المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 7457 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
{ربنا وآتنا ما وعدتنا على‏ رسلك}
2024-04-28
ان الذي يؤمن بالله يغفر له ويكفر عنه
2024-04-28
معنى الخزي
2024-04-28
شروط المعجزة
2024-04-28
أنواع المعجزة
2024-04-28
شطب العلامة التجارية لعدم الاستعمال
2024-04-28

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


دليل الأخبار المستفيضة على حجّيّة الاستصحاب مطلقاً  
  
954   01:26 مساءاً   التاريخ: 23-8-2016
المؤلف : ناصر مكارم الشيرازي
الكتاب أو المصدر : أنوَار الاُصُول
الجزء والصفحة : ج 3 ص 288.
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / علم اصول الفقه / الاصول العملية / الاستصحاب /

وهي العمدة في المسألة، وأوّل من طرحها في الاُصول على التفصيل هو شيخنا الأعظم الأنصاري(رحمه الله):

1 ـ صحيحة زرارة، قال: «قلت له: الرجل ينام وهو على وضوء، أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال (عليه السلام): يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاُذن فإذا نامت العين والاُذن والقلب وجب الوضوء، قلت: فإن حرّك على جنبه شيء ولا يعلم به؟ قال(عليه السلام): لا، حتّى يستيقن أنّه قد نام حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن، وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه، ولا تنقض اليقين أبداً بالشكّ ولكنّه ينقضه بيقين آخر»(1).

ولا يخفى أنّ اضمار زرارة في الحديث لا يضرّ بصحّته، لأنّ مثله لا يسأل الحكم الشرعي إلاّ عن الإمام(عليه السلام)، مضافاً إلى لحن الحديث والسؤال والجواب الواردان فيه حيث إنّ الإنسان يطمئنّ بأنّ مثله لا يصدر إلاّ من الإمام المعصوم(عليه السلام)(2)، وعلى هذا فلا كلام في الرواية من ناحية السند، إنّما البحث في دلالتها وقد وقع في تعيين جزاء كلمة «إلاّ» الواردة فيها، والتي هى مركّبة من «إنّ» و «لا»، أي «وإن لم يستيقن أنّه نام»، فما هو جزاؤها؟ فنقول: فيه أربعة وجوه:

الأوّل: أن يكون الجزاء محذوفاً، أي: «وإن لم يستيقن أنّه قد نام فلا يجب عليه الوضوء، أو فهو باق على وضوئه» ويكون قوله(عليه السلام): «فإنّه على يقين من وضوئه» تعليلا لذلك الجزاء فيكون بمنزلة كبرى كلّية لا تختصّ بباب الوضوء.

الثاني: أن يكون قوله(عليه السلام): «فإنّه على يقين من وضوئه» بنفسه جزاءً فيكون بمنزلة جملة إنشائيّة، بمعنى: «فليكن على وضوئه» فيختصّ بباب الوضوء لخروجه عن صيغة التعليل الذي يتعدّى عن المورد.

الثالث: أن يكون الجزاء قوله(عليه السلام): «ولا ينقض اليقين بالشكّ أبداً»، ويكون قوله (عليه السلام): «فإنّه على يقين ...» توطئة له، فيختصّ أيضاً بباب الوضوء.

والإنصاف أنّ الترجيح مع التفسير الأوّل، وأنّ الأخيرين بعيدان عن ظاهر الحديث.

أمّا الأوّل منهما (أي التفسير الثاني) فلأنّ كون قوله (عليه السلام): «فإنّه على يقين» بمنزلة جملة إنشائيّة، وبمعنى «فليكن» بعيد في الغاية ـ كما قال به المحقّق الخراساني (رحمه الله) ـ لأنّ الإخبار بجملة اسميّة وإرادة الكناية عن الإنشاء لا يكون أمراً مأنوساً عند أهل اللسان، فلا يقال مثلا: «أنت آكل» عوضاً عن قوله «كل»، أو «أنت قائم» كناية عن قوله «قم»، أو «أنت على يقين» كناية عن «كن على اليقين» (في ما نحن فيه) نعم أنّه شائع في الجملة الفعليّة بصيغة المضارع كقوله(عليه السلام): «تعيد» بمعنى «أعد».

وأمّا الثاني منهما (وهو التفسير الثالث) فلأنّ لازمه أن يكون الجزاء معطوفاً على شرطه بالواو العاطفة، وهو واضح البطلان.

هذا ـ ولو سلّم كون أحدهما مراداً للإمام(عليه السلام) لكنّه يمكن أيضاً استفادة العموم من الحديث لعدّة قرائن:

الاُولى: قوله (عليه السلام): «فإنّه على يقين من وضوئه» حيث إنّه إشارة إلى نكتة إرتكازية عند العقلاء، وهى عدم صحّة نقض شيء محكم وطرده (وهو اليقين) بأمر مرهون ضعيف (وهو الشكّ) وبعبارة اُخرى: تناسب الحكم والموضوع يوجب إلغاء العرف الخصوصيّة عن باب الوضوء.

الثانية: كلمة «أبداً» فإنّها مناسبة لجريان الحكم وسريانه في سائر الأبواب.

الثالثة: ورود قوله (عليه السلام): «لا ينقض اليقين بالشكّ» في سائر الأبواب أيضاً، مثل باب النجاسات والصّلاة والصوم فإنّه بمنزلة قرينة خارجية على عموم الحكم في المقام.

إن قلت: ذكر اليقين قبل هذه الجملة مرّتين وتعلّق في المرّة الاُولى بالنوم وفي الثانية بالوضوء، وحينئذ تكون اللام الواردة في كلمة اليقين في هذه الجملة ظاهرة في العهد، ولازمه اختصاص الحكم بباب الوضوء.

