخارجية الملحوظة عند العرف والعقلاء، ومجرّد القدرة على تحصيل هذا الاستيلاء لا يوجب تحقّق اليد.

ودعوى أنّ اليد بهذا المعنى تارة: تكون مسبّبة عن الملكية، كما في موارد البيع والصلح والإرث الذي هو سبب قهريّ، واخرى: تكون سبباً لحصولها، كما في باب الحيازة.

مدفوعة بأنّه إن كان المقصود من هذه الدعوى كون اليد عبارة اخرى عن الملكية التي هي أمر اعتباري، فيردّه- مضافاً إلى منع اقتضاء السببية والمسببية لذلك كما هو واضح-: أنّ المراد باليد كما عرفت هو الاستيلاء الخارجي المعتبر عند العرف، المتوقّف على مباد واقعية ومقدّمات خارجية، وهو يغاير الملكية التي هي أمر اعتباري محض؛ فإنّ الاستيلاء وإن كان أمراً اعتباريّاً، ولا مجال لدعوى كونه من الامور التكوينية؛ ضرورة أنّ ما يكون في الخارج هو تصرّف المستولي على الدّار مثلًا بما شاء، إلّا أنّ كون هذا التصرّف استيلاءً ويداً عليها منوط باعتبار العقلاء، بمعنى: أنّ العرف يعدّ ذلك يداً واستيلاءً، فالمقام نظير الفوقية والتحتية التي هي من الامور الاعتباريّة، غاية الأمر له مباد خارجيّة.

وإن كان المقصود انحصار دائرة اليد بموارد ثبوت الملكيّة سبباً أو مسبّباً، فمن الواضح أيضاً خلافه؛ لأنّه ربما يتحقّق غصباً أو بصورة التصرّف في مال الغير بغير إذنه، غاية الأمر أنّ اليد التي هي موضوع القاعدة... عبارة عن اليد المشكوكة التي لم يعلم اقترانها مع الملكية أو الإذن من المالك، ويحتمل كونها عن غصب، فلا مجال للمناقشة في أنّ المراد باليد نفس الاستيلاء الخارجي المتحقّق عند العرف والعقلاء.

ثمّ إنّه ربما يتحقّق تعدّد اليد والاستيلاء بالنسبة إلى مال واحد وشي‏ء فارد، كالشريكين أو الشركاء في دار واحدة، وعليه: فمقتضى‏ قاعدة أمارية اليد الحكم بثبوت الملكيّة لهما أو لهم بنحو الشركة والإشاعة، وسيأتي الكلام فيه مفصّلًا إن شاء اللَّه تعالى.

كما أنّه لا شكّ في أنّ يد الوكيل إذا اعترف بالوكالة تكون يد الموكّل، وهكذا غير الوكيل، كالودعي والمستأجر والمستعير والمرتهن وأشباههم.

الجهة الثانية: في مدرك القاعدة ومستندها، وهو امور:

الأوّل: بناء العقلاء من جميع الملل والامم ، من غير فرق بين المتديّنين منهم وغيرهم، على اعتبارها وكونها أمارة عندهم لملكيّة ذي اليد، ولا شبهة في ثبوت هذا البناء وتحقّق هذه السيرة؛ فإنّهم يرتّبون آثار الملكية على ما في أيدي الناس، ولا يتفحّصون عن أنّه هل هو ملك لهم أم لا؟ بل يجعلون اليد والاستيلاء الخارجي أمارة على الملكية، بحيث لا يعتنون باحتمال كونها يداً عادية غير مالكية.

وما ذكرنا من الأمارية ليس لأجل استحالة أن يكون للعقلاء تعبّد في‏ امورهم حتى تمنع الاستحالة، بل لأجل أنّ الأصل والتعبّد مرجعه إلى البناء على ما هو مقتضى الأصل في محلّ الشك ومورد الشبهة، مع أنّه من الواضح أنّ اعتبار اليد عند العقلاء ليس بهذا النحو، ضرورة أنّهم لا يبنون على الملكية مع الشك فيها، ولا يتعبّدون بالملك وآثاره مع احتمال خلافه، بل احتمال الخلاف ملغى عندهم لا يعتنون به أصلًا.

وبالجملة: لا مجال للإشكال في كون اليد فعلًا عند العقلاء من الأمارات، ولا ننكر إمكان أن يكون بحسب الأصل أصلًا تعبّديّا مجعولًا لأجل عدم تحقّق اختلال في النظام، أو عدم حفظ السوق بدون اعتبارها، لكن هذا الإمكان لا ينافي كونه بالفعل يعامل معه عند العقلاء معاملة الامارة الكاشفة الموجبة لإلغاء احتمال الخلاف.

وهذا المقدار الذي هو عبارة عن ثبوت الأمارية عند العقلاء يكفينا في مقام الاستدلال والاستناد، ولا يلزم التفحّص والتفتيش عن ملاك الطريقية عندهم، وأنّه هل هو الغلبة أو شي‏ء آخر؟ مضافاً إلى أنّه لا فائدة فيه؛ لعدم اقتضاء الفحص للوصول إلى إدراك الواقع وكشف الحقيقة، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الظاهر عدم تحقّق ردع من الشارع عن هذه الطريقة العقلائية، ولو قيل بعدم كفاية عدم ثبوت الردع، بل بالافتقار إلى الإمضاء من ناحيته، نقول: إنّ الرّوايات المتكثّرة الآتية صالحة للإمضاء، وتأكيد تلك الطريقة وإدخالها في محيط الشرع.

الثاني: الإجماع المحقّق والإتّفاق على اعتبار ملكيّة ذي اليد بالإضافة إلى ما في يده، ولا شبهة في تحقّق هذا الإجماع‏‏ (1) ، إلّا أنّه لا يصلح أن يكون حجّة برأسه و دليلًا مستقلًاّ؛ لأنّه بعد وجود مدارك متعدّدة، ولا سيّما روايات متكثّرة في المسألة، واحتمال استناد المجمعين إليها، لا يبقى للإجماع أصالة ولا كاشفية، فلا يكون دليلًا في مقابلها كما أشرنا إليه مراراً.

الثالث: الروايات المتكثّرة التي تستفاد منها القاعدة؛ وهي على ثلاث طوائف:

الطّائفة الاولى: ما يدلّ بظاهره على اعتبار اليد بنحو الأماريّة، كموثقة يونس بن يعقوب، عن أبي عبداللَّه عليه السلام في امرأة تموت قبل الرجل، أو رجل قبل المرأة، قال: ما كان من متاع النساء فهو للمرأة، وما كان من متاع الرجال والنساء فهو بينهما، ومن استولى على شي‏ء منه فهو له‏‏ (2).

والإشكال في سند الرّواية من جهة الزّبيري‏‏ (3)  مدفوع بأنّ الظاهر باعتبار ملاحظة رواياته كونه ثقة في نقل الرّواية، كما أنّ دلالتها على اعتبار الاستيلاء واليد وكونها طريقاً إلى ثبوت الملك واضحة؛ فإنّ الحكم باختصاص متاع النساء بهنّ إنّما هو لأجل كون ذلك أمارة على يدها، فهو أمارة على الأمارة، كما أنّ اشتراكهما في ما كان مشتركاً بينهما إنّما هو لأجل كشف ذلك عن ثبوت اليد لهما معاً، فالجملتان الأوّليتان في الرواية تدلّان على وجود اليد وثبوتها، غاية الأمر ثبوتها في الاولى للمرأة، وفي الثانية للرجل والمرأة معاً.

والجملة الأخيرة تدلّ على أمارية اليد وكون الاستيلاء دليلًا على الملكية، وليس المراد الاقتصار على اليد في مقام النزاع- بل الظاهر أنّ المراد بيان اعتبار اليد بالنسبة إلى ذيها- حتى يجب على الآخر إقامة البيّنة، ومع عدمها يكتفى بيمين ذي اليد، وعدم تعرّض الرواية لما كان من متاع الرجال فقط، وأنّه للرجل، لا يقدح في‏ الاستدلال بها؛ لإمكان أن يكون ذلك لأجل كون التعرّض للقسمين الآخرين كافياً ومغنياً بعد بيان الملاك، وأنّه هو اليد، وهي حجّة كما لا يخفى.

ورواية عبدالرحمن بن الحجّاج، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سألني هل يقضي ابن أبي ليلى بالقضاء ثمّ يرجع عنه؟ فقلت له: بلغني أنّه قضى في متاع الرجل والمرأة إذا مات أحدهما، فادّعاه ورثة الحيّ وورثة الميّت، أو طلّقها، فادّعاه الرجل وادّعته المرأة، بأربع قضايا، فقال: وما ذاك؟ قلت: أمّا أوّلهنّ فقضى فيه بقول إبراهيم النَخّعي، كان يجعل متاع المرأة الذي لا يصلح للرجل للمرأة، ومتاع الرجل الذي لا يكون للمرأة للرجل، وما كان للرّجال والنساء بينهما نصفان، ثمّ بلغني أنّه قال: إنّهما مدّعيان جميعاً، فالذي بأيديهما جميعاً بينهما نصفان.

ثمّ قال: الرجل صاحب البيت والمرأة الداخلة عليه، وهي المدّعية؛ فالمتاع كلّه للرجل إلّا متاع النساء الذي لا يكون للرجال، فهو للمرأة، ثمّ قضى بقضاء بعد ذلك لولا أنّي شهدته لم أروه عنه، ماتت امرأة منّا ولها زوج وتركت متاعاً، فرفعته إليه فقال: اكتبوا المتاع، فلمّا قرأه قال للزوج: هذا يكون للرجل والمرأة، فقد جعلناه للمرأة إلّا الميزان؛ فإنّه من متاع الرجل فهو لك، فقال عليه السلام لي: فعلى أيّ شي‏ء هو اليوم؟ فقلت: رجع إلى أن قال بقول إبراهيم النخعي أن جعل البيت للرجل.

ثمّ سألته عليه السلام عن ذلك فقلت: ما تقول أنت فيه؟ فقال: القول الذي أخبرتني:

أنّك شهدته وإن كان قد رجع عنه، فقلت: يكون المتاع للمرأة؟ فقال: أرأيت إن أقامت بيّنة إلى كم كانت تحتاج؟ فقلت: شاهدين، فقال: لو سألت من بين لابتيها- يعني الجبلين، ونحن يومئذٍ بمكّة- لأخبروك أنّ الجهاز والمتاع يهدى علانية من بيت المرأة إلى بيت زوجها، فهي التي جاءت به، وهذا المدّعي، فإن زعم أنّه‏ أحدث فيه شيئاً فليأت عليه البيّنة‏ (4).

والرواية تدلّ على اختصاص متاع البيت بالمرأة، وأنّ الرجل هو المدّعي إن زعم أنّه أحدث فيه شيئاً فليأت عليه البيّنة، معلّلًا بوضوح أنّ الجهاز والمتاع يهدى علانية من بيت المرأة إلى بيت زوجها، فهي التي جاءت به، فمفادها أنّ المرأة مستولية على متاع البيت، والاستيلاء كاشف عن كونها مالكة، فيجب على الزوج إقامة البيّنة، والمرأة مع عدمها لا يجب عليها إلّا اليمين، فدلالة الرواية واضحة. كما أنّ سندها أيضاً غير قابل للإشكال من جهة محمد بن إسماعيل الرّاوي عن الفضل بن شاذان، فإنّه يستفاد من التتبّع في رواياته كونه مورداً للوثوق، مضافاً إلى أنّ إجازة الفضل له نقل كتابه أيضاً تكشف عن الاعتماد عليه.

ورواية محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن الدّار يوجد فيها الورق؟ فقال: إن كانت معمورة فيها أهلها فهي لهم، وإن كانت خربة قد جلا عنها أهلها، فالذي وجد المال أحقّ به‏‏ (5).

ورواية جميل بن صالح قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: رجل وجد في منزله ديناراً، قال: يدخل منزله غيره؟ قلت: نعم كثير، قال: هذا لقطة، قلت: فرجل وجد في صندوقه ديناراً، قال: يدخل أحد يده في صندوقه غيره، أو يضع فيه شيئاً؟ قلت: لا، قال: فهو له‏‏ (6).

ورواية دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين عليه السلام: أنّه سئل عن الورق توجد في الدّار، فقال: إن‏ كانت عامرة فهي لأهلها، وإن كانت خراباً فسبيلها سبيل اللقطة‏ (7).

الطائفة الثانية: ما تدلّ على حجيّة اليد واعتبارها من غير دلالة على كونها أمارة؛ كرواية محمد بن الحسين قال: كتبت إلى أبي محمد عليه السلام: رجل كانت له رحى على نهر قرية، والقرية لرجل، فأراد صاحب القرية أن يسوق إلى قريته الماء في غير هذا النهر ويعطّل هذه الرحى، أله ذلك أم لا؟ فوقّع عليه السلام: يتّقي اللَّه ويعمل في ذلك بالمعروف، ولا يضرّ أخاه المؤمن‏‏ (8).

ورواية العيص بن القاسم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سألته عن مملوك إدّعى أنّه حرّ ولم يأت ببيّنة على ذلك أشتريه؟ قال: نعم‏ ‏ (9).

ومثلها رواية حمزة بن حمران قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: أدخل السّوق واريد أشتري جارية، فتقول: إنّي حرّة، فقال: اشترها إلّا أن يكون لها بيّنة‏ (10).

وما رواه على بن إبراهيم في تفسيره، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عثمان ابن عيسى وحمّاد بن عثمان جميعاً، عن أبي عبداللَّه عليه السلام- في حديث فدك- إنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال لأبي بكر: أتحكم فينا بخلاف حكم اللَّه في المسلمين؟ قال: لا، قال فإن كان في يد المسلمين شي‏ء يملكونه، ادَّعيت أنا فيه، من تسأل البيّنة؟ قال: إيّاك كنت أسأل البيّنة على ما تدّعيه على المسلمين، قال: فإذا كان في يدي شي‏ء فادّعى‏ فيه المسلمون، تسألني البيّنة على ما في يدي، وقد ملكته في حياة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وبعده، ولم تسأل المؤمنين البيّنة على ما ادّعوا عليّ، كما سألتني البيّنة على ما ادّعيت عليهم؟- إلى أن قال:- وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر. ورواه الطبرسي في الاحتجاج مرسلًا‏ (11).

ويمكن أن يقال بإشعار هذه الرواية بل دلالتها على أماريّة اليد وكاشفيتها ؛ نظراً إلى قوله عليه السلام: «فإن كان في يد المسلمين شي‏ء يملكونه» فإنّ توصيفهم بكونهم مالكين ليس إلّا من جهة مجرّد اليد الكاشفة عن الملكية، لا أنّه كان هناك طريق آخر عليها، كما لا يخفى. نعم، قوله عليه السلام بعده: «وقد ملكته في حياة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وبعده» ربما ينافي ذلك، فتدبّر.

الطائفة الثالثة: ما يدلّ على اعتبار اليد أيضاً، ولكن ربما تتوهّم دلالتها أيضاً على كونها أصلًا، كرواية حفص بن غياث عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: قال له رجل:

إذا رأيت شيئاً في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال: نعم، قال الرّجل:

أشهد أنّه في يده ولا أشهد أنّه له فلعلّه لغيره، فقال أبو عبداللَّه عليه السلام: أفيحلّ الشراء منه؟ قال: نعم، فقال أبو عبداللَّه عليه السلام: فلعلّه لغيره، فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكاً لك؟ ثمّ تقول بعد الملك: هو لي وتحلف عليه، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله اليك؟

ثمّ قال أبو عبداللَّه عليه السلام: لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق‏‏ (12).

وهذه الرواية وإن كانت ضعيفة من حيث السّند بقاسم بن يحيى‏، إلّا أنّها مجمع على العمل بها، ووجه توهّم دلالتها على كون اليد أصلًا لا أمارة قوله عليه السلام في الذيل:

«لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق» وذلك؛ لأنّه يستفاد منه أنّ اعتبار اليد وجعلها حجّة إنّما هو لأجل اختلال سوق المسلمين بدونه، لا لأجل كونها كاشفة وطريقاً.

ولكن يرد عليه- مضافاً إلى أنّ قوله عليه السلام: «فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكاً لك؟» ظاهر في أنّ صيرورته ملكاً له إنّما هي لأجل كونه تحت استيلاء البائع ويده الكاشفة عن ملكه ثمّ انتقاله إليه بالبيع، ولو لم تكن اليد أمارة على ثبوتها لما جاز الحلف على الملكية المترتّبة على الشراء بعد عدم ثبوتها للبائع- أنّ التعليل في الذيل لا يدلّ على الأصليّة، لاحتمال أن يكون ذلك حكمة لعدم ردع الشارع عن اعتبارها، لا لأصل اعتبارها.

وبعبارة أوضح: حيث إنّ الأمارات العقلائية المعتبرة عند العقلاء يحتاج اعتبارها شرعاً إلى عدم ردع الشارع عنها، وإلّا فلا أثر لها بنظر الشرع، ومن المعلوم أنّ الرّدع وعدمه لا يكون إلّا لأجل وجود المصلحة وعدمها؛ ضرورة أنّه لا يكون جزافاً ومن غير جهة، فلا محالة لابدّ وأن يكون عدم ردع الشارع في المقام عن أمارية اليد مسبّباً عن أمر، وقد بيّن في الرواية ذلك الأمر، وهو اختلال سوق المسلمين بدونه، فهذه حكمة لعدم الرّدع عمّا هو المعروف بين العقلاء، لا بيان لقاعدة مخترعة للشارع في قبال العقلاء.

