المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 7463 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


قاعدة « الفراغ والتجاوز»  
  
2085   11:58 صباحاً   التاريخ: 18-9-2016
المؤلف : الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الكتاب أو المصدر : القواعد الفقهية
الجزء والصفحة : ج1 , ص211 – 277
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / القواعد الفقهية / الفراغ و التجاوز /

من القواعد الهامة التي اشتهرت في السنة المتأخرين اشتهارا تاما حتى صارت كالمسلمات، الدائرة بينهم هي قاعدة «التجاوز والفراغ» وان اختلفوا في أنها هل ترجع الى قاعدتين:

«التجاوز» و«الفراغ» أو هي قاعدة واحدة يعبر عنها باسم تارة وبآخر اخرى، حسب اختلاف المقامات؟ كما يأتي البحث عنه بما يستحقه. وهي المدرك الوحيد لكثير من الفروع الفقهية في أبوابها؛ ولذا وضع غير واحد من المحققين رسالات خاصة لها ومع ذلك لم يؤد حقها من البحث؛ وقد بذلنا غاية المجهود في كشف الستر عن وجه هذه القاعدة ومداركها وما يتفرع عليها من الفروع؛ وغيرها مما يتعلق بها وسنبين انها لا تختص بباب معين من أبواب الفقه.

والكلام فيها يقع في مقامات:

1- البحث عن مدرك القاعدة.

2- في أنها قاعدة واحدة لا قاعدتان.

3- في انها من الامارات أو من الأصول العملية‌ .

4- في اعتبار الدخول في الغير فيها وعدمه.

5- في ان المراد من «الغير» إذا؟

6- في ان المحل الذي يعتبر التجاوز عنه شرعي أو عقلي أو عادى؟

7- في عموم القاعدة لجميع أبواب الفقه وعدم اختصاصها بباب دون باب‌ .

8- في عمومها لاجزاء اجزاء العبادة وغيرها.

9- في جريانها عند الشك في صحة العمل.

10- في جريانها في «الشرائط»‌ .

11- في انه لما ذا لا تجري القاعدة في اجزاء الطهارات الثلث.

12- في عدم جريان القاعدة عند الغفلة عن كيفية العمل.

13- في عدم جريانها في الشبهات الحكمية.

14- في اختصاصها بالشك الحاصل بعد العمل، لا الشك الموجود من قبل.

وإذ قد عرفت ذلك نرجع الى تفصيل هذه الأبحاث وتوضيح هذه القاعدة من شتى الجهات فنقول ومن اللّه جل شأنه نستمد التوفيق والهداية.

1- البحث عن مدرك القاعدة :

الذي يجب البحث والتنقيب عنه قبل كل شي‌ء ان قاعدة الفراغ والتجاوز وان كانت ثابتة في النصوص الواردة من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) لكنها لم تكن معروفة عند قدماء الأصحاب، كمعروفيتها عند المتأخرين، وان استند إليها بعضهم أحيانا في بعض أبواب الطهارة أو الصلاة، بعنوان حكم جزئي لا قاعدة كلية سارية في أبواب كثيرة من الفقه أو كلها.

ولا غرو في ذلك فان لها نظائر من القواعد الفقهية وأدلة الأحكام؛ فهل كان الاستصحاب المتكى على اخبارها اليوم معروفة عند الأوائل؟ مع ان أول من استدل بها هو والد شيخنا البهائي على ما حكى عنه، الى غير ذلك من أشباهه.

ولكن من الواضح ان غفلتهم عنها، أو عدم استنادهم إليها في كثير من كتبهم، لا تؤثر في اعتبار القاعدة بعد تمامية دلالة الاخبار عليها كما هو ظاهر، فان ذلك لا يسقطها من الاعتبار من جهة إعراض الأصحاب عنها، لعدم ثبوت الاعراض في أمثالها بعد ما كانت‌ استفادتها من الاخبار تحتاج إلى دقة خاصة في الاخبار لا تحصل الا تلاحق الأفكار بعد برهة طويلة من الزمان.

مضافا الى ان عدم تعرضهم لها بهذه الصورة المعمولة في هذه الأعصار، لا يدل على عدم اعتبارها عندهم فإنه لم يكن من دأبهم إيداع جميع القواعد والأصول التي يستند إليها في استنباط الاحكام في كتبهم بصورة خاصة مشروحة.

وكيف كان يمكن الاستدلال على هذه القاعدة بأمور.

1- الأخبار العامة والخاصة :

أولها وهي العمدة؛ الأخبار المستفيضة الواردة في أبواب مختلفة:

بعضها مختصة بالطهارة أو الصلاة، وبعضها عامة لا تقييد فيها بشي‌ء وقسم ثالث منها وان كان واردا في مورد خاص ولكنه مشتمل على كبرى كلية يستفاد منها قاعدة كلية شاملة لسائر الأبواب.

فلا بد لنا أولا إيراد جميع ما ظفرنا به من الروايات ثمَّ البحث عن مقدار دلالتها وما يحصل لنا من ضم بعضها ببعض والجمع بينها وهي روايات:

1- ما رواه زرارة عن ابى عبد اللّه عليه السّلام رجل شك في الأذان والإقامة وقد كبر ؟ قال يمضى قلت: رجل شك في التكبير وقد قرء؟ قال يمضى، قلت: شك في القراءة وقد ركع؟ قال: يمضى قلت شك في الركوع وقد سجد؟ قال: يمضى على صلوته ثمَّ قال: يا زرارة إذا خرجت من شي‌ء ثمَّ دخلت في غيره فشكك ليس بشي‌ء (رواه في الوسائل في الباب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة الحديث الأول-) وهذه الرواية بحسب ظاهرها شاملة للطهارة والصلاة وغيرهما من العبادات بل تشمل جميع المركبات التي لها أثر شرعي في أبواب العبادات والمعاملات وغيرهما- كما سيأتي الكلام فيه‌ مستوفى إنشاء اللّه- لعموم لفظ «شي‌ء» لها.

ولكن ظاهرها بقرينة قوله «خرجت من» اختصاصه بالشك في صحته بعد الفراغ عن أصل وجوده فان الخروج عن الشي‌ء- بحسب الظهور الاولى- هو الخروج عن نفسه لا عن محله.

كما ان ظاهره، بادي الأمر، هو اعتبار الدخول في الغير، الا ان يكون جاريا مجرى الغالب لأن الإنسان لا يخلو عن فعل ما غالبا، فكلما خرج من شي‌ء دخل في غيره عادتا فيكون قوله «و دخلت في غيره» من باب التأكيد للخروج من الفعل الأول، فليكن هذا على ذكر منك وسيأتي توضيحه في الأمر الرابع إنشاء اللّه.

2- ما رواه إسماعيل بن جابر عن ابى عبد اللّه عليه السلام قال: ان شك في الركوع بعد ما سجد

فليمض وان شك في السجود بعد ما قام فليمض كل شي‌ء شك فيه وقد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه.

(رواه في الوسائل في الباب 13 من أبواب الركوع من كتاب التهذيب وهو الحديث الرابع من ذاك الباب).

وصدرها وان كان مختصا بباب اجزاء الصلاة الا ان ذيلها قضية عامة كالرواية الاولى وظهورها بادي الأمر في اعتبار الدخول في الغير مثلها.

3- ما رواه محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه السّلام انه قال: كلما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو (رواه في الوسائل في الباب 23 من أبواب الخلل) «1» وهي أيضا ظاهرة في عدم اعتبار الدخول في الغير الا ان يقال بأن إطلاقها منصرفة الى ما هو الغالب من تلازم مضى الشي‌ء للدخول في الآخر، على عكس ما قلناه في الرواية الاولى؛ ولكنها من حيث اختصاصها بالشك في الصحة دون أصل الوجود كالأولى وان كان القول بالتعميم هنا أقرب لأن إطلاق مضى الشي‌ء على مضى وقته أو محله كثير، يقال مضت الصلاة اى فات وقته ومحلّه وسيأتي البحث عنه مستوفى.

4- ما رواه ابن ابى يعفور عن ابى عبد اللّه عليه السّلام إذا شككت في شي‌ء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكك بشي‌ء إنما الشك إذا كنت في شي‌ء لم تجزه (رواه في الوسائل في الباب 42 من أبواب الوضوء من كتاب الطهارة).

والضمير في قوله «غيره» يحتمل رجوعه إلى «شي‌ء من الوضوء» وهو الذي يسبق الى الذهن بادي الأمر ولكنه مخالف لما يأتي من عدم جريان القاعدة في اجزاء الطهارات الثلث؛ ويحتمل رجوعه الى «الوضوء» فينطبق على ما هو المشهور المعروف، المدعى عليه الإجماع، ولكن هذا الاحتمال لا يخلو عن مخالفة للظاهر كما عرفت.

وهل هي عامة للشك في الصحة والوجود معا أو مختصة بأحدهما؟ ظاهر صدرها التعميم فان الشك في شي‌ء من الوضوء أعم من الشك في أصل وجوده أو صحته ولا تأبى ذيلها عن الحمل عليه أيضا.

وهل الرواية تعم جميع أبواب الفقه أو تختص بباب الوضوء؟ ظاهر قوله انما الشك إلخ العموم، ولكن تخصيصها بباب الوضوء ليس ببعيد فان قوله «انما الشك إذا كنت في شي‌ء لم تجزه» يحتمل ان يكون ناظرا الى قوله «شي‌ء من الوضوء» فالمعنى ان الشك انما يعتبر «إذا كنت في شي‌ء من الوضوء لم تجزه» ولكن هذا الاحتمال لا يخلو عن مخالفة للظاهر لا سيما بملاحظة كون التعليل كقاعدة ارتكازية عقلائية كما سيأتي إنشاء اللّه.

وهل يستفاد منه اعتبار الدخول في الغير أولا؟ ظاهر صدرها- كما أفاده العلامة الأنصاري- هو الاعتبار، بينما يكون ذيلها ظاهرة في خلافه.

هذا ولم لم يحمل إطلاق الذيل على ما هو الغالب من الدخول في الغير بعد الفراغ عن الشي‌ء، لم يبعد ترجيحه على الصدر بناء على ان ظهور التعليل يكون أقوى.

5- «ما رواه بكير بن أعين قال: قلت له: الرجل يشك بعد ما يتوضأ؟

قال هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك. (رواه في الوسائل في الباب 42 من أبواب الوضوء).

وهي وان كان واردة في خصوص الشك في الوضوء الا ان قوله «هو حين يتوضأ إلخ» من قبيل ذكر العلة في مقام بيان المعلول، فذكر قوله «هو حين يتوضأ إلخ» بدل قوله» لا يعيد الوضوء».

وحيث ان التعليل بأمر عقلي شامل لغير مورد السؤال، يجوز عد الرواية في سلسلة الروايات العامة الدالة على القاعدة.

اللهم الا ان يقال انه ليس من قبيل العلة للحكم، بل من سنخ الحكمة له، ذكر استيناسا للحكم؛ لا يجوز التعدي عنه إلى سائر الموارد، ومثله كثير في مختلف أبواب الفقه فتأمل.

6- ما رواه محمد بن مسلم عن ابى عبد اللّه عليه السّلام انه قال: إذا شك الرجل بعد ما صلى فلم يدر أ ثلاثا صلى أم أربعا وكان يقينه حين انصرف انه كان قد أتم؛ لم يعد الصلاة وكان حين انصرف أقرب الى الحق منه بعد ذلك (رواه في الوسائل في الباب 27 من أبواب الخلل في الصلاة- ج 5- ص 343).

وبيان دلالتها بعين التقريب الذي تقدم في سابقها الا ان الحكم وعلته كليهما مذكور ان هنا.

وقد يتوهم ان التعبير بقوله: «و كان يقينه حين انصرف انه كان أتم» دليل على انها ناظرة إلى بيان قاعدة اليقين والشك الساري ولكنه كما ترى، فان اليقين في تلك القاعدة لا يجب ان يكون في خصوص حال الانصراف كما ذكر في هذه الرواية، مضافا الى ان لسانها في الذيل «و كان حين انصرف أقرب الى الحق منه بعد ذلك» من أقوى الشواهد على انها بصدد بيان قاعدة الفراغ وظاهر في انها من سنخ الامارات، وقاعدة اليقين على القول بها ليست كذلك فتدبر.

ثمَّ لا يخفى ان عد الرواية من الروايات العامة الدالة على القاعدة مبنى على التعليل الضمني الارتكازي المستفاد من قوله: وكان حين انصرف إلخ وإلا هي مختصة بباب الشك في ركعات الصلاة بعد الفراغ، ولو قلنا بأنه لا يزيد على الاشعار بالعلة العامة سقطت عن الدلالة على المطلوب.

7- ما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا عن كتاب حريز بن عبد اللّه عن زرارة عن ابى جعفر عليه السّلام قال:

«إذا جاء يقين بعد حائل قضاه ومضى على اليقين ويقضى الحائل والشك جميعا؛ فان شك في الظهر فيما بينه وبين ان يصلى العصر قضاها، وان دخله الشك بعد ان يصلى العصر فقد مضت، الا ان يستقين؛ لان العصر حائل فيما بينه وبين الظهر فلا يدع الحائل لما كان من الشك الا بيقين» (رواه في الوسائل في الباب 60 من أبواب المواقيت- ج 3 ص 205) وحاصل مفادها ان وجود «الحائل» الذي هو عبارة أخرى عن «الغير» الوارد في سائر الروايات يوجب عدم الاعتناء بالشك فيما تجاوز عنه فلو شك في فعل الظهر بعد الإتيان بالعصر لا يعتنى بشكه لتحقق الحائل وهو العصر واما لو شك قبله فعليه إتيانها.

نعم لو علم بترك الظهر ولو بعد تحقق الحائل وهو العصر فعليه أدائها، لوضوح ان القاعدة تختص بصورة الشك، واما قوله «و يقضى الحائل والشك جميعا» فلا يخلو عن تشويش واضطراب ولكن لا يمنع من الاستدلال بالذيل بعد وضوحها وظهورها في المقصود.

و قد استدل بالرواية سيدنا الأستاذ في المستمسك على عدم وجوب الظهر على من صلى العصر ثمَّ شك في فعل الظهر ثمَّ صرح بأنه لم يجد عاجلا من تعرض لذلك؛ ثمَّ استدل لهذا الحكم بقاعدة التجاوز أيضا بناء على انه يثبت وجود المشكوك بلحاظ جميع آثاره «2» هذا ولكن الرواية بنفسها من أدلة القاعدة كما رأيت وسيأتي له مزيد تحقيق أيضا؛ وعلى كل حال هو من الأدلة العامة الدالة على عدم الاعتناء بالشك بعد تحقق الحائل لأن الحكم المذكور في صدر الرواية كالعلة المذكورة في ذيلها حكم عام لا يختص بباب دون باب، ولكن ظاهرها اعتبار الدخول في الغير لو لم نقل بظهورها في اعتبار الفراغ عن الغير فتأمل.

هذا ما عثرنا عليه من الروايات العامة التي لا تختص بباب دون باب‌ وهناك روايات كثيرة خاصة وردت في أبواب مختلفة مثل أبواب الوضوء وغسل الجنابة والركوع وغيره من أفعال الصلاة بل وفي أبواب الحج، ولا بأس بالإشارة الى بعض ما ورد في تلك الأبواب من الروايات الخاصة المؤيدة لما مر عليك من العمومات:

1- ما ورد في باب الوضوء :

مثل ما رواه محمد بن مسلم قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: كلما مضى من صلوتك وطهورك فذكرته تذكرا فامضه ولا اعادة عليك (رواه في الوسائل في الباب 42 من أبواب الوضوء) «3» وهذه الرواية- كما ترى- مختصة بباب الوضوء والصلاة ولا تعم سائر الأبواب بلسانها‌

2- ما ورد في أبواب الجنابة :

مثل ما رواه زرارة عن ابى جعفر عليه السّلام في حديث فان قلت له: رجل ترك بعض ذراعه أو بعض جسده من غسل الجنابة- الى ان قال فان دخله الشك وقد دخل في صلوته ولا شي‌ء عليه الحديث (رواه في الوسائل في الباب 41 من أبواب الجنابة) «4» وظاهرها اعتبار الدخول في الغير فتأمل.

3- ما ورد في باب الشك في الركوع :

مثل ما رواه حماد بن عثمان قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أشك وانا ساجد فلا ادرى ركعت أم لا فقال قد ركعت؛ امضه (رواه في الوسائل في الباب 13 من أبواب الركوع) «5».

4- ما رواه في ذاك الباب بعينه عن فضيل بن يسار قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

استتم قائما فلا ادرى ركعت أم لا؟ قال: بلى قد ركعت فامض في صلوتك.

5- وما رواه أيضا في ذاك الباب عن عبد الرحمن بن ابى عبد اللّه قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام رجل أهوى إلى السجود فلم يدر اركع أم لم يركع قال: قد ركع.

6- ما ورد في باب عدد الأشواط في الطواف من عدم الاعتناء بالشك فيه بعد خروجه‌ عن الطواف وفوت المحل مثل ما رواه محمد بن مسلم قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل طاف بالبيت فلم يدر أ ستة طاف أم سبعة، طواف فريضة، قال: فليعد طوافه، قيل: انه قد خرج وفاته ذلك، قال ليس عليه شي‌ء (رواه في الوسائل في أبواب الطواف) «6».