قلنا: قد قرّر في محلّه أنّ الأصل في «اللام» أن تكون للجنس، ومجرّد وجود متعلّقها في القبل لا غير، كاف لرفع اليد عن هذا الأصل، فإذا دار الأمر بين كونها للعهد أو الجنس فالترجيح مع الثاني، إلاّ إذا حصل الظهور في العهدية ومجرّد سبق عنوان اليقين غير كاف في إثبات هذا الظهور. هذا أوّلا.

وثانياً: سلّمنا أنّها تكون للعهد، ولكن العرف يلغي الخصوصية عن باب الوضوء بما مرّ من تناسب الحكم والموضوع ووجود كلمة «أبداً» وغيرهما من القرائن.

ثمّ إنّه قد أجاب المحقّق الخراساني(رحمه الله) عن هذه الشبهة بجواب لا يخلو من التكلّف جدّاً، وهو أنّ كون اللام في قوله (عليه السلام): «ولا ينقض اليقين أبداً بالشكّ» للعهد مبنى على كون لفظة «من وضوئه» متعلّقة بلفظة «يقين» بنفسها، فيكون اليقين حينئذ في الصغرى خاصّاً، فليكن في الكبرى أيضاً خاصّاً، وأمّا إذا كان متعلّقاً بالظرف أي بلفظة «على يقين» بحيث كان المعنى هكذا: «فإنّه من ناحية وضوئه على يقين ولا ينقض اليقين أبداً بالشكّ» فلا يكون اليقين حينئذ في الصغرى خاصّاً كي تكون اللام في يقين الكبرى للإشارة إليه، بل جنساً مطلقاً فيكون اليقين في الكبرى أيضاً كذلك. (انتهى).

ولا يخفى أنّ فيه تكلّفاً ظاهراً، وأنّه لا يشبه العبارات العربيّة المتداولة، فالإنصاف أنّ المرتكز لمن يكون عارفاً باللسان كون «عن وضوئه» متعلّقاً باليقين نفسه.

إن قلت: أنّ هذا الحديث من ناحية دلالته على الاستصحاب قد أعرض عنه الأصحاب، كما يظهر من تصريح الشيخ الأعظم(رحمه الله) بأنّ أوّل من تمسّك به هو والد الشيخ البهائي(رحمه الله) في الحبل المتين.

قلنا: لعلّ عدم تمسّك الأصحاب به كان من جهة أنّهم يرون أنفسهم مستغنين عنه بوجود سيرة العقلاء على الاستصحاب، مع كون السيرة دليلا قطعيّاً وخبر الواحد دليلا ظنّياً. هذا أوّلا.

وثانياً: لعلّ إعراضهم كان من جهة وجود الشبهة عندهم من ناحية الدلالة وعدم عموميتها واختصاصها بأبواب معيّنة، لا من ناحية السند، فلا يكون اعراضهم عن السند محرزاً عندنا.

ويؤيّد ذلك أنّ صاحب الوسائل وغيره من أكابر علماء الحديث جعلوا هذه الأخبار في أبواب خاصّة، ولم يجعلوا لها عنواناً مستقلا كلّياً، وهذا دليل على أنّهم لم يفهموا منها العموم، وكم ترك الأوّل للآخر.

2 ـ صحيحة ثانية لزرارة قال: «قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو شيء من مني فعلّمت أثره إلى أن اُصيب له الماء، فأصبت وحضرت الصّلاة ونسيت أنّ بثوبي شيئاً وصلّيت ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك، قال: تعيد الصّلاة وتغسله، قلت: فإنّي لم أكن رأيت موضعه وعلّمت أنّه أصابه فطلبته فلم أقدر عليه، فلمّا صلّيت وجدته، قال: تغسله وتعيد، قال قلت: فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك فنظرت فلم أر فيه شيئاً ثمّ صلّيت فرأيت فيه، قال: تغسله ولا تعيد الصّلاة، قلت: لِمَ ذاك؟ قال: لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً، قلت: فإنّي قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله، قال: تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه أصابها، حتّى تكون على يقين من طهارتك، قلت: فهل عليّ إن شككت في أنّه أصابه شيء في ثوبي أن أنظر فيه؟ فقال: لا، ولكنّك إنّما تريد أن تذهب الشكّ الذي وقع في نفسك، قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصّلاة، قال: تنقض الصّلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً قطعت الصّلاة وغسلته ثمّ بنيت على الصّلاة لأنّك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ»(3).

هذه الرواية مشتملة على ستة أسئلة وأجوبة:

أوّلها: قول السائل: «أصاب ثوبي دم رعاف أو شيء من مني فعلمت أثره إلى أن أُصيب له الماء، فأصبت وحضرت الصّلاة ونسيت أنّ بثوبي شيئاً وصلّيت ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك؟» جواب الإمام(عليه السلام) عنه بقوله: «تعيد الصّلاة وتغسله».

ثانيها: قول السائل: «فإنّي لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنّه أصابه فطلبته فلم أقدر عليه فلمّا صلّيت وجدته» وجوابه (عليه السلام) بقوله: «تغسله وتعيد».

وهذان السؤالان لا يخفى خروجهما عمّا نحن فيه وهو البحث عن الاستصحاب، حيث إنّ مورد الأوّل نسيان النجاسة والتذكّر بعد إتمام الصّلاة، ومورد الثاني الشروع في الصّلاة مع العلم الإجمالي بنجاسة موضع من الثوب.

ثالثها: قول السائل «فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك فنظرت فلم أر فيه شيئاً ثمّ صلّيت فرأيت فيه»؟ وجوابه (عليه السلام) بقوله: «تغسله ولا تعيد الصّلاة (قلت: لِمَ ذاك؟) قال(عليه السلام): لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً».

وهذا السؤال والجواب ناظر إلى محلّ البحث صراحةً كما لا يخفى.