وبالجملة: لو كان هذا تعليلًا لأصل اعتبار اليد لكان لتوهّم دلالته على كون اليد أصلًا وجه، وإلّا فمع ظهوره في كونه تعليلًا لعدم الرّدع عمّا هو المعروف بين العقلاء، أو مع احتماله، لا يبقى للتوهّم المزبور مجال أصلًا، فتدبّر.

ورواية مسعدة بن صدقة، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سمعته يقول: كلّ شي‏ء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، أو المملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك، والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة‏ (13).

وهذه الرواية هي العمدة في التوهّم المذكور، ووجه استفادة الأصلية منها أنّ قوله عليه السلام «كلّ شي‏ء هو لك حلال» الخ ظاهر في أنّ الحكم بالحليّة مترتّب على الشي‏ء الذي شك في حليته وحرمته، فموضوع الحكم الشي‏ء المشكوك بوصف كونه مشكوكاً، ومن المعلوم أنّ هذا شأن الأحكام الظاهريّة والاصول العملية؛ حيث إنّها قواعد مجعولة للشاك بما هو شاك. وأمّا الأمارات فمرجع اعتبارها إلى إلغاء احتمال الخلاف وجعله كالعدم. وبالجملة: لا إشكال في أنّ هذه العبارة تدلّ على أصالة الحلية في مورد مشكوك الحلية.

وحينئذ نقول: إنّه بعد بيان هذه القاعدة الكلية قد بيّن في الرواية بعض مصاديقها التي من جملتها: الثوب المشترى الذي يحتمل أن يكون سرقة، والعبد المبتاع الذي يحتمل أن يكون خدع فبيع، ومن المعلوم أنّ انطباق تلك القاعدة على هذا القبيل من الأمثلة لا يكاد يتمّ إلّامع اعتبار اليد أصلًا، وإلّا فلو كانت أمارة معتبرة عند الشارع لا تكاد تنطبق القاعدة المذكورة في الصدر عليه أصلًا، كما هو أوضح من أن يخفى.

ويرد عليه: أنّه لابدّ وأنّ تحمل الأمثلة المذكورة في الذيل على أنّها إنّما اتي بها بعنوان التنظير والتمثيل، لا بعنوان بيان بعض المصاديق، وإلّا فلو كانت تلك‏ الأمثلة من مصاديق أصالة الحلية التي دلّ على اعتبارها قوله عليه السلام في الصدر: «كلّ شي‏ء هو لك حلال...» لأمكن المناقشة في الكلّ بعدم كون شي‏ء منها مجرى أصالة الحلية؛ لوجود أصل حاكم عليها مخالف لها أو موافق، كاستصحاب عدم تحقّق الملكية بالإضافة إلى الثوب والمملوك في المثالين الأوّلين، وعدم تحقّق الرضاع أو عدم تحقق الاختيّة بناءً على قول من يقول بجريان الاستصحاب في مثله، أو عدم تحقّق الزوجية بناءً على قول من يقول بخلافه كما هو الحقّ.

وقد حققناه بما لا مزيد عليه في استصحاب عدم القرشية، وكذا استصحاب عدم التذكية، أي عدم قبولها كما في المثالين الأخيرين، ومن المعلوم أنّه لا مجال للأصل المحكوم مع وجود الأصل الحاكم موافقاً كان أو مخالفاً، وحينئذ لا محيص عن حمل الأمثلة على بيان التنظير لا الأفراد والمصاديق، فلا دلالة للرواية بناءً عليه إلّا على مجرّد اعتبار اليد، من غير دلالة ولا إشعار على أنّ اعتبارها من باب الأصل.

وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّه لا معارض للطائفة الاولى من الأخبار الدالّة على أمارية اليد وكونها كاشفة، فلا محيص عن الالتزام به.

نعم، ذكر المحقّق البجنوردي قدس سره أنّه لا دلالة لشي‏ء من الأخبار على الأمارية، وأنّ غاية مفادها ترتيب آثار الملكية لما تحت يد شخص، من دون تعرّض إلى أنّ اليد طريق إلى الملكية أم لا. فقوله عليه السلام: «من استولى على شي‏ء منه فهو له» لا يدلّ إلّا على ترتيب آثار الملكية على ما استولى عليه، وهذا المعنى أعمّ من الأمارية والأصلية، ويجتمع مع كلّ واحد منهما، فلا يمكن إثبات خصوص أحدهما بها، حتى أنّ جواز الحلف والشهادة الّذي اخذ العلم في موضوعهما على نحو الطريقية مستنداً إليها لا ينافي أصليّتها؛ لأنّ الاصول التنزيلية أيضاً مثل الأمارات تقوم‏ مقام العلم الذي اخذ في الموضوع على نحو الطريقية، فمن هذه الجهة أيضاً لا فرق بينهما‏ (14).

ولكن يرد عليه: أنّ تشخيص المراد من الروايات موكول إلى العرف، فإنّه الحاكم في هذا الباب، ومن الواضح أنّه لو كان شي‏ء عند العقلاء يعامل معه معاملة الطريقية، فإذا ورد في كلام الشارع ترتيب الأثر عليه فلا محالة يفهم العرف من ذلك الكلام أنّ الشارع اعتبره على النحو الذي يعتبره أنفسهم، فإذا كان الاستيلاء على شي‏ء موضوعاً عند العقلاء للحكم بالملكية وترتيب آثارها عليه بنحو يكون الاستيلاء كاشفا عنها وأمارة لها، فإذا وقع موضوعاً للحكم بالملكية في كلام الشارع الملقى إلى العرف، لا مجال للمناقشة بأنّ الحكم بالملكية يمكن أن يكون من سنخ الاصول دون الأمارات، والكلام يحتمل وجهين، بل الظاهر ظهوره في الأمارية والكاشفية بنحو يكون عند العرف.

وعليه: فدلالة الرواية بهذه الملاحظة ظاهرة، ويؤيّده جواز الحلف والشهادة؛ فإنّ الاكتفاء فيه بالاصول التنزيلية على حسب اصطلاحه محلّ كلام واختلاف كما بيّن في محلّه، مع أنّه لم يختلف أحد في جواز الحلف والشهادة في المقام، وهذا يكشف عن عدم كونه من تلك الاصول، بل من الأمارات.

الجهة الثالثة: في مفاد القاعدة، وقد ظهر من المباحث السّابقة أنّ مفاد القاعدة اعتبار اليد والاستيلاء على شي‏ء والحكم بترتّب آثار الملكية على ما تحتها؛ من جواز الاشتراء والحلف والشهادة وسائر الآثار في مورد يكون مبدأ الاستيلاء والسيطرة مشكوكاً، وأنّ منشأه هل هو الملكية الاختيارية أو القهرية، كالإرث أو الإذن من المالك، أو أنّه العدوان والقهر على المالك، أو مع عدم الإذن منه؟ ففي صورة الشك تجري هذه القاعدة وتحكم بملكية المستولي وصاحب اليد.

وبهذا يتحقّق الفرق بين مورد هذه القاعدة، وبين مورد قاعدة ضمان اليد التي تقدّم البحث فيها مفصّلًا؛ فإنّ مورد تلك القاعدة صورة العلم بكون الاستيلاء واقعاً عدواناً وبدون إذن المالك ورضاه، ومورد هذه القاعدة صورة الشك في ذلك، فتفترق القاعدتان من حيث المورد كافتراقهما من حيث الحكم والمُفاد.

الجهة الرابعة: في مقدار حجيّة القاعدة وموارد جريانها؛ فإنّه قد وقع الخلاف في جملة من الموارد بعد الإتّفاق على أصل الاعتبار في الجملة.

فنقول: لا شبهة في جريانها في الأعيان المملوكة إذا كانت العين في حدّ نفسها قابلة للنقل والانتقال، ولم تكن من قبيل الأعيان الموقوفة، بل ولا من الأراضي المفتوحة عنوة العامرة حال الفتح؛ حيث إنّ جواز النقل والانتقال في الوقف يحتاج إلى عروض بعض العناوين المجوّزة- كالخراب ومثله- المذكورة في محلّه، وفي الأراضي المفتوحة يحتاج إلى أن يرى وليّ المسلمين المصلحة في نقلها.

وهذا الذي ذكرنا إنّما هو من جهة كونها عيناً، ومن جهة القابليّة للنقل والانتقال. وأمّا من الجهات الاخر؛ كعدم كون اليد من أوّل حدوثها مجهولة العنوان، وعدم كون ذي اليد معترفاً بأنّها ليست له، وغير ذلك، فهو محلّ خلاف كما سيأتي.

وبالجملة: فموارد الخلاف كثيرة:

الأوّل: المنافع؛ فإنّه وقع الإشكال في جريان قاعدة اليد فيها، ولكنّ الظاهر هو الجريان؛ لإطلاق قوله عليه السلام في موثّقة يونس ... «من استولى على شي‏ء منه فهو له»؛ لأنّ المنافع من جملة الأشياء، مضافاً إلى ظاهر الرواية ... الواردة في الرّحى التي كانت لرجل على نهر قرية، فأراد صاحب القرية أن يسوق‏ إلى قريته الماء في غير هذا النهر، المستلزم ذلك لتعطيل الرّحى؛ حيث حكم عليه السلام بوجوب الاتّقاء من اللَّه، والعمل بالمعروف وعدم إضرار أخيه المؤمن.

هذا، وقد صرّح المحقّق النراقي قدس سره في العوائد بعدم الشمول للمنافع، بل مقتضى ذيل كلامه عدم تحقّق اليد والاستيلاء موضوعاً بالنسبة إلى المنافع، فإنّه قدس سره بعد الاستدلال لعدم الشمول بالأصل، وعدم ثبوت الإجماع في غير الأعيان، واختصاص الأخبار بها على اختلافها من حيث ظهورها في خصوص الأعيان، أو إجمالها، أو عدم دلالتها على ما هو المطلوب من الأمارية، وبعد دعوى اختصاص صدق اليد حقيقة بالأعيان؛ لأنّها المتبادرة عرفاً من لفظ اليد والاستيلاء، قال:

بل وهنا كلام آخر؛ وهو أنّ اليد والاستيلاء إنّما هو فى الأشياء الموجودة في الخارج، القارّة. وأمّا الامور التدريجيّة الوجود غير القارّة كالمنافع، فلو سلّم صدق اليد والاستيلاء عليها، فإنّما هو فيما تحقّق ومضى لا في المنافع المستقبلة التي هي المراد هاهنا‏ (15).

والجواب عنه أوّلًا: بالنقض بأصل الملكية؛ فإنّه لو لم تكن المنفعة التي وجودها تدريجيّ قابلة لأن يتعلّق بها الاستيلاء- وتقع مورداً للسّلطة واليد باعتبار كون وجودها غير قارّ- لا تكون قابلة لأن تقع مملوكة أيضاً؛ لعدم الفرق بين الملكية والاستيلاء من هذه الجهة أصلًا، مع أنّ تعلّق الملك بها مضافاً إلى بداهته لا يلتزم القائل باستحالته، كما هو ظاهر.

وثانياً: بالحلّ، وهو أنّ المراد بالاستيلاء المساوق لليد ليس هو الاستيلاء الحقيقي حتى يمنع تعلّقه بالأمر غير الموجود، بل الاستيلاء الاعتباري الذي يعتبره العقلاء في موارده، ويستتبعه الاختصاص، وهذا لا مانع من أن يتعلّق بالأمر الذي لا يكون موجوداً بالفعل، كما أنّ الملكية المتعلّقة به أمر اعتباري، وإضافة معتبرة عند العقلاء بين المالك والمملوك، فالظاهر إمكان تحقّق الاستيلاء واليد بالإضافة إلى المنافع، كما في الملكيّة، بل قد عرفت شمول الأدلّة وعدم اختصاصها بالأعيان، فالإشكال في هذه الجهة ممّا لا مجال له.

وأمّا ما قيل من أنّ المراد باليد هي السيطرة والاستيلاء الخارجي؛ سواء كان هناك معتبر في العالم أم لا؟ إذ اليد بالمعنى المذكور من الامور التكوينيّة الخارجيّة، وليست من الامور الاعتباريّة، ولذلك تتحقّق اليد من الغاصب مع أنّه لا اعتبار لا من طرف الشارع ولا من طرف العقلاء، والقول بأنّه باعتبار نفسه شطط من الكلام، فيدفعه أنّ الاعتبار المفقود في الغاصب هو اعتبار الملكيّة، لا اعتبار كونه في يده وهو مستول عليه.

كيف؟ وقد حكم الشارع بضمانه بقوله صلى الله عليه و آله: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» فإنّه مع عدم اعتبار كونه مأخوذاً لليد وهي آخذته، لا معنى للحكم بضمانه، والإنصاف أنّها ليست من الامور التكوينيّة المتحقّقة مع قطع النظر عن الاعتبار، بل أمر متحقّق به، ولذا يختلف مواردها كما ذكرنا في أوّل بحث القاعدة.

نعم، يبقى الإشكال في أنّ الاستيلاء المتعلّق بالمنافع هل هو استيلاء مستقلّ في قبال الاستيلاء المتعلّق بالأعيان، بحيث يكون لمالك العين والمنفعة استيلاءان في عرض واحد، يكشف كلّ منهما عن ملكيّة المستولي بالنسبة إلى المستولى عليه، الذي هو العين في أحدهما والمنفعة في الآخر، أو أنّ يد صاحب المنافع عليها تبعيّة في طول الاستيلاء المتعلّق بالأعيان، أو أنّه لا يكون هنا إلّا استيلاء واحد متعلّق بالأعيان، غاية الأمر أنّه يكشف عن ملكيّة العين والمنفعة جميعاً، أو أنّه لا يكشف إلّا عن ملكيّة العين، غاية الأمر أنّ ملكية العين تكشف عن ملكية المنافع، فهي‏ مكشوفة لا بأصل الاستيلاء المتعلّق بالعين، بل بالملكية المتعلّقة بالعين المنكشفة بسبب الاستيلاء المتعلق بها ؟ وجوه واحتمالات متصوّرة بحسب التصوّر الابتدائي والنظر البدوي.

ولكنّ الظاهر هو الاحتمال الثاني؛ لابتناء الأخيرين على عدم تعلّق الاستيلاء بالمنافع، وقد عرفت وقوعه فضلًا عن إمكانه، وأمّا الاحتمال الأوّل فهو أيضاً خلاف ما هو المعتبر عند العقلاء؛ فإنّهم لا يعتبرون الاستيلاء بالنسبة إلى المنافع إلّا تبعاً للاستيلاء المتعلّق بالأعيان، كما هو ظاهر.

ثمّ إنّه فصّل المحقق البجنوردي قدس سره في المنافع من جهة جريان القاعدة فيها بما حاصله: أنّه تارة يكون المدّعي هو المالك باعتراف ذي اليد، بأن يقول مثلًا: يا زيد المدّعي هذه الدار التي الآن في يدي ملكك، ولكن في إجارتي إلى سنة مثلًا، واخرى يكون المدّعي أجنبيّاً، أي ليس بمالك، مثل أن يدّعي شخص آخر ويقول: في إجارتي لا في إجارتك، ففي الثاني تكون اليد حجّة في مقابل الأجنبي دون الأوّل، أي في مقابل المالك؛ نظراً إلى أنّ المدّعي لو كان هو المالك، فحيث إنّ ذا اليد معترف بأنّ يده أمانيّة ومن قبل المالك، ففي الحقيقة يده يد المالك، فلا مجال للمخاصمة مع المالك بمثل هذه اليد؛ لأنّه أسقطها عن الاعتبار بالإضافة إلى المالك باعترافه أنّ يده أمانيّة.

وأمّا بالنسبة إلى الأجنبي فلا، من جهة أنّ اليد موجودة على الفرض، ولم يصدر عن ذي اليد اعتراف يضرّ بأماريتها بالنسبة إلى الأجنبي. نعم، يبقى مطالبة الدليل على اعتبار مثل هذه اليد التبعية، ثمّ اختار أنّه لو كان المدرك هو الأخبار أو الإجماع، فاثبات الاعتبار مشكل في الأوّل، ومعلوم العدم في الثاني، ولو كان المدرك هو بناء العقلاء يتعيّن التفصيل المذكور‏ (16).

أقول ... أنّ يد المستأجر إنّما هي يد المؤجر...[و] أنّ اليد على المنافع والاستيلاء عليها إنّما هو بتبع اليد على العين وفي طولها، لكنّ المراد بالأوّل هو ما إذا كانت اليد ملحوظة بالإضافة إلى أصل ملكية العين؛ بمعنى أنّ يد المستأجر كاشفة عن ملكيّة المؤجر للعين المستأجرة، كما أنّ يد المؤجر كاشفة عنها.

وأمّا بالإضافة إلى المنفعة التي هي ملك للمستأجر بسبب الإجارة، فلا مجال لتوهّم كون يده يده كما هو ظاهر، كما أنّ المراد بالثاني ما إذا كانت العين تحت يد المالك؛ فإنّه حينئذ يكون الاستيلاء على المنافع بتبع الاستيلاء على العين وفي طولها، وأمّا إذا كانت العين تحت يد المستأجر فلا تكون هذه التبعية، بل تصير مثل أصل الملكية؛ فإنّ تبعيّة ملكية المنافع لملكية العين إنّما هي فى مورد المالك للعين.