7- وما رواه عن منصور بن حازم في ذاك الباب بعينه قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل طاف طواف الفريضة فلم يدر ستة طاف أو سبعة قال فليعد طوافه، قلت ففاته، قال ما ارى عليه شيئا والإعادة أحب الى وأفضل «7» واستدل في الجواهر بها وبما أشبهها للحكم بعدم العبرة بالشك في عدد أشواط الطواف بعد الفراغ عنه؛ بعد استظهار عدم الخلاف في حكم المسئلة.

ومن هنا تعرف أيضا ان الحكم بمقتضى قاعدة التجاوز والفراغ لا يختص بأبواب الطهارة والصلاة بل يجري في الحج وغيرها كما سيأتي البحث عنه مستوفى إنشاء اللّه ولم نعثر في غير هذا الباب من أبواب الحج ما يدل عليه، لعل المتتبع الخبير يعثر على غيره أيضا.

وهناك روايات أخرى خاصة في مختلف أبواب الصلاة والطهارة تتحد مضامينها مع ما ذكرنا لم نتعرض لبيانها وانما اخترنا هذه الروايات السبع من بينها لما فيها من الشواهد والإشارات واضواء تشرق على المباحث الاتية، يهتدى بحقائقها تحتها كما ستعرف إنشاء اللّه.

وهذه الروايات وان وردت في أبواب خاصة وليس فيها ما يدل على عموم الحكم كالروايات السابقة ولكنها تكون مؤيدة لها ويشرف الباحث على القطع بعدم اختصاص القاعدة بباب دون باب، وجريانها في جميع العبادات بل وغيرها من المركبات الشرعية إذا شك في بعض اجزائها وشرائطها أو في أصل وجودها بعد مضى محلها.

ويمكن جعل هذه الاخبار وما يضاهيها دليلا مستقلا بنفسه، فان استقراء احكام الشرع في أبواب الوضوء والغسل، والأذان والإقامة والتكبير والقراءة والركوع والسجود‌ والطواف- مع قطع النظر عن العمومات- يوجب الاطمئنان على عدم اختصاص الحكم بباب دون باب وجريان القاعدة في جميع الأبواب، ولا سيما بعد ملاحظة التعبيرات الواردة فيها مما يشعر أو يدل على عدم اتكاء الحكم على خصوصية المورد بل على عنوان الشك الفراغ والتجاوز وأمثالها فتأمل.

2- السيرة العقلائية :

ويدل على المقصود أيضا استقرار سيرة العقلاء وأهل العرف- في الجملة- على البناء على صحة العمل بعد مضيه، ولعله في الحقيقة راجع الى عمومية أصالة الصحة لفعل النفس كما ... في المجلد الأول من كتابنا هذا عند ذكر «قاعدة الصحة» وانه لا فرق فيها بين فعل الغير وفعل النفس خلافا لما يستفاد من صريح كلمات بعضهم وظاهر آخرين من تخصيصها بفعل الغير فقط، ولذا ذكروا في عناوين كلماتهم هناك «أصالة الصحة في فعل الغير».

 قد عرفت ان دقيق النظر يعطى عدم اختصاص بعض أدلتها به وشمولها لأصالة الصحة في فعل النفس أيضا.

ولذا قال فخر المحققين (قدس سره الشريف) في «إيضاح القواعد» في مسئلة الشك في بعض أفعال الطهارة ان الأصل في فعل العاقل المكلف الذي يقصد براءة ذمته بفعل صحيح وهو يعلم الكمية والكيفية الصحة (انتهى).

وهذا الكلام منه- كما ترى- إشارة إلى قاعدة عامة تجري في فعل الإنسان نفسه وغيره وهو مبنى على ظهور حال الفاعل الذي هو بصدد تفريغ ذمته بفعل صحيح مع علمه باجزاء الفعل وشرائطه، وهو في قاعدة عقلائية عامة في جميع الافعال وجميع الأبواب.

ولذا لو فرضنا واحدا منا كتب كتابا أو حاسب حسابا أو اقدام على تركيب معجون وهو عالم باجزائه وشرائطه ثمَّ مضت عليه أيام أو شهور فشك في صحة الكتاب أو المحاسبة أو تركيب المعجون من جهة احتمال الإخلال ببعض شرائطه واجزائه غفلتا منه فهل تراه‌ يعتنى بهذا الشك ويكر النظر إليه مرة بعد مرة كلما شك في شي‌ء مما يعتبر فيها؟

مع ان احتمال الفساد من ناحية الغفلة موجود في غالب أفعال الإنسان كيف وقد صار الغفلة والنسيان كالطبيعة الثانية له، وللغفلات تعرض للاريب.

وكلما كان الفعل أدق وكان اجزائه وشرائطه أكثر كان هذا الاحتمال فيه أقوى، فإذا كتب كاتب كتابا ضخما كان احتمال الغلط فيه من ناحية الغفلة والاشتباه فيه قويا جدا ولكن إذا كان الكاتب ذو بصيرة في فعله ونية صادقة في كتابته عازما على بذل مجهوده في تصحيح الكتاب لا يعتنى باحتمال الفساد فيه إذا فرغ منه وجاوز عنه الا ان يكون هناك قرائن وأمارات توجب الظن بوجود الخلل في بعض نواحيه.

ولا فرق في ذلك بين ان يكون الكاتب غيره أو نفسه فشك في عمل نفسه. نعم إذا كان هو مشتغلا بعمله فشك في شي‌ء منه في محله يكر النظر اليه حتى يكون على ثقة من صحته وأدائه كما هو حقه.

ولعمر الحق ان هذا أمر ظاهر لا سترة عليه لمن راجع أفعال العقلاء وديدنهم في أمورهم المختلفة في الجملة؛ وان كان باب المناقشة في جزئيات المسئلة وحدودها سعة وضيقا واسعا ولكن أصل هذه القاعدة- على إجمالها- محفوظة عندهم.

والظاهر ان الوجه في بنائهم هذا ان احتمال الغفلة حين الاشتغال بالعمل في حد ذاته أمر مرجوح لا يعتنى به. أضف اليه ان العاقل الشاعر الذاكر حين الفعل لا يأتي بما هو مخالف لأغراضه واهدافه.

وهذا هو بعينه ما أشار إليه الإمام (عليه السّلام) في عبارة وجيزة لطيفة في رواية «بكير بن أعين» الماضية «8» حيث قال: «هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك».

فإنه كالصغرى لكبرى محذوفة تعرف من سياق الكلام وهي ان الذاكر لفعله لا يأتي بما هو مخالف لمقصود وغرضه وإذا انضمت هذه الكبرى الى صغرى مذكورة في كلامه عليه السّلام‌ وهو انه «حين يتوضأ اذكر منه حين يشك» لان احتمال الغفلة أمر مرجوح بالنسبة إلى المشتغل بالعمل حينه، كان قضيتها صحة العمل وعدم الاعتناء بالشك، فالصغرى تسد احتمال الغفلة، والكبرى تسد احتمال العمد في فعل ما هو مخل بغرضه.

وكذلك قوله في رواية محمد بن مسلم: «و كان حين انصرف أقرب الى الحق منه بعد ذلك» «9» هذا كله مضافا الى ما في هذا الأصل من رفع الحرج عن الناس الذي هو الملاك في كثير من الطرق والأصول العقلائية. وببالي ان صاحب الجواهر (قدس سره) تمسك بقاعدة الحرج أيضا في مسئلة الشك في عدد أشواط الطواف التي مضى ذكرها آنفا، وكأنه (قدس سره) أيضا ناظر الى هذا المعنى، لان مسئلة الشك في عدد أشواط الطواف لا خصوصية لها من هذه الجهة.

وان قال قائل: كيف يكون الذكر هو الأصل في حال الفاعل مع انا كثيرا ما نغفل عن تفاصيل أعمالنا وهل يوجد بين الناس من يكون حاضر القلب، ذاكرا لجميع أفعال صلوته وسائر عباداته دائما، اللهم إلا الأوحدي منهم. فالغفلة عن تفاصيل الفعل واجزائه وشرائطه حين العمل لعلها الغالب، من غير فرق بين الصلاة والصيام والطهارات والحج.

بل يظهر من غير واحد من الروايات الواردة في باب حضور القلب في الصلاة وأبواب الشكوك ان الأمر كان على هذا الحال عند كثير من أصحاب الأئمة وكانوا يشكون عندهم عليه السّلام عن انصراف قلوبهم عن تفاصيل العمل (أو عن اللّه) في صلواتهم أو غيرها.

قلنا- هذه الغفلات ليست غفلة محضا بل هي مشوبة بنوع من الذكر الإجمالي وذلك لان الإنسان إذا كان بصدد إتيان شي‌ء من المركبات الخارجية، ولم يعهد به من قبل، كمن يصلى لأول مرة، فلا مناص له من الذكر الكامل والعلم التفصيلي عند الإتيان بكل جزء‌ جزء منه، بحيث كلما غفل عنه وقف عن العمل لعدم اعتياده به.

ولكن بعد الإتيان به مرات عديدة- تتفاوت بتفاوت الاعمال والأشخاص- يحصل له ملكة خاصة ونوع من الارتكاز الإجمالي بالنسبة إلى تفاصيل العمل وخصوصياته واجزائه، ويقوم ذلك مقام الذكر الكامل والعلم بتفاصيله.

وحينئذ صورة العمل وخصوصياته وان محت عن صفحة ذهنه، عند غلبة الغفلة، لكنها بعد مرتكزة في أعماق ذهنه وباطن شعوره، ولذا يأتي بها غالبا على وجه الصحة حينئذ ولا يقف عنه عند انصراف ذهنه وغلبة الغفلة كالمتردد الحائر، كيف لا، والفعل فعل ارادى اختياري لا بد من استناده إلى إرادة ما قطعا.

والحاصل ان الفاعل في هذه المقامات ليس ساهيا غافلا بالمرة؛ بل هو ذاكر بنوع من الذكر؛ سمه «الذكر الإجمالي» أو ما شئت.

بقي هنا أمران :

الأول- ان بناء العقلاء على هذه القاعدة في أمورهم لا يلازم القول باتحاد سعة دائرتها عند الشرع

مع ما هو عندهم، فلو دلت الإطلاقات السابقة على جريانها في موارد لم يثبت استقرار السيرة العقلائية عليها يبنى عليها، فكم من أصل أو قاعدة أو امارة ثبت في الشرع بنحو أوسع أو أضيق مما عند العرف والعقلاء، مع كون أصولها متخذة منهم.

الثاني- الظاهر ان بناء العقلاء على هذه القاعدة في أفعالهم انما هو في موارد لم يكن قرائن ظنية يعتنى بها على خلافها ؛ فلو كان الفاعل ممن يكثر عليه السهو، أو نحو ذلك من القرائن والأمارات الظنية الغالبة، أشكل الركون إليها عند الشك في العمل ولو بعد الفراغ والتجاوز منه.

2- في أنها قاعدة واحدة أو قاعدتان :

ذهب غير واحد من أعاظم المتأخرين والمعاصرين- وفي مقدمهم العلامة الأنصاري (قدس سره الشريف) على ما يستفاد من ظاهر كلماته في الرسالة- إلى أنها قاعدة واحدة عامة لموارد الفراغ عن العمل والتجاوز عن اجزائه، بينما ذهب آخرون كالمحقق الخراساني والفقيه النابه الهمداني (قدس سرهما) في محكي تعاليقهما على الرسالة إلى أنهما قاعدتان مختلفتان واردتان على موضوعين مختلفين.

واختار المحقق النائيني (قده) في بعض ما ذكره أخيرا في المسئلة مذهبا ثالثا وهو انه ليس هناك إلا قاعدة الفراغ الشاملة لجميع الأبواب، وموضوعها الاعمال المستقلة التامة، لا اجزاء عمل واحد، ولكنه أضاف الى ذلك ان الاخبار الواردة في خصوص الشك في اجزائه الصلاة تدل على ان الشارع المقدس نزل اجزاء الصلاة منزلة الاعمال المستقلة فاجرى فيها تلك القاعدة أيضا.

فبمقتضى حكومة هذه الاخبار على أدلة القاعدة حصل لقاعدة الفراغ فرد ادعائي تنزيلي قبال افرادها الحقيقية.

فإذن لا يبقى مجال للبحث عن تصوير الجامع بينهما، (فان المفروض كون دخول احد الفردين في الكبرى المجعولة في طول الفرد الأخر لا في عرضه)، لكي يبحث عن كيفية الجامع بينهما، فان ذلك انما هو في الافراد العرضية لا غير.

هذا والبحث عن هذه المسئلة تارة يقع في مقام الثبوت؛ وانه هل يوجد هناك ما بمفاده يكون جامعا بين حكم «الفراغ عن نفس العمل» و«التجاوز عن اجزائه» أو لا يوجد هناك جامع أصلا؟

واخرى في مقام الإثبات وان مفاد اخبار الباب وأدلة القاعدة هل هو جعل قاعدة‌ واحدة تشمل بعمومها للشك في اجزاء العمل في أثنائه وللشك في صحته بعد الفراغ عنه؛ (بعد إحراز إمكانهما من جهة مقام الثبوت).

وبعد ذلك كله نتكلم فيما افاده المحقق النائيني (قدس سره) وما اختاره من المذهب الثالث‌ .

اما المقام الأول [مقام الثبوت] :

فحاصل الكلام فيه انه قد يتوهم عدم إمكان الجمع بين القاعدتين في لسان واحد وجعل واحد ثبوتا.

واستدل عليه بأمور ذكرها المحقق النائيني (قده) في كلماته في المقام وان لم يرتض بها نفسه وأجاب عنها بما سيأتي نقله ونقده.

أولها- ان لازمه الجمع بين اللحاظين في متعلق الشك فان متعلقه في قاعدة التجاوز هو أصل وجود العمل بمفاد كان التامة، بينما يكون في قاعدة الفراغ صحته بمفاد كان الناقصة، والجمع بين هذين اللحاظين في إنشاء واحد وخطاب واحد محال.

ويمكن الجواب عنه أولا بأن استحالة الجمع بين اللحاظين في إنشاء واحد، وكلام واحد، وكذا استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد وان دارت في السن المتأخرين واشتهرت بينهم، وبنوا عليه ما بنوا من مسائل مختلفة في طيات كتب الأصول الحديثة، من المشهورات التي لا أصل لها، وما بنوا عليها من المسائل الأصولية وغيرها- وما أكثره وأوفره- كلها مخدوشة ممنوعة.

وذلك لما حققناه في محله من وقوع ذلك فضلا عن إمكانه.

وحاصله أن اللحاظ في هذه الموارد لا يجب ان يكون تفصيليا وفي آن واحد حقيقي، مقارنا لآن صدور الكلام والإنشاء، بل يجوز تصور هذه الأمور المختلفة تفصيلا من قبل ولو آنا ما، ثمَّ أشار إليها إجمالا عند الاستعمال وفي آن الإنشاء، وهذا أمر ممكن جدا بل واقع كثيرا، وهذه الإشارة الإجمالية كافية في مقام الإنشاء واستعمال اللفظ.

والوجدان أقوى شاهد على ذلك فهل ترى من نفسك إشكالا أو حزازة واستحالة‌ في قول القائل عند إنشاء هاتين القاعدتين: «إذا جاوزت عن محل شي‌ء فشكك فيه ليس بشي‌ء سواء كان في أصل وجوده أم في صحته وسواء كان في اجزاء عمل واحد أم في أمور مستقلة.

وهل ترى فرقا بين ان يضيف الى كلامه قوله «سواء إلخ» وبين ان يضمر ذلك في نفسه من غير تصريح به في الكلام؟ أو ليس قوله «سواء إلخ» توضيحا للإطلاق المراد من كلامه السابق، وهل هو إنشاء جديد مذكور في ذيل الكلام غير ما هو مذكور في صدره؟ كلا وهذا أمر وجداني لا يرفع اليد عنه ببعض السفسطات الباطلة، كيف وقد عرفت ان اللحاظ الإجمالي حين الإنشاء، أو استعمال اللفظ؛ كاف قطعا ولا حاجة الى اللحاظ التفصيلي كي يقع الكلام في عدم إمكان المتعدد منه في استعمال واحد.

هذا مضافا الى ان آن استعمال اللفظ ليس آنا حقيقيا عقليا، وليس استعمال اللفظ في المعنى من قبيل فناء العنوان في المعنون والمرآت في المرئي كما توهم «فان هذه كلها استحسانات زائفة لا قيمة لها عند أبناء المحاورة إذا رجعنا إليهم، وكثير منها من قبيل خلط الحقائق بالاعتباريات، والأمور العقلية بالأمور العرفية، وتوضيح ذلك أكثر مما ذكر موكول الى محله «10».