رابعها: قول السائل: «فإنّي قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو؟ فأغسله؟» وجوابه (عليه السلام): «تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك».

وهذا السؤال في بدء النظر غير مرتبط بالمقصود بل مرتبط بمسألة العلم الإجمالي ولكنّه عند التأمّل يمكن أن يكون تتميماً للسؤال الثالث، كما أنّ جواب الإمام(عليه السلام) أيضاً يمكن أن يكون تكميلا للجواب عن السؤال الثالث، أو بياناً لمدلوله الالتزامي، وهو قوله «انقضه بيقين آخر» فالمحتمل دلالة هذه الفقرة أيضاً على حجّية الاستصحاب.

خامسها: قول السائل: «فهل عليّ إن شككت في أنّه أصابه شيء في ثوبي أن أنظر فيه؟» وجواب الإمام(عليه السلام): «لا ولكنّك إنّما تريد أن تذهب الشكّ الذي وقع في نفسك».

وهذا الجواب ناظر إلى عدم لزوم الفحص في الشبهات الموضوعيّة وخارج عمّا نحن بصدده.

إن قلت: قد مرّ في مبحث عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعيّة استثناء موردين منها:

أحدهما: ما إذا كان العلم بالواقع سهل الوصول جدّاً.

وثانيهما: ما لا يحصل العلم به عادةً من دون فحص كمقدار النصاب وأرباح المكاسب والاستطاعة، وما نحن فيه من القسم الأوّل فلماذا لم يأمر فيه بوجوب الفحص؟

قلنا: يظهر من هذه الرواية وغيرها أنّ نظر الشارع التسهيل في أمر الطهارة والنجاسة واستثناءهما من القاعدة المذكورة، ولعلّ الوجه فيه هو الوقوع في الوساوس المختلفة لو بنى على الفحص ولو بهذا المقدار.

سادسها: قول السائل: «إن رأيته في ثوبي وأنا في الصّلاة» وجواب الإمام(عليه السلام): «تنقض الصّلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً قطعت الصّلاة وغسلته ثمّ بنيت على الصّلاة لأنّك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ».

وهذا السؤال والجواب أيضاً داخل في الاستصحاب كما هو واضح.

فظهر أنّ الداخل من هذا الحديث في مبحث الاستصحاب هى الفقرة الثالثة والسادسة يقيناً، والفقرة الرابعة احتمالا.

لكن اُورد عليه إشكالات عديدة لابدّ من حلّها:

الأوّل: في تعبير الإمام(عليه السلام) بـ «ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ»، حيث إنّه يستشمّ منه رائحة الاستحباب.

والجواب عنه واضح: لأنّه ورد في مقام الاستدلال على حكم إلزامي، وهو عدم جواز إعادة الصّلاة، لظاهر النهي بلسان النفي، فمقام الاستدلال قرينة على أنّ المراد به عدم الجواز، وموارد استعمال «لا ينبغي» مختلفة كما يظهر بالرجوع إليها.

الثاني: أنّ الحديث لعلّه في مقام بيان قاعدة اليقين لا الاستصحاب، أي أنّه يناسب قاعدة اليقين كما يتناسب مع الاستصحاب، لأنّ لفظ اليقين في قوله (عليه السلام): «لأنّك كنت على يقين من طهارتك» كما يحتمل أن يكون المراد منه اليقين بطهارة الثوب من قبل ظنّ الإصابة (فيكون المورد من الاستصحاب) كذلك يحتمل أن يكون المراد منه اليقين بالطهارة الذي حصل بالنظر في الثوب مع عدم رؤية شيء، ثمّ زال برؤيه النجاسة بعد الصّلاة لاحتمال حدوثها بعد الصّلاة (فيكون المورد من قاعدة اليقين لأنّ الشكّ يتسرّى إلى اليقين السابق) فيصير الحديث مجملا لا يصلح للاستدلال به على الاستصحاب.

وجوابه واضح أيضاً: فعند التأمّل في الرواية يظهر أنّها ناظرة إلى خصوص الاستصحاب، وأنّ المستشكل لم يعطها حقّ النظر والدقّة، فإنّ معيار الاستصحاب وفرقه عن قاعدة اليقين، (وهو تغاير زمان متعلّق اليقين والشكّ) موجود فيها، حيث عبّر الإمام(عليه السلام) فيها بقوله: «لأنّك كنت على يقين ثمّ شككت» وهو ناظر إلى سؤال الراوي الذي كان على يين من طهارته ثمّ شكّ في نجاستها في زمان بعده.

الثالث: أنّ مورد الحديث إنّما هو نقض اليقين بيقين آخر لا نقضه بالشكّ، فإنّ السائل يقول: «ثمّ صلّيت فرأيت فيه» وهو يعني اليقين بالنجاسة ووقوع الصّلاة بها فإعادة الصلاة من قبيل نقض اليقين باليقين لا نقض اليقين بالشكّ.

ويمكن الجواب عنه باُمور:

أوّلها (وهو أحسنها) أنّ جواب الإمام(عليه السلام) ناظر إلى أنّ الشرط في صحّة الصّلاة هو الأعمّ من الطهارة الواقعية والظاهرية، وأنّ الطهارة الظاهرية كانت حاصلة في أثناء الصلاة لمكان الاستصحاب، وإن حصل القطع بعد الصّلاة بعدم وجود الطهارة الواقعية، فعدم وجوب الإعادة إنّما هو لتحقّق الشرط الواقعي، وهو الطهارة الظاهرية الحاصلة بمقتضى الاستصحاب.

ثانيها: أنّ هذه الفقرة ناظرة إلى مسألة الاجزاء في الأوامر الظاهرية فيقول الإمام (عليه السلام) أنّ الأمر الظاهري حاصل في المقام لمكان الاستصحاب (وإن قطعت بعد الصّلاة بعدم وجود الأمر الواقعي) وهو مجز عن إتيان الواقع.