وأمّا بالإضافة إلى المستأجر، فالملكية متحقّقة من دون أن يكون هناك تبعيّة أصلًا، وعلى ما ذكرنا لا يبقى مجال للتفصيل المذكور؛ فإنّ اليد كاشفة عن ملكية المنافع؛ سواء كانت المخاصمة مع المالك أو مع الأجنبي، وأمّا الإشكال في شمول الأخبار لليد على المنافع فقد عرفت الجواب عنه، وأنّ بعض الروايات واردة في خصوص المنفعة، فلا فرق بين أن يكون المدرك هي الأخبار أو بناء العقلاء ...

الثاني‏ من موارد الخلاف: جريان القاعدة بالإضافة إلى نفس صاحب اليد إذا شك في أنّ ما بيده ملك له أو لغيره، ولم يكن في مقابله مدّع أصلًا، والظاهر هو الجريان؛ لإطلاق قوله عليه السلام في موثّقة ... «ومن استولى على شي‏ء منه فهو له»، ولكنّه ربما يناقش في الاستدلال بها بأنّ الظاهر من هذه الرواية أ نّه عليه السلام في مقام مخاصمة الزوج مع الزوجة حكم بأنّ كلّ واحد منهما إذا كان مستولياً على شي‏ء من متاع البيت فهو له، فلا إطلاق لها يشمل صورة عدم التنازع وعدم وجود مدّع في البين.

ويدفع هذه المناقشة- مضافاً إلى أنّ المفروض فيها موت أحد الزوجين، فلا معنى للمخاصمة بينهما-: أنّه على تقدير التصحيح بأنّ المراد مخاصمة ورثة الميّت مع أحد الزوجين لم يفرض في الرواية التخاصم والتنازع بوجه، بل ... أنّ ذيل الرواية إنّما هو في مقام إفادة قاعدة كلّية وضابطة عامّة، وهي تشمل صاحب اليد أيضاً كما لا يخفى.

نعم، لا مجال للاستدلال بموثّقة مسعدة بن صدقة ... لا لأنّ مساق تلك الرواية في بيان قاعدة الحلّ ولا ربط لها بباب اليد أصلًا... [وان] تماميّة دلالتها على قاعدة اليد، بل لأجل أنّ موردها اعتبار يد الغير بالنسبة إلى ملكيّة ما في يده، ولا دلالة لها على اعتبار اليد في حقّ نفس ذي اليد.

وربما يستدلّ على‏‏ (17)  الخلاف بصحيحة جميل بن صالح ... حيث إنّه عليه السلام حكم فيها في ما وجده الرجل في داره من الدينار مع دخول الغير فيها أحياناً، بأنّه ليس له مع ثبوت اليد والاستيلاء عليه، وأيضاً علّل عليه السلام كون ما وجد في الصندوق له بما يفيد العلم بأنّه ليس لغيره من عدم إدخال غيره يده فيه أصلًا.

وبموثّقة إسحاق بن عمّار قال: سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن رجل نزل في بعض بيوت مكّة، فوجد فيه نحواً من سبعين درهماً مدفونة، فلم تزل معه ولم يذكرها حتى قدم الكوفة، كيف يصنع؟ قال: يسأل عنها أهل المنزل لعلّهم يعرفونها، قلت:

فإن لم يعرفوها؟ قال يتصدّق بها‏ (18) ؛ نظراً إلى أنّه لا شك في أنّ الدّراهم كانت في تصرّف أهل المنزل وتحت أيديهم، ولو كانت يدهم حجّة بالنسبة إليهم، لكان اللازم مع عدم المعرفة الردّ إليهم لا التصدّق بالدّراهم كما هو ظاهر.

أقول: أمّا الصحيحة، فالظاهر عدم دلالتها على ما رامه المستدلّ بوجه؛ فإنّ الظاهر أنّ سؤال الإمام عليه السلام عن أنّه هل يدخل منزله غيره أم لا؟ كان لأجل افتراق الصّورتين في الحكم؛ ضرورة أنّه لا مجال للاستفصال والسؤال مع اشتراك الحكم وعدم الاختصاص، وحينئذ يستفاد من الرّواية أنّ دخول الغير منزل الرجل له دخل في الحكم بكون الدينار الذي وجده الرجل لقطة، وأنّه لو لم يكن كذلك لا يكون لقطة، بل هو لصاحب المنزل المستولي عليه.

والحكم بكونه لقطة في ذلك المورد إنّما هو لأجل أنّه مع دخول الغير في المنزل، خصوصاً إذا كان كثيراً، لا يكون للرجل استيلاء على الدّراهم، خصوصاً مع كون المتعارف في الدراهم والدّنانير أنّ لهما موضعاً مخصوصاً بعيداً عن أيدي الداخلين وأنظارهم.

كما أنّ التفصيل فيما لو وجد في صندوقه ديناراً بين ما يدخل أحد غيره يده فيه، وبين غيره ليس لأجل أنّه مع عدم إدخال الغير يده فيه يحصل له العلم بكونه مالكاً له؛ ضرورة أنّه قد يحصل له الشك فيه ولو مع العلم بعدم إدخال الغير يده فيه، كيف؟ ولا مجال مع العلم للسؤال في الرواية، بل لأجل أنّه مع انحصار التصرّف في الصندوق به نفسه يكون هو المستولي فقط على ما فيه، وأمّا مع إدخال‏ الغير يده فيه، الذي يكون كناية عن استيلاء الغير أيضاً لا يكون الاستيلاء له فقط.

وأمّا الموثّقة، فالظاهر أيضاً عدم تمامية الاستدلال بها؛ لأنّ بيوت مكّة في الموسم يكون أكثرها منزلًا للحجّاج على ما هو المتعارف في هذه الأزمنة، مع شدّة وكثرة عددها، فكيف بالأزمنة السّالفة؟ ومن المعلوم أنّه في تلك الأيام لا يبقى لصاحب المنزل استيلاء على ما في منزله، خصوصاً بالنسبة إلى الدراهم التي وجدها الرجل مدفونة، فإنّ الظاهر أنّه ليس المراد بالدفن إلّا كونها مستورة تحت رماد ونحوه ممّا هو من آثار من دخل في المنزل قبل هذا الرجل ممّن هو مثله؛ لأنّ الرجل المسافر لا يكون من شأنه الإقدام على حفر منزل غيره.

وبالجملة: فالحكم بالتصدّق مع عدم معرفة أهل تلك البيوت ليس لأجل عدم اعتبار يد المستولي بالنسبة إلى نفسه، بل لأجل عدم تحقّق استيلاء في أمثال مورد الرواية، فتدبّر.

الثالث‏ من موارد الخلاف: ما لو كان حال اليد في السابق معلوماً، وبعبارة اخرى: كان حال حدوثها معلوم العنوان، وفيه صور؛ فإنّه‏ تارة: يعلم بأنّها كانت في السابق يداً عادية، وكان ذو اليد غاصباً لما تحت يده، غاية الأمر أنّه يحتمل فعلًا أن يكون مالكاً له بالانتقال إليه بناقل شرعيّ اختياري أو قهري كالإرث، واخرى: يعلم بكون اليد السابقة يد عارية أو إجارة أو وكالة ونحوها، والآن يحتمل كونه مالكاً للعين كذلك، وثالثة: يعلم بكون العين التي بيده موقوفة، والآن يشك في ملكيّة ذي اليد باعتبار احتمال عروض بعض الامور المسوّغة لنقلها وتحقّق النقل والانتقال بعده.

أمّا في الصورة الاولى: فالظاهر عدم اعتبار اليد؛ لأنّ العقلاء لا يكون بناؤهم في هذه الصورة على المعاملة فيه ذي اليد معاملة المالك، ولا تكون يده‏ حينئذ أمارة على‏ الملكية وكاشفة عنها، مضافاً إلى بعض ما يجي‏ء في الصورة الثانية.

وأمّا في الصورة الثانية: فقد لا يكون في مقابل ذي اليد مدّع لملكية العين أصلًا، وقد يكون، وعلى التقدير الثاني قد يكون المدّعي هو الذي كان مالكاً للعين سابقاً، وكان ذو اليد مستأجراً له أو مستعيراً منه، وقد يكون المدّعي أجنبيّاً؛ كما أنّه على هذا التقدير قد يقع الكلام في حكم اليد الكذائية، وأنّه كيف يعامل معها؟

وقد يقع الكلام في حكم الحاكم وأنّه كيف يحكم؟

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ مقتضى إطلاق كلام المحقّق النائيني قدس سره سقوط اليد في جميع التقادير، ولزوم العمل على ما يقتضيه استصحاب حال اليد؛ نظراً إلى أنّ اليد إنّما تكون أمارة على الملك إذا كانت مجهولة الحال غير معنونة بعنوان الإجارة والغصب ونحوهما، واستصحاب حال اليد يوجب تعنونها بعنوان الإجارة أو الغصب، فلا تكون كاشفة عن الملكية.

ولا مجال لدعوى حكومة اليد على الاستصحاب بتوهّم أنّ اليد أمارة على الملكية، فيرتفع بها موضوع الاستصحاب؛ لأنّ موضوعه اليد العادية، واليد تقتضي الملكية، فلا يبقى موضوع للاستصحاب؛ وذلك لأنّ اليد إنّما تكون أمارة على الملكية إذا لم يعلم حالها، والاستصحاب يرفع موضوع اليد كما هو واضح‏‏ (19).

واورد عليه بوجهين:

أحدهما: ما أفاده المحقّق العراقي قدس سره من أنّ هذا الكلام له وجه لو قلنا بأنّ الجهل بالحالة السّابقة مأخوذ في موضوع دليل اعتبار اليد وحجيّته، لا أن يكون الجهل بالحالة السّابقة مورداً للقاعدة كما هو كذلك، وإلّا لو كان الجهل موضوعاً لها يلزم أن تكون القاعدة أصلًا عمليّاً؛ وذلك لأنّ الفرق بين الأصل والأمارة هو أنّ‏ الشك والجهل مأخوذ في موضوع الأصل دون الأمارة. نعم، حجّية الأمارة واعتبارها في مورد الجهل واستتار الواقع، وإلّا فمع العلم على وفاقه أو خلافه لا يبقى مورد لجعل الأمارة‏ (20).

وقد أجاب عنه تلميذهما المحقق البجنوردي قدس سره بأنّه يمكن أن يقال: إنّ بناء العقلاء على أمارية اليد لا يثبت الملكية شرعاً إلّا بإمضاء الشارع لذلك البناء، فإذا قال الشارع: لا تنقض اليقين بكونها يد عادية أو يد أمانة مالكية أو شرعية بالشك في بقاء تلك الحالة السابقة، وابن على بقاء تلك الحالة، فهذا ردع لتلك السيرة وذلك البناء‏ (21).

ثانيهما: ما أفاده سيدنا الاستاذ الأعظم الخميني مدّ ظلّه العالي من أنّ اليد المسبوقة بكونها عارية أو إجارة، إمّا أن تكون عند العقلاء معتبرة وكاشفة عن الملكية، وإمّا أن لا تكون كذلك، فعلى الأوّل لا مجال للاستصحاب بعد اختصاص اعتباره بشريعة الإسلام، وعدم اختصاص بناء العقلاء في اعتبار اليد بخصوص المتديّنين منهم، كما هو ظاهر، وعلى الثاني لا حاجة إلى الاستصحاب؛ لأنّ نفس وجود تلك الحالة السابقة كافية في عدم الاعتبار على ما هو المفروض.

ثمّ قال: ويمكن أن يقال- كما هو ظاهر العبارة- بأنّ اليد التي هي مورد بناء العقلاء هي اليد الموصوفة بكونها مجهولة الحال غير معنونة بعنوان الإجارة وغيرها، وعليه: فالرجوع إلى الاستصحاب إنّما هو من باب تشخيص مورد البناء وتمييزه ‏عن غيره، فباستصحاب حال اليد الحاكم بكونها معنونة بعنوان الإجارة أو العارية يعرف عدم كون اليد المسبوقة بذلك مورداً لبناء العقلاء و حكمهم بالاعتبار‏ (22).

ويرد عليه حينئذ- مضافاً إلى ما عرفت من عدم جواز تشخيص المورد بالاستصحاب الذي يختصّ اعتباره بطائفة خاصّة من العقلاء وهم المتديّنون بدين الإسلام، بعد كون المناط في حجّيتها هو بناء مطلق العقلاء بما هم عقلاء-: أنّه مع قطع النظر عن ذلك نقول بأنّ هذا الاستصحاب ليس واجداً لشرائط الحجيّة؛ لأنّه يشترط في حجيّته أن يكون المستصحب حكماً شرعيّاً أو موضوعاً لأثر شرعيّ، واستصحاب حال اليد وكونها معنونة بعنوان الإجارة أو العارية لا يكون واجداً لهذا الشرط؛ لأنّه لم يرد في دليل شرعيّ ترتّب أثر على اليد المعنونة بغير عنوان الإجارة والعارية حتى يحرز بالاستصحاب عدم تحقّق الموضوع، فيترتّب عليه نفي ذلك الأثر، كما لا يخفى.

هذا كلّه فيما لو استند في اعتبار اليد إلى بناء العقلاء بما هم عقلاء. وأمّا لو استند فيه إلى قوله عليه السلام في موثّقة يونس بن يعقوب ... «ومن استولى على شي‏ء منه فهو له»، فإن اخذ بظاهره فمقتضى إطلاقه اعتبار اليد هنا، وإن ادّعي فيه التقييد، فإن كان القيد هو الملكيّة وكان المراد هو الاستيلاء الملكي، يلزم كون القضيّة ضرورية بشرط المحمول كما هو ظاهر. وإن كان القيد هو عدم العلم بكونها ملكاً أو إجارة أو عارية أو غيرها، فمقتضاه اعتبار اليد في المقام؛ لأنّ المفروض الشك في كون اليد الفعليّة بعنوان الإجارة أو العارية أو غيرهما.

وبعبارة اخرى: إن كان القيد هو إحراز كونه استيلاءً ملكيّاً لا إجارة ولا عارية ولا غيرهما، فالشك في ذلك يوجب عدم اعتبار اليد، ولا يحتاج إلى استصحاب بقائها على الحالة السّابقة، وإن كان القيد هو الشك في ذلك، فمجرّد الشك يوجب اعتبار اليد بمقتضى الرّواية، ولا مجال للاستصحاب بعد حكومة الإمارة عليه، ومنه ظهر الخلل في ما أفاده.

وإن قلنا بأنّ المستند هو بناء العقلاء؛ وذلك لأنّ المراد من قوله في صدر العبارة: إنّ اليد إنّما تكون أمارة على الملك إذا كانت مجهولة الحال، إن كان هو مجرّد الجهل بحال اليد وعدم العلم به، فلازمه اعتبار اليد في المقام؛ لأنّ المفروض جهالة حال اليد وعدم العلم به، وإن كان المراد هو عدم تعنونها بعنوان الإجارة والعارية ونظائرهما، فاللازم إحراز ذلك، ولا يكاد يحرز عند العقلاء بما هم عقلاء بالاستصحاب الذي يختصّ جريانه بشريعة الإسلام، كما عرفت.

والحقّ أن يقال: إنّه لا ريب في اعتبار اليد فيما لو لم يكن في مقابل ذي اليد مدّع أصلًا، وكان هو المدّعي للملكية؛ لبناء العقلاء على ذلك كما يظهر بالمراجعة إليهم.

نعم، يحتمل أن يكون الوجه في بنائهم هو كون ذي اليد في المقام مدّعياً بلا معارض، فالأخذ بقوله إنّما هو لهذه الجهة، لا لأجل كونه ذا اليد، ويحتمل أن يكون من باب كونه إدّعاءً من ذي اليد، أو من باب اليد المقرونة بالإدّعاء.

وتظهر الثمرة بين الاحتمالين فيما لو كان في مقابله مدّع آخر أجنبيّ، فإن قلنا:

بأنّ الأخذ بقوله من باب كونه من قبيل المدّعي بلا معارض، فلا وجه حينئذ لتقديم دعواه على دعوى الآخر بعد خروجه عن ذلك العنوان وصيرورته مدّعياً مع المعارض.

وإن قلنا بأنّ الأخذ بقوله من جهة كون إدّعائه دعوى صادرة من ذي اليد، أو كون يده يداً مقرونة بالإدّعاء، فالظاهر حينئذ تقديم قوله ولو مع وجود معارض في مقابله، لترجيح دعواه على دعواه؛ لكونه ذا اليد دونه، وحيث إنّ الظاهر أنّ الأخذ بقوله يكون عند العقلاء من جهة الاحتمال الثاني دون الأوّل كما يظهر بالمراجعة إليهم، فيظهر حكم ما لو كان في مقابله مدّع أجنبيّ، وأنّه في كلتا الصورتين يجب الأخذ بقوله وترتيب الأثر على يده، والمعاملة مع ما في يده معاملة الملك.