وثانيا- ان وصف الصحة- على ما هو التحقيق- ليست من الأوصاف الحقيقية العارضة للعمل حقيقة، مثل عروض العلم والبياض للإنسان والثلج، بل هو أمر انتزاعي ينتزع من وجود الشي‌ء جامعا لجميع اجزائه وشرائطه، ففقدانها انما هو بفقدان جزء من اجزائه أو شرط من شروطه، ومن المعلوم ان الجعل لا يتعلق بها الا باعتبار منشأ انتزاعها.

فالشك في الصحة يرجع لا محالة إلى الشك في وجود جزء أو شرط بمفاد كان التامة، فإذن لا يبقى فرق بين متعلق الشك في مورد قاعدة الفراغ؛ والتجاوز، فان متعلقه في كل منهما هو الوجود بمفاد كان التامة فتدبر.

وثالثا- انه لا يلزم الجمع بين الحاظين لإمكان إرجاع قاعدة الفراغ الى ما هو مفاد كان التامة؛ بأن يجعل متعلق الشك نفس صحة العمل، لا اتصاف العمل بالصحة، والفرق بينهما ظاهر، لرجوع الأول إلى مفاد كان التامة والثانية إلى مفاد كان الناقصة.

ذكر هذا الوجه الأخير المحقق النائيني (قده) وارتضى به في آخر كلامه بعد ما أورد عليه في أوله بوجهين‌ أحدهما- انه مخالف لظاهر اخبار الباب؛ لظهورها في الحكم باتصاف العمل الموجود بالصحة، لا بنفس الصحة بعنوان كان التامة، فإرجاع التعبد فيها الى التعبد بوجود صحة العمل ربما يشبه بالأكل من القفا.

ثانيهما- انه لو تمَّ فإنما يتم في باب الأحكام التكليفية، التي لا يعتبر فيها الإحراز وجود الصحيح خارجا؛ ولكن لا يتم في باب الأحكام الوضعية، لأن الأثر يترتب على اتصاف العقد الموجود بالصحة ولا يترتب على مجرد وجود الصحيح في الخارج؛ فان من الواضح ان مجرد التعبد بهذا لا يترتب عليه أي اثر خارجي، بل الآثار انما تترتب على هذا الفرد الموجود إذا اتصف بالصحة.

هذا ما افاده المحقق المذكور في هذا المقام ولكن في كلا الوجهين نظر:

اما الأول فلأنه خروج عن محل البحث لما عرفت من ان الكلام هنا في مقام الثبوت، وما ذكره من مخالفته لظاهر الروايات راجع الى مقام الإثبات، والاستظهار من الأدلة؛ وسيأتي الكلام فيه (فتأمل).

واما الثاني فلان الأثر في المعاملات يترتب على ما هو مفاد كان التامة أيضا ولكن مع حفظ المورد والموضوع؛ مثلا إذا شككنا في تحقق عقد صحيح مستجمع لشرائطه على امرأة خاصة بمهر معين إلى أجل معلوم، وكان الشك في أصل وجود هذا العقد الخاص بعنوان كان التامة، ثمَّ ثبت حكم الشارع بوجوده كذلك، رتبنا عليه الأثر، وكان لتلك المرأة جميع ما للزوجة من الآثار الشرعية.

وكأنه (قدس سره) توهم ان وجود العقد بمفاد كان التامة دائما يلازم إبهامه وإجماله.

وعدم تشخيص مورده حتى يترتب عليه الأثر، مع ان إبهام متعلق العقد أو تعينه وتشخصه لا ربط له بكون الشك في وجوده بمفاد كان التامة أو غيرها؛ فان متعلق الشك قد يكون وجود عقد خاص معين من جميع الجهات مع كونه من قبيل مفاد كان التامة (تأمل فإنه لا يخلو عن دقة).

«ثانيها» ان المركب حيث انه مؤلف من اجزاء؛ فلا محالة يكون لحاظ كل جزء بنفسه سابقا في الرتبة على لحاظ الكل، إذ في رتبة لحاظ المركب والكل يكون الجزء مندكا فيه، مثلا لحاظ كل حرف بنفسه مقدم على لحاظ الكلمة المؤلفة منها، كما ان لحاظ الكلمة في نفسها مقدم غلى لحاظ الآية، وهكذا بالنسبة إلى السورة والصلاة جميعا.

وكيف يمكن ان يراد من لفظ «الشي‌ء» في قوله «كل شي‌ء شك فيه وقد جاوزه إلخ» الكل والجزء معا وبلحاظ واحد، مع انهما مختلفان في مرتبة اللحاظ؟! والجواب عنه :

أولا- ما مر من إمكان الجمع بين اللحاظين في كلام واحد، فان هذا الوجه أيضا يرجع في الحقيقة إلى استحالة الجمع بين اللحاظ الاستقلالي للجزء- وهو لحاظه بنفسه- ولحاظه مندكا في الكل- وهو لحاظه التبعي- في مرتبة واحدة.

وثانيا- ان ما ذكر انما يلزم إذا لوحظ الكل والجزء تفصيلا وبهذين العنوانين، ولكن لحاظهما بعنوان إجمالي شامل لهما، كعنوان «العمل» (لا بشرط) فلا مانع منه أصلا فقوله «كل شي‌ء إلخ» في معنى قوله «كل عمل إلخ» فكما يندرج «مجموع العمل» تحت هذا العنوان، يندرج «جزئه» أيضا فيه على نحو إجمالي، والحاصل ان الاشكال انما هو في فرض ملاحظة هذين العنوانين بنفسهما، لا إذا لو خطا بعنوان عام شامل لهما.

والعجب انه (قدس سره) مثل له باجزاء الكلمة وكلمات الآية، وآيات السورة؛ مع ان كثيرا من الاعلام صرحوا بشمول قاعدة التجاوز بنفسها للاجزاء واجزاء الأجزاء فإذا شك في قراءة السورة بعد مضى محلها جرت فيها القاعدة، كما انه إذا شك في قراءة آية منها بعد مضى محلها جرت فيها أيضا؛ فالسورة بنفسها مشمولة لها، كما ان آية من آياتها أيضا مشمولة، فراجع «العروة» وتعليقات الاعلام عليها في مسئلة الشك بعد المحل في اجزاء الصلاة.

فلو كان لحاظ الكل واجزائه في خطاب واحد مستحيلا جرى ذلك في الجزء وو اجزاء الجزء.

ومما ذكرنا تعرف عدم الحاجة في حل الإشكال إلى تكلف القول بأن الأدلة الواردة في المسئلة متكفلة لحكم قاعدة الفراغ عن العمل فقط، فالمجعول أولا وبالذات هو هذه القاعدة، الا أن الأدلة الخاصة الواردة في باب إجزاء الصلاة تنزل اجزائها منزلة الكل، فحصل للقاعدة فردان: فرد حقيقي، وفرد تنزيلي، بعد حكومة أدلة قاعدة التجاوز (اى الروايات الواردة في باب الشك في اجزاء الصلاة) على أدلتها، فإذن لا يلزم الجمع بين اللحاظين في إطلاق واحد أصلا.

ذكر ذلك المحقق النائيني في أواخر كلامه في المسئلة وجعله طريقا لحل هذه العقدة، والاشكال الاتى في الوجه الثالث من لزوم التدافع بين القاعدتين، وبنى عليه ما بنى.

ولكن فيه من التكلف والتعسف ما لا يخفى، وسيأتي توضيحه بنحو أو في ان شاء اللّه تعالى.

«ثالثها» لزوم التدافع بين القاعدتين في موارد التجاوز عن محل الجزء المشكوك، فإنه باعتبار لحاظ الجزء بنفسه، كما هو مورد قاعدة التجاوز يصدق انه تجاوز عن محله، فلا يعتنى بالشك فيه، وباعتبار لحاظ الكل يصدق انه لم يتجاوزه، فيجب الاعتناء به وتدار كه، وهذا هو التدافع بينهما.

والجواب عنه ان هذا التدافع ساقط جدا لأنه:

أولا- لا تدافع بين نفس القاعدتين، وانما يكون التدافع- على فرض وجوده- بين أصل قاعدة التجاوز وعكس قاعدة الفراغ، وهذا انما يلزم لو كان عكسها كنفسها مجعولة.

واما لو كان المجعول أصلها فقط وكان لزوم التدارك عند عدم الفراغ من باب قاعدة الاشتغال- كما هو الظاهر- فلا تدافع بينهما أصلا.

فإن مخالفتهما من قبيل مخالفة ما فيه‌ الاقتضاء وما لا اقتضاء فيه ومن الواضح عدم المنافاة بينهما.

فلزوم تدارك الجزء المشكوك قبل الفراغ من باب عدم وجود ما يعذر به العبد وما يقتضي براءته، فاذا اقتضى قاعدة التجاوز عدم وجوب التدارك عليه كان عذرا له في تركه ومبرئا للذمة.

والحاصل ان التدافع بينهما ثابت لو كان «عكس» قاعدة الفراغ كأصلها مجعولة وكان كل واحد منهما من قبيل ما فيه الاقتضاء، فهذا يقتضي التدارك قبل الفراغ عن الكل بينما تكون قاعدة التجاوز مقتضية لعدم وجوبه عند التجاوز عن الجزء، يلزم التدافع بينهما، الا ان يخصص عكس القاعدة بموارد لا تجرى فيها قاعدة التجاوز، كالشرائط التي تعتبر في مجموع الصلاة، بناء على عدم جريان قاعدة التجاوز فيها بالنسبة الى الاجزاء السابقة.

هذا ولكن قد عرفت ان المجعول هو نفس القاعدة لا عكسها وان التدارك قبل الفراغ انما هو بمقتضى قاعدة الاشتغال والتكليف الأصلي.

ومن هنا تعرف وجه النظر فيما افاده من الاشكال والجواب في المقام بقوله: «ان قلت» و«قلت» فراجع كلامه.

«رابعها» ان المعتبر في قاعدة التجاوز هو التجاوز عن «محل المشكوك» والمعتبر في قاعدة الفراغ هو التجاوز عن «نفس العمل»، فكيف يمكن ارادة التجاوز عن محل الشي‌ء وعن نفسه معا من لفظ واحد؟

و الجواب عن هذا الاشكال يظهر مما ذكرناه وأوضحناه في الوجوه السابقة ولاسيما الوجه الأول، ونزيدك هنا ان الاختلاف بينهما ليس اختلافا في مفادهما وما يراد من لفظ «التجاوز» ومتعلقه وانما هو في المصاديق لا غير.

ففي موارد إحراز نفس العمل مع الشك في صحته من جهة الشك في الإخلال ببعض‌ ما يعتبر فيه، يتحقق المضي عنه بالتجاوز عن نفسه، وفي موارد الشك في نفس الاجزاء يكون المضي عنه بالتجاوز عن محله؛ فالملاك هو صدق التجاوز عن الشي‌ء والمضي عنه وهو مفهوم واحد وان كان ما يتحقق به مختلفة.

هذا ولكن الإنصاف ان صدق التجاوز عن الشي‌ء بالتجاوز عن محله يحتاج الى نوع من المسامحة لأن التجاوز عن الشي‌ء ظاهر في التجاوز عن نفسه لا عن محله ولكن هذا المقدار لا يوجب إشكالا في اندراج القاعدتين تحت عموم واحد، غاية الأمر يكون للتجاوز فردان: فرد حقيقي وهو التجاوز عن نفس العمل، وفرد ادعائي وهو التجاوز عن محله ولا يذهب عليك ان هذا ليس من باب استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ولو قلنا بامتناعه كما لا يخفى، كما ان هذا غير ما افاده المحقق المذكور من إرجاع إحدى القاعدتين إلى الأخرى.

هذا كله بحسب مقام الثبوت فتحصل منه انه لا مانع من اتحاد القاعدتين وإنشائهما بلفظ واحد، كما انه لا مانع من إنشائهما بانشائين مختلفين، لو كان هناك داع اليه، وقد عرفت ان جميع ما ذكروه من الموانع والإشكالات وجوه فاسدة لا يمكن الركون إليها، وانه لا يلزم اىّ محذور عقلي من هذه الناحية.

واما [المقام الثاني] بحسب مقام الإثبات :

وظهور أدلة المسئلة، فالمستفاد من بناء العقلاء الذي قد عرفت ثبوته في المسئلة وقد أشير إليه في روايات الباب الواردة من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أيضا بقولهم: «هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك» وقولهم «كان حين انصرف أقرب الى الحق منه بعد ذلك» هو اتحادهما وعدم الفرق بينهما لاتحاد الملاك في الموردين وان اختلفت مصاديقهما من بعض الجهات.

فما دام الإنسان مشتغلا بعمل يكون خبيرا بحاله، مقبلا إلى شأنه، عالما بكيفياته (و لو‌ بالعلم الإجمالي الارتكازي الذي عرفته آنفا) فيكون اذكر وأبصر منه حين يشك (عند مضيه وانصرام اجله وانمحاء تفاصيله عن ذهنه).

بلا تفاوت في ذلك بين الكل والجزء وبين الفراغ عن نفس الشي‌ء أو التجاوز عن محله.

اما الأدلة النقلية التي هي العمدة في المسئلة فالإنصاف انه لا يستفاد منها- على اختلاف ألسنتها وتعابيرها شيئان مختلفان، بل الناظر فيها، إذا كان خالي النظر، غير مشوب الذهن بما دار بين الاعلام من النقض والإبرام في اتحاد القاعدتين واختلافهما، لا يتبادر الى ذهنه إلا قاعدة واحدة عامة تجري في اجزاء العمل وكلها بعد مضيها وانصرامها.

و لا ينافي ذلك كونها مقيدة ببعض القيود في بعض مصاديقها؛ كاعتبار الدخول في الغير بالنسبة إلى جريانها في الاجزاء (لو قلنا به) كما سيأتي ان شاء اللّه.

ويؤيد هذا المعنى تقارب التعبيرات؛ لو لم نقل باتحادها، في اخبار الباب الواردة في موارد الفراغ عن نفس العمل، والتجاوز عن الاجزاء؛ من التعبير بالمضي (كما في روايتي إسماعيل ومحمد بن مسلم) وان الشك ليس بشي‌ء (كما في روايتي زرارة وابن ابى يعفور).

حتى ان التعبير ب‍ «التجاوز» أو «الدخول في الغير» لا يختص بموارد قاعدة التجاوز (على ما اختاره القائلون بالتعدد) بل ورد ذلك بعينه في الأحاديث الواردة في مورد قاعدة الفراغ أيضا فرواية ابن ابى يعفور المروية عن الصادق عليه السّلام «إذا شككت في شي‌ء من الوضوء وقد دخلت في غبرة فليس شكك بشي‌ء إنما الشك إذا كنت في شي‌ء لم تجزه» بناء على رجوع الضمير في قوله «قد دخلت في غيره» الى الوضوء، واردة في باب قاعدة الفراغ مع ذكر اعتبار الدخول في الغير فيها وما وقع فيها من التعبير بالتجاوز.

وفي غير هذه الرواية أيضا شواهد على المقصود فراجع وتدبر.

فتحصل من ذلك كله ان الحق هو اتحاد القاعدتين وفاقا لما يظهر من شيخنا العلامة‌ الأنصاري وغيره (رضوان اللّه عليهم).

بقي هنا شي‌ء :

وهو انه ما ثمرة هذا النزاع واى فرق بحسب النتيجة بين القول باتحاد القاعدتين وتعددهما؟

وسيظهر لك ذلك في البحوث الآتية لا سيما البحث عن اعتبار الدخول في الغير، وجريان قاعدة التجاوز في الأعمال المستقلة، ونحوهما.

القواعد الفقهية (لمكارم)، ج‌1، ص: 235‌

3- في انها من الامارات أو من الأصول العملية؟

قد وقع الخلاف في ان قاعدة التجاوز والفراغ- سواء قلنا باتحادهما كما هو التحقيق أو تعددهما كما عليه شرذمة من المتأخرين والمعاصرين- هل هي من الأصول العملية أو مندرجة في سلك الامارات؟

وأنت إذا أحطت خبرا بما أسلفناه في بيان مدرك القاعدة لا تشك في اندراجها في سلك الأمارات الظنية، لما عرفت من ان الحق ثبوتها عند العقلاء وأهل العرف قبل ثبوتها في الشرع، وان ملاكها عندهم هو غلبة الذكر على الفاعل حين العمل (بما عرفت توضيحه).

فهي مبتنية عندهم على «أصالة عدم الغفلة حين العمل» منضمة الى عدم احتمال ارتكاب الفاعل العالم بالاجزاء وشرائط العمل ما هو خلاف مراده ومرامه.

وقد عرفت أيضا ان الشارع المقدس أمضاها بهذا الملاك عينا، والشاهد له روايتا «بكير بن أعين» و«محمد بن مسلم» «11» ففي الأولى علل الحكم بقوله: هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك، وفي الثانية بقوله، وكان حين انصرف أقرب الى الحق منه بعد ذلك، (و الانصراف في الصلاة آخر أزمنة الاشتغال بالفعل).

فمع ذلك لا يبقى مجال للتشكيك في حجية القاعدة على نحو سائر الأمارات المعتبرة عقلا وشرعا.