وبعبارة اُخرى: أنّها ناظرة إلى صغرى قاعدة الإجزاء، وهى وجود أمر ظاهري ناش من الاستصحاب، وإلى كبراها وهى أنّ الأوامر الظاهرية مجزية.

وهذا الجواب أيضاً تامّ على المختار من إجزاء الأوامر الظاهرية الشرعيّة وإن لم يتمّ على مختار المنكرين للاجزاء.

ولكن إستشكل فيه الشيخ الأعظم(رحمه الله) بما حاصله: أنّ لازمه اكتفاء الإمام في مقام التعليل ببيان الصغرى (وهى قوله(عليه السلام): «لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت فليس ينبغي لك ... الخ» الذي هو كناية عن وجود أمر ظاهري) مع أنّ الشائع عرفاً إنّما هو بيان الكبرى (وهى في المقام أنّ الأوامر الظاهرية مجزية).

وفيه: أنّه يختلف باختلاف الموارد، فتارةً يكتفي ببيان الصغرى فقط لكون الكبرى أمراً إرتكازياً كقوله: «لا تشرب الخمر لأنّه مسكر»، واُخرى يكتفي ببيان الكبرى لكون الصغرى إرتكازياً كقول المولى لعبده «لا تفعل هذا فإنّ العاقل لا يلقي نفسه إلى حيث الضرر» فصغرى «لأنّه مضرّ» حذفت لوضوحها، وثالثة تذكر الصغرى والكبرى معاً.

وما نحن فيه داخل في القسم الأوّل، فذكرت الصغرى فقط (وهو وجود الأمر الظاهري لأجل الاستصحاب) لعدم كونها مثل الكبرى (وهى إجزاء الأوامر الظاهريّة) في الوضوح.

ثالثها: أنّ مورد السؤال في الفقرة الثالثة إنّما هو ما إذا احتملنا وقوع النجاسة بعد الصّلاة، فيكون نهي الإمام(عليه السلام) بقوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» بالنسبة إلى أثناء الصّلاة.

لكنّه خلاف الظاهر لأنّ في الرواية: «قلت فإن ظننت أنّه قد أصابه ... ثمّ صلّيت فرأيت فيه» وهو ظاهر في أنّ ما وجده بعد الصّلاة إنّما هو نفس ما كان متفحّصاً عنه في أثناء الصّلاة. فهذا الجواب غير تامّ.

الرابع: ما يكون مرتبطاً بالفقرة السادسة، وحاصله، أنّ مفاد هذه الفقرة لزوم غسل الثوب ثمّ البناء على الصّلاة فيما إذا احتمل وقوع النجاسة في نفس الوقت الذي رآها، ولزوم نقض الصّلاة ووجوب الإعادة إذا رآها وعلم بوجودها من أوّل الصّلاة، وهذا ـ أوّلا ـ مخالف لفتوى المشهور، فإنّها قائمه على عدم الفرق بين الصورتين، فحكموا في الصورة الثانية أيضاً بوجوب الغسل ثمّ البناء.

وثانياً: مخالف لنفس الحديث في فقرته الثالثة إذ إنّ مدلولها صحّة الصّلاة فيما إذا وقعت بتمامها في النجاسة، وهو يقتضي بالفحوى صحّتها فيما إذا وقعت بعضها في النجاسة، فيقع التضادّ حينئذ بين الفقرتين الفقرة السادسة والفقرة الثالثة، ولازمه سقوط كلتيهما عن الحجّية.

واُجيب عن هذا بوجهين:

أحدهما: الالتزام بالتفكيك في الحجّية بين فقرات حديث واحد، بإسقاط بعض الفقرة السادسة عن الحجّية والعمل بالفقرة الثالثة.

ولكن قد عرفت غير مرّة أنّ مثل هذا التفكيك مشكل لمخالفة بناء العقلاء.

ثانيهما (وهو أحسن الوجوه): أنّ الأولوية ممنوعة، لاحتمال الفرق بين صورة الجهل في تمام الصّلاة والجهل في بعضها، فإنّ لازم الثاني وجود النجاسة المعلومة ولو آناً مّا.

إن قلت: العلم بالنجاسة آنّاً مّا موجود فيما إذا احتمل وقوع النجاسة في نفس الوقت الذي رآها فكيف لم يحكم الإمام فيه بالبطلان؟

قلنا: لعلّ الشارع عفى عن ذلك، لوجود خصوصيّة فيها، وهى احتمال وقوعها في نفس زمان رؤيتها.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ الاستدلال بالصحيحة تامّ لا إشكال عليه.

3 ـ صحيحة ثالثة لزرارة عن أحدهما(عليهما السلام) «قال: قلت له: من لم يدر في أربع هو أم في ثنتين وقد أحرز الثنتين؟ قال: يركع بركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب، ويتشهّد، ولا شيء عليه، قال: إذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث، قام فأضاف إليها اُخرى ولا شيء عليه، ولا ينقض اليقين بالشكّ، ولا يدخل الشكّ في اليقين، ولا

يخلط أحدهما بالآخر، ولكنّه ينقض الشكّ باليقين ويتمّ على اليقين فيبني عليه، ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات»(4).

وتقريب الاستدلال بهذا الحديث لحجّية الاستصحاب واضح، ولكن يرد عليه أمران:

أحدهما: أنّه يحتمل في قوله(عليه السلام): «قام فأضاف إليها اُخرى» ثلاث احتمالات:

الأوّل: أن يكون المراد من القيام فيه القيام بعد التسليم إلى ركعة اُخرى مفصولة ويكون المراد من اليقين فيها اليقين بالبراءة الحاصلة بالبناء على الأكثر والإتيان بركعة مستقلّة، وحينئذ تكون الصحيحة أجنبية عن الاستصحاب، وناظرة إلى قاعدة الإشتغال.