وأمّا لو كان في مقابله مدّع هو مالك العين سابقاً، وكان ذو اليد مستأجراً له أو مستعيراً منه، فالظاهر عدم اعتبار اليد هنا عند العقلاء، حيث إنّهم لا يعتبرونها في مقابل إدّعاء المالك للعين، ولا تكون في نظرهم كاشفة وأمارة على ملكيّة العين بالإضافة إلى ذي اليد الذي كان مستأجراً أو مستعيراً. هذا مع عدم رفع الأمر إلى الحاكم، وأمّا مع رفعه إليه فالظاهر بعد عدم اعتبار يد ذي اليد أنّه يقدّم دعوى المالك؛ لأنّه بنظر العرف هو المنكر، كما أنّ قوله موافق للأصل الذي هو استصحاب بقاء ملكيّته وعدم حدوث الملكيّة لذي اليد، فمع عدم البيّنة له على دعواه يتوجّه الحلف إلى المالك، وبه يرتفع التخاصم.

كما أنّه فيما لو كان في مقابل ذي اليد مدّع أجنبيّ، ورفع الأمر إلى الحاكم، يكون تقديم قول ذي اليد متفرّعاً على كون الأخذ بقوله فيما لو لم يكن في مقابله مدّع أصلًا، من باب كون دعواه دعوى صادرة من ذي اليد، أو يده يداً مقرونة بالإدّعاء. وأمّا لو قلنا هناك بأنّ الأخذ بقوله إنّما هو من باب كونه مدّعياً بلا معارض، فلا وجه لتقديم قوله هنا مع الترافع أيضاً، كما هو واضح.

هذا كلّه فيما لو كان ذو اليد مدّعياً لملكية العين وكانت يده مقرونة بالإدّعاء.

وأمّا مع خلوّها عنه فلا ريب في عدم اعتبارها؛ لعدم بناء العقلاء على الأخذ بها، كما هو ظاهر.

وأمّا الصورة الثالثة: وهي ما كانت العين في السابق موقوفة، والآن يحتمل كونها ملكاً لذي اليد باعتبار عروض بعض المسوّغات لنقلها، فهي على قسمين؛ لأنّه تارة: كانت يده عليها في السابق يداً على العين الموقوفة، والآن يحتمل أن تكون يده يداً على ملك نفسه، وبعبارة اخرى: كان حدوث يده بعنوان اليد على العين الموقوفة وبقاؤها محتملًا لأن يكون بعنوان الملكية، واخرى: كانت العين في السابق موقوفة، ويحتمل صيرورتها ملكاً لذي اليد عند حدوث يده؛ بأن كان‏ انتقالها إليه وصيرورتها في يده بعنوان الملكية.

وحكي عن السيّد الطباطبائي قدس سره في ملحقات العروة: أنّه فصّل بين الصّورتين، وحكم باعتبار اليد في الصورة الثانية دون الاولى؛ نظراً إلى أنّ استصحاب حال اليد وأنّها يد على العين الموقوفة حاكم عليها، بخلاف ما إذا لم‏ يعلم ذلك ، واحتمل أن تكون اليد حدثت بعد بطلان الوقف؛ فإنّه لا يكون في البين ما يقتضي سقوط اعتبار اليد وأماريّتها‏ (23).

والظاهر عدم اعتبار اليد في الصّورتين؛ لعدم بناء العقلاء على ملاحظتها وترتيب الاثر عليها؛ وذلك لأنّ الوقف الذي مرجعه إلى تحبيس المال وإن كان لا يختصّ بالمتشرّعة، ضرورة ثبوته بين العقلاء غير المنتحلين إلى الشريعة، كما نراه بالوجدان، إلّا أنّ المسوّغ لنقل العين الموقوفة عند العقلاء إمّا أن يكون منتفياً رأساً، كما لعلّه الظاهر، أو يكون على تقدير وجوده نادراً جدّاً، بحيث لو تصرف ذو اليد في العين الموقوفة تصرّفاً كاشفاً عن الملك وعامل معها معاملة الملك لا يرونه إلّا عادياً، ولا يخطر ببالهم احتمال عروض المسوّغ لنقلها وصيرورتها ملكاً له.

كما أنّ الأمر في نظر المتشرعة أيضاً كذلك، مع أنّه يجوز بيع الوقف في شريعة الإسلام في موارد كثيرة على ما قيل، وإن كان بعضها بل جلّها لا يخلو عن نظر وإشكال؛ فإنّهم أيضاً ينكرون على من في يده العين الموقوفة ويعامل معها معاملة الملك، ويتّهمونه بالتصرّف فيها تصرّفاً عدوانيّاً.

وبالجملة: حيث إنّ المناط والملاك في اعتبار اليد هو بناء العقلاء، وقد عرفت أنّ المسوّغ لبيع الوقف عندهم أمره دائر بين أن يكون منتفياً رأساً، وبين أن يكون ثابتاً مع ندرته جدّاً، فالظاهر أنّهم لا يعتبرون اليد في الصورتين؛ لأنّ الغلبة المورّثة للظنّ بكون ما في اليد ملكاً لذيها لا تكون ثابتة في العين التي كانت موقوفة لو لم نقل بأنّ الغلبة الموجبة للظنّ ببقائها على الحالة السّابقة ثابتة، كما هو الظاهر، فالتفصيل المذكور لا وجه له.

ثمّ إنّ ما ذكرنا كلّه إنّما هو فيما لو علم بكون العين في السّابق موقوفة، وأمّا لو لم يعلم ذلك، بل احتمل أن تكون العين التي تحت يد المستولي موقوفة، فلا ريب في اعتبار اليد هنا وعدم اعتناء العقلاء بهذا الاحتمال، وإن كان كلام المحقّق النائيني قدس سره على ما في التقريرات يوهم عدم اعتبارها هنا أيضاً؛ حيث إنّه يستفاد من بعض كلماته في هذا المقام أنّ اليد إنّما تكون أمارة بعد الفراغ عن أنّ المال قابل للنقل والانتقال، والوقف ليس كذلك، فإنّ ظاهره أنّه يعتبر في أمارية اليد إحراز كونه قابلًا للنقل والانتقال.

وبعبارة اخرى: إحراز عدم كونه وقفاً مع أنّه ليس كذلك؛ لما عرفت من ثبوت بناء العقلاء في موارد الاحتمال- كما اعترف به قدس سره في ذيل كلامه- فيما لو احتمل كون المبيع حرّاً؛ نظراً إلى ادّعائه ولم يعلم بكونه حرّاً قبل استيلاء ذي اليد عليه وإن استند في ذلك إلى ما ورد من الرّواية‏ (24) ، إلّا أنّ الظاهر عدم الاحتياج إليها، مضافاً إلى عدم دلالتها؛ لورودها فيمن كان عبداً سابقاً أو جارية كذلك، والآن يدّعي الحرّية أو تدّعيها كما يظهر لمن راجعها‏ (25).

ثم إنّه ربما يمكن أن يقال بابتناء ما ذكر على كون المدرك للقاعدة منحصراً ببناء العقلاء، وأمّا لو قيل بدلالة الروايات مستقلّة على ذلك، فيمكن الاستدلال بإطلاق بعضها على الأمارية ولو كانت العين موقوفة في أوّل حدوث اليد؛ فإنّ‏ قوله عليه السلام في موثّقة يونس ... «من استولى على شي‏ء منه فهو له» ظاهر في أنّ مجرّد الاستيلاء موجب للحكم بملكية المستولي، ولا مانع من أن تكون دائرة الاعتبار في الشرع أوسع ممّا عليه بناء العقلاء، كما أنّه يمكن أن يكون بالعكس.

وعليه: فمجرّد محدوديّة بناء العقلاء في باب اليد لا يستلزم المحدودية في الشرع أصلًا.

ولكن يرد عليه: أنّ قوله عليه السلام: «على شي‏ء منه» يكون الضمير فيه راجعاً إلى متاع البيت، وخصوصيّة متاع البيت وإن كانت ملغاة بنظر العرف، إلّا أنّه لا مجال لإلغاء هذه الخصوصيّة؛ وهي عدم كون متاع البيت وقفاً، فلا مجال لاستفادة الإطلاق أصلًا.

الرّابع‏ من موارد الخلاف : ما إذا كان في مقابل ذي اليد مدّع للملكيّة لما تحت يده، وهو ينكره، وفيه صور أيضاً؛ فإنّه‏ تارةً : يكون للمدّعي بيّنة على الملكية الفعليّة، فلا إشكال في أنّ الحاكم يحكم له حينئذ، واخرى : لا يكون، وفي هذه الصورة تارة : تكون ملكيته السّابقة ثابتة بالبيّنة أو بعلم الحاكم أو بإقرار ذي اليد، واخرى : غير ثابتة، لا إشكال في الفرض الثاني. وأمّا الفرض الأوّل، فالظّاهر أنّ علم الحاكم بالملكيّة السّابقة أو قيام البيّنة لا يسوّغ الانتزاع من ذي اليد؛ لأنّه لا أثر لشي‏ء منهما بعد احتمال انتقال المال إلى ذي اليد بناقل شرعيّ، واستصحاب بقائها على الحالة السابقة محكوم لقاعدة اليد التي هي أمارة، كما في أكثر موارد القاعدة.

وأمّا لو كان ثبوت الملكية السّابقة بإقرار ذي اليد، فهو على أقسام؛ لأنّه‏ تارة: يدّعي انتقالها من المدّعي إليه، واخرى: يدّعي انتقالها من المدّعي إلى ثالث ومنه إليه، وثالثة: يدّعي انتقالها إلى الغير من دون إدّعاء انتقاله منه إليه، ورابعة: يقتصر على مجرّد الإقرار بثبوت الملكيّة للمدّعي سابقاً، من دون إضافة إدّعاء الانتقال منه إليه أو إلى الغير.

وقبل توضيح أحكام الصّور الأربع نمهّد مقدّمة، وهي: أنّه لا إشكال نصّاً‏ (26)  وفتوى‏‏ (27)  في أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر أو المدّعى عليه، حسب اختلاف تعبير الروايات الواردة في هذا المجال، والظاهر أنّ تشخيص المدّعي والمنكر إنّما يكون بيد العرف؛ لأنّهما من الموضوعات الخارجية التي لابدّ في تشخيصها من الرجوع إلى العرف، كتشخيص عناوين الدم والكلب والخنزير وغيرها من العناوين الموضوعة للأحكام.

فتحديدهما بأنّ المدّعي هو الذي لو ترك تركت الخصومة بخلاف المنكر، أو بأنّ المدّعي هو الذي كان قوله مخالفاً لحجّة شرعية من أصل أو ظاهر بخلاف المنكر، فإنّه الذي تؤيّده حجّة شرعية، إن كان المراد هو التحديد العرفي وبيان معناهما عند العقلاء، فلا بأس به، ولكن لو فرض حينئذ حكم العرف في مورد بانطباق عنوان المدّعي على فلان مثلًا، فاللازم ترتيب الأثر عليه ولو لم ينطبق عليه شي‏ء من الحدّين.

وإن كان المراد به هو بيان معناهما عند الشارع، فيرد عليه: أنّه لم يرد في آية ولا رواية التحديد بشي‏ء منهما، بل ليس لبيانه ارتباط بالشارع؛ لأنّهما كما عرفت من الموضوعات التي لابدّ من الرجوع في تشخيصها إلى العرف، فاللازم الإحالة إليه ولو لم يساعد على شي‏ء من الحدّين.

إذا عرفت ذلك فاعلم، أنّه في‏ الصورة الاولى: التي يدّعي فيها ذو اليد انتقال المال من المدّعي إليه من دون واسطة، ينقلب الإنكار من ذي اليد إلى الإدّعاء، ويصير المدّعي منكراً والمنكر مدّعياً لو كان الملاك في تشخيص ذلك هو مصبّ‏ الدعوى لا النتيجة كما هو الظاهر، فإنّه بحسب النتيجة وإن لم يتحقّق انقلاب أصلًا، ضرورة أنّه بملاحظة ذلك يكون ذو اليد منكراً والطرف مدّعياً، وأمّا بحسب مصبّ الدّعوى ومورد النزاع فالأمر ينقلب؛ لأنّ ذا اليد يدّعي الانتقال والمدّعي ينكره، فيحلف لو لم يكن لذي اليد بيّنة، وهذا ممّا لا ريب فيه ظاهراً.

وأمّا الصورة الثانية: فالظاهر عدم تحقّق الانقلاب فيها أصلًا؛ لأنّ إدّعاء الانتقال من المدّعي إلى ثالث ليس موضوعاً لحكم الحاكم بعد عدم ترتّب الأثر عليه أصلًا، فإنّ انتقال المال من المدّعي إلى ثالث وعدمه ليس له ارتباط بذي اليد، وليس إدّعاؤه منه موجباً لإقامة البيّنة عليه أو الحلف من الآخر مع عدمها، كما هو المحقّق في محلّه.

كما أنّ إدّعاء انتقال المال من الثالث إليه ليس مرتبطاً بالمدّعى، فلا أثر لحلفه على نفيه، ولا لإقامة ذي اليد البيّنة على ثبوته، فبعد عدم ترتّب الأثر على شي‏ء من الدّعويين لابدّ من ملاحظة النتيجة، وبحسبها يكون ذو اليد منكراً والآخر مدّعياً، كما هو المفروض، ومنه يظهر حكم‏ الصورة الثالثة، كما لا يخفى.

وأمّا الصورة الرّابعة: فانقلاب الإنكار فيها ادّعاء- بعد عدم صدور إدّعاء من ذي اليد بالنسبة إلى الانتقال من المدّعي إليه، أو إلى الغير- مبنيّ على أن تكون اللوازم العرفية للكلام حجّة موجبة لتشخيص المدّعي من المنكر، فإنّه حينئذ يصير مدّعياً؛ لأنّ لازم الإقرار بثبوت الملكية للمدّعي سابقاً مع دعواه ملكية نفسه فعلًا، هو انتقاله منه إليه مع الواسطة أو بدونها، فإن قلنا باعتبار هذا اللازم العرفي، فاللازم تحقّق الانقلاب، وإلّا فالعدم.

تذنيب‏ :

ربما يتوهّم المنافاة بين ما ذكرنا من انقلاب الدعوى إلى الإقرار في الصّورة الاولى، وبين ما ورد في محاجّة أمير المؤمنين عليه السلام مع أبي بكر في قضيّة فدك ... ‏ في ضمن الروايات الدالّة على اعتبار اليد، الرواية الدالّة على هذه المحاجّة، ورواها في الاحتجاج مرسلة.

بيان توهّم المنافاة، أنّ الصّديقة عليها السلام قد اعترفت بأنّ فدكاً كانت ملكاً لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله وادّعت أنّها نحلة، فلو كان الإقرار بانتقالها موجباً لانقلاب الدّعوى وصيرورة ذي اليد مدّعياً، لكان مطالبة أبي بكر البيّنة منها عليها السلام في محلّها، ولم يتوجّه عليه اعتراض أمير المؤمنين عليه السلام بعد البناء على أنّ ما تركه النبي صلى الله عليه و آله لم‏ ينتقل إلى وارثه، بل يكون صدقة للمسلمين على ما رووه عنه صلى الله عليه و آله‏ (28) ‏ (29).

بيان الدّفع على ما أفاده بعض المحقّقين في تعليقته على الرسائل‏‏ (30) ، وتبعه المحقّق اليزدي قدس سره في كتاب «الدّرر»، هو أنّ الانقلاب وصيرورة المنكر مدّعياً إنّما هو فيما إذا كان في مقابل المدّعي منكر حتى يتوجّه عليه اليمين مع عدم إقامة البيّنة.

وأمّا إذا كان هنا مدّع مع عدم منكر في مقابله، كما إذا قال الخصم: لا أدري صدق ما تقول أو كذبه ولا أعلم بالحال، فإن كانت البيّنة للمدّعي على طبق ما يقول يؤخذ بها، وإلّا فلا مانع من الأخذ بسائر القواعد الموجودة، من قبيل الاستصحاب أو اليد، فلو كانت العين في يد المدّعي، ويدّعي انتقالها من الميّت في حال حياته إليه، ولا ينكر ذلك الورثة جزماً، يحكم بكونها ملكاً لذي اليد؛ إذ لا منكر في مقابله.

ومنه ظهر الوجه في اعتراض أمير المؤمنين عليه السلام على أبي بكر حيث طلب منها عليها السلام البيّنة؛ فإنّه مع عدم إنكاره لدعواها الانتقال إليها في حياة رسول ‏اللَّه صلى الله عليه و آله على سبيل الجزم، بل عدم إنكار غيره كذلك، لا وجه لمطالبة البيّنة منها عليها السلام مع كون يدها ثابتة، فانتزاع فدك منها كان مستنداً إلى محض العناد، ولغرض خلوّ يد صاحب الولاية من الامور المالية التي يمكن أن تؤثّر في إثباتها وتنفيذها، كما هو ظاهر‏ (31).

ثمّ إنّه أفاد المحقّق النائيني قدس سره في مقام الجواب عن التوهّم المذكور كلاماً طويلًا ملخّصه: أنّ إقرار الصدّيقة عليها السلام بأنّ فدكاً كانت لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله لا يوجب انقلاب الدعوى؛ فإنّه على فرض صحّة قوله صلى الله عليه و آله: «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث الخ» لا يكون إقرارها كإقرار ذي اليد بأنّ المال كان لمن يرثه المدّعي؛ فإنّ انتقال الملك من النبيّ صلى الله عليه و آله إلى المسلمين ليس كانتقال المال من المورّث إلى الوارث؛ لأنّ انتقال الملك إلى الوارث إنّما يكون بتبدّل المالك الذي هو أحد طرفي الإضافة. وأمّا انتقاله إلى المسلمين فإنّما يكون بتبدّل أصل الإضافة، نظير انتقال الملك من الواهب إلى المتّهب، ومن الوصي إلى الموصى له.