هذا ومن أوضح القرائن عليه انه ورد في غير مورد من الروايات الخاصة إشارات لطيفة الى هذا المعنى لا يبقى معها شك في المسئلة، وإليك بيانها:

ففي رواية عبد الرحمن عن ابى عبد اللّه عليه السّلام الواردة فيمن أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع؟ قال: قد ركع «12» وفي رواية أخرى عن فضيل بن يسار عن ابى عبد اللّه عليه السّلام أيضا بعد سؤاله بقوله: استتم قائما فلا ادرى أ ركعت أم لا؟ قال عليه السّلام: بلى قد ركعت «13».

وفي رواية ثالثة عن حماد بن عثمان عن ابى عبد اللّه عليه السّلام أيضا بعد سؤاله بقوله: أشك وانا ساجد فلا ادرى أ ركعت أم لا؟ فقال: قد ركعت امضه «14» هذا ما ظفرنا به من الروايات الخاصة المشتملة على التصريح بوقوع الفعل المشكوك ووجوده بقوله: «قد ركع» أو: «بلى قد ركعت» أو: «قد ركعت امضه» وقد نقلناها سابقا تحت الرقم 3 و4 و5 من الروايات الخاصة الدالة على القاعدة .

وهي شاهدة على كشف القاعدة عن الواقع وان اعتبارها انما هو من جهة كشفها عن ذلك، لا انها مجرد حكم لرفع الحيرة والشك عند العمل من دون ان تكون ناظرة إلى الواقع وإحرازه، كما هو شأن الأصول العملية.

نسبتها مع سائر الأصول- ومن هنا لا يبقى مجال للشك في تقديمها على الاستصحاب وسائر الأصول العملية الواردة في مواردها، لتقدم الامارات عليها جميعا.

واما لو قلنا بأنها مندرجة في سلك الأصول العملية أشكل تقديمها على غيرها كالاستصحاب وشبهه.

نعم ذكر شيخنا العلامة الأنصاري في صدر كلامه في المسئلة ان هذه القاعدة مقدمة على خصوص الاستصحاب (و شبهه) وان كانت من الأصول العملية، لورودها في مورده ولكونها أخص منه مطلقا؛ فإنه ما من مورد يجرى فيه القاعدة الا وهناك استصحاب يقتضي الفساد (انتهى ملخص كلامه).

وهذا الكلام وان ارتضاه غير واحد ممن تأخر عنه وركنوا إليه في وجه تقديم القاعدة‌ على الاستصحاب (على القول بأنها منسلكة في سلك الأصول العملية) الا انه لا يخلو عن نقد واشكال.

وذلك لان موارد جريان القاعدة لا تنحصر بموارد يجرى فيها استصحاب الفساد بل هي على أنحاء ثلثة:

قسم يجرى فيه استصحاب الفساد، وقسم يجرى فيه استصحاب الصحة، وقسم لا يجرى فيها استصحاب أصلا، لا ذا ولا ذاك.

اما الأول فامثلته كثيرة، واما الثاني فهو كالشك في صحة الصلاة بعد الفراغ عنها من جهة الشك في الطهارة أو الستر أو غيرهما من الشرائط مع القطع بسبق وجودها قبل الصلاة وعدم العلم بحصول خلافها.

والثالث كالشك في الصحة من ناحية هذه الشرائط مع عدم العلم بالحالة السابقة من جهة تعاقب حالتين مختلفتين لا يدرى أيتهما كانت مقدمة على الأخرى.

والموارد التي تكون من القسم الثاني والثالث ليست نادرة لا يعتنى بها حتى يكون حمل العمومات أو الإطلاقات عليها من قبيل الحمل على الفرد النادر، وتخصيصها بها من التخصيص المستهجن، بل هي كثيرة جدا ولا سيما القسم الثاني.

اللهم الا ان يقال: انه لا شك في ندرة القسم الثالث كما انه لا شك في لغوية جعل القاعدة لخصوص الموارد التي تكون من القسم الثاني؛ لكفاية الاستصحاب الجاري فيها وفي غيرها، الموافق للقاعدة بحسب النتيجة.

فإذن لا يمكن حصر موارد القاعدة فيها؛ بل لا بد من جريانها في موارد القسم الأول أيضا وهي موارد استصحاب الفساد.

وأحسن من جميع ذلك ان يقال: ان الروايات الخاصة الواردة في بعض مصاديق القاعدة (التي مرت عليك عند بيان مدركها) بل وبعض العمومات الواردة في مورد الشك في الركوع والسجود ومثلهما دليل قاطع على تقديم القاعدة على أصالة الفساد واستصحاب‌ العدم، لوضوح ان هذه الموارد من موارد استصحاب العدم.

فمثل قوله عليه السّلام في رواية إسماعيل بن جابر عن ابى عبد اللّه عليه السّلام ان شك في الركوع بعد ما سجد فليمض وان شك في السجود بعد ما قام فليمض، كل شي‌ء شك فيه وقد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه، وهكذا مصححة زرارة وموثقة ابن ابى يعفور وغير هما دليل واضح على جريانها في موارد أصالة الفساد فتدبر جيدا.

- بقي هنا شي‌ء :

وهو ان القاعدة بامارية القاعدة- كما هو المختار- لا يوجب الحكم بثبوت جميع لوازمها وملازماتها، كما دار في السنة كثير من المتأخرين والمعاصرين في باب الامارات وانه تثبت بها جميع ذلك.

مثلا إذا شك بعد الفراغ عن الظهر في صحتها من جهة الشك في الطهارة، فلا إشكال في الحكم بصحتها وصحة ما يترتب على فعلها من صلاة العصر؛ واما الحكم بتحقق الطهارة حتى لا يجب تحصيلها للصلوات الاتية فلا، بل يجب عليه تحصيلها لصلاة العصر وغيرها؛ فان مورد جريان القاعدة هو نفس صلاة الظهر وهي تدل على صحتها؛ كأنها أمر معلوم بالوجدان من هذه الجهة (أي من حيث اشتمالها على الطهارة المعتبرة فيها) واما تحقق نفس الطهارة مع قطع النظر عن هذه الحيثية فلا (تأمل فإنه لا يخلو عن دقة).

نعم لو اجرى القاعدة في نفس الطهارة بأن شك في صحتها بعد إحراز أصل وجودها، كانت كأنّها حصلت بالوجدان؛ فلا يجب تحصيلها للصلوات الاتية.

والسر في جميع ذلك ما ذكرناه في محله من ان كون شي‌ء أمارة لا يلازم إثبات جميع «ملازماته» وما يقال من إثباتها جميع اللوازم والملازمات ولو بألف واسطة حديث ظاهري خال عن التحقيق، ولو بنى عليه لزم فقه جديد كما لا يخفى على الخبير؛ بل انما يترتب عليها من الاثار الواقعية ولوازمها في موردها بمقدار ما ينصرف إليه إطلاق أدلتها، ويختلف ذلك باختلاف المقامات.

مثلا لا شك في كون البينة من أوضح الامارات وأتمها دليلا وسعة، ولكن هل يمكن الأخذ بجميع لوازمها وملازماتها والقول بحجية مثبتاتها كيف كانت؟ مثلا إذا شهد شاهدان أو أكثر بأن زيدا كان جالسا في مكان فلاني، ثمَّ جاء رجل ورمى الى جانبه سهما لو كان جالسا في مكانه اصابه وقتله، فهل ترى بمجرد شهادة الشهود اجراء حكم القتل (عمدا أو خطئا) في حقه ولو لم يحصل القطع بوقوع القتل من الأمارة المذكورة، استنادا الى ان ذلك من آثارها الشرعية ولو بوسائط؟

أو انه إذا قامت البينة بأن هذا اليوم أول يوم من شوال ويوم فطر وعلمنا ان زيدا يجي‌ء من سفره ذاك اليوم بعينه فهل يمكن ترتيب آثار مجي‌ء زيد بمجرد هذه الشهادة؟

(فتدبر فإنه حقيق به).

4- في اعتبار الدخول في الغير وعدمه :

اختلفوا في اعتبار الدخول في الغير وعدمه في جريان القاعدة على أقوال:

الأول- ما يستفاد من كلمات شيخنا العلامة (قدس سره) في هذا المقام من اعتباره في جميع الموارد ولكن هذا «الغير» لا يجب ان يكون دائما فعلا وجوديا بل يجوز ان يكون حالة عدمية أحيانا، مثلا بالنسبة إلى مجموع الصلاة هو الحالة الحاصلة بعدها ولو لم يدخل في فعل وجودي بعد، وإليك نص عبارته:

«الأقوى اعتبار الدخول في الغير وعدم كفاية مجرد الفراغ، الا انه قد يكون الفراغ عن الشي‌ء ملازما للدخول في غيره، كما لو فرغ عن الصلاة والوضوء، فان حالة عدم الاشتغال بهما بعد مغايرة لحالهما وان لم يشتغل بفعل وجودي، فهو دخول في الغير بالنسبة إليهما».

الثاني- اعتبار الدخول في فعل وجودي بعد العمل :

يظهر ذلك من كلمات المحقق الخراساني (قده) في تعليقاته على «الرسائل» حيث انه بعد ما صرح باعتبار الدخول في الغير في مورد قاعدة التجاوز عند الشك في اجزاء فعل واحد، قال:

واما قاعدة الفراغ فالظاهر منها أيضا اعتبار الدخول في الغير لظهور قوله عليه السّلام في صحيحة زرارة في الوضوء: «و قد صرت الى حال آخر» وصدر موثقة ابن ابى يعفور: «إذا شككت في شي‌ء من الوضوء وقد دخلت في غيره» انتهى.

وكلامه هذا مبنى على إرجاع ضمير «غيره» في الحديث الى الوضوء، الى دخلت في غير الوضوء من الأفعال الوجودية (لا في غير ذاك الجزء) واستدلاله بهاتين الروايتين دليل على عدم اكتفائه في ذلك بمجرد الفراغ عن العمل وعدم كفاية مجرد صدق عنوان‌ «المضي» أو «التجاوز» الواردتين في بعض احاديث الباب، عنده.

الثالث- التفصيل بين موارد جريان قاعدة التجاوز والفراغ والقول باعتبار الدخول في الجزء المستقل المترتب عليه شرعا في جريان قاعدة التجاوز، واما الفراغ فلا يعتبر فيه شي‌ء إلا الدخول فيما يكون مباينا للعمل المشكوك فيه، حتى انه بالنسبة إلى جريان قاعدة التجاوز في الجزء الأخير من الصلاة اعتبر الدخول في التعقيب المترتب عليه شرعا والا لا يجرى فيه قاعدة التجاوز وان جرت فيه قاعدة الفراغ لعدم اعتبار شي‌ء فيه عدا الدخول في حال مباين لها.

ولا يبعد رجوع هذا القول الى ما ذكره الشيخ العلامة الأنصاري (قده) في المعنى وان كانا مختلفين في الصورة فتأمل.

الرابع- التفصيل بين موارد جريان قاعدة الفراغ من الوضوء والصلاة بالتزام كفاية مجرد الفراغ من الوضوء ولو مع الشك في الجزء الأخير منه وعدم كفايته بالنسبة إلى الصلاة، حكاه شيخنا العلامة الأنصاري (قده) عن بعض؛ ولم يسم قائله، ثمَّ رد عليه باتحاد الدليل في البابين وهو كذلك.

الخامس- عكس هذا التفصيل اعنى اعتبار الدخول في الغير في باب الوضوء دون باب الصلاة

؛ قال المحقق الأصفهاني في بعض كلماته في المقام :

ويمكن ان يقال بناء على تعدد القاعدة؛ بالفرق بين الوضوء والصلاة في جريان قاعدة الفراغ فيهما بتقييدها في الأول بالدخول في الغير دون الثاني، وذلك لتقييد الفراغ عن الوضوء بذلك في رواية زرارة حيث قال: «فاذا قمت من الوضوء وفرغت منه فقد صرت في حال اخرى من صلاة أو غيرها الخبر» وكذا في رواية ابن ابى يعفور: «إذا شككت في شي‌ء من الوضوء وقد دخلت في غيره». الى ان قال: ولا استبعاد في اختصاص الوضوء بالدخول في الغير بعد اختصاصه بعدم جريان قاعدة التجاوز عن المحل فيه رأسا (انتهى محل الحاجة من كلامه قدس سره).

هذا ما عثرنا عليه من الأقوال في المسئلة ولعل المتتبع يعثر على أقوال أخر في كلماتهم، ولكن المهم تحقيق الحال بينها.

فنقول: التحقيق ان منشأ الخلاف في المسئلة هو اختلاف السنة الروايات الواردة فيها :

فبعضها مطلقة لم يذكر فيها سوى عنوان المضي والتجاوز عن الشي‌ء؛ كرواية محمد بن مسلم «15» ورواية ابن ابى يعفور «16» وظاهر رواية بكير بن أعين «17» ورواية أخرى لمحمد ابن مسلم «18» المشتملة على تعليل الحكم وكذا ما قبلها، وبعض الروايات الخاصة الواردة في أبواب الوضوء والصلاة كقوله في رواية محمد بن مسلم كلما مضى من صلوتك وطهورك فذكرته تذكرا فامضه «19».

و بعضها الأخر مقيد بالدخول في الغير مثل رواية زرارة «20» وإسماعيل بن جابر «21» وصدر رواية ابن ابى يعفور ورواية أخرى لزرارة نقلناها عن مستطرفات السرائر نقلا عن كتاب حريز «22».

فحينئذ يقع البحث في ان وجه الجمع بين الطائفتين ما ذا .

هل هو بتقييد المطلقات بما قيد بالدخول في الغير، كما هو قضية المطلق والمقيد‌ في غير المقام أو يقال ان القيد هنا من قبيل القيود الغالبية فلا يفيد الاحتراز عن غيره، لان الغالب في أفعال الإنسان- لا سيما مثل الصلاة التي هي مورد الروايات- انه إذا خرج منها دخل في فعل آخر.

أو يقال ان التقييد بالدخول في الغير انما هو في موارد التجاوز عن اجزاء العمل، فكل جزء شك فيه لا يعتنى به إذا دخل في غيره، واما إذا كان الشك بعد الفراغ عن الكل فيكفي فيه مجرد الفراغ عنه.

لان التقييد بذلك انما ورد في موارد التجاوز عن الاجزاء لا بالنسبة إلى الفراغ عن الكل.

ولا يخفى ان الخلاف الواقع في اتحاد القاعدتين وتعددهما لا دخل له بهذا التفصيل، فإنه لا ينافي وحدة القاعدتين أيضا لعدم المانع في تقييد أحد فردي عام واحد بقيد لا يجري في سائر أفراده.

هذا ولكن المحقق النائيني (قده) بنى هذه المسئلة والتفصيل الذي اختار فيه على ما اختاره في أصل القاعدة من انه ليس هناك إلا قاعدة واحدة وهي قاعدة الفراغ الجارية في الأفعال المستقلة، لكن الشارع المقدس نزل خصوص اجزاء الصلاة منزلة الافعال المستقلة بمقتضى حكومة الأدلة الواردة فيها عليها. فبعد هذا التنزيل تجري القاعدة في اجزاء الصلاة فقط.

ولكن حيث ان أدلة التنزيل مقيدة بخصوص موارد الدخول في الغير، ولا مانع من تنزيل شي‌ء مقام شي‌ء مع قيود خاصة ليست في المنزل عليه، كان اللازم اعتبار الدخول في الغير في موارد قاعدة التجاوز دون غيرها.

هذا وقد عرفت سابقا ضعف ما اختاره من المبنى، وانه ليس في اخبار الباب من لسان التنزيل والحكومة عين ولا اثر وان جميع ما ورد في باب قاعدة التجاوز والفراغ تفرغ عن لسان واحد من دون ان يكون أحدهما ناظرا الى الآخر وتنزيل شي‌ء منزلة أخر.

مضافا الى ان لفظ «الشي‌ء» الوارد في اخبار قاعدة الفراغ عام يشمل الأفعال المستقلة‌ واجزاء المركبات الشرعية مثل الركوع والسجود وغيرهما.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان ما يقتضيه الانصاف هو ان الدوران لو كان بين احتمال التقييد، وبين الأخذ بالإطلاق وحمل القيد على القيد الغالبي (مع تسليم كون القيد هنا قيدا غالبيا) لم يكن مجال للترديد في ترجيح جانب الإطلاق فإن المفروض ان أدلة التقييد في نفسها قاصرة عن الدلالة عليه بعد كونها واردة مورد الغالب.

الا ان الكلام بعد في ان حمل القيد على «الغالب» ليس بأولى من حمل إطلاق المطلق عليه وانصرافه الى الغالب.

فاذن يكون المطلقات أيضا قاصرة في نفسها عن الدلالة على شمول الحكم وعمومه، ونتيجة ذلك وجوب الأخذ بها في القدر المتيقن منها اعنى خصوص الموارد التي يكون القيد موجودا- وهو موارد الدخول في الغير- لا غير. غاية ما في الباب ان هذا ليس من جهة قيام الدليل على التقييد بل من ناحية قصور المطلقات عن إثبات أزيد منه.