الثاني: أن يكون المراد من القيام فيه القيام للركعة الرابعة من دون التسليم في الركعة المردّدة بين الثالثة والرابعة، فيكون حاصل الجواب هو البناء على الأقل والمراد من اليقين هو اليقين بإتيانه ثلاث ركعات، وحينئذ تكون الصحيحة دالّة على الاستصحاب.

ولكنّها موافقة لقول العامّة ومخالفة للمذهب ولظاهر الفقرة الاُولى من قوله: «يركع بركعتين ... بفاتحة الكتاب» فإنّ ظاهره بقرينة تعيين الفاتحة إرادة ركعتين منفصلتين، أعني صلاة الاحتياط.

فلابدّ حينئذ من الالتزام بالتفكيك في الحجّية بين ما ذكر في ذيل الحديث من كبرى كلّية دالّة على الاستصحاب وبين مورده، القول بالحجّية في الكبرى، وأنّ الصغرى محمولة على التقيّة، فيأتي فيه مشكل التفكيك في الحجّية بين فقرات الحديث، الذي هو في المقام آكد وأشنع، لأنّه تفكيك بين كبرى وصغراها، لا بين فقرتين اللتين يدلّ كلّ منهما على حكم مستقلّ.

الثالث: أن يكون المراد من القيام القيام للركعة الرابعة مع التسليم، أي إتيانها منفصلة، كما هو مذهب أهل البيت في صلاة الاحتياط.

وعليه يكون المراد من قوله(عليه السلام): «ولا يدخل الشكّ في اليقين» النهي عن إدخال صلاة الاحتياط المشكوكة في ما أتى به متيقّناً، أي يأتي بها مستقلا ومفصولة.

ويكون المراد من قوله (عليه السلام)، ولكنّه ينقض الشكّ باليقين» تأكيداً لذلك، وقوله (عليه السلام) «ويتمّ على اليقين» أيضاً إشارة إلى إتيان صلاة الاحتياط منفصلة.

وحينئذ تكون ثلاث فقرات من الفقرات الستّة الواردة في الذيل ناظرة إلى لزوم انفصال صلاة الاحتياط، وثلاث فقرات اُخر مرتبطة بقاعدة الاستصحاب، فيندفع بذلك إشكال كثرة التأكيدات في حديث واحد، وكذلك إشكال الحمل على التقيّة والتفكيك بين الصغرى والكبرى.

ثمّ إنّ الترجيح يؤيد الحمل على الاستصحاب، أي أحد الاحتمالين الأخيرين، وذلك بقرينة الروايات الاُخرى، وقرينة داخليّة وهى لحن الرواية والتعبير بـ «لا تنقض اليقين بالشكّ» الوارد فيها، حيث إنّ التعبير المناسب مع قاعدة الاشتغال هو لزوم العلم بالفراغ بعد العلم بالاشتغال، وهذا المعنى غير موجود في الحديث، ولا سيّما إنّ أخبار الباب الناظرة إلى وجوب العمل بالاحتياط مصرّحة بلزوم البناء على اليقين فما ورد في هذا الحديث مناسب للاستصحاب لا غير، لأنّه عبّر بعدم نقض اليقين بالشكّ لا البناء على اليقين.

كما أنّ الترجيح في هذين الاحتمالين يتّفق مع الحمل على الاحتمال الأخير، لأنّ قوله(عليه السلام): «قام فأضاف إليه اُخرى» وإن كان ظاهراً في الإتّصال مجرّداً عن صدره، ولكنّه بقرينة صدر الرواية (الذي ظاهر في الإنفصال بقرينة تعيين فاتحة الكتاب كما مرّ آنفاً) لابدّ من حمله على الانفصال، مضافاً إلى محذور التفكيك في الحجّية الموجود في الاحتمال الآخر، أي الاحتمال الثاني من الاحتمالات الثلاثة في الرواية.

وحينئذ يتعيّن الاحتمال الثالث، وبذلك يتمّ دلالة الصحيحة على المقصود من دون أي محذور.

ثمّ إنّ المحقّق العراقي(رحمه الله) بعد أن التزم بهذا التفكيك، وجعله من قبيل ما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله) (وهو ما ورد في بعض الأخبار من قوله (عليه السلام) للخليفة العبّاسي بعد سؤال اللعين عن الإفطار في اليوم الذي شهد بعض بأنّه يوم العيد: «ذاك إلى إمام المسلمين إن صام صمنا معه، وإن أفطر أفطرنا معه» حيث إنّ الإمام(عليه السلام) إنّما قال ذلك تقيّة ومخافة على نفسه، كما بيّن (عليه السلام) ذلك بعد خروجه عن مجلس اللعين، ومع هذا يكون قوله(عليه السلام) «ذاك إلى إمام المسلمين» لبيان حكم الله الواقعي كما أنّ الفقهاء استدلّوا به على اعتبار حكم الحاكم في الهلال، وليس ذلك إلاّ لأجل أنّ تطبيق القول على المورد للتقيّة لا ينافي صدور أصل القول لبيان حكم الله الواقعي فلتكن الصحيحة فيما نحن فيه من هذا القبيل) قال: ونظير ذلك أيضاً ما ورد من استشهاد الإمام(عليه السلام)بحديث الرفع المروي عن النبي(صلى الله عليه وآله) على بطلان الحلف بالطلاق والعتاق والصدقة بما يملك عند الإكراه.»(5).