وتوضيحه: أنّ الملكية عبارة عن الإضافة الخاصّة، ولها طرفان المالك والمملوك، وتبدّل الإضافة قد تكون من طرف المملوك كما في عقود المعاوضات، فإنّ التبدّل في البيع إنّما يكون من طرف المملوك فقط؛ فإنّه قبل البيع كان طرف الإضافة هو المثمن، وبعد البيع هو الثمن.

وقد يكون من طرف المالك كالإرث، فإنّ التبدّل فيه إنّما يكون من طرف المالك فقط، وقد يكون بتبدّل أصل الإضافة كما في الهبة؛ فإنّ الانتقال فيها ليس‏ كالانتقال في الإرث ولا كالانتقال في البيع، بل إنّما يكون بإعدام الإضافة بين الواهب والموهوب، وإحداث إضافة اخرى بين المتّهب والموهوب، وانتقال ما كان للنبيّ صلى الله عليه و آله إلى المسلمين- بناءً على الخبر المجعول- يكون من هذا القبيل؛ ضرورة أنّ المسلمين لم يرثوا المال من النبيّ صلى الله عليه و آله بحيث يكون سبيلهم سبيل الورّاث، بل غايته أنّ أموال النبيّ صلى الله عليه و آله تصرف بعد موته في مصالحهم، فانتقال المال إليهم يكون أسوأ حالًا من انتقال المال إلى الموصى له، ولا أقلّ من مساواته له.

ومن المعلوم أنّ إقرار ذي اليد إنّما يوجب انقلاب الدعوى من حيث إنّ الإقرار للمورّث إقرار للوارث؛ لقيامه مقامه في طرف الإضافة، وإقرار ذي اليد بأنّ المال كان للموصي، يكون كإقراره بأنّ المال كان للثالث الأجنبي، وليس للموصى له انتزاع المال عن يده، بدعوى أنّه أوصى به إليه، بل تستقرّ يد ذي اليد على المال إلى أن يُثبت الموصى له عدم انتقاله إلى ذي اليد في حياة الموصي.

فإقرارها عليها السلام بأنّ فدكاً كانت ملكاً لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله لا يوجب انقلاب الدعوى؛ لأنّه لا يرجع إقرارها بذلك إلى الإقرار بأنّها ملك للمسلمين؛ فإنّهم لا يقومون مقام النبيّ صلى الله عليه و آله، بل هم أسواً حالًا من الموصى له، فلم يبق في مقابل يدها عليها السلام إلّا الاستصحاب وهو محكوم باليد‏ (32)

ويرد عليه امور:

منها: أنّ ما أفاده من أنّ التبدّل في الإرث إنّما يكون من طرف المالك مع بقاء المملوك على ما هو عليه، غايته أنّه قبل موت المورّث كان طرف الإضافة نفس المورّث، وبعد موته يقوم الوارث مقامه ويصير هو طرف الإضافة.

يرد عليه- مضافاً إلى أنّه لم‏ يقم دليل على ذلك لولم نقل بقيام الدليل- كظواهر الآيات‏‏ (33)  الورادة في الإرث- على الخلاف، وأنّ الوارث يملك ما ترك المورّث من غير أن يقوم مقامه-: أنّ مقتضى ذلك انتقال الأموال إلى الميّت لو فرض حياته بعد موته؛ لأنّ المفروض أنّ الوارث قائم مقامه، ومع وجود المبدل لا يبقى شأن للبدل، مع أنّه من المعلوم خلافه.

ومنها: أنّ ما أفاده من أنّ انتقال المال بالهبة إلى المتّهب ليس من قبيل انتقاله بالإرث، ولامن قبيل انتقاله بالبيع، بل إنّما يكون بإعدام إضافة وإحداث إضافة اخرى، كما في الوصية.

يرد عليه: أنّ إيجاد الإضافة الثانية لابدّ وأن يكون مسبوقاً ولو رتبة بإعدام الإضافة الأولى؛ لأنّه ما لم يتحقّق هذا الاعدام لا يمكن إيجاد إضافة اخرى؛ لعدم اجتماع إضافتين في آن واحد؛ لامتناع اجتماع ملكيتين مستقلّتين على مال واحد، ومن المعلوم أنّه بعد انعدام الإضافة الأولى لا يكون الواهب أولى بالموهوب، بل نسبته إليه كنسبة المتّهب اليه، ولا مرجح لأحدهما على الآخر، فإيجاده الإضافة بعد عدم قيامها به لا أثر له أصلًا.

ومنها: أنّ ما أفاده من أنّ انتقال ما كان للنبيّ صلى الله عليه و آله إلى المسلمين بناءً على الخبر المجعول ليس كانتقاله إلى الوارث، بل هو أشبه بانتقال المال إلى الموصى له؛ لما أفاده.

فيرد عليه: أنّه لا فرق في الصورتين إلّافي مجرّد دعوى الوارث الملكية، ودعوى المسلمين أو وليّهم السلطنة على المال وإن لم يكن ملكاً لهم، وأمّا كون هذا الفرق موجباً للانقلاب في الصورة الأولى، وعدمه في الصورة الثانية، فلا وجه له أصلًا؛ لعدم مدخلية هذه الجهة في ما يرجع إلى المدّعي و المنكر و الآثار المترتّبة عليهما.

وبعبارة اخرى: محلّ النزاع بين المتخاصمين هو تحقّق الانتقال ممّن كان ملكاً له أوّلًا وعدمه. وأمّا على أنّه على تقدير عدم تحقّق الانتقال إلى ذي اليد وانتقاله إلى الوارث يكون انتقاله كما في سائر موارد الإرث، أو يكون بنحو خاصّ، فلا دخالة له في الفرق أصلًا.

هذا، وقد ذكر المحقّق البجنوردي قدس سره أنّه على تقدير تسليم دعوى الانقلاب فالأحسن أن يقال: إنّ هاهنا دعويين، إحداهما: دعوى الانتقال، وبالنسبة إلى هذه الدعوى هي- سلام اللَّه عليها- مدّعية، وعليها البيّنة، والاخرى: دعوى الملكية، وبالنسبة إلى هذه الدعوى حيث أنّها عليها السلام كانت ذات يد، كانت البيّنة على طرفها؛ أي أبي بكر، الذي بزعمه كان وليّ المسلمين، فكأنّ أمير المؤمنين عليه السلام احتج على أبي بكر بالنسبة إلى هذه الدعوى الأخيرة إن كانت الدعوى الأولى مسكوتاً عنها‏ (34).

ويرد عليه: أنّه إن كان المراد أنّ هاهنا دعويين غير مرتبطتين، وقعت الأولى مسكوتاً عنها والثانية مورداً للإنكار، فمن الواضح خلافه؛ ضرورة ارتباط الدعويين وابتناء الثانية على الاولى، وأنّ الملكية إنّما هي لأجل تحقّق النّحلة والإعطاء من النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله.

وإن كان المراد أنّه مع تحقّق الارتباط وابتناء الثانية على الاولى يقطع النظر عن الاولى ويتّكل على الثانية، والاعتراض إنّما هو مبنيّ عليه، فالظاهر أنّه لا وجه للإغماض وقطع النظر عن الاولى التي هي الأصل للثانية، فالجواب عن التوهّم المذكور ما ذكرنا.

وينبغي التّنبيه على امور:

الأوّل: لا إشكال في تقدّم اليد- بناءً على كونها أمارة- على الاصول العملية التي منها الاستصحاب الجاري على خلاف مقتضى اليد في جلّ مواردها لولا كلّها؛ وذلك لتقدّم الأمارة على الأصل العملي على ما هو المحقّق في محلّه، وأمّا ما حكي عن المحقّق العراقي قدس سره فيما إذا ادّعى ذو اليد انتقال المال من المدّعي إليه، من أنّ مقتضى اليد هو كون هذا المال ملكاً لذي اليد، وأنّه انتقل منه إليه، ومقتضى استصحاب عدم الانتقال عدم كونه ملكاً لذي اليد وبقاؤه على ملك الطرف، فأمارية اليد هنا مع حجّية الاستصحاب ممّا لا يجتمعان، وبناءً على حجّية الاستصحاب لا يبقى مجال لأمارية اليد؛ لأنّ مؤدّى الاستصحاب هو التعبّد بعدم الانتقال، ومعه لا يبقى لليد مجال‏‏ (35).

فيرد عليه: وضوح تقدّم الأمارة على الأصل في صورة التعارض وعدم الاجتماع وإن كان مراده عدم حجّية اليد في خصوص هذا المورد؛ لما عرفت‏ من الانقلاب وصيرورة المدّعي منكرا وبالعكس، كما ذكرنا، فهو صحيح، ولكنّه لا يلائم مع عبارته أصلًا كما لا يخفى.

وأمّا بناءً على كون اليد أصلًا عمليّاً أو مردّداً بين كونه أمارة أو أصلًا، فالظاهر أيضاً تقدّمها على الاستصحاب؛ لأنّه على فرض التعارض أو تقدّم الاستصحاب يصير اعتبارها وجعل الحجّية لها تأسيساً أو إمضاءً لغواً، ففي الحقيقة على هذا التقدير يكون دليل اعتبارها مخصّصاً لدليل اعتبار الاستصحاب، وهذا كقاعدتي الفراغ والتجاوز، حيث إنّهما تقدّمان على الاستصحاب الجاري في موردهما، وإلّا تلزم اللّغوية كما ذكر.

وأمّا اليد، بناءً على كونها أمارة، فبالنسبة إلى سائر الأمارات لا إشكال في تقدّم البيّنة عليها، بل ربما يدّعى كونه في باب الدعاوي من المسلّمات عند جميع‏ المسلمين؛ لأنّ توقّف ثبوت دعوى المدّعي على البيّنة والحكم له استناداً إليها، إنّما هو في مقابل ذي اليد نوعاً، فلا شبهة في هذا التقدّم.

وأمّا تقدّم الإقرار على اليد فيما إذا أقرّ بأنّ ما في يدي لزيد مثلًا، فلأجل أنّ اعتبار اليد عند العقلاء إنّما هو فيما إذا لم ينضمّ إليها الإقرار بعدم كونه ملكاً له، ولذا لو أقرّ بهذا المقدار وهو عدم كونه ملكاً له يكفي في سقوط اليد عن الحجّية والاعتبار، ولا يلزم الإقرار بكونه ملكاً لفلان مثلًا، بل ربما يقال بعدم اعتبار اليد مع تردّد ذي اليد في كونه ملكاً له، ولكن عرفت‏... في ذكر بعض موارد الخلاف شمول أدلّة اعتبار اليد لهذه الصّورة، ولا يلزم اعتقاد ذي اليد الملكية أو إظهاره لها، كما لا يخفى.

وكيف كان، فالظاهر أنّه لا شبهة في تقدّم الإقرار على اليد، وانحصار حجّيتها بما إذا لم يكن هناك إقرار على خلافها.

وأمّا بالنسبة إلى سائر الأمارات غير البيّنة والإقرار، فكلّ أمارة تكون حجّية اليد مقيّدة بعدمها، فهي متقدّمة على اليد، وإلّا تكون الأمارتان متعارضتين، ولا يبقى ترجيح في البين.

الثاني: أنّ القاعدة هل تجري في الحقوق أم لا؟ والظاهر أنّ الحقوق كالمنافع، من دون فرق بين ما تعلّق منها بالأعيان المتموّلة، كحقّ الرهانة وحقّ التولية ونحوهما من الحقوق، وبين ما تعلّق منها بالأعيان غير المتموّلة كحقّ الاختصاص المتعلّق بالعذرة والخمر والميتة ...

ودعوى أنّ أدلّة اعتبار اليد لا تشمل الحقوق وإن كانت شاملة للمنافع؛ لأنّ‏ الحقوق امور اعتبارية صرفة معتبرة عند العقلاء والشارع، أو خصوص الشارع، بخلاف المنافع؛ فإنّها ليست اعتباريّة بل موجودة بتبع وجود العين، غاية الأمر أنّ وجود المنافع تدريجيّ بخلاف وجود العين، مدفوعة بأنّ مقتضى إطلاق أدلّة الاعتبار الشمول للحقوق، بل يمكن أن يقال بورود الرواية الواردة في الرّحى ... في الحقوق دون المنافع، فتدبّر.

الثالث: هل تجري قاعدة اليد في النسب والأعراض أم لا؟ وذلك كما لو تنازع شخص مع آخر في امرأة تحت يد أحدهما؛ أي تكون في بيته ويعامل معها معاملة الزوجيّة، وهكذا في صبيّ تحت يد أحدهما، فيدّعي الآخر كونها زوجة له أو ولداً له، وينكره صاحب اليد بالمعنى المذكور، لا يبعد أن يقال بثبوت بناء العقلاء هنا أيضاً كثبوته في الأملاك، بل يمكن أن يقال باقوائيّة الملاك هنا، فإنّ الظنّ الحاصل من الغلبة هنا أقوى من الظنّ الحاصل في الأملاك؛ لشيوع الغصب فيها دون المقام.

نعم، الظاهر اختصاص الاعتبار في الفرض الأوّل بما إذا لم يكن هناك إنكار من ناحية الزوجة التي في بيته؛ لأنّه مع وجود الإنكار لم يثبت بناء العقلاء لو لم نقل بثبوت العدم، فتدبّر.

ويؤيّد ما ذكرنا حكاية الإجماع‏ (36) على تقديم قول صاحب اليد فيما لو تنازع رجلان في زوجيّة امرأة هي تحت أحدهما. نعم، في مسألة تنازع اثنين على بنوّة صبيّ في يد أحدهما يظهر من كلماتهم التساوي في الدعوى‏، وأنّه من باب التداعي دون المدّعي والمدّعى عليه. نعم، قال في محكيّ القواعد: ولو تداعيا صبيّاً وهو في يد أحدهما لحق بصاحب اليد خاصّة على إشكال‏ (37) ، ويظهر من الفخر في شرحه‏ وجود القائل به وإن اختار نفسه العدم، معلّلًا بأنّ اليد لا تأثير لها في النسب ولا في ترجيحه‏ ‏(38) ، بل ربما يقال بأنّ التقديم لو قيل به إنّما هو لترجيح أحد الإقرارين باليد لا لتقديم قول ذي اليد من حيث هو ذو اليد، على من يدّعي عليه. هذا، والظاهر ما ذكرنا.

الرّابع: قد وقع التسالم بين الفقهاء على قبول إقرار ذي اليد لأحد المتنازعين فيما بيده، بحيث يجعله المنكر كنفس ذي اليد، ويجعل الطرف الآخر مدّعياً وعليه إقامة البيّنة، وإنّما الإشكال في وجهه، واختلفت الآراء في ذلك على أقوال:

أحدها: أنّ الوجه في ذلك هي قاعدة «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» نظراً إلى أنّ مقتضاها نفوذ الإقرار على النفس وبضرره، وحيث إنّ ذا اليد في المقام يقرّ لشخص آخر، ويعترف أنّه له، فهذا إقرار على النفس، واللّازم الأخذ به والحكم بنفوذه ومضيّه‏‏ (39).

أقول: قد مرّ في البحث عن قاعدة الإقرار أنّ مقتضاها الاقتصار في النفوذ والمضيّ على المقدار الذي بضرره، وعلى خصوص الجهة التي تكون عليه، وأمّا الإقرار بنفع الغير فلا يستفاد من القاعدة جوازه ونفوذه، فالإقرار على أنّ ما بيده ملك لزيد مثلًا له جهتان:

إحداهما: الجهة السلبيّة؛ وهي عدم كونه له، والاخرى: الجهة الإثباتية؛ وهي كونه لزيد في المثال، والذي يستفاد من القاعدة نفوذه ومضيّه هي الجهة الاولى فقط، ... [و]  لا فرق في ذلك بين أن يكون الظرف متعلّقاً بالإقرار، وبين أن يكون متعلّقاً بجائز، وأنّه على التقدير الأوّل أيضاً لا دلالة للقاعدة على نفوذ الإقرار على النفس مطلقاً ولو بالإضافة إلى‏ الجهة الإثباتية...

ثانيها: أنّ الوجه في ذلك هي قاعدة «من ملك شيئاً ملك الإقرار به» نظراً إلى أنّ ذا اليد مالك لأن يملّك ما في يده للغير ببيع أو صلح أو نحوهما، فيملك الإقرار بأنّه له‏‏ (40).

ويرد عليه: أنّ الذي يملّكه هو تمليك الغير المقرّ له فيملك الإقرار به، والمفروض في المقام أنّه لم يقرّ به، بل أقرّ بكونه للمقرّ له، وأنّه مالكه، والمقرّ لا يكون مالكاً لهذه الجهة حتّى يملك الإقرار به، ففي هذا الوجه خلط.