هذا ولكن الذي يسهل الخطب ويرفع الغائلة هو انه وان لم نعتبر الدخول في الغير في موارد قاعدة التجاوز، الا إنه لازم لتحقق عنوان «المضي والتجاوز» فنفس هذا العنوان لا يتحقق الا بالدخول في الغير، مثلا إذا شككنا في تحقق جزء من اجزاء الصلاة ووجوده فإنما يتحقق التجاوز عن محله إذا دخلنا في جزء آخر منها أو مقدمة له، وبدونه فالمحل باق لم يتجاوز عنه.

وهذا بخلاف موارد الفراغ عن الكل فان عنوان «المضي أو غيره من أشباهه» تتحقق بوجود آخر جزء منه مثل التسليم في الصلاة، وان لم يدخل في غيرها.

فيكون التقييد بالدخول في الغير في خصوص «الاجزاء» من باب عدم تحقق عنوان التجاوز والمضي بدونه، فهذا القيد لا يكون في الواقع قيدا بل يكون من باب تحقق الموضوع (و لكن ليعلم ان هذا انما هو في مورد الشك في أصل وجود الجزء لا ما إذا شك في صحته بعد العلم بتحققه ووجوده).

فتحصل من جميع ما ذكرنا ان الأقوى عدم اعتبار الدخول في الغير في موارد القاعدتين- سواء قلنا باتحادهما أو تعددهما- الا ما يتحقق به موضوع المضي والتجاوز، نعم يستثنى من ذلك بعض مواردها لورود دليل خاص فيه كما سيأتي ان شاء اللّه؛ وبهذا البيان تنحل عقدة الاشكال وترتفع الغائلة.

و يؤيد ما ذكرنا ظهور التعليل الوارد في روايتي «بكير بن أعين» و«محمد بن مسلم» بقوله عليه السّلام: «هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك» وقوله عليه السّلام: «و كان حين انصرف أقرب الى الحق منه بعد ذلك» لرفضه كل قيد سوى عنوان «البعدية» ومن الواضح ان ظهور التعليل مقدم على غيره عند التعارض مع ما عرفت فيها من ضعف الدلالة.

و كذلك بناء العقلاء على العمل بالقاعدة أيضا ينفى اعتبار هذا القيد، لأنه يدور مدار مضى العمل والفراغ عنه ولا دخل للدخول في الغير فيه كما هو ظاهر.

نعم يبقى في المقام شي‌ء وهو انه ما المراد من الغير بناء على القول باعتباره وهل هو كل فعل مغاير للمشكوك فيه أو يعتبر فيه قيود خاصة وسنبحث عنه في الأمر الاتى ان شاء اللّه.

5- المراد من «الغير» ما ذا ؟

قد وقع الكلام بين الاعلام أيضا في ان الذي يعتبر في تحقق التجاوز عن محل الشي‌ء هل هو الدخول في مطلق الغير (بناء على اعتبار الدخول في الغير) ولو كان مقدمة للجزء الآتي، كالهوي للسجود والنهوض للقيام، أو لا يكفي إلا الدخول في الاجزاء الأصلية.؟

والمشهور عدم الاكتفاء بمطلق الغير وظاهر الروايات أيضا ذلك، لظهور قوله عليه السّلام:

«ان شك في الركوع بعد ما سجد فليمض وان شك في السجود بعد ما قام فليمض» في مقام التوطئة لذكر الكبرى الكلية بقوله: «كل شي‌ء شك فيه وقد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه» في ان الغير لا بد وان يكون من الاجزاء الأصلية وان لا غير أقرب الى «الركوع» من «السجود» والى «السجود» من «القيام».

اللهم الا ان يقال ان ذكر المثالين ليس من جهة اعتبار الدخول في الاجزاء الأصلية المستقبلة، بل من باب انهما مما يكثر الابتلاء بهما؛ وان الشك في حال الهوى أو النهوض نادر، فإنه يحصل عادة بعد ما استقر في الغير وقبله لا تغيب صورة الفعل غالبا عن الذهن.

ويؤيد ما عليه المشهور رواية عبد الرحمن «قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام رجل رفع رأسه من السجود فشك قبل ان يستوي جالسا فلم بدر أ سجد أم لم يسجد؟ قال: يسجد؛ قلت: الرجل نهض من سجوده فشك قبل ان يستوي قائما فلم يدر أسجد أم لم يسجد قال سجد» «23» فان المدار فيها الأجزاء الأصلية لا مقدماتها.

ولكن تعارضها رواية أخرى له عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال قلت له عليه السّلام: رجل أهوى إلى السجود فلم يدر اركع أم لم يركع قال قد ركع» «24» فان ظاهر قوله: أهوى إلى السجود عدم بلوغه حده.

ورواية فضيل بن يسار قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: استتم قائما فلا ادرى ركعت أم لا؟ قال: بلى قد ركعت فامض في صلوتك فان ذلك من الشيطان «25».

هذا ولكن الرواية الأخيرة لا تخلو عن شواب إبهام فإن المراد من الاستتمام قائما يمكن ان يكون استتمامه بعد السجود الثاني؛ فلو شك في ركوع الركعة السابقة لا يعتنى به، كما احتمله شيخ الطائفة (قدس اللّه سره الشريف).

واما احتمال ارادة الاستتمام قائما في نفس تلك الركعة فبعيد جدا لعدم تصوير وجه صحيح له؛ وما ذكره المحقق الأصفهاني (قدس سره) في نهاية الدراية في توجيهه من:

ان المراد انحنائه للركوع ثمَّ استتمامه القيام مع الشك في انه ركع أم لا فهو أمر نادر بعيد الوقوع كما لا يخفى.

هذا مضافا الى ان القيام بعد الركوع بنفسه من الواجبات فهو من قبيل الدخول في جزء آخر من الأفعال الأصلية لا من باب الدخول في مقدمة الاجزاء.

ويحتمل ورودها في كثير الشك لقوله عليه السّلام: فإنما ذلك من الشيطان- كما احتمله صاحب الوسائل بعد ذكر احتمال الشيخ.

واما الرواية الأولى فظهورها وان كان في الهوى الذي من المقدمات الا ان حملها على آخر مراتب الهوى الذي يصل الى حد السجود بقرينة غيرها من الروايات التي ذكرناها آنفا- لا سيما مع ذهاب المشهور الى عدم الاعتناء بمقدمات الافعال، ليس ببعيد فتأمل.

فتحصل من جميع ذلك ان الذي يقتضيه الجمع بين روايات الباب هو عدم الاعتناء بالدخول في مقدمات الافعال عند اجزاء القاعدة وانه يجب الدخول في فعل آخر أصلي.

وهذا لا ينافي ما ذكرنا آنفا من ظهور روايات القاعدة في كفاية مطلق الفراغ، وكذا التجاوز الحاصل بالدخول في فعل غيره أيا ما كان، لأنه لا مانع من ان يكون هذا حكما تعبديا في خصوص مورده فقد أسقط الشارع هنا حكم مقدمات الافعال ولم يعتن بها؛ ولا ينافي ذلك بقاء الإطلاق على حاله بالنسبة إلى سائر موارد القاعدة ، ولعل الحكمة في حكم الشارع بذلك ان صورة الجزء السابق لا تنمحي عن الذهن غالبا قبل الانتقال الى جزء آخر‌ مباين له؛ فحالة الذكر الحاصلة حين الفعل باقية قبل الانتقال الى الجزء الثاني فتأمل وان أبيت عن قبول هذه الحكمة فالحكم تعبد محض في مورده.

واما التفصيل بين الوضوء والصلاة بعدم اعتبار الدخول في الغير في الأول دون الثاني أو بالعكس؛ فهو ضعيف جدا يدفعه اتحاد الدليل في البابين، كما ذكره شيخنا العلامة الأنصاري (قده).

واما قوله في رواية زرارة: «فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أخرى، في الصلاة أو غيرها؛ فشككت في بعض ما سمى اللّه مما أوجب اللّه عليك فيه وضوئه لا شي‌ء عليك فيه» «26» فالظاهر انه ليس قيدا شرعيا ولعل الوجه فيه هو جريان العادة بأن صورة الفعل لا تذهب عن الذهن عادة قبل صيرورته الى حال آخر، واشتغاله بفعل مباين له.

ولذا جعله مقابلا لما ذكر في صدر الرواية بقوله: إذا كنت قاعدا على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا؟ فأعد عليهما؛ الى ان قال: ما دمت في حال الوضوء.

فلو كان القيد قيدا شرعيا كان هناك صورة ثالثة لم يذكرها الامام عليه السّلام مع ان ظاهرها كون الامام عليه السّلام بصدد بيان جميع صور المسئلة بما ذكره من الشقين.

ومنه يظهر الجواب عن الاستدلال بالحديث الثاني أعني صدر رواية ابن ابى يعفور «إذا شككت في شي‌ء من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكك ليس بشي‌ء، إنما الشك إذا كنت في شي‌ء لم تجزه».

فإنه لا مناص من حمل القيد على ما ذكرنا أو شبهه، كما يشهد به ذيل الرواية أيضا فإنه خال عن هذا القيد مع انه من قبيل الكبرى له.

هذا مضافا الى احتمال رجوع الضمير في قوله «دخلت في غيره» الى غير هذا الجزء فيكون حال اجزاء الوضوء حال اجزاء الصلاة؛ وهذا الحكم وان كان مخالفا للمشهور بل مخالفا لغيرها من الروايات كما سيأتي، الا ان هذا الاحتمال في نفسه أقرب الى ظاهر الرواية، وكونها غير معمول بها على هذا التقدير لا يوجب حملها على غيره، ما لم يقم قرينة لفظية أو حالية عليه فتدبر.

6- المحل الذي يعتبر التجاوز عنه شرعي أو عقلي أو عادى؟

قد عرفت ان ظاهر إطلاقات أخبار الباب عدم الاعتناء بالشك في الشي‌ء بعد مضيه، أو التجاوز عنه، أو الخروج منه، وان هذه العناوين (المضي والتجاوز والخروج) انما تصدق حقيقة في موارد يعلم بوجود أصل الشي‌ء مع الشك في تحقق بعض ما يعتبر فيه من الاجزاء والشرائط؛ فهي غير صادقة في الموارد التي يشك في أصل وجود الشي‌ء حقيقة فلا تشمل مورد قاعدة التجاوز الذي يكون الشك فيه في أصل وجود الركوع أو السجود أو غيرهما مثلا.

الا ان تطبيق هذه الكبرى في غير واحد من الاخبار على هذه الموارد، يدل على ان المراد من التجاوز عن الشي‌ء أعم من التجاوز عنه حقيقة وبالعناية (بالتجاوز عن محله) وهذا إطلاق شائع ذائع.

يقع الكلام في ان المراد ب‍ « محل الشي‌ء » ما ذا؟ فإنه يتصور على أنحاء:

1- المحل الشرعي :

- وهو المحل المقرر للشي‌ء شرعا، ولا يخفى ان المراد منه هو المحل الذي يعتبر إتيانه فيه أولا وبالذات وبحسب حال الذكر والاختيار، فمحل السجود قبل الدخول في القيام بحسب جعله الاولى الشرعي وان كان يجوز الرجوع اليه وإتيانه بعد الدخول في القيام إذا تذكر قبل الركوع.

فما يقال من ان محل السجود باق قبل الدخول في ركوع الركعة الآتية فاسد لأنه محل له في حال السهو والنسيان ولذا لا يجوز تأخيره كذلك عمدا.

2- المحل العقلي :

- وهو المحل المقرر له بحكم العقل وبحسب الطبع وقد مثل له شيخنا العلامة الاسرى بمحل «الراء» من تكبيرة الإحرام فإنه لا بدان يؤتى بها بلا فصل والا لزم الابتداء بالساكن المحال عقلا، ولا يخفى ان هذا القسم (مع غمض النظر عن المثال الذي ذكره (قده) فان الابتداء بالساكن ليس محالا عقلا بل هو كالتقاء الساكن بل ثلاث ساكنات‌ أمر ممكن في لغتنا وان لم يقع فيها، حينما وقع في غيرها من لغات الأجانب) راجع الى المحل الشرعي بالمآل؛ فإن الأمر انما يتعلق بالإفراد الممكنة لا غير، (فتأمل).

3- المحل العرفي :

- وهو المحل الذي قرر له بحكم الطريقة المألوفة، كمحل اجزاء الجملة وآيات السورة، فإنه لا بدان يؤتى بها قبل فصل طويل يوجب انمحاء صورتها (كما مثل له).

ولكن غير خفي ان هذا أيضا راجع الى المحل الشرعي، فإن المعتبر شرعا في القراءة إتيانها على الطريقة المألوفة، فلو اتى بها على غيرها كانت فاسدة غير مأمور بها شرعا، لعدم صدق اسم الكلام أو السورة أو القراءة عليها عرفا.

4- المحل العادي :

- وهو المحل المقرر له بحسب العادة.

والعادة اما «عادة نوعية» أو «شخصية» والاولى مثل الإتيان بإجزاء الغسل متوالية، فإن التوالي وان لم يكن معتبرا فيها شرعا ويجوز الفصل بينها بساعة أو يوم أو أيام؛ الا انه جرت عادة الناس بإتيانها متوالية غالبا، والثاني كمن اعتاد إتيان الصلاة في أول وقتها؛ فإن أول الوقت بالنسبة إليه محل عادى.

لا اشكال ولا كلام في الأقسام الثلاثة الأولى، لما عرفت من رجوعها الى المحل الشرعي؛ وانما الكلام في القسم الأخير بكلا شقيه، فقد نفاه كثير من اعلام المتأخرين كشيخنا العلامة الأنصاري والمحقق الخراساني والمحقق الأصفهاني وغيرهم (قدس اللّه أسرارهم).

الا انه قد يحكى عن غير واحد من الأعاظم ممن تقدم؛ كفخر المحققين وغيره، الميل الى اجزاء قاعدة الفراغ والتجاوز هنا، حتى انهم مثلوا له بمعتاد الموالاة في غسل الجنابة إذا شك في الجزء الأخير منه بل يحكى عن الفخر الاستدلال له بخبر «زرارة»، وبان خرق العادة على خلاف الأصل (انتهى).

والذي ينبغي ان يقال: انه كما عرفت ليس في اخبار الباب من لفظ «المحل»‌ عين ولا اثر، حتى يتكلم في المراد منه؛ وانما المذكور فيها عنوان «الخروج» و«المضي» و«التجاوز» بمعناها الأعم من الحقيقي والمجازي كما عرفت، وفي صدق هذه العناوين على التجاوز عن المحل المعتاد إشكال.

لأن القدر المعلوم منها المستكشف من الأمثلة المذكورة في الروايات هو المحل الشرعي، أو ما يرجع اليه، ولا إطلاق يعتمد عليه بالنسبة إلى غيره كما لا يخفى.

هذا ولكن المكلف إذا كان من قصده الإتيان بإجزاء الغسل (مثلا) متوالية كان داخلا تحت ملاك التعليل الوارد في الروايات بقوله: «هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك» وقوله في رواية محمد بن مسلم «كان حين انصرف أقرب الى الحق منه بعد ذلك» لما قد عرفت من انه كالصغرى لكبرى محذوفة وهي ان الذاكر لا يأتي بما يخالف مقصده ومرامه.

ومن الواضح ان المحل الشرعي أو العقلي أو العرفي بما هو لا دخل له في هذا المعنى وانما هو مقدمة لقصد الفاعل إليه، فإن الفاعل إذا كان بصدد الإتيان بعمل وكان عالما بأن اجزائه مترتبة شرعا على نحو خاص فلا محالة يقصده بهذا الترتيب، وإذا كان قاصدا له بهذا الترتيب- والعاقل لا يأتي بما هو مخالف لمرامه- كان فعله الخارجي منطبقا على قصده، الا ان يكون غافلا أثناء العمل وهو خلاف أصالة عدم الغفلة المأخوذة من ظهور حال الفاعل.

والحاصل ان المحل الشرعي أو ما يشبهه لا دخل له في هذا التعليل أصلا؛ بل هو مبنى على قصد الفاعل ونيته فقط.

فلو حصل هذا القصد بعلل اخرى غير الترتب الشرعي، كالعادة، كانت العلة جارية فيها.

ومن هنا تعرف ان المحل العادي بما هو لا اثر لها في جريان القاعدة، الا ان تكون العادة كاشفة عن قصد الفاعل، فان الفاعل إذا كان معتادا بعادة نوعية أو شخصية بإتيان عمل كالغسل (مثلا) متوالية كشفت هذه العادة عن انه حين الفعل قصده بهذا النحو، فيجري التعليل في حقه ؛ ولو فرض عدم كشف العادة عنه في مقام، لم يعتد بها أصلا. فتدبر فإنه حقيق به.

هذا ويمكن الاستدلال على اعتبار المحل العادي، بالمعنى الذي ذكرنا، بالسيرة العقلائية التي استدللنا بها لأصل القاعدة، فهل ترى من نفسك إذا كنت بصدد كتابة كتاب أو تركيب معاجين أو محاسبة أمور عديدة، وكنت عالما باجزائها وشرائطها، وبعد ذلك شككت في أنك أتيت بها صحيحة تامة؟ فهل ترجع إليها مرة بعد مرة وان كان محلها العقلي باقية بعد، أو تعتمد على ما كنت بصدده وتعامل مع ما فعلت معاملة الفعل الصحيح.