أقول: مما استدلّ به غير واحد من الأصحاب على أنّ حديث الرفع يعمّ الأحكام الوضعيّة في مبحث البراءة صحيحة المحاسن التي استشهد فيها الإمام(عليه السلام)بحديث الرفع على بطلان الحلف بالطلاق والعتاق والصدقة بما يملك، مع أنّ الحلف بهذه الثلاثة باطل عند الإماميّة ذاتاً ولو لم تكن عن إكراه، فالإمام (عليه السلام)استند لبطلانه في صورة الإكراه بحديث الرفع، وهو أمر عرضي ولم يستند من جهة التقيّة ببطلانه الذاتي، فنلتزم بالتفكيك بين أصل الاستناد إلى حديث الرفع، أي مدلوله المطابقي وهو جريان حديث الرفع في الأحكام الوضعيّة، وبين تطبيقه على المورد، أي مدلوله الالتزامي وهو صحّة الطلاق والعتاق والصدقة بما يملك لولا الإكراه، ونقول بأنّ الإمام (عليه السلام) كان في الأوّل في مقام بيان حكم الله الواقعي، وفي الثاني كان في مقام التقيّة فليكن مقامنا أيضاً كذلك.

لكن الإنصاف أنّ هذا القياس مع الفارق، لأنّ كون استناد الأصحاب لشمول حديث الرفع للأحكام الوضعيّة هناك بتلك الرواية من قبيل التفكيك بين فقرتي حديث واحد، مبنى على دلالته على صحّة الطلاق وأخويه عند العرف بالدلالة الالتزاميّة البيّنة، مع أنّها ليست أكثر من حدّ الإشعار، بخلاف ما نحن فيه الذي يكون للكبرى فيه مدلول، ولصغراها مدلول آخر وهو الظهور في الإتّصال، فلا ينتقض مختارنا هنا (وهو كون التفكيك خلاف بناء العقلاء) بما ذهب إليه الأصحاب هناك.

وأمّا رواية الهلال فالاستناد إلى كبراها أيضاً قابل للتأمّل.

ثانيهما: أنّ المستفاد من الحديث قضيّة جزئية خاصّة بصورة الشكّ بين الثلاثة والأربع، لأنّ مرجع تمام الضمائر فيه إنّما هو المصلّى، وإن أبيت عن ذلك فلا أقلّ من الإجمال.

والجواب عنه: إنّا نفهم الشمول والعموم من ثلاث قرائن:

1 ـ تناسب الحكم والموضوع.

2 ـ تعبير الإمام(عليه السلام) بقوله: «لا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات».

3 ـ قرينة خارجية وهو إشتراك هذا الحديث مع غير واحد من روايات الاستصحاب في التعبير بـ «لا تنقض ...».

بقي هنا أمران:

الأمر الأوّل: فيما أورده المحقّق العراقي(رحمه الله) على ما يستفاد من كلام الشيخ الأعظم(رحمه الله) ـ من أنّ مقتضى الاستصحاب في الشكّ في الركعات إتيان صلاة الاحتياط متّصلة، فيكون موافقاً لمذاق العامّة (إلاّ إذا قامت قرينة خارجية على خلافه) لأنّ مقتضى الاستصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة ـ ما حاصله: أنّ وجوب التشهّد والتسليم على ما يستفاد من الأدلّة مترتّب على رابعية الركعة، وهذا لا يثبت باستصحاب عدم إتيانه إلاّ من باب الأصل المثبت، لأنّ إتّصاف الركعة المأتية بكونها رابعة من اللوازم العقليّة لعدم الإتيان بها بمقتضى الاستصحاب(6).

ويجاب عنّه أوّلا: بكون الواسطة خفيّة في نظر العرف قطعاً، ولولا ذلك يكون مورد روايات الباب أيضاً من الأصل المثبت، لأنّ المستصحب فيها هو الطهارة، بينما الأثر المطلوب ترتّبه عليها إنّما هو كون الصّلاة متّصفة بالطهارة أو مقيّدة بها، ولا يخفى أنّ تقيّد الصّلاة أو إتّصافها بها من اللوازم العقليّة لوجود الطهارة.

وثانياً: بأنّه لا دليل على ترتّب وجوب التشهّد والتسليم على رابعية الركعة، بل المستفاد من الأدلّة كون التسليم في آخر الصّلاة، كما ورد في رواية القداح عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): افتتاح الصّلاة الوضوء، وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم»(7).

فموضع التسليم هو آخر الصّلاة، وهذا أمر ثابت بالوجدان

وهكذا ما ورد في أبواب التشهّد، وأنّه يأتي به في بعض الصلوات مرّه وفي بعضها الآخر مرّتين (فليس فيها أثر من تقييده بالرابعة).

الأمر الثاني: قد مرّ أنّ المقصود من قوله (عليه السلام) «يبني على اليقين» هو العمل بالاحتياط بإتيانه ركعة مفصولة، ولكن لابدّ أن نشير هنا إلى أنّ هذا الاحتياط احتياط نسبي تعبّدي لأنّه بنفسه متضمّن لخلاف الاحتياط في اُمور أربع:

1 ـ وجوب إتيان التشهّد بعد الركعة المردّدة، مع احتمال كونها هي الركعة الثالثة.

2 ـ وجوب التسليم بعد الركعة المردّدة أيضاً، مع وجود نفس الاحتمال أيضاً.

3 ـ وجوب التكبير لافتتاح صلاة الاحتياط مع احتمال كونه في أثناء الصّلاة.

4 ـ تخييره في بعض الموارد بين إتيانها قائماً أو قاعداً مع أنّ الواجب على المكلّف السالم أن يأتي بالصلاة قائماً بالتعيين.

فظهر أنّ هذا عمل بالاحتياط تعبّداً لابدّ في كيفية أدائه من بيان الشارع المقدّس.