ثالثها: ما حكي عن المحقّق العراقي قدس سره من أنّ اليد أمارة على ملكيّة ذي اليد بالدلالة المطابقيّة، وعلى نفي كونه للغير بالدلالة الالتزاميّة، وهاتان الأماريتان تسقطان بسبب الإقرار للغير. وأمّا بالنسبة إلى ما عداهما فأماريّتها باقية على حالها، فالنتيجة قيام الحجّة على نفي الملكيّة عن ذي اليد وعن غيره ما عدا المقرّ له، ومعلوم أنّ المال لا يبقى بلا مالك.

وبعبارة اخرى: أنّ هذا المال إمّا للمقرّ له أو لغيره يقيناً، فإذا ثبت بواسطة إقرار ذي اليد أنّه ليس لغير المقرّ له، فلابدّ وأن يكون له، فيكون هو المنكر وطرفه المدّعي بناءً على ما هو التحقيق من أنّ المدّعي من يكون قوله مخالفاً للحجّة الفعليّة، والمنكر من يكون قوله موافقاً للحجّة الفعلية‏ (41).

ويرد عليه- مضافاً إلى ما عرفت من أنّ تشخيص المدّعي عن المنكر موكول إلى العرف‏ ، كسائر العناوين المأخوذة في الأدلّة موضوعة للأحكام-: أنّه لابدّ في‏ المقام من ملاحظة أنّ بناء العقلاء على اعتبار إقرار ذي اليد بالنسبة إلى المدّعي لما تحت يده هل يختصّ بما إذا لم يكن في مقابل المدّعي مدّع آخر، أو يعمّ صورة وجود مدّع آخر أيضاً؟ فعلى الأوّل لا يبقى مجال لما أفاده؛ لعدم اعتبار الإقرار بوجه، فيصير الرجلان متداعيين، وعلى الثاني يكون المقرّ له كنفس المقرّ ويقوم مقامه، فعلى الآخر إقامة البيّنة، ولا يبعد ترجيح الثاني.

الخامس: لو أقرّ بما في يده لزيد ثم أقرّ به لعمرو؛ بأن يكون المقرّ به فيهما تمام ما في يده، ففي المسألة صورتان:

إحداهما: ما إذا كان الإقرار للثاني بعد الإقرار للأوّل، وفي كلام منفصل، بل وفي مجلس آخر مثلًا، والظاهر عدم كون هذه الصورة مورداً لتعرّض الأصحاب، كما أنّ الظاهر أنّ الحكم فيها بطلان الإقرار الثاني وعدم نفوذه على المقرّ بوجه؛ لأنّ نفوذ الإقرار الأوّل مع كونه واجداً للشرائط يجعل المقرّ أجنبيّاً عن المقرّ به؛ لأنّه يحكم بسببه بكون المال للمقرّ له، ويؤخذ من يده ويجعل تحت يد المقرّ له، ولا مجال لتوهّم كون نفوذه معلّقاً على عدم إقرار بخلافه فيما بعد، وإلّا تلزم لغوية القاعدة، مضافاً إلى أنّه لا دليل عليه؛ لأنّ مقتضى قاعدة الإقرار ترتّب الحكم بالمضي بمجرّد تحقّق موضوعه؛ وهو إقرار العاقل على النفس.

كما أنّ دعوى كون الإقرار الثاني بمنزلة التفسير وشرح المراد من الإقرار الأوّل، فينبغي الاعتماد عليه، مدفوعة- مضافاً إلى عدم كونه تفسيراً له عرفاً، بل مناقضاً ومغايراً له- بعدم كون التفسير بهذا النحو في المحاورات العرفيّة مورداً لقبول العقلاء... وعليه:

فالحكم في هذه الصورة هو لغويّة الإقرار الثاني.

ثانيتهما: ما إذا كان الإقرار للثاني عقيب الإقرار للأوّل وفي نفس ذلك الكلام، غاية الأمر بصورة الإضراب، كما إذا قال: هذا المال لزيد بل لعمرو، والمشهور- بل ادّعى جماعة أنّه لا خلاف معتدّ به فيه‏‏ (42) ، بل عن الإيضاح أنّ ذلك من قواعدهم‏‏ (43) ، ولعلّه ظاهر في الإجماع- أنّه يقضى بما في يده للأوّل وبغرامة بدله- مثلًا أو قيمة- للثاني؛ لأنّه بإقراره الأوّل حال بين المقرّ له الثاني وبين ما له، فيجب على المقرّ المثل أو القيمة‏ (44).

وحكي عن ابن الجنيد الرجوع إليه في مراده إن كان حيّاً، وإلّا فهو مال متداع بينهما، فإن انتفت البيّنة حلفا واقتسما‏ (45) ، ونفى عنه البعد في الدروس، حيث إنّه بعد حكايته عنه قال: وليس بذلك البعيد؛ لأنّه نسب الإقرار إليهما في كلام متّصل، ورجوعه عن الأوّل إلى الثاني، يحتمل كونه عن تحقيق وتخمين، فالمعلوم انحصار الحقّ فيهما، أمّا تخصيص أحدهما فلا‏ (46).

واحتمل في محكيّ المسالك‏‏ (47) أنّه يقضى به للأوّل ولا يغرم للثاني؛ لأنّه إقرار بما تعلّق به حقّ الغير قبله، كالصّورة الاولى.

ودليل المشهور أنّه بالإضراب عدل عن إقراره الأوّل، ولا يسمع منه؛ لأنّه إنكار بعد الإقرار، و...في بحث قاعدة الإقرار أنّه لا يسمع الإنكار بعد الإقرار، فلابدّ من ترتيب آثار الإقرار الأوّل، ولازمه إعطاء العين التي بيد المقرّ إلى‏ المقرّ له الأوّل. وأمّا نفوذ إقراره الثاني؛ فلأنّ المفروض أنّ المال بعد في يده، والكلام متّصل، وله أن يلحق بكلامه ما شاء من الإضراب وغيره، وحيث إنّ العين قد اعطيت إلى الأوّل، فلابدّ من إداء المثل أو القيمة إلى الثاني.

وقد أورد صاحب الجواهر على الدّروس بأنّ احتمال السهو وغيره لا ينافي التعبّد بظاهر قوله؛ لقاعدة الإقرار، فيكون كلا الإقرارين نافذين، غاية الأمر أنّه يعطي العين للأوّل، والمثل أو القيمة للثاني، وبمثله أورد على صاحب المسالك أيضاً‏ (48).

ولكن اجيب عنه بأنّ حال هذين الإقرارين حال سائر الأمارتين المتعارضتين، فيتساقطان؛ للعلم بكذب أحدهما وسقوط اليد عن الاعتبار، فيكون من باب التداعي، والنتيجة التحالف والتنصيف، إلّا أن يقال بالموضوعية في باب الإقرار، وهو في غاية البعد‏ (49).

والتحقيق أن يقال: إنّه لو لم يكن في المسألة إجماع كما هو الظاهر،- ويؤيده مخالفة ابن الجنيد والشهيدين- لكان اللازم إعطاء العين المقرّ بها إلى المقرّ له الثاني، من دون غرامة للأوّل بشي‏ء، وذلك لأنّه لا مجال للحكم بثبوت إقرارين في المقام، فإنّ الإقرار نوع من الإخبار، غاية الأمر أنّ الإقرار على النفس إخبار بثبوت شي‏ء وقراره وتحقّقه، وكون هذا الإخبار ممّا يترتّب عليه الضرر على نفس المقرّ، وبعبارة اخرى: يكون المخبر به والمحكيّ عنه بضرر المخبر.

وعليه: فلابدّ من ملاحظة أنّه في موارد الإخبار بشي‏ء نظير المقام المشتمل على «بل» الإضرابية؛ كقوله: جائني زيد بل عمرو، هل يكون هناك خبران، أو خبر واحد؟ وعلى التقدير الثاني، هل يكون المخبر به مجي‏ء زيد أم مجي‏ء عمرو، لا ينبغي الإشكال بمقتضى ما ذكره علماء الأدب والنّحويون أنّ المخبر به في الجملة المشتملة على «بل» الإضرابية شي‏ء واحد؛ وهو مجي‏ء عمرو في المثال‏‏ (50) ، وأنّه المعيار في صدق القضية وكذبها، فإذا كان الجائي في المثال هو عمرو، تكون القضية صادقة، واذا لم يكن الجائي عمراً تكون القضية كاذبة، سواء جاء زيد أم لم يجي‏ء.

واللازم على هذا أن يعامل في المقام معاملة الإقرار مع الإقرار الثاني؛ لأنّه بعد ما كان هذا النحو من المحاورة وإفادة المقصود غير باطل، وبعد أنّه يجوز للمتكلّم أن يلحق بكلامه ما شاء، لا مجال لدعوى ثبوت إقرارين، ولا لدعوى صحّة الإقرار الأوّل؛ لعدم الفرق بين المقام وبين المثال أصلًا.

السادس: لو اشترك أزيد من واحد في الاستيلاء على عين، فهل يكون استيلاء كل واحد منهما على المجموع، أو على النصف المشاع؟ وعلى التقديرين فهل تكون يد كلّ منهما مستقلّة تامّة، أو لا تكون إلّا ناقصة؟ وجوه واحتمالات بحسب بادي‏ء النظر، وفي التصور الابتدائي.

قد يقال- كما قاله سيّد الأساطين في ملحقات العروة- بأنّه لا مانع من اجتماع اليدين المستقلّتين على مال واحد، كما أنّ الأقوى عنده جواز اجتماع المالكين المستقلّين في مال واحد؛ كما إذا كان ملكاً للنوع، كالزكاة والخمس والوقف على العلماء والفقراء مثلًا على نحو بيان المصرف؛ فإنّ كلّ فرد من النوع مالك لذلك المال، بل لا مانع من اجتماع المالكين الشخصيّين أيضاً؛ كما إذا وقف على زيد وعمرو، أو أوصى لهما على نحو بيان المصرف، فإنّه يجوز صرفه على كلّ واحد منهما.

فدعوى‏ عدم معقولية اجتماع المالكين على مال واحد لا وجه لها، مع أنّه لا إشكال عندهم في جواز كون حقّ واحد لكلّ من الشخصين مستقلّاً؛ كخيار الفسخ، وكولاية الأب والجدّ على مال الصغير، ومن المعلوم عدم الفرق بين الحقّ والملك‏‏ (51).

أقول: الملكية المستقلّة عند العقلاء عبارة عن الإضافة الخاصّة الحاصلة بين المالك والمملوك، المعتبرة عند العقلاء، المستتبعة للاختصاص الذي هو لازم أعمّ لها؛ ضرورة أنّه قد يوجد بدونها، ولكنّه لا يمكن تحقّقها بدونه، فحصول هذه الإضافة بدون الاختصاص غير معقول، ومن الواضح أنّ الاختصاص مغاير للإشتراك تغاير الضدّين اللذين لا ثالث لهما، ففي مورد تحقّق واحد منهما يمتنع حصول الآخر ويستحيل تحقّقه.

وحينئذ نقول: إنّ فرض جواز اجتماع المالكين المستقلّين في مال واحد مرجعه إلى فرض وجود الشي‏ء وعدمه في زمان واحد؛ ضرورة أنّ الملكية المستقلّة على ما عرفت عبارة عن إضافة لازمها الاختصاص المغاير للاشتراك، وفرض الاجتماع مرجعه إلى الاشتراك الذي لا يكاد يجتمع مع الاختصاص، فمرجع هذا الفرض إلى فرض الاختصاص وعدمه في زمان واحد، كما هو ظاهر.

وأمّا الموارد المتقدّمة التي استشهد بها على جواز اجتماع المالكين المستقلين في مال واحد، فالظاهر عدم كون شي‏ء منها من هذا الباب، وتوضيحه:

أنّ ما كان ملكاً للنوع لا يكون مالكه متعدّداً؛ لأنّ المالك هو النوع وهو غير متعدّد، والأفراد بما أنّها أفراد متعدّدة وخصوصيات متكثّرة لا تكون مالكة أصلًا، بل ذكر سيّدنا الاستاذ الأعظم الخميني- مدّ ظلّه العالي- أنّه يختلج بالبال في الزكاة والخمس عدم كونهما ملكاً للنوع أيضاً فضلًا عن الأفراد والمصاديق، بل المالك لهما هي الدولة الإسلامية الشاملة للفقيه في زمان الغيبة يصرفها في المصارف المعيّنة، كما أنّ الدّول عند العقلاء مالكة يعتبرون لها الملك وإن كانت غير قائمة بشخص خاصّ، بل يكون في حال تغيّر وتبدّل‏‏ (52).

ودعوى أنّه لا يعقل كون غير ذوي العقول مالكاً معتبر له الإضافة التي هي الملك، مدفوعة بمنع عدم التعقّل، بل هو واقع جدّاً؛ ضرورة أنّ الوقف على المساجد لا يكون المالك له إلّا نفس المسجد، ووقف بعض الأشياء على الضرائح المقدّسة لا يقتضي إلّا صيرورة المالك له نفس ذلك الضريح، وغير ذلك من الموارد، فالمالك للزكاة والخمس هي نفس الدولة الإسلامية التي هي أمر اعتباريّ قائم بأشخاص متعدّدة، وحينئذ لا يبقى مجال لما ذكره، بل على تقدير كونهما ملكاً للنوع قد عرفت أنّه لا يكون المالك لهما إلّا واحداً وهو النوع، وخصوصيات الأفراد لا دخل لها أصلًا.

ومنه يظهر الجواب عمّا إذا وقف على العلماء أو الفقراء أو على نحو بيان المصرف؛ فإنّ المالك في هذا المورد أيضاً هو النوع لا الأفراد، وأمّا الوقف على خصوص زيد وعمرو، أو الوصية لهما على نحو بيان المصرف، فعلى هذا التقدير؛ أي تقدير أن يكون على نحو بيان المصرف، لابدّ من الالتزام بأنّ المالك هو القدر المشترك، الذي ينطبق على زيد وعلى عمرو لا خصوص كلّ منهما، وعلى غير هذا التقدير لابدّ من القول باشتراكهما في العين الموقوفة أو الموصى بها، بحيث يكون لكلّ منهما النصف المشاع لا المجموع، كما لا يخفى.

وأمّا جواز كون حقّ واحد لكلّ من الشخصين مستقلّاً كخيار الفسخ، فهو وإن كان ممّا لا ينكر، إلّا أنّ الظاهر ثبوت الفرق بين الحقّ والملك عند العقلاء الذين هم المرجع في مثل هذا الباب، ويشهد لذلك أنّه لو قامت بيّنة على أنّ المال الفلاني مملوك بتمامه لزيد، وبيّنة اخرى على أنّه مملوك بتمامه لعمرو، فالنسبة بين البيّنتين عند العقلاء هي التعارض والتكاذب، وليس ذلك إلّا لعدم إمكان اجتماع مالكين‏ مستقلّين على ملك واحد.

وهذا بخلاف ما لو قامت بيّنة على ثبوت حقّ الفسخ لزيد، وبيّنة اخرى على ثبوته لعمرو؛ فإنّهم لا يرون تعارضاً بين البيّنتين؛ بل يحكمون بثبوت الحقّ لهما بحيث يكون لكلّ واحد منهما الفسخ مستقلّاً، وليس ذلك إلّا لجواز اجتماع شخصين على حقّ واحد، ومع هذا الفرق عند العقلاء لا يبقى مجال لقياس الملك بالحقّ.

ولعلّ السرّ في الفرق أنّ الملك كما عرفت مستتبع للاختصاص الذي هو مغاير للاشتراك، ولا يكاد ينفكّ الملك عن الاختصاص أصلًا.

وأمّا الحقوق فالظاهر اختلافها، فبعضها يكون كالملك، كحقّ التحجير ونحوه؛ فإنّه لو اشترك اثنان في تحجير موضع مباح يكون حقّه مشتركاً بينهما، ولا يكون كلّ واحد منهما مستقلّاً بالنسبة إليه، وبعضها لا يكون مستتبعاً للاختصاص كالملك، بل يمكن اجتماع أزيد من واحد بالإضافة إليه، كحقّ الفسخ على ما عرفت، وهذا لا فرق فيه بين أن يقال بتعلّق حقّ الخيار بالعين، أو بتعلّقه بنفس العقد، أو لا بهذا ولا بذلك، بل هو عبارة عن مجرّد كون الرجل مختاراً في فعله الذي هو الفسخ، كما اختاره القائل قدس سره في‏ حاشية المكاسب‏‏ (53).

وبالجملة: الحقّ لا يكون ملازماً للاختصاص، بخلاف الملك، فقياس أحدهما بالآخر قياس مع الفارق.

ثمّ إنّه أجاب بعض المحقّقين في رسالته التي صنّفها في قاعدة اليد عن هذا القياس بما لفظه: أنّ الوحدة تارة تضاف إلى العقد، واخرى إلى الفسخ، فالأوّل موضوع حقّ الخيار، والثاني متعلّقه، فيراد تارة: قيام حقّين لشخصين بعقد واحد، واخرى: يراد قيام سلطنتين على حلّ واحد؛ لأنّ العقد واحد فحلّه أيضاً واحد، ومن الواضح أنّ أحد الطرفين لاعتبار الحقّ هو ذو الحقّ، وطرفه الآخر هو حلّ العقد، فالإضافة الخاصّة متقوّمة بطرفها وهو الحلّ دون العقد الخارجي الوحداني، والمقوّم للحلّ المتعلّق به الاعتبار في افق الاعتبار هو العقد بوجوده العنواني لا بوجوده العيني، فبالإضافة إلى افق الاعتبار اعتباران متعلّقان بحصّتين من الحلّ المتقوّم كلّ منهما بوجود عنواني من العقد، ووحدة طبيعيّ الحلّ لا توجب ورود حقّين على واحد شخصيّ؛ بداهة أنّ الحلّ القائم بأحدهما غير الحلّ القائم بالآخر، فمتعلّق سلطان كلّ منهما غير متعلّق سلطان الآخر‏ (54).