وهل ترى من نفسك إذا أتيت بغسل الجنابة بقصد رفع الجنابة ثمَّ مضى أيام أو شهور، ثمَّ شككت في الإتيان بالجزء الأخير منه، تعود إليه مرة بعد مرة لان اجزاء غسل الجنابة في نفسها ليس لها محل شرعي يفوت بالفصل الطويل؟

فالإنصاف أن الاعتماد على المحل العادي في اجزاء القاعدة بالمعنى الذي ذكرنا قريب جدا. ولعل ما حكى عن الفخر وغيره من أعاظم أصحابنا أيضا ناظر الى هذا المعنى.

هذا ولكن الذي منع غير واحد من كبراء الأصحاب عن اختيار هذا القول وجعلهم في وحشة منه، ان فتح هذا الباب يوجب فقها جديدا، فان لازمه انه إذا كان من عادة الإنسان الإتيان بالصلاة أول وقته، أو الوضوء بعد الحدث فورا، الحكم بعدم وجوب الإتيان بها عليه لو شك آخر وقتها وكذا عدم وجوب تحصيل الطهارة لو شك بعد حدثه بفصل طويل.

ولكنه توهم باطل فان ما ذكرنا من البيان يختص بما إذا أحرز اقدام الفاعل على العمل قاصد الإتيان تمام اجزائه وشرائطه ثمَّ بعد ذلك شك في تماميتها ، فان هذا الفعل محكوم بالصحة والتمامية ، ولو كان المحل الشرعي لتدارك بعض اجزائه باقيا، فإن العادة كافية هنا، واما إذا شك في أصل وجوده ولم يحرز اقدام المكلف على العمل قاصدا له كذلك فلا.

ولعل ما حكى عن الفخر وغير واحد من أعاظم الأصحاب أيضا ناظرة الى هذا المعنى فإنهم مثلوا بغسل الجنابة لمعتاد الموالاة إذا شك في الجزء الأخير منه ومن الواضح ان هذا لا يوجب فقها جديدا ولا ما يستوحش منه من الفتاوى (فافهم).

7- عموم القاعدة لجميع أبواب الفقه :

لا يخفى ان مورد جريان قاعدة التجاوز، بالنسبة الى الاجزاء عند الشك في أصل وجودها، وقاعدة الفراغ بالنسبة إلى مجموع العمل عند الشك في بعض ما يعتبر فيها، وان كان في غير واحد من اخبار الباب هو «الصلاة» و«الطهور» الا ان إطلاقات الاخبار لا تختص بهما، بل يشملهما وغيرهما من سائر العبادات، بل المعاملات من العقود والإيقاعات، وغيرها، وقد عرفت انها تشير الى كبرى واحدة تحتوي على القاعدتين معا.

فلو شك في صحة عقد أو إيقاع بعد الفراغ عنه ومضيه لم يعتد بالشك ويمضى عليه كما هو، وكذا لو شك في صحة غسل ميت وكفنه ودفنه فان العمومات والإطلاقات تقتضي صحتها بعد مضيها، ولا وجه لتخصيصها بباب الصلاة والطهارة، أو أبواب العبادات، والقول بأنها القدر المتيقن في مقام التخاطب فلا تشمل العمومات غيرها، كما ترى، لما تحقق في محله من ان مجرد وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب لا يضر بإطلاق الدليل، والا أشكل الأمر في جميع الإطلاقات الواردة في الاخبار، التي وقع السؤال فيها عن موارد خاصة، ولا يظن بأحد الالتزام به في أبواب الفقه، هذا مضافا الى ان بعض الاخبار العامة غير وارد في مورد خاص ودعوى القدر المتيقن فيه أيضا باطل جدا.

ولكن في إجراء قاعدة التجاوز بالنسبة إلى الكلمات واجزاء عقد البيع ونحوه اشكال يظهر وجهه بما سيأتي في الفصل الاتى ان شاء اللّه وقد عرفت سابقا ان الفقيه المتتبع الماهر صاحب الجواهر تمسك بهذه القاعدة في مسئلة الشك في عدد أشواط الطواف، بعد الفراغ منه، مضافا الى ما ورد فيها من الروايات الخاصة، ولعل المتتبع في كلماتهم يقف على غيره مما يتمسك فيها بهذه القاعدة.

وصرح في الجواهر أيضا في باب الشك في أفعال الوضوء: «ان هذه القاعدة محكمة في الصلاة وغيرها من الحج والعمرة وغيرهما» «27» .

8- عمومها للاجزاء غير المستقلة :

هذا كله بالنسبة الى عدم اختصاصها بأبواب الطهارة والصلاة، وشمولها لجميع أبواب الفقه، واما بالنسبة الى الاجزاء غير المستقلة (أي اجزاء كل جزء) مثل آيات الحمد وكلمات جملة واحدة، فقد استشكل بعضهم كالمحقق النائيني (قده) في جريان قاعدة التجاوز فيها حينما صرح آخرون في تعليقاتهم «على العروة الوثقى» بجريانها فيها وغاية ما يمكن ان يقال في وجه المنع أمران:

أحدهما أن إطلاقات الأدلة بطبعها الاولى لا دلالة لها الا على قاعدة الفراغ بالنسبة إلى مجموع العمل، ولكن الأخبار الخاصة وبعض الاخبار العامة المصدرة بالشك في اجزاء الصلاة، من الركوع والسجود، كدليل حاكم عليها توجب سعة دائرتها، ومن المعلوم ان القدر الثابت من الدليل الحاكم هنا هو الاجزاء المستقلة واما بالنسبة الى اجزاء الجزء فلا.

وأنت خبير بان هذا يبتني على ما اختاره المحقق المذكور (قدس سره) في أصل بناء القاعدتين، وقد أشرنا إلى فساده غير مرة، وانه بناء على تعددهما كل واحد مستقل بالجعل، وبناء على اتحادهما كلاهما متساوي الإقدام بالنسبة إلى إطلاقات أدلتهما.

ثانيهما- ان قاعدة التجاوز تقتضي عدم الاعتداد بالشك في الجزء بعد ما جاوز «محله الشرعي»، ومن المعلوم ان الاجزاء غير المستقلة مثل «اللّه» و«أكبر» في تكبيرة الإحرام ليس لها محل شرعي تعبدي، وانما يكون هذا الترتيب الخاص من «مقومات التكبير» بحيث لو قال: «أكبر اللّه» كان آتيا بما هو مباين للمأمور به لا آتيا به في غير محله.

وهذا المعنى بالنسبة إلى حروف كلمة واحدة أظهر، فإجراء القاعدة في مثل هذه الاجزاء محل تأمل واشكال.

وفيه: ان محل اجزاء الجزء ليس دائما من قبيل مقوماتها بحيث إذا حولت اجزائه عن محلها صار امرا مغاير إله، أو غلطا رأسا، كما في جزئي تكبيرة الإحرام، ففي مثل ذلك ربما نقول بعدم جريان قاعدة التجاوز فيه مطلقا، ولكن قد يكون من قبيل آيات السورة الواحدة، وتغييرها عن محلها يكون من قبيل تغير الأجزاء الأصلية للصلاة عن محالها كما لا يخفى، فكل من هذه الايات مأمور بها، ولها محل شرعي بحسب نزول الايات أوامر النّبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بقراءتها كذلك، على تفصيل في محله، فاذا شك في قراءة الآية السابقة يصدق أنها «شي‌ء» شك فيه وقد جاوز عنه ودخل في غيره فعموم لفظ «الشي‌ء» كعنوان «التجاوز» و«الدخول في الغير» (لو قلنا باعتباره) شامل لها، بل يمكن القول بشمولها لجزئى التكبير لما قد عرفت سابقا من ان عنوان «المحل» فضلا عن «المحل الشرعي» غير موجود في روايات الباب حتى يتكلم فيه، بل المذكور فيها عنوان الشي‌ء والتجاوز وأمثالهما، وهي صادقة بالنسبة إلى كلمة «اللّه» بعد الدخول في «أكبر» نعم في خصوص هذا المورد اشكال ناش من ان جريان القاعدة انما يكون بعد إحراز عنوان الصلاة، ومع هذا الشك لم يحرز دخوله في الصلاة بعد فتأمل وان سلمنا ورود الاشكال هنا فجريان القاعدة في غيرها سليمة عنه، نعم في إجراء القاعدة في اجزاء كلمه واحدة بل الكلمات المتقاربة كجزئى تكبيرة الإحرام وما شابهها اشكال آخر، وهو قوة انصراف الإطلاقات عنها، لا سيما بعد ملاحظة التعليلات الواردة فيها، فإن صورة العمل لا يكاد يخفى عن الذهن عادة بمجرد ذلك الزمان القليل فلا يصدق في حقه انه في الحرف الأول اذكر منه في الثاني، بل هو بعد كأنه في محل الفعل غير متجاوز عنه، فالأخذ بالإطلاق بالنسبة إليها مشكل جدا.

نعم لو كان الشك في آيات السورة، أو فصول الأذان والإقامة، لا سيما في الايات والفصول المتباعدة لم يبعد الأخذ بها.

بقي هنا شي‌ء: وهو انه هل تجري قاعدة «التجاوز» في الأعمال المستقلة كما تجري في اجزائها ، فيحكم بتحققها بعد التجاوز عن محلها، أو الدخول في عمل مستقل بعدها، أولا؟ مثلا: إذا دخل في صلاة العصر فشك في انه صلى الظهر أم لا؟ فهل يحكم بتحقق صلاة الظهر بمقتضى القاعدة لا من ناحية شرطية ترتب العصر عليها (فان ذلك أمر راجع الى باب الاجزاء والشرائط) بل من ناحية نفس صلاة الظهر، بحيث لا يجب الإتيان بها ولو بعد صلاة العصر، أو يجب الإتيان بها؟

قد يقال: ان القاعدة كما تجري في مثل «الأذان والإقامة» بعد الدخول في الصلاة لورود النص فيها كما مر، كذلك تجري في مثل صلاة الظهر في المثال المذكور وشبهها، نعم بناء على تعدد القاعدتين وتوهم اختصاص دليل قاعدة التجاوز بخصوص اجزاء الصلاة وما هو كالشرط ولو لكمالها كالأذان والإقامة، لم تجر في غير الاجزاء وشبهها هذا ولكن التحقيق عدم جريان القاعدة في مفروض المسئلة، ولو قلنا باتحاد القاعدتين ودخولهما تحت عنوان واحد شامل لجميع الأبواب (كما هو المختار) وذلك لان صلاة الظهر لها اعتباران:

اعتبار من ناحية نفسها واعتبار من ناحية ترتب العصر عليها، وموضوع «التجاوز» في مفروض المسئلة انما يصدق بالاعتبار الثاني، فإن محل صلاة الظهر، من ناحية اشتراط ترتب العصر عليها، يمضى بالدخول في العصر، ولكن محلها بالاعتبار الأول وفي نفسها باقية الى آخر وقتها الممتد الى الغروب، ولذا لو نسيها وتذكر بعد صلاة العصر وجب الإتيان بها، وان شئت قلت الترتيب شرط لصحة صلاة العصر لا لصحة الظهر، فاذا لم يصدق عنوان التجاوز عليها بهذا الاعتبار كيف تجري القاعدة فيها؟.

نعم بعد مضى وقتها ودخول وقت آخر يحكم بتحققها بمقتضى عموم هذه القاعدة، ولو لم يكن هناك دليل آخر يدل على عدم الاعتناء بالشك بعد الوقت.

ثمَّ لا يخفى عليك انه لا فرق في ذلك بين القول بكون القاعدة امارة وبين كونها أصلا، لما عرفت سابقا من ان الامارة انما تثبت آثار الواقع في خصوص موردها لا بالنسبة إلى غيره (فراجع ما ذكر هناك).

9- جريان القاعدة عند الشك في صحة الاجزاء :

لا إشكال في جريان القاعدة عند الشك في صحة المركب، كالصلاة والوضوء، إذا شك فيه من جهة الإخلال ببعض ما يعتبر فيها من الاجزاء والشرائط.

وهل تجري في موارد الشك في صحة «الجزء» كما إذا شك في صحة القراءة أو الركوع من جهة الإخلال ببعض ما يعتبر فيها من الشرائط، فيحكم بصحتها بمقتضى القاعدة، أو تختص بالشك في أصل وجود الاجزاء، كما هو مورد احاديث الباب، ولا تجرى عند الشك في صحتها؟

الحق انه لو قلنا باتحاد القاعدتين كما هو المختار فلا إشكال في كون الحكم عاما للكل واجزائه، وذلك لما عرفت من انه بناء على هذا يكون قوله «كل ما شككت فيه مما قد مضى» وشبهه من اخبار الباب عاما شاملا للشك في الشي‌ء بعد الفراغ والتجاوز عنه، من غير فرق بين الكل والجزء، ولا بين التجاوز عن نفسه (بان يكون أصل وجوده محرزا) وبين المضي عن محله (بان يشك في أصل وجوده) غاية الأمر ان صدق التجاوز والمضي في الأول حقيقي وفي الثاني بنوع من العناية والادعاء.

اما إذا قلنا بتغاير القاعدتين، واختصاص قاعدة التجاوز بالاجزاء، كاختصاص قاعدة الفراغ بالكل، فقد يشكل الأمر من جهة ظهور أخبار قاعدة التجاوز في الشك في أصل وجود الجزء، ولا في صحته بعد الفراغ عن وجوده، كما قيل باختصاصها باجزاء الصلاة وعدم جريانها في غيرها، ولا دليل على التعميم هنا إلا أمور:

أحدها- ان الشك في صحة الجزء راجع الى الشك في «وجود الشي‌ء الصحيح» على نحو كان التامة، فعموم القاعدة يشملها وفيه : انه خلاف ظاهر الاخبار على هذا المبنى، لأنها ظاهرة في الشك في أصل‌ وجود الشي‌ء من رأس، لا وجود الشي‌ء بصفة الصحة.

ثانيها- ان عمومها وان كان لا يشمله في بدء النظر الا انه شامل له بتنقيح المناط، لعدم خصوصية في هذا الفرد، اعنى الفرد الذي يشك في أصل وجوده.

بل يمكن دعوى الفحوى والأولوية القطعية، لأن الشك في أصل وجود الجزء إذا كان داخلا تحتها كان الشك في صحته بعد إحراز وجوده اولى وأقرب- وهذا الوجه حسن جدا.

ثالثها- ان يستند في هذا التعميم الى ان أصالة الصحة في فعل المسلم أصل برأسه، ومدركها ظهور حال المسلم كما قال فخر الدين في الإيضاح: «ان الأصل في فعل العاقل المكلف الذي يقصد براءة ذمته بفعل صحيح وهو يعلم الكيفية والكمية، الصحة» ذكر هذا الوجه شيخنا العلامة الأنصاري ثمَّ استشهد له بعموم التعليل في قوله «هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك» (انتهى).

أقول هذا راجع الى ما أشرنا إليه غير مرة من ان أصالة الصحة كما تجري في أفعال الغير كذلك تجري في فعل النفس، وانها مما جرت عليه سيرة العقلاء في أفعالهم واحتجاجاتهم، وان التعليل الوارد في هذه الرواية ورواية محمد بن مسلم «هو حين انصرف أقرب الى الحق منه حين يشك» إشارة الى هذه السيرة العقلائية.

10- جريان القاعدة في «الشرائط» :

قد عرفت انه لا إشكال في جريان القاعدة في الاجزاء عموما كما هو المختار، أو خصوص اجزاء الصلاة كما هو مذهب بعض، ولكن في جريانها في الشرائط كلام واشكال واختار كل مذهبا :

فمن قائل بعدم جريانها فيها مطلقا، ولزوم اعادة المشروط ولو شك بعد الفراغ عنه، فيجب إعادة الصلاة بعد الفراغ عنها إذا شك في شي‌ء من الطهارة وشبهها، نقله شيخنا العلامة الأنصاري عن بعض أصحابنا ولم يسم قائله.

وهو مذهب عجيب، لا وجه له أصلا لعدم قصور في النصوص الخاصة الدالة على عدم الاعتناء بالشك في الصلاة والطهور بعد مضيهما، ولا في الروايات المطلقة ولا من حيث الفتوى.

ومن قائل بجريانها فيها مطلقا- حتى قال بعضهم بان جريانها فيها يوجب إحراز وجود الشرط حتى بالنسبة إلى الأعمال الآتية، فلا يجب تحصيل الطهارة على من شك في صلاة بعد الفراغ عنها من ناحية الشك في الطهارة حتى بالنسبة إلى الصلوات الآتية.

وهذا القول أيضا جائر عن قصد السبيل، قد عرفت فساده سابقا.

ومن قائل بجريانها بالنسبة إلى نفس العمل المشروط، اما مطلقا، واما في خصوص ما إذا فرغ عن المشروط كله، واما إذا كان في الأثناء فلا تجرى فيه.