نعم، يمكن أن يجاب عن الثلاثة الاُولى منها بأنّ التشهّد ذكر الله لا تضرّ زيادته بالصلاة، وأمّا السلام فهو وإن كان من كلام الآدمي، ولذلك لا يجوز الإبتداء به في أثناء الصّلاة (ووجوب الجواب عنه في أثنائها يكون من باب وجود دليل خاصّ) ولكنّه صادق في غير السلام المأثور في باب الصّلاة، وأمّا السلام المأثور فلا يصدق عليه أنّه من كلام الآدميين، لأنّ المراد منه الكلام الرائج بين عامّة الناس والسلام الخاصّ بباب الصّلاة ليس من هذا القبيل، فتأمّل.

وأمّا تكبيرة الإحرام فهى توجب بطلان الصّلاة فيما إذا كانت في أوّلها وافتتاحها، وأمّا إذا صدرت في الأثناء فتعدّ من ذكر الله الحسن على كلّ حال.

فيتعيّن الإشكال في خصوص الأخير، وهو التخيير بين إتيان صلاة الاحتياط قائماً أو قاعداً في بعض موارد الشكّ في الركعات.

4 ـ ما رواه الصدوق(رحمه الله) في الخصال بإسناده عن علي(عليه السلام) (في حديث الأربعمائة) قال: «من كان على يقين ثمّ شكّ فليمض على يقينه، فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين»(8).

وهذا الحديث مع عمومه وسلامته عن إشكال خصوصية المورد وسائر الإشكالات الواردة على الروايات السابقة، أورد عليها أيضاً سنداً ودلالة:

أمّا السند فللقاسم بن يحيى الذي ضعّفه العلاّمة في الخلاصة، وابن داود في رجاله.

نعم، يمكن أن يقال: الأصل في هذا القدح ابن الغضائري الذي لا اعتبار بتضعيفاته وإن كان توثيقاته معتبرة، ولكنّه مع ذلك لم يوثّق، ولابدّ في تصحيح السند من إثبات الوثاقة.

اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ الناقل عنه أحمد بن محمّد بن عيسى القمّي الذي أخرج أحمد بن محمّد بن خالد البرقي عن قم لنقله عن الضعاف، ولكنّه أيضاً ليس أكثر من قرينة على الوثاقة لا دليلا عليها.

وأمّا الدلالة فلأنّ المراد منها غير واضح، فهل هى تدلّ على قاعدة اليقين أو قاعدة الاستصحاب؟ فلابدّ أوّلا من بيان الفرق بين القاعدتين، فنقول: قد مرّ كون زمان الشكّ واليقين في الاستصحاب واحداً، وزمان متعلّقهما متعدّداً، وأمّا قاعدة اليقين فيكون (بالعكس) زمان المتعلّقين فيها واحداً، وزمان نفس اليقين والشكّ متعدّداً.

وفي هذا الحديث هناك فقرة منه (وهى قوله(عليه السلام): «من كان على يقين ثمّ شكّ») تناسب قاعدة اليقين، لأنّها ظاهرة في أنّ الشكّ حصل في زمان آخر غير زمان اليقين وتعلّق بنفس ما تعلّق به اليقين، وتناسب فقرة اُخرى منه الاستصحاب، وهى قوله(عليه السلام): «إنّ الشكّ لا ينقض اليقين» حيث إنّها ظاهرة في بقاء اليقين حين حصول الشكّ، ولذلك نهى عن نقضه به، فالتعليل الوارد في هذا الحديث ظاهر في قاعدة الاستصحاب، وصدره ظاهر في قاعدة اليقين، ولا إشكال في أنّ ظهور التعليل مقدّم، والذي يسهل الخطب هى قرينية سائر الروايات كما لا يخفى.

5 ـ ما رواه علي بن محمّد القاساني قال: «كتبت إليه وأنا بالمدينة أسأله عن اليوم الذي يشكّ فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب: اليقين لا يدخل فيه الشكّ، صمّ للرؤية وافطر للرؤية»(9).

وقد عدّه الشيخ الأعظم(رحمه الله) من أحسن روايات الباب، واختار المحقّق الخراساني والمحقّق النائيني(رحمه الله)عدم دلالته رأساً، وذهب جماعة إلى دلالته في الجملة.

فلابدّ حينئذ من البحث فيه سنداً ودلالة:

أمّا السند فاختلف في أحمد بن محمّد القاساني، قال بعض: أنّه متّحد مع أحمد بن محمّد الشيره وهو ثقة، وقال بعض آخر: أحمد بن محمّد الشيره ثقة والقاساني ضعيف، فالسند مشترك لا يمكن الاعتماد عليه، مضافاً إلى إشكال الاضمار.

أمّا الدلالة فالعمدة من الاحتمالات الموجودة فيها إثنان:

أحدهما: ما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه الله)، وهو أنّ الحديث ناظر إلى الاستصحاب، والمراد من اليقين هو اليقين بشهر شعبان واليقين بشهر رمضان، والمراد من الشكّ هو الشكّ في شهر رمضان والشكّ في شهر شوّال، وقوله (عليه السلام) «لا يدخل» أي «لا ينقض»، وقوله(عليه السلام): «صم للرؤية وافطر للرؤية» عبارة اُخرى عن قوله(عليه السلام): «انقضه بيقين آخر» في بعض الروايات الاُخر.

ثانيهما: ما في أجود التقريرات تبعاً للمحقّق الخراساني(رحمه الله): وحاصله أنّ الحديث أجنبي عن الاستصحاب لأنّه لم يعهد أن يكون «لا يدخل» بمعنى لا ينقض، بل المراد من الحديث قاعدة اليقين في خصوص باب رمضان، وهو أنّ الشارع إعتبر أن يكون صوم شهر رمضان وإفطاره يقينيين(10).

وقد اعتمد المحقّق الخراساني(رحمه الله) في هذا على روايات اُخرى وردت في الباب وهى كثيرة:

منها: ما رواه الحلبي عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «إنّه سئل عن الأهلّة فقال هى أهلّة الشهور، فإذا رأيت الهلال فصم وإذا رأيته فأفطر»(11).