ويرد عليه: أنّ الحلّ الذي هو أحد الطّرفين لاعتبار الحقّ ليس هو طبيعي الحلّ الذي يتقوّم بالعقد بوجوده العنواني ؛ ضرورة أنّ السّلطنة الثابتة لكلّ منهما إنّما هي على الحلّ المضاف إلى العقد الشخصي الذي وقع في الخارج، لا حلّ العقد بعنوانه العامّ؛ ومن المعلوم أنّ الحلّ المضاف إلى الأمر الوحداني الخارجي لا يكون إلّا واحداً لا تعدّد فيه أصلًا، فإثبات تغاير متعلّقي السّلطانين بذلك ممّا لا مجال له، بل الظاهر ما عرفت من عدم قدح الوحدة في تعدّد ذي الحقّ؛ لأنّ مرجع حقّ الفسخ إلى القدرة على إبطال العقد وعدمه، ولا مانع من اتّصاف شخصين أو أزيد بوصف القدرة على ذلك.

كما أنّ الأمر كذلك بالنسبة إلى الأمور التكوينيّة أيضاً، ألا ترى أنّه يمكن قيام وصف القدرة على هدم الدار مثلًا بمثل زيد و عمرو وأكثر منهما، مع أنّ هدم الدار لا تعدّد فيه أصلًا؛ ضرورة أنّه لا يعقل الهدم بعد الهدم، فتدبّر. والحاصل أنّ تعدّد ذي الحقّ لا يستلزم تعدّد الحقّ كما عرفت.

وأمّا ولاية الأب والجدّ على مال الصغير، فالظاهر أنّ مرجعها إلى جعل حقّ التصرّف لهما بما أنّ كل واحد منهما مدبّر يتصرّف في مال الصّغير عن تدبير، ولو سبق أحدهما بالتصرّف لا يبقى موضوع لتدبير الآخر، كما في الوكلاء المتعددين، فإنّه مع اتّصاف كلّ منهم بوصف الوكالة وجواز تصرّفه فيما وكّل فيه، لا يبقى موضوع لوكالة المسبوق بتصرف وكيل آخر أو نفس الموكّل، كما هو واضح.

ثم إنّه قدس سره بعد كلامه المتقدّم بسطرين قال: ودعوى أنّ مقتضى الملكية المستقلّة أن يكون للمالك منع الغير، وإذا لم يكن له منع الغير فلا يكون مستقلّاً، ممنوعة؛ فإنّ هذا أيضاً نحو من الملكية المستقلّة، ونظيره الوجوب الكفائي والتخييري في كونهما نحواً من الوجوب مع كونه جائز الترك‏‏ (55).

ويرد عليه: أنّ الملكية المستقلّة على ما عرفت عبارة عمّا كانت مستتبعة للاختصاص الذي هو ضدّ الاشتراك، ولا يعقل تحقّقها مع عدم جواز منع الغير، وليس النزاع في إطلاق لفظ الاستقلال حتّى يدّعى جواز إطلاقه على بعض أفراد غير المستقلّ أيضاً، بل النزاع في حقيقته التي قد عرفت أنّها مساوقة للاختصاص الموجب لجواز منع الغير. والعجب من التنظير بالوجوب الكفائي والتخييري، فإنّه لا إشكال في أنّهما نحوان من طبيعة الوجوب الصادقة على العيني والكفائي، وكذا التعييني والتخييري، ولا يكونان من أفراد العيني والتعييني.

والغرض من التنظير إثبات كون ما إذا لم يكن للمالك منع الغير، من أفراد الملكية المستقلّة، لا طبيعة الملكية الصادقة على المستقلّة وغيرها، ولعمري أنّه اشتباه واضح. وقد انقدح من جميع ما ذكرنا بطلان دعوى جواز اجتماع المالكين المستقلّين على مال واحد.

وبعد ذلك نرجع إلى أصل المقصود؛ وهو أنّ استيلاء شخصين أو أزيد على مال واحد، هل يمكن أن يكون على سبيل الاستقلال أم لا؟ والظاهر هو العدم؛ لأنّ حقيقة الاستقلال ترجع إلى عقد إيجابي؛ وهو جواز التصرّف فيه، وعقد سلبيّ؛ وهو جواز منع الغير عنه، فاجتماع استيلائين مستقلّين بعد مساوقة الاستقلال للاختصاص الموجب لجواز منع الغير ممّا لا يمكن، كما يظهر ذلك بالتدبّر في نظائره.

ألا ترى أنّ استقلال الملِك بالنسبة إلى مملكته، والحاكم بالإضافة إلى بلده، لا يتحقّق مع تصرّف الغير فيهما أيضاً، فاتّصاف كلّ من اليدين بوصف الاستقلال ممّا لا وجه له أصلًا.

ويبقى الكلام بعد ذلك في أنّ استيلاء شخصين أو أزيد على مال واحد هل يكون استيلاءً على المجموع- غاية الأمر كونه غير مستقلّ- أو استيلاء مستقلّاً بالإضافة إلى النصف المشاع مثلًا، أو غير مستقلّ بالإضافة إليه؟ وقبل الخوض في ذلك ينبغي التكلّم في الكسر المشاع وإمكان الإشاعة وبيان حقيقتها، فنقول:

أوّلًا: أنّ الجهل بحقيقة الإشاعة على تقديره لا يمنع من الالتزام بوجودها بعد شيوعها بين العقلاء؛ ضرورة أنّ المالكية بالاشتراك المعتبرة بين العقلاء فوق حدّ الإحصاء، وبهذا يجاب عمّا يقال- كما عن بعض الأعاظم من المعاصرين-: من ابتناء الإشاعة على القول ببطلان الجزء الذي لا يتجزّأ؛ نظراً إلى أنّه لو انتهت التجزئة إلى حدّ غير قابل لها، لا يبقى للإشاعة فيه- بعد عدم قبوله للتجزئة- مجال.

وأمّا لو قيل بأنّ كلّ جزء متصوّر فهو قابل للتجزئة، فلا مانع من الإشاعة حينئذ‏ (56) .

والجواب: من الواضح أنّه لا تكون الإشاعة مبتنية على تلك المسألة العقلية التي هي مورد للخلاف بين الفلاسفة والمتكلّمين؛ ضرورة أنّ المتكلّم القائل بعدم بطلان الجزء غير القابل للتجزّئ لا يأبى من الاشتراك في الملك ونحوه بداهة، فالظاهر أنّه لا إشكال في شيوع الإشاعة بين جميع العقلاء، والجهل بحقيقتها- على‏ تقديره- لا يمنع عن التصديق بوجودها بعد تداولها بلا ريب ولا إنكار، مضافاً إلى عدم كونها مجهولة؛ لأنّ الظاهر أنّ الإشاعة أمر اعتباري عقلائي تتّصف بها العين الخارجيّة في الخارج وإن كان وعاء الاعتبار الذهن.

توضيح ذلك: أنّ الكسر المشاع لا يعقل أن يكون أمراً عينيّاً خارجيّاً؛ ضرورة أنّ الموجود في العين يستحيل أن يكون مبهماً لا معيّناً؛ لأنّ الوجود مساوق للتعيّن الّذي هو نقيض الإبهام، وتردّد الشبح الجائي من البعيد بين زيد وعمرو مثلًا لا يستلزم الإبهام فيه؛ لأنّه معيّن بحسب الواقع، غاية الأمر هو مجهول لنا، فالواقع المعيّن مردّد عندنا بين كونه زيداً أو عمراً، لا أنّه مردّد واقعاً بينهما كما هو واضح، فالكسر المشاع الذي هو أمر غير معيّن لا يعقل أن يكون أمراً خارجيّاً، كما أنّه يستحيل أن يكون منتزعاً منه؛ لأنّ المعيّن الذي لا تشوبه شائبة الإبهام لا يعقل أن يكون منشأً لانتزاع اللّامعيّن الخالي من جميع شؤون التعيّن.

فلابدّ من أن يقال: إنّ الكسر المشاع هو أمر اعتباري يعتبره العقلاء في وعاء الاعتبار الذي هو الذّهن وإن كان ظرف الاتّصاف به هو الخارج، فالموجود الخارجي متّصف في الخارج بأنّه له نصفان مثلًا وإن كان ظرف هذا الاعتبار هو الذهن، ولا غرو في أن يكون العروض في الذهن وظرف الاتّصاف هو الخارج.

وهذا نظير ما قاله الحكماء: من أنّ اتّصاف الماهيّة بالإمكان في الخارج وإن كان العروض في الذهن، وإلّا يلزم التسلسل ونحوه، بل جميع الامور الاعتبارية العقلائيّة التي لها مساس بالخارج كذلك؛ ضرورة أنّ الشي‏ء يتّصف في الخارج بوصف المملوكيّة، والإنسان يتّصف في الخارج بوصف المالكيّة، مع أنّ المالكية والمملوكية أمران اعتباريان لا يكون لهما ما بحذاء في الخارج، كما أنّ المرأة متّصفة في الخارج بوصف الزوجيّة، وكذا الزوج، مع عدم ثبوت شي‏ء زائد على ذاتهما في الخارج، كما هو ظاهر.

ثمّ إنّ بعض المحقّقين أفاد في بيان حقيقة الكسر المشاع في رسالته في قاعدة اليد ما لفظه: لا ريب في أنّ الكسر المشاع يقابل الكلّي في المعيّن، وأمّا إرجاعه إليه فإنّما هو من باب الإلجاء وعدم الوقوف على حقيقته، بل الكسر المشاع جزئيّ، ولأجله ربما يشكل بأنّ الجزئية والشيوع والسريان لا يجتمعان، وقد غفل عن أنّ الموجود الخارجي على قسمين: موجود بوجود ما بحذائه، وموجود بوجود منشأ انتزاعه، فما له مطابق بالذات وموجود بالفعل نفس منشأ الانتزاع. وأمّا الأمر الانتزاعي فموجود بالعرض والقوّة بنحو وجود المقبول بوجود القابل.

وعليه: فمفهوم النصف مثلًا ربما يكون موجوداً بوجود ما بحذائه؛ وهو نصف المعيّن في العين، وربما يكون عنواناً لموجود بالقوّة لتساوي نسبته إلى جميع الأنصاف المتصوّرة في العين باختلاف كيفية التنصيف والتقسيم، فهذا الموجود بالقوّة المتساوي النسبة جزئي بجزئية منشأ انتزاعه، وله شيوع وسريان باعتبار قبوله لكلّ تعيّن من التعيّنات الخارجيّة المفروضة، ولأجله تكون القسمة معيّنة للّامتعيّن من دون لزوم معاوضة ومبادلة بين أجزاء العين.

وعليه: فالمملوك لكلّ واحد من الشريكين أوّلًا وبالذات هو النصف المشاع، وليس لكلّ عين إلّا نصفان على الإشاعة، والعين الخارجية مورد لمملوكين بالذات، فتكون مملوكة بالعرض، على عكس من يملك عيناً واحدة بالذات؛ فإنّه يملك كسور المشاعة بالعرض.

وممّا ذكرنا تعرف أنّ المملوك بالذات لكلّ من الشريكين ملك استقلاليّ اختصاصي، فلذا لا يتوقّف التصرّف في نصفه المشاع على إذن من شريكه، وما هو مورد للنصفين المشاعين- وهي العين- هي المنسوبة إليها الاشتراك وعدم الاستقلالية، وليست في الحقيقة مملوكة بالذات لأحد، بل من حيث المورديّة للنصفين منها ينسب إليها الملكية بالعرض، فلم يلزم قيام فردين من الملكية الحقيقية الذاتيّة بعين واحدة، فتدبّر؛ فإنّه حقيق به‏‏ (57).

وأورد عليه سيّدنا الأعظم الخميني- مدّ ظلّه العالي- بوجوه من الإيرادات:

منها: أنّ المراد من قوله: «إنّ مفهوم النصف مثلًا ربما يكون موجوداً بوجود ما بحذائه؛ وهو نصف المعيّن في العين» إن كان هو تحقّق ذلك المفهوم ووجوده بوجود ما بحذائه قبل لحوق التقسيم الحقيقي أو الوهمي الاعتباري للعين الخارجية، بحيث يكون الموجود في الخارج واجداً للنصفين حقيقة وفعلًا، ولو لم تلحقه كثرة بعد، فيرد عليه:

أنّ لازمه وجود الامور غير المتناهية فعلًا في شي‏ء محصور بين حاصرين؛ ضرورة أنّ الكسور غير متناهية، وكما أنّ النصف موجود يكون نصف النصف أيضاً موجوداً، وهكذا إلى ما لا نهاية له؛ لبطلان الجزء غير القابل للتجزئة، فالأمر المتناهي الذي هو العين الخارجية المحصورة بين الحاصرين يكون حينئذ واجداً حقيقة للُامور غير المتناهية الموجودة بالوجود الحقيقي الذي له بحذاءٍ في الخارج، ومن المعلوم استحالة ذلك، فلابدّ من أن يكون المراد من ذلك القول هو كون مفهوم النصف موجوداً بوجود ما بحذائه بعد عروض التقسيم للعين الخارجية حقيقة، كما إذا انكسر الحجر الواحد وصار نصفين، أو وهماً كما إذا قسمّ اعتباراً من دون أن يقع فيه تغيير.

وحينئذ يرد على ذلك أيضاً- مضافاً إلى أنّه بعد لحوق التقسيم خصوصاً في التقسيم الحقيقي لا يبقى مجال ومحلّ لعنوان النصف- أنّ النصف الموجود في الخارج كما يكون منطبقاً عليه عنوان النصف إذا لوحظ بالإضافة إلى المركّب منه ومن النصف الآخر، كذلك ينطبق عليه عنوان الثلث أيضاً إذا لوحظ بالإضافة إلى المركّب منه ومن الأمرين الآخرين؛ فإنّ حبّة من الحنطة مثلًا إذا لوحظت‏ بالإضافة إلى حبّتين تكون نصفاً منهما، واذا قيست بالنسبة إلى ثلاث حبّات تكون ثلثاً منها، وهكذا، ويلزم حينئذ أن تكون الامور غير المتناهية التي هي عبارة عن الكسور غير المتناهية- على ما عرفت من بطلان الجزء الذي لا يتجزّأ- موجودة حقيقة بوجود حبّة من حنطة، وهو محال على ما تقدّم.

فالتحقيق: أنّ الشي‏ء الموجود في العين قبل لحوق التقسيم الحقيقي بالنسبة إليها لا يكون إلّا واحداً، كما هو المحقّق في محلّه، من أنّ الوجود والتشخّص مساوق للوحدة، وأنّ الكثرة بما هي كثرة تستحيل أن تتحقّق في الخارج، فثبوت النصفين لها لا يكون إلّا بحسب الاعتبار والوهم، كما أنّ الشي‏ء بعد عروض الانقسام عليه لا تكون أجزاؤه إلّا بحيث يكون كلّ واحد منها وجوداً مستقلّاً، واتصافه بالجزئية للمجموع وكونه نصفاً مثلًا منه لا يكون إلّا بحسب الاعتبار؛ ضرورة أنّ المجموع لا يبقى له وجود مستقلّ بعد الانقسام إلّا اعتباراً، فأجزاؤه بما أنّها أجزاؤه أيضاً كذلك؛ لتضايف الوصفين كما هو غير خفيّ.

ومنها: أنّ ما أفاده في الكسر المشاع- من أنّه عبارة عن موجود بالقوّة تتساوى نسبته إلى جميع الأنصاف مثلًا المتصوّرة في العين، وهو جزئيّ بجزئية منشأ انتزاعه، وله شيوع وسريان باعتبار قبوله لكلّ تعيّن- محلّ نظر بل منع؛ لأنّ المراد بالموجود بالقوّة إن كان هو الهيولى القابل للتصوّر بصور مختلفة والتشكّل بأشكال متعدّدة، فيرد عليه: أنّ لازم ذلك أن يصير الموجود بالقوّة فعليّاً بعد عروض الانقسام له بوجه، مع أنّا نرى بقاء الإشاعة في بعض الموارد، كما إذا وقع الانقسام بغير رضا الشريكين؛ فإنّه حينئذ لا يكون الهيولى قابلًا للتصوّر بغير تلك الصّورة؛ لتبدّل القوّة إلى الفعليّة، مع وضوح بقاء الاشتراك في المجموع المقتضي للإشاعة.

هذا، مضافاً إلى أنّه ربما يكون الاشتراك والإشاعة بالنسبة إلى الأشياء المنفصلة بالحقيقة، كما إذا كان قفيز من برّ مشتركاً بين شريكين؛ فإنّ كلّ واحد من‏ حبّات الحنطة وجود واحد مستقلّ منفصل عن الحبّة الاخرى حقيقة، فأين الهيولى القابل للتصوّر بصور مختلفة.