والتحقيق ان الشرط دائما يكون من قبيل الكيفيات أو الحالات المقارنة للمشروط، خلافا لما ذكره غير واحد من المحققين في المقام من إمكان كون الشرط عملا مستقلا يؤتى به قبل المشروط، كما في الوضوء بناء على ما يستفاد من ظاهر قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ } [المائدة: 6] فإن هذا خلاف مفهوم الشرط فالشرط دائما من قبيل الحالات والأوصاف والكيفيات المقارنة، التي يكون تقييدها داخلا في المشروط دون ذواتها، وهذا هو الفارق بينه وبين الجزء.

واما الوضوء لو قلنا بكونه شرطا بعينه (لا الطهارة الحاصلة منه) فالشرط في مورده حقيقة هو تأخر الصلاة عنه، وهو صفة لا حقة للصلاة، والا فالعمل المستقل المأتي به قبلا أو بعدا إذا لم ينتزع منه عنوان «التعقب» أو «اللحوق» أو مثلهما الذي يكون من الأوصاف المقارنة للمشروط لا معنى لكونه شرطا.

هذا ولكن الشرط من ناحية استقلال منشأ انتزاع في الوجود، وعدم استقلاله، على أقسام:

أحدهما- ما يستقل في الوجود ولا يمكن تحصيلها لمجموع المشروط الا قبله، كالطهارة، فان تحصيلها لمجموع الصلاة لا يكون إلا قبلها ثانيها- ما يستقل في وجوده، ولكن يمكن تحصيله في الأثناء لكل جزء، كالاستقبال والستر وغيرهما.

ثالثها- ما لا يستقل في وجوده، كالموالاة، فإنها أمر ينتزع من نسبة خاصة بين أجزاء الصلاة، وليست كالطهارة أو الاستقبال حتى يمكن تحصيلها ولو بدون الصلاة.

ففي جميع هذه الأقسام إذا كان الشك بعد الفراغ عن المشروط بتمامه، كما إذا شك بعد التسليم في شي‌ء منها فلا إشكال في جريان، القاعدة فيها والحكم بصحتها، لشمول إطلاقات الأدلة لها على جميع المباني، نعم يجب تحصيل الشرط المشكوك للأعمال الآتية لما أشرنا إليه في الأمر الرابع فراجع.

واما إذا كان الشك في أثنائها فقد يقال بأنه لا إشكال أيضا في جريان القاعدة في القسم الأول، لأن المفروض عدم إمكان تحصيله الا قبل العمل، فهو أمر قد تجاوز عنه ودخل في غيره.

وهذا انما يتم إذا قلنا بشرطية نفس الوضوء مثلا، وقد عرفت ما فيه من الاشكال، واما إذا قلنا بشرطية الطهارة الحاصلة منها فاجرائها فيه مشكل، والوجه فيه ان مجرد عدم إمكان تحصيله إلا قبل العمل لا دخل له فيما نحن بصدده، لأن المأمور به هو الحالة الحاصلة منه، المقارنة للعمل، وما يؤتى به قبله فهو من قبيل المقدمة له، ومجرد ذلك لا يوجب‌ صدق المضي والتجاوز عنه الا بالمسامحة، فإجراء القاعدة في هذا القسم مشكل جدا.

واما القسم الثاني فلا يبعد جريان القاعدة فيه بالنسبة الى الاجزاء السابقة ، مع وجوب تحصيله للاجزاء الآتية، فلو شك في أثناء صلوته في استقبال القبلة في بعض الركعات السابقة، وهو مستقبل القبلة لما فيه من الركعة، أمكن الحكم بصحة صلوته ودخل في قوله: «كلما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو» وقد عرفت عدم الفرق بين المركب واجزائه في ذلك.

هذا ولكن قد يستشكل عليه تارة : بأن شرطية الاستقبال وشبهه أمر «وحداني» بالنسبة إلى مجموع الصلاة ومحله هو المجموع، فما دام المصلى مشتغلا بالصلاة محله باق ولم يتجاوز عنه.

وفيه- ان مثل هذا الشرط وان كان امرا واحدا في مجموع الصلاة، الا انه ينحل بالنسبة الى كل جزء من اجزاء الصلاة، وكان داخلا تحت عنوان «الشي‌ء» الوارد في الاخبار هذا مضافا الى ان الاشكال انما يتوجه لو أريد اجزاء القاعدة بالنسبة إلى نفس الشرط، واما إذا لوحظت بالنسبة إلى نفس الاجزاء المشروطة به، فلا وجه للإشكال فيها أصلا.

واخرى بأن الشرائط لا محل لها حتى يصدق التجاوز عنها، فإنها من قبيل الكيفيات والحالات العارضة للاجزاء، فالتجاوز عنها انما يكون عرضيا بتبع التجاوز عن الاجزاء لا حقيقيا، فلا يمكن إجراء القاعدة فيها.

وفيه مضافا الى ان التجاوز عن الشرط، بتبع التجاوز عن محله من الاجزاء، كاف في صدق عنوان التجاوز عنه، فان هذا مصداق التجاوز حقيقة لا مجازا ومسامحة، فالتستر أو الاستقبال المقارن للقراءة أمر يتجاوز عنه حقيقة بعد الدخول في الركوع، ان هذا الإشكال كالإشكال السابق انما يتوجه إذا جعل نفس الشرط موردا للقاعدة، واما إذا كانت الاجزاء موردا لها من جهة الشك في صحتها وتماميتها بعد الفراغ عنها أو التجاوز عن محلها فلا يبقى مورد له، وذلك لما مرّت الإشارة إليه من ان الشك في صحة الجزء كالشك‌ في أصل وجوده مشمول لعمومات القاعدة.

واما القسم الثالث من الشرائط فإجراء قاعدة التجاوز فيه وان كان مشكلا، فإن الموالاة (مثلا) أمر منتزع عن نسبة خاصة بين أجزاء الصلاة وليست شيئا يتجاوز عنه برأسه، فانصراف الإطلاقات عنها قوى جدا، فلا يقال ان الموالاة بين آيات الحمد أمر تجاوز عنه ودخل في غيره، الا انه لا مانع من إجراء القاعدة بالنسبة إلى نفس الحمد والسورة أو غيرهما بعد التجاوز عنها والشك في صحتها من ناحية موالاتها.

بقي هنا شي‌ء- وهو انه قد يستشهد للقول بالتفصيل :

بين الشك في الوضوء بعد الفراغ عن الصلاة، والشك فيه في أثنائها، بما رواه على بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام «قال سألته عن رجل يكون على وضوء، ويشك على وضوء هو أم لا؟ قال إذا ذكر وهو في صلوته انصرف فتوضأ وأعادها، وان ذكر وقد فرغ من صلوته أجزأه ذلك» «28» بناء على ان مورد السؤال هو من يكون على وضوء باعتقاده ثمَّ يشك في ذلك.

ولكن فيه ان الأظهر في معنى الرواية هو ان يكون على وضوء في زمان، ثمَّ يشك فيه في زمان بعده، فيكون مجرى للاستصحاب لا موردا لقاعدة الفراغ اما يحمل هذا الحكم على الاستحباب، كما فعله صاحب الوسائل واما ان يطرح لمعارضته لاخبار الاستصحاب.

11- لماذا لا تجري القاعدة في أفعال الطهارات الثلث ؟

الظاهر انه لا خلاف بينهم في عدم جريان قاعدة التجاوز في اجزاء الوضوء، إذا انتقل من جزء الى جزء آخر، قبل الفراغ من تمامه. وقد ادعى غير واحد الإجماع عليه.

بل لعل نقل الإجماع فيه مستفيض، هذا بالنسبة إلى الوضوء واما إلحاق الغسل بالوضوء فهو المشهور كما حكى من طهارة شيخنا العلامة الأنصاري، وعن جماعة من ائمة الفقه كالعلامة والشهيدين والمحقق الثاني والعلامة الطباطبائي (قدس أسرارهم) التصريح به، وعن بعضهم النص على إلحاق التيمم بهما.

هذا حال المسئلة من ناحية الفتاوى، والظاهر ان الأصل فيها ما رواه زرارة عن ابى جعفر الباقر عليه السّلام:

قال إذا كنت قاعدا على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه انك لم تغسله أو تمسحه، مما سمى الله، ما دمت في حال الوضوء فاذا قمت من الوضوء وفرغت منه، وصرت في حال أخرى في- الصلاة أو في غيرها، فشككت في بعض ما سمى الله مما أوجب اللّه عليك فيه وضوئه، لا شي‌ء عليك فيه (الحديث) «29».

وهذه الرواية صريحة في وجوب الاعتناء بالشك والإتيان بالمشكوك ما دام مشتغلا بالوضوء، وان عدم الاعتناء به يختص بصورة الفراغ منه، بل الدخول في حال آخر.

ولكن قد عرفت في الأمر الخامس ان هذا ليس في الحقيقة من قبيل القيد.

ويؤيده رواية بكير بن أعين قال قلت له الرجل يشك بعد ما يتوضأ قال هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك «30».

فإنها ظاهرة في انه حال الوضوء اذكر، فبمقتضى اذكريته يجب عليه الاعتناء بشكه ما دام مشتغلا به ولكن في دلالتها تأمل لأنها غير ناظرة إلى صورة الشك في بعض اجزاء الوضوء بعد انتقاله الى جزء آخر واستدل له برواية ثالثة نقلناها سابقا وهي ما رواه ابن ابى يعفور عن ابى عبد اللّه (عليه السلام) قال: إذا شككت في شي‌ء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكك بشي‌ء، إنما الشك إذا كنت في شي‌ء لم تجزه «31» بناء على رجوع ضمير «غيره» الى «الوضوء» فيكون دالا بمقتضى مفهومه على وجوب الاعتناء بالشك ما دام مشتغلا بالوضوء.

ولكنك قد عرفت فيما سبق ان رجوع ضمير «غيره» الى الوضوء، مع قطع النظر عن سائر أخبار الباب والإجماع المدعى عليه في المسألة، غير معلوم، بل الظاهر رجوعه إلى الشي‌ء المشكوك فيه، بقرينة الإطلاق الوارد في ذيلها، فإنه دال على ان كل شي‌ء (سواء فيه الكل والجزء) تجاوز عنه ودخل في غيره يمضى عليه، ولا يعتنى بالشك فيه.

ويؤيد ما ذكرنا ورود هذا التعبير بعينه في باب إجزاء الصلاة في رواية «زرارة» و«إسماعيل بن جابر» وليس المراد منه هناك الا التجاوز عن الجزء المشكوك فيه والدخول في سائر الأجزاء، فالاستدلال بهذا الحديث في حد نفسه مشكل بل لعله في بدء النظر على خلاف المقصود أدل.

ويمكن الاستدلال له أيضا برواية أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابه عن ابى- عبد اللّه عليه السّلام : قال قلت جعلت فداك اغسل وجهي ثمَّ اغسل يدي، ويشككني الشيطان انى لم اغسل ذراعي ويدي قال: إذا وجدت برد الماء على ذراعك فلا تعد «32» فإنه لو كان مجرد التجاوز عن جزء من الوضوء كافيا في عدم الاعتناء بالشك فيه لم يحتج الى تحصيل أمارة قطعية أو ظنية على غسل الذراع (و هو وجدان برد الماء عليه) بل كان مجرد التجاوز عنه كافيا فيه.

ولكن الظاهر منه كون الشك في حال الاشتغال بغسل اليد، وكأن منشأ شكه كان هو الوسوسة في أفعال وضوئه وتعبير الراوي بقوله : يشككني الشيطان أيضا شاهد عليه، فهذه الرواية أجنبية عن المقصود.

فتحصل من جميع ما ذكرنا ان ما يدل على هذا الحكم من السنة؛ دلالة ظاهرة؛ منحصر في رواية زرارة، والعجب من شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) حيث صرح في الرسالة بورود أخبار كثيرة هنا مخصصة للقاعدة المتقدمة. فأين هذه الاخبار الكثيرة؟!.

ومع ذلك رواية زرارة المؤيدة بفتاوى الأصحاب كاف في إثبات هذا الحكم.

هذا كله بالنسبة إلى الوضوء ولا يبعد كون التيمم الذي هو بدل عن الوضوء بحكمه لاقتضاء البدلية ذلك، ولكنه يختص بما إذا كان التيمم بدلا عن الوضوء.

واما الغسل؛ والتيمم الذي هو بدل عنه؛ فلم نظفر على دليل يدل على استثنائهما، وخروجهما عن الاخبار العامة، الدالة على القاعدة، كإثبات الإجماع عليهما بنحو يكون حجة مشكل جدا.

نعم قد يقال بدخولهما في ذيل رواية ابن ابى يعفور التي مرت عليك آنفا، اعنى قوله «انما الشك إذا كنت في شي‌ء لم تجزه» ولكن قد عرفت أنها أجنبية عما نحن بصدده.

فاذن لو أمكن إثبات الحكم فيهما ببعض الاعتبارات التي سنذكره فهو، والا فشمول الإطلاقات لهما غير بعيد، وطريق الاحتياط فيهما واسع (فتأمل).

فتلخص مما ذكرنا ان الطهارات الثلاث كلها أو بعضها خارجة عن تحت القاعدة ولكن يبقى الكلام في وجه خروجها مع انه لا يرى اى تفاوت بينها وبين سائر المركبات الشرعية، كالصلاة والحج وغيرهما في بدء النظر.

فهل هو تعبد محض؟ أو يوجد هناك فارق بينها وبين غيرها؟ اختار كل منهم مذهبا:

فقال المحقق النائيني (قده) ان خروجها انما هو بالتخصص لما مر غير مرة من ان العمومات على مختاره لا تدل الا على قاعدة الفراغ بالنسبة إلى مجموع العمل، وانه لا دلالة لها بالنسبة الى الاجزاء، وان الاخبار الواردة في حكم التجاوز عن أجزاء الصلاة حاكمة عليها وتدل على تنزيل اجزاء الصلاة منزلة الاعمال المستقلة التامة، وحيث ان الدليل الحاكم مختص بباب اجزاء الصلاة يبقى غيرها خارجا بحكم الأصل. (انتهى).

وقد عرفت فساد هذا المبنى وان أدلة القاعدة عامة، شاملة للاجزاء والكل، وان سياق اخبار التجاوز الواردة في اجزاء الصلاة سياق غيرها من العمومات، فلا دلالة فيها على التنزيل والحكومة، بل الجميع يشير الى معنى واحد، فلا يفهم العرف من بعضها شيئا وراء ما يفهم من غيره.

وقال شيخنا العلامة الأنصاري (قده) ان خروج أجزاء أفعال الوضوء وشبهها من حكم قاعدة التجاوز انما هو من باب التخصيص فان الوضوء في نظر الشارع فعل واحد؛ باعتبار وحدة مسببه، فإنه يطلب منه أمر واحد غير قابل للتبعيض، وهو الطهارة، فلا يلاحظ كل فعل منه شيئا برأسه، قال وبذلك يرتفع التعارض بين رواية ابن ابى يعفور (وهي قوله: إذا شككت في شي‌ء من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكك ليس بشي‌ء إنما الشك إذا كنت في شي‌ء لم تجز) الدالة على الاعتناء بالشك في أثناء الوضوء، وبين الاخبار السابقة الدالة على عدم الاعتناء بمثل هذا الشك.

وكذلك يرتفع التنافي المترائى بين صدر هذا الحديث وذيله، فاذا كان الوضوء‌ في نظر الشارع فعلا واحدا ارتفع الإشكالان ولم يكن حكم الوضوء مخالفا للقاعدة، وبه يوجه حكم المشهور بإلحاق الغسل والتيمم بالوضوء، والا لا وجه له ظاهرا (انتهى كلامه).

هذا وأنت خبير بان مجرد وحدة المسبب (و هو الطهارة) لا توجب لحاظ السبب امرا واحدا، والا جرى مثله في الصلاة وغيرها لإمكان القول بان المطلوب منها أيضا أمر واحد فتأمل، وبالجملة الالتزام بلوازم هذا التوجيه أمر مشكل حدا لا يظن انه (قده) يلتزم بها، مضافا الى ان إلحاق الغسل بالوضوء غير معلوم كما مر.

والاولى ان يقال بعد كون الحكم في الوضوء من باب التخصيص بدليل خاص وارد في المسئلة ان الوجه فيه لعله كون اجزاء الوضوء يؤتى بها في زمان قصير لا يغفل عن حالها غالبا؛ ولا يكاد تخفى صورتها عادة بمضي هذا المقدار من الزمان، فملاك القاعدة المصرح به في روايات الباب، وهو الا ذكرية في حال الفعل بالنسبة الى حال الشك، مفقود فيها بحسب الغالب.

بخلاف ما إذا فرغ من الوضوء وانتقل الى حال آخر فان انمحاء صورتها عن الذهن ونسيان كيفية العمل فيه أمر قريب.

ولعل السيرة العقلائية الجارية على عدم الاعتناء بالشك بعد تمامه والتجاوز عنه (بما مر من البيان) أيضا غير جارية في أمثال المقام.

هذا غاية ما يمكن ان يقال في وجه خروج الوضوء وشبهه عن عموم القاعدة وان أبيت بعد ذلك كله الا عن بقاء الإشكال في تفسير هذا الاستثناء وتوجيهه لم يكن قادحا في أصل الحكم بل لا بد حمله على التعبد المحض وكم له من نظير في أحكام الشرع.