وإن كان المراد بالموجود هو الأمر المبهم القابل للانطباق على كل نصف يتصوّر في العين باعتبار اختلاف كيفية التنصيف والتقسيم، فيرد عليه: أنّ انتزاع ما حقيقته الإبهام عن الموجود في العين الذي هو معيّن محض، غير معقول على ما عرفت سابقاً؛ لأنّ المعيّن الخالي من شوائب الإبهام كيف يمكن أن يصير منشأً لانتزاع ما لم تشمّ منه رائحة التعيّن؟ كما هو واضح.

ومنها: أنّ ما أفاده في ذيل كلامه- من أنّ المملوك لكلّ واحد من الشريكين أوّلًا وبالذات هو النصف المشاع، والعين الخارجية مورد لمملوكين بالذّات، فهي مملوكة بالعرض على عكس من يملك عيناً واحدة- ممنوع أيضاً؛ فإنّه لا فرق في نظر العرف والعقلاء من حيث اتّصاف العين بالمملوكية بين ما كان المالك لها واحداً أو متعدّداً، وكما أنّها في الصورة الاولى تكون مملوكة بالذات، كذلك في الصورة الثانية.

وكيف يمكن دعوى عدم كون العين في الصورة الثانية مملوكة فيما لو كان مالكها واحداً، ثمّ نقل نصفها المشاع إلى غيره، فإنّه يسأل حينئذ عن السبب الذي صار موجباً لخروج العين عن الملكية رأساً كما هو المفروض، مع أنّ الناقل لم ينقل إلّا نصفها، ثمّ عن السبب الموجب لانتقال النصف المشاع إلى الناقل للنصف مع أنّه لم يكن مالكاً له ولم يتحقّق السبب النّاقل، كما هو ظاهر.

كما أنّ ما أفاده من أنّ القسمة مرجعها إلى تعيين اللّامعين، من دون لزوم مبادلة ومعاوضة بين أجزاء العين لا يستقيم؛ ضرورة أنّ مرجع الإشاعة إلى الاشتراك في كلّ جزء متصوّر، فالتقسيم لا محالة يساوق التبادل بين الأجزاء ولا يعقل بدونه‏ (58) .

وقد بان من جميع ذلك أنّه لا محيص في تفسير الإشاعة وبيان حقيقتها عمّا ذكرنا من أنّها أمر اعتباريّ عقلائي ليس له ما بحذاء في الخارج، كما أنّه لا ينتزع منه، بل الاتّصاف به إنّما هو في الخارج على حذو سائر الامور الاعتبارية العقلائية، كالملكية والزوجية ونحوهما، فالعين الخارجية متّصفة في الخارج بأنّ لها نصفين قابلين لتعلّق الملكية بهما، غاية الأمر أنّ وعاء الاعتبار إنّما هو الذهن، ومع قطع النظر عن اعتبار المعتبرين لا واقعية للكسر المشاع أصلًا، بل لا يكون الموجود في الخارج إلّا أمراً وحدانيّاً شخصيّاً لا تكثّر فيه بوجه من الوجوه.

والفرق بين الإشاعة وبين الكلّي في المعيّن هو أنّ الكلّي في المعيّن أمر كلّي كسائر الامور الكلّية والطبائع المتكثّرة، غاية الأمر أنّ دائرة صدقه صارت بسبب التقييد مضيّقة؛ فإنّ تقييد طبيعة الحنطة مثلًا بالحنطة من هذه الصبرة الموجودة في الخارج ليس إلّا كتقييدها بكونها جيّدة مثلًا، فكما أنّ مثل التقييد الثاني لا يُخرج الطبيعة المقيّدة عن كونها كلّية، غاية الأمر قلّة أفرادها بالإضافة إلى الطبيعة المطلقة كذلك- مثل التقييد الأوّل- لا يُخرج الطبيعة المقيّدة عن كونها كلّية، فتقييد العالم الذي يجب إكرامه بكونه من أهل البلد الفلاني، كتقييده بكونه عادلًا، بلا فرق بينهما أصلًا.

وأمّا الكسر المشاع؛ فهو أمر جزئي ملحوظ بالنسبة إلى العين الخارجية، غاية الأمر أنّه أمر اعتباري لا يكون له ما بحذاء في الخارج ولا منشأ للانتزاع؛ لأنّ حقيقته الإبهام، والتعيّن ينافيه، فلا يعقل إتّحادهما ولا كون المعيّن منشأ لانتزاعه، فافهم واغتنم.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى أصل المقصود ونقول- بعد الفراغ عن استحالة اجتماع استيلائين مستقلّين على عين واحدة، كاستحالة اجتماع ملكيتين مستقلّتين عليها-: إنّه يحتمل تصوّراً أن يكون مرجع استيلاء أزيد من واحد على عين واحدة إلى ثبوت استيلائين مثلًا على المجموع، غاية الأمر كونهما ناقصين، وأن يكون مرجعه إلى ثبوت استيلائين تامّين بالنسبة إلى النصف المشاع، وأن يكون مرجعه إلى ثبوت استيلائين ناقصين بالنسبة إلى النصف المشاع أيضاً، وعلى التقدير الأوّل يحتمل أن يكون الاستيلاء الناقص بالنسبة إلى المجموع كاشفاً عن الملكيّة الناقصة بالإضافة إليه، ويحتمل أن يكون أمارة على الملكيّة التامّة على النصف المشاع.

والظاهر من الاحتمالات الثلاثة هو الاحتمال الأوسط، على ما هو المعتبر عند العقلاء الذين هم المرجع في مثل الباب كما عرفت‏ ؛ إذ لا معنى لثبوت الاستيلاء على المجموع وإن كان ناقصاً بعد أن لم يكن المجموع ملكاً للمستولي؛ لأنّ مرجعه إلى الاستيلاء على مال الغير، وما هو مستولى عليه له.

ثمّ على فرض صحّة هذا الاحتمال، إن قلنا بكون الاستيلاء الناقص يكشف عن الملكية الناقصة بالنسبة إلى المجموع، فهو لا معنى له؛ لعدم معقوليّة اجتماع ملكين على المجموع ولو كانا ناقصين، وإن قلنا بكونه كاشفاً عن الملكيّة بالنسبة إلى الكسر المشاع، يلزم عدم تطابق الكاشف والمكشوف بوجه، وهو باطل؛ لأنّ الاستيلاء على المجموع كيف يمكن أن يكشف عن ملكيّة النصف المشاع، فهذا الاحتمال ساقط رأساً.

وأمّا الاحتمال الثالث، فيبعّده أنّه بعد كون كلّ منهما مالكاً للنصف المشاع، يكون كلّ واحد مستقلّاً في التصرّف في ملكه؛ ضرورة أنّه يجوز لكلّ من‏ الشريكين نقل حصّته إلى الغير بالبيع أو الهبة أو غيرهما، ولو لم يطّلع الآخر، بل لم يجز على تقدير اطّلاعه، غاية الأمر ثبوت حقّ الشفعة للآخر في بعض الموارد، وهذا معنى تمامية الاستيلاء وعدم نقصه.

نعم، لا يجوز لكلّ منهما- مع قطع النظر عن رضا الآخر- التصرّف في العين بالتصرّفات العينيّة الخارجية، ولكن ذلك ليس لأجل نقص في الاستيلاء أو قصور في الملكية، بل لأجل استلزام التصرّف فيه التصرّف في مال الغير، وهو حرام بدون إذنه، كما ربما يمكن تصويره في المالين المفروضين اللذين كان أحدهما ملكاً لزيد والآخر لعمرو، وكان التصرّف الخارجي في أحدهما مستلزماً للتصرف في الاخر، كمصراعي باب غير مفتوح؛ فإنّه لا إشكال في استقلال استيلاء كلّ منهما بالنسبة إلى ماله، بحيث يجوز له النقل والانتقال ولو مع عدم رضا الآخر، مع أنّ التصرّف الخارجي في أحدهما يستلزم التصرّف في مال الغير، فإنّ حرمة التصرّف حينئذ ليس لأجل نقص أو قصور، بل لمجرّد الاستلزام المزبور.

فانقدح من ذلك أنّه لا محيص عن الاحتمال الأوسط، وهو استقلال كل واحد من الاستيلائين بالنسبة إلى النصف المشاع، وكون كلّ منهما كاشفاً عن الملكية بالإضافة إليه، فاشتراك اثنين في الاستيلاء على العين كاشف عن ملكية كلّ واحد منهما لواحد من النصفين، ولازمها الاشتراك والإشاعة.

وعليه: فلو ادّعى كلّ منهما ملكية التمام تكون دعواه بالإضافة إلى النصف مقبولة فيما إذا لم تكن هناك بيّنة، ويترتّب على ذلك فروع كثيرة في باب القضاء.

بقي الكلام في قاعدة اليد في مباحث: مثل جواز الشهادة والحلف مستنِداً إلى اليد الظاهرة في الملكية، وكذا حجّية قول ذي اليد بالنسبة إلى الطهارة والنجاسة، وكذا حلّية اللحم المأخوذ منه إذا كان مسلماً، ولكنّها لا ترتبط بما هو محطّ البحث في القاعدة؛ وهي الأمارية والكاشفية عن الملكيّة، فاللازم إرجاع البحث في تلك‏ المباحث إلى محالّها من كتاب الشهادات، وكتاب الطهارة وغيرهما فراجع.

هذا تمام الكلام في قاعدة أماريّة اليد.

________________

(1) عوائد الأيّام: 737 عائدة 69، القواعد الفقهيّة للمحقق البجنوردي: 1/ 139.

(2) تهذيب الأحكام: 9/ 302 ح 1079، وعنه وسائل الشيعة: 26/ 216، كتاب الفرائض والمواريث، أبواب ميراث الأزواج ب 8 ح 3.

(3) هو: عليّ بن محمد بن الزبير القرشي الواقع في طريق الشيخ إلى علي بن الحسن بن فضال.

( 4) الكافي: 7/ 130 ح 1، تهذيب الأحكام: 6/ 297- 298 ح 829- 831 و ج 9/ 301 ح 1078، الاستبصار: 3/ 44- 45 ح 149- 151، وعنها وسائل الشيعة: 26/ 214، كتاب الفرائض والمواريث، أبواب ميراث الأزواج ب 8 ح 1.

( 5) الكافي: 5/ 138 ح 5، تهذيب الأحكام: 6/ 390 ح 1169، وعنهما وسائل الشيعة: 25/ 447، كتاب اللقطة ب 5 ح 1.

( 6) الكافي: 5/ 137 ح 3، الفقيه: 3/ 187 ح 841، تهذيب الأحكام: 6/ 390 ح 1168، وعنها وسائل الشيعة: 25/ 446، كتاب اللقطة ب 3 ح 1، وفي روضة المتقين: 7/ 334 عن الفقيه.

( 7) دعائم الإسلام: 2/ 497 ح 1774، وعنه مستدرك الوسائل: 17/ 128، كتاب اللقطة ب 4 ح 1.

( 8) الكافي: 5/ 293 ح 5، الفقيه: 3/ 150 ح 659، تهذيب الأحكام: 7/ 146 ح 647، وعنها وسائل الشيعة: 25/ 431، كتاب إحياء الموات ب 15 ح 1، وفي روضة المتقين: 7/ 159- 160 عن الفقيه.

( 9) تهذيب الأحكام: 7/ 74 ح 317، الفقيه: 3/ 140 ح 614، وعنهما وسائل الشيعة: 18/ 250، كتاب التجارة، أبواب بيع الحيوان ب 5 ح 1 و ج 23/ 55، كتاب العتق ب 29 ح 4.

( 10) الكافي: 5/ 211 ح 13، الفقيه: 3/ 140 ح 113، تهذيب الأحكام: 7/ 74 ح 318، وعنها وسائل الشيعة: 18/ 250، كتاب التجارة، أبواب بيع الحيوان ب 5 ح 2 والوافي: 10/ 361 ح 17241.

( 11) تفسير القمّي: 2/ 155- 157، الاحتجاج: 1/ 237- 238، وعنهما وسائل الشيعة: 27/ 293، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 25 ح 3، وفي مستدرك الوسائل: 17/ 369، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 3 ح 5 عن الاستغاثة: 16.

( 12) الكافي: 7/ 387 ح 1، الفقيه: 3/ 31 ح 92، تهذيب الأحكام: 6/ 261 ح 695، وعنها وسائل الشيعة: 27/ 292، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 25 ح 2.

( 13) الكافي: 5/ 313 ح 40، تهذيب الأحكام: 7/ 226 ح 989، وعنهما وسائل الشيعة: 17/ 89، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 4، ومرآة العقول 19/ 432 ح 40 وملاذ الأخيار: 11/ 434 ح 9.

( 14) القواعد الفقهيّة للمحقّق البجنوردي: 1/ 140- 141.

( 15) عوائد الايام: 745.

( 16) القواعد الفقهيّة للمحقّق البجنوردي: 1/ 150- 152.

( 17) المستدلّ هو المولى أحمد النراقي في عوائد الأيّام: 743.

( 18) تهذيب الأحكام: 6/ 391 ح 1171، وعنه وسائل الشيعة: 25/ 448، كتاب اللقطة ب 5 ح 3.

( 19) فوائد الاصول: 4/ 604- 605.

( 20) تعليقات فوائد الاصول: 4/ 604- 605، ونهاية الأفكار: 4، القسم الثاني: 22- 24.

( 21) القواعد الفقهيّة للمحقّق البجنوردي: 1/ 145- 146.

( 22) الرسائل في الاصول: 1/ 281- 282.

( 23) ملحقات العروة الوثقى: 401 مسألة 64.

( 24) فوائد الاصول: 4/ 606- 609، القسم الثاني.

( 25) تهذيب الأحكام: 7/ 74 ح 317 و 318، الفقيه: 3/ 140 ح 613 و 614، الكافي: 5/ 211 ح 13، وعنها وسائل الشيعة: 18/ 250، كتاب التجارة، أبواب بيع الحيوان ب 5 ح 1 و 2.

( 26) وسائل الشيعة: 27/ 233، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 3 و ص 293 ب 25 ح 3.

( 27) جواهر الكلام: 40/ 170- 171، ملحقات العروة الوثقى: 6/ 497- 498.

( 28) مسند أحمد: 1/ 25 ح 25، صحيح البخاري: 4/ 52 ح 3093 و ج 5/ 30 ح 4036، صحيح مسلم: 3/ 1105- 1109 باب حكم الفئ ح 49، 51، 52، 54 و 56، سنن أبي داود: 459- 462، كتاب الخراج ب 19، سنن النسائي: 7/ 136، البداية والنهاية لابن كثير: 4/ 202- 203.

( 29) فوائد الاصول: 4/ 614.

( 30) درر الفوائد في الحاشية على الفرائد للآخوند الخراساني: 394.

( 31) درر الفوائد للشيخ الحائري: 2/ 616- 617.

( 32) فوائد الاصول: 4/ 615- 617.

( 33) سورة النساء 4:/ 11- 12 و 176، سورة الأنفال 8: 75، سورة الأحزاب 33: 6.

( 34) القواعد الفقهيّة: 1/ 149.

( 35) تعليقات فوائد الاصول: 4/ 611- 612، نهاية الأفكار 4، القسم الثاني: 28- 29، والحاكي هو السيد البجنوردي في القواعد الفقهيّة: 1/ 148.

( 36) لم نعثر عليه عاجلًا.

( 37) قواعد الأحكام: 3/ 482.

( 38) إيضاح الفوائد: 4/ 399.

( 39) القواعد الفقهيّة للمحقق البجنوردي: 1/ 163.

( 40) القواعد الفقهيّة للمحقّق البجنوردي: 1/ 164.

( 41) الحاكي هو المحقّق البجنوردي في القواعد الفقهيّة: 1/ 164- 165.

( 42) جواهر الكلام: 35/ 130.

( 43) إيضاح الفوائد: 2/ 458.

( 44) مفتاح الكرامة: 9/ 318- 319، القواعد الفقهيّة للبجنوردي: 1/ 167.

( 45) حكي عنه في مختلف الشيعة: 5/ 541 مسألة 252.

( 46) الدروس الشرعيّة: 3/ 132.

( 47) مسالك الأفهام: 11/ 109- 110.

( 48) جواهر الكلام: 35/ 131.

( 49) القواعد الفقهيّة للمحقق البجنوردي: 1/ 168.

( 50) مغني اللبيب: 1/ 152.

( 51) ملحقات العروة الوثقى: 588- 589.

( 52) الرسائل في الاصول 1: 271- 272.

( 53) حاشية المكاسب للسيّد اليزدي: 2/ 367- 368.

( 54) الظاهر أنه الشيخ محمد حسين الإصفهاني، كما في هامش الرسائل للإمام الخميني.

( 55) ملحقات العروة الوثقى: 589.

( 56) منية الطالب في شرح المكاسب: 2/ 378- 381.

( 57) قاعدة اليد للمحقّق الإصفهاني، المطبوع في آخر نهاية الدراية: 3/ 335، مكتبة المصطفوي.

( 58) الرسائل في الاصول: 1/ 275- 277.

 




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.


اختتام الأسبوع الثاني من الشهر الثالث للبرنامج المركزي لمنتسبي العتبة العباسية
راية قبة مرقد أبي الفضل العباس (عليه السلام) تتوسط جناح العتبة العباسية في معرض طهران
جامعة العميد وقسم الشؤون الفكرية يعقدان شراكة علمية حول مجلة (تسليم)
قسم الشؤون الفكريّة يفتتح باب التسجيل في دورات المواهب