ومما ذكرنا يوجد طريق آخر لتعميم حكم الوضوء وإجرائه في التيمم والغسل، فتأمل.

12- عدم جريان القاعدة مع الغفلة :

ان الشك في العمل بعد الفراغ والتجاوز عنه يتصور على أقسام:

تارة يكون مع العلم بأنه كان ذاكرا له حين العمل؛ عالما بصحته، ولكن يحتمل انه كان مخطئا في اعتقاده، آتيا به على خلاف ما كان مأمورا به.

واخرى مع الشك في كونه ذاكرا له أو غافلا عنه، فكما يحتمل الغفلة يحتمل الذكر.

وثالثة مع العلم بكونه غافلا محضا ولكن يحتمل الإتيان بما كان مأمورا به من باب الصدفة والاتفاق، كمن يعلم بأنه لم يحول خاتمه عن محله حين الوضوء ولكن يحتمل انغسال ما تحته اتفاقا.

لا إشكال في جريان القاعدة في الصورتين الأوليين، وانما الكلام في شمول إطلاقات الأدلة للثالثة، فقد يقال بعدم شمولها لها، نظرا الى التعليل الوارد في قوله: «هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك» فان التعليل بذلك يدل على تخصيص الحكم بمورد احتمال الذكر، وان كان عنوان السؤال عاما، ويمكن ان يقال بشمولها لها وان التعليل من قبيل «الحكمة» للحكم لا «العلة» له، حتى يكون مخصصا.

والتحقيق هو الأول لا لمجرد ظهور التعليل الوارد في الرواية؛ وفي رواية أخرى لمحمد بن مسلم:

«و كان حين انصرف أقرب الى الحق منه بعد ذلك» في ذلك بل لأن الإطلاقات بأنفسها قاصرة عن شمولها له، منصرفة عنه، لا سيما مع القول بكون القاعدة من الامارات، ومن باب غلبة الذكر، فان هذا الملاك انما هو في غير صورة العلم بعدم الذكر.

هذا مضافا الى ما عرفت من ان الحكم الشارع بحجية القاعدة ليس تأسيسا، بل هو‌ إمضاء لما عند العقلاء من الحكم بالصحة بعد الفراغ والتجاوز عن العمل (بل لعل الأمر في جميع الأمارات الشرعية كذلك؛ فليس فيها تأسيسا جديدا على خلاف ما استقر عليه بناء العقلاء) ومن الواضح عدم استقرار بناء العقلاء على الحكم بالصحة في صورة الغفلة المحضة.

فلا محيص عن الحكم ببطلان العمل في هذه الصورة واعادته بمقتضى قاعدة الاشتغال الا ان يقوم دليل اخرى على الصحة.

و يجب التنبيه هنا على أمور:

الأول- لا يخفى انه إذا كان هناك أمارة شرعية كالبينة أو حجة عقلية كالقطع فاعتمد عليها المكلف حين الفعل ثمَّ تبين خطاؤها بعده، كمن صلى إلى جهة يعلم انها قبلة، أو قامت أمارة شرعية عليها، ولكن تبين له بطلان منشأ قطعه وفساد الامارة بعد ما صلى ولكنه يحتمل كون الجهة التي صلى إليها قبلة من باب الاتفاق؛ فلا إشكال في انه محكوم بحكم الغفلة، لأن الإحراز المذكور كان فاسدا، مع كون صورة العمل محفوظة عنده، لعلمه بالجهة التي صلى إليها، ولكن لا يعلم انها كانت هي القبلة، أو غيرها؟! فلو صادفت القبلة لم يكن من ناحية «الذكر حين العمل» لان المفروض علمه بعدم كونه اذكر حينه، بل انما هي من باب الصدفة والاتفاق.

وليس هذا من قبيل الشك في انطباق «المأمور به» على «المأتي به» كما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) في الأمر الخامس الذي ذكره في المسئلة بل من قبيل انطباق «المأتي به» على «المأمور به» صدفة واتفاقا عند الغفلة.

والعجب منه (قدس سره) انه جعله من ذاك الباب، وعقد له ولاشباهه بابا مستقلا، وكلامه في هذا المقام لا يخلو عن تشويش واضطراب فراجع.

الثاني مما يجب التنبيه عليه هو ان المراد بالغفلة هنا هو الغفلة المحضة أعني الذهول عن العمل عند أدائه مطلقا إجمالا وتفصيلا، نظير مسئلة الخاتم في الوضوء فان المفروض‌ ذهوله عن غسل ما تحته مطلقا، إجمالا وتفصيلا، فاحتمال الصحة انما يكون من باب الصدفة والاتفاق فقط.

واما إذا ارتكز كيفية العمل في النفس إجمالا بسبب التكرار وحصول العادة له، كما في أفعال الصلاة والوضوء وغيرهما من العبادات اليومية، بحيث يؤتى بها أحيانا متواليا على وجهها الشرعي مع الغفلة عنها تفصيلا، فان ذلك لا يعد من الغفلة بل فيه نوع من الذكر كما أشرنا إليه سابقا، ولو لا ذلك كان الذكر التفصيلي غير حاصل لكثير من الناس في أقوالهم وأفعالهم وعباداتهم وغيرها فلا يصح التعليل بغلبة الذكر حين العمل بالنسبة إلى العموم.

الثالث- ان شيخنا العلامة الأنصاري (قده) ذكر في كلام له في المقام انه لا فرق بين ان يكون المحتمل ترك الجزء نسيانا أو تركه عمدا ، والتعليل المذكور (هو حين يتوضأ إلخ) بضميمة الكبرى المتقدمة (وهو ان القاصد لفعل لا يتركه عمدا) يدل على نفى الاحتمالين انتهى.

وهو منه (قدس سره) عجيب فان العاقل القاصد لفعل شي‌ء مع العلم بشرائطه واجزائه لا يحتمل في حقه ترك الجزء عمدا أصلا، وهذا هو المراد من الكبرى المتقدمة، لا انه يحتمل ذلك في حقه وينفى احتماله بهذه الكبرى تعبدا أو من باب الغلبة، كما في احتمال الترك نسيانا.

والحاصل انه لو فرض احتمال ترك الجزء تعمدا لم يجز فيه القاعدة بلا إشكال لأنه لا دافع لهذا الاحتمال، ولا يوجد مصحح للعمل معه، فقوله (قده): لا فرق بين ان يكون المحتمل ترك الجزء نسيانا أو تركه تعمدا لا وجه له أصلا.

13- في عدم جريان القاعدة في الشبهات الحكمية :

لا إشكال في جريان القاعدة في الشبهات الموضوعية، بل هي القدر المعلوم من موردها، المصرح به في كثير من الروايات، فان ما اشتمل منها على ذكر صغرى لهذه الكلية فذلك الصغرى من قبيل الشبهات الموضوعية كما هو واضح، وما كان عاما فالقدر المتيقن منه ذلك.

انما الإشكال في جريانها في الشبهات الحكمية، والحق عدم جريانها فيها، فان الشك من ناحية الحكم هنا يتصور على وجهين، لا تجري القاعدة في شي‌ء منهما.

أحدهما ان يكون صورة العمل محفوظة عنده ولم يكن في عمله مستندا الى حجة شرعية من اجتهاد أو تقليد- كمن يعلم انه صلى بلا سورة وكان ذلك عن جهل بالحكم أو غفلة منه ثمَّ بعد الفراغ منها يشك في صحة صلوته من جهة الشك في حكمها الشرعي، وان السورة جزء أم لا، وليس له طريق لإحرازها من اجتهاد أو تقليد، فان قيل بعدم جريان القاعدة فيها وجب الاحتياط بإعادتها لاشتغال ذمته والا كان محكوما بالصحة ولم يجب عليه الإعادة.

والحق عدم جواز التمسك بها لظهور اخبار الباب في كون الشك في كيفية الوجود الخارجي، فقوله رجل شك في الركوع أو السجود أو الوضوء ظاهر في شكه في كيفية الإتيان بها بعد إحراز حكمها، لا في حكمها بعد إحراز كيفية وقوعها؛ لعدم ملاك الا ذكرية فيه وهو واضح، هذا إذا كان صورة العمل محفوظة وكان عمله عن جهل بالحكم.

ومنه تعرف انه لو لم يكن صورة العمل محفوظا عنده كما إذا شك الجاهل بالحكم بعد مضى برهة من الزمان في مطابقة اعماله لما كان مأمورا به في الواقع، من جهة عدم انحفاظ صورة عمله، كان خارجا عن محل البحث داخلا في الشبهات الموضوعية؛ وان كان جريان القاعدة فيها أيضا ممنوعة، نظرا الى استناد عمله الى الجهل والغفلة، خلافا‌ لما يتراءى من المحقق النائيني من عده من أقسام الشبهة الحكمية.

ثانيهما ان يكون صورة العمل محفوظة عنده- كمن يعلم انه صلى بلا سورة- ولكن كان عمله مستندا الى حجة شرعية من اجتهاد أو تقليد، ثمَّ شك بعد الفراغ عنه في صحته وفساده، من جهة زوال رأيه أو رأى مجتهده وتردده في حكم المسئلة من دون العلم بفساده.

وجريان القاعدة في هذه الصورة وان كان أقرب من سابقها الا ان الحق عدم جريانها فيها أيضا لما ذكر في الصورة السابقة فراجع وتدبر جيدا.

14- مورد القاعدة خصوص الشك الحاصل بعد العمل :

لا ينبغي الريب في ان مورد قاعدة التجاوز والفراغ هو الشك الحاصل بعد العمل.

فلو كان الشك موجودا من قبل، لكنه غفل عنه ودخل في العمل؛ ثمَّ بعد الفراغ منه تذكر وتجدد له حالة الشك في صحة عمله وفساده، لم يجز له التمسك بها، ولو قلنا بجريان القاعدة في موارد الغفلة.

وذلك كمن شك في الطهارة قبل الصلاة وكان حالته السابقة الحدث، ثمَّ غفل وصلى، مع علمه بعدم تحصيل الطهارة بعد شكه، فاذا سلم توجه الى ما كان فيه وشك في انه كان على طهارة أم لا، فعليه تحصيل الطهارة واعادة الصلاة.

والوجه فيه ظاهر، اما بناء على المختار من عدم جريان القاعدة في موارد الغفلة فواضح، لان المفروض غفلته عن تحصيل شرائطه قبل الصلاة مع وجوب الطهارة عليه بظاهر الشرع بمقتضى الاستصحاب، فلم يكن داخلا تحت قوله «هو حين يتوضأ اذكر» أو قوله «و كان حين انصرف أقرب الى الحق منه بعد ذلك» بل لو كان ذاكرا لم يقدم على هذا العمل.

وان شئت قلت: مورد القاعدة هو ما كان احتمال الذكر منشأ لاحتمال صحة العمل وحصول شرائطه، وفي المقام لو كان ذاكرا كان عمله محكوما بالفساد في ظاهر الشرع بحكم الاستصحاب الجاري فيه بلا كلام.

واما على القول بجريانها في موارد الغفلة، فالأمر أيضا كذلك، لا لمجرد ظهور اخبار الباب مثل قوله «الرجل يشك بعد ما يتوضأ» أو قوله «شك في الركوع بعد ما سجد» وأشباههما في ان الشك نشأ بعد الفراغ عن العمل أو التجاوز منه، بل لان مجرى القاعدة هو ما إذا كان العمل مبنيا على الصحة ولو في ظاهر الشرع، فلو كان من أول أمره مبنيا‌ على الفساد ومحكوما بالبطلان في ظاهر الشرع لم يكن تصحيحها بالقاعدة بعد الحكم بفساده، والمقام من هذا القبيل، فإن الصلاة في مفروض الكلام كان محكوما بالفساد من أول آنات وجودها بحكم استصحاب الحدث؛ وان كان المصلى غافلا عن هذا الحكم حين الشروع لغفلته ونسيانه، فكيف يصح الحكم بصحتها بعد الفراغ عنها؛ وهل يرضى بذلك لبيب؟.

هذا تمام الكلام في قاعدة التجاوز والفراغ.

والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.

_____________

(1) وسائل الشيعة المجلد 5 الصفحة 336.

(2) مستمسك العروة- ج 5 ص 267.

(3) المجلد الأول ص 331.

(4) المجلد الأول ص 524.

(5) المجلد الرابع س 936.

(6) الجلد التاسع من الوسائل ص 433.

(7) الجلد التاسع من الوسائل ص 435.

(8) نقلناها تحت الرقم 5 في الروايات العامة.

(9) نقلناها تحت الرقم 6 في الروايات العامة .

(10) كما ان استعمال اللفظ الواحد في معان متعددة، بلا ملاحظة جامع بينها، أمر شائع في ألسنة أبناء المحاورة من أهل الأدب والشعر، وغيرهم، ومن الطف ما ذكر في المقام ما أفاده العلامة الخبير والأديب الماهر الشيخ محمد رضا الأصفهاني (قده) في كتابه المسمى به «الوقاية» ناقلا له من بعض الأدباء في وصف نبينا الأعظم سلام اللّه عليه:

المرتمى في الدجى والمبتلى بعمي   والمشتكى ظمأ والمبتغى دينا

يأتون ســــــدته من كـــــــل نــاحية   ويســـتفيدون من نعمائه عـينا .

 

يمدح هذا الشاعر، النبي الأعظم صلّى اللّه عليه وآله وسلم بان كل ذي حاجة يأتي بابه ويستفيد من نعمائه:

فمنهم من وقع في ظلماء يبتغى شمسا مضيئة ونورا يهتدى به، ومنهم من ابتلى بالعمى يطلب عينا يدله على الطريق: ومنهم من يشتكي من الظلماء يروم عينا صافية يرتوي بها ويبرد كبده الحرى، ومنهم- مديون يطلب بدينه يبتغى عين الذهب كل أولئك يأتون بابه وكل واحد منهم يستفيد منه بما يسد به خلته وبرفع حاجته.

ومن الواضح ان لفظة «العين» في المصراع الأخير استعمل في أربع معان:

العين بمعنى الشمس، والباصرة، والنابعة، وبمعنى الذهب، كل واحد لو احد من الطوائف الأربع.

ولا يخفى على العارف بأساليب الكلام ولطائفها ومن له نصيب من قريحة الشعر وذوق الأدب، أن لطف هذا الشعر انما هو باستعمال لفظ العين في معان اربع كل واحد مستقل عن الأخر.

وإرجاع جميع هذه المعاني إلى معنى جامع قريب أو بعيد مع انه يذهب بلطف الشعر وطراوته، مخالف للوجدان لعدم انسباقه الى الذهن عند إطلاقه، ولو كان كذلك لا نسبق اليه بلا تأمل.

كما ان تأويله إلى المسمى به «العين» يأباه الطبع السليم والقريحة الوقادة ولا ينسبق الى الذهن أيضا من اللفظ بالوجدان. وقد أوضحنا جواز استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى بدفع جميع ما ذكروا فيه من الاشكال فيما كتبناه في «الأصول اللفظية» .

(11) ذكرناهما تحت الرقم 5 و6 سابقا عند ذكر روايات القاعدة.

(12) رواها في الوسائل في الباب 13 من أبواب الركوع .

(13) رواها في الوسائل في الباب 13 من أبواب الركوع .

(14) رواها في الوسائل في الباب 13 من أبواب الركوع .

(15) نقلناه تحت الرقم الثالث من الروايات العامة.

(16) نقلناه تحت الرقم الرابع من الروايات العامة.

(17) نقلناه تحت الرقم الخامس من الروايات العامة.

(18) نقلناه تحت الرقم السادس من الروايات العامة.

(19) نقلناه تحت الرقم الأول من الروايات الخاصة.

(20) نقلناها تحت الرقم 1 من الروايات العامة.

(21) نقلناه تحت الرقم 2 من الروايات العامة.

(22) نقلناه تحت الرقم 7 من الروايات العامة.

(23) رواه في الوسائل في أبواب السجود الباب 15.

(24) رواه في الوسائل في أبواب الركوع الباب 13.

(25) رواه في الوسائل في أبواب الركوع الباب 13.

(26) رواه في الوسائل في أبواب الوضوء الباب 42.

(27) المجلد الأول ص 355 .

(28) رواه في الوسائل في الباب 44 من أبواب الوضوء .

(29) رواه المفيد والشيخ والكليني بإسنادهم ورواه في الوسائل في الباب 44 من أبواب الوضوء .

(30) رواه في الوسائل في الباب 44 من أبواب الوضوء .

(31) رواه في الوسائل في الباب 44 من أبواب الوضوء .

(32) رواها في الوسائل في الباب 44 من أبواب الوضوء.

 




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.


وصل إلى الشلل الرباعي أطباء مستشفى الكفيل يعيدون حركة الأطراف لرجلٍ بعد تكسّر عدد من فقراته
بمناسبة ذكرى ولادة السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) شعبة التوجيه الديني النسويّ تقيم مسابقةً تفاعلية للنساء
جامعة الكفيل: مشروع المبنى التعليميّ خطوة مهمّة في توسيع إمكانيات الجامعة ومواكبة التطوّرات العلمية
شركة الكفيل للاستِثمارات تباشر بحصاد (320) دونماً من محصول الحنطة