ومنها: ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، وليس بالرأي ولا بالتظنّي ولكن بالرؤية»(12).

ومنها: ما رواه عمرو بن عثمان والفضل وزيد الشحّام جميعاً عن أبي عبدالله(عليه السلام): «أنّه سئل عن الأهلّة، فقال: هي أهلّة الشهور، فإذا رأيت الهلال فصم وإذا رأيته فأفطر الحديث»(13). إلى غير ذلك.

وظاهرها اعتبار حصول القطع واليقين بمشاهدة الهلال، فليكن الرواية الثالثة عشر من هذا الباب (وهى رواية القاساني المذكورة) أيضاً كذلك.

وأمّا الاحتمالات الاُخرى في الحديث فهي ثلاثة:

1 ـ أن يكون المراد من الحديث لزوم العمل على اليقين بدخول شهر رمضان فقط، وهو جزء من احتمال المحقّق الخراساني (رحمه الله).

وأورد عليه بأنّه ينافي ذيل الحديث: «وأفطر للرؤية».

2 ـ أن يكون المراد منه اعتبار اليقين في كلّ يوم من شهر رمضان لا خصوص الأوّل والآخر.

وفيه: أنّه يستلزم عدم وجوب الصيام في اليوم الآخر المشكوك كونه من رمضان أو من شوّال، ولا يقول به أحد.

3 ـ أن يكون الحديث ناظراً إلى قاعدة الإشتغال أساساً (الإشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية).

ويرد عليه: أنّ لازمه وجوب الصيام في اليوم الأوّل المشكوك كونه من رمضان أو من شعبان، وهو أيضاً لا يقول به أحد.

ثمّ إنّه يستفاد من مجموع كلمات المحقّق الخراساني والمحقّق النائيني والمحقّق الأصفهاني(رحمه الله)مؤيّدات ليكون المراد من الحديث قاعدة اليقين في خصوص باب الصوم، أي اعتبار اليقين في الصيام والإفطار، وأنّه ليس ناظراً إلى الاستصحاب:

منها: التعبير بـ «لا يدخل» عوضاً عن التعبير بـ «لا ينقض».

ومنها: الأحاديث الواردة في الباب الثالث من أبواب أحكام شهر رمضان كرواية سماعة (رفاعة) قال: «صيام شهر رمضان بالرؤية وليس بالظنّ»(14).

ورواية إسحاق بن عمّار عن أبي عبدالله(عليه السلام) أنّه قال: «في كتاب علي(عليه السلام) صمّ لرؤيته وافطر لرؤيته وإيّاك والشكّ والظنّ ...»(15).

ورواية إبراهيم بن عثمان الخزّاز عن أبي عبدالله(عليه السلام) في حديث قال: «إنّ شهر رمضان فريضة من فرائض الله فلا تؤدّوا بالتظنّي»(16).

فلا يخفى أنّ الملحوظ في هذه الروايات كون صيام رمضان بالرؤية والمشاهدة وأنّ الظنّ لا يكفي فيه، ولا نظر لها إلى اليقين بشهر شعبان حتّى يتوهّم أنّها في مقام بيان الاستصحاب.

ويمكن الاستشهاد أيضاً بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] بناءً على أن يكون المراد من الشهود مشاهدة الهلال.

ولكنّه يندفع بذيل الآية الواردة في حقّ المسافر وكذلك بالروايات الواردة في تفسيرها، فإنّها تدلّ على أنّ الشهود بمعنى الحضور في الوطن في مقابل السفر.

ومنها: تفريع الإمام (عليه السلام) قوله «اليقين لا يدخل فيه الشكّ» بقوله: «صم للرؤية وافطر للرؤية»، حيث إنّه لو كان المراد منه الاستصحاب لكان المناسب أن يقول: فلا تصم عند الشكّ في رمضان ولا تفطر عند الشكّ في شوّال» فإنّ تعبيره بالرؤية شاهد على أنّ المراد هو قاعدة اليقين المختصّة بباب الصيام.

ومنها: أنّه لو كان المراد الاستصحاب للزم أن يكون اليقين بمعنى المتيقّن، وهو خلاف الظاهر.

أقول: يمكن الجواب عن جميع هذا بما ملخّصه: أنّه لا تضادّ بين المعنيين بل إنّهما متلازمان، لأنّ لازم حجّية الاستصحاب اعتبار القطع واليقين في وجوب الصيام ووجوب الإفطار، فالعدول من أحد التعبيرين إلى الآخر ممّا لا إشكال فيه.

توضيح ذلك: أمّا المؤيّد الأوّل ففيه أنّ الدخول والنقض متلازمان لأنّ النقض بمعنى عقد البناء أو عقد الحبل، ولازم نقض البناء مثلا دخول الماء ونفوذه فيه.

وأمّا المؤيّد الثاني فمقتضى الجمع بين هذه الروايات والروايات الواردة في الباب الثالث عشر حصول الاطمئنان أيضاً بأنّ هذه الروايات تكون في مقام بيان لازم الاستصحاب ونتيجته، وهكذا بالنسبة إلى المؤيّد الثالث.

وأمّا المؤيّد الرابع فجوابه أنّ اليقين في الغالب طريق إلى المتيقّن، فيكون ناظراً غالباً إلى المتيقّن كما هو كذلك في الروايات الثلاثة لزرارة التي لا إشكال في دلالتها على الاستصحاب.

فظهر أنّ الأرجح في النظر بالنسبة إلى هذا الحديث إنّما هو كلام الشيخ(رحمه الله)وهو دلالته على الاستصحاب.

6 ـ ما رواه عمّار عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر فإذا علمت فقد قذر وما لم تعلم فليس عليك»(17).

ونظيره ما رواه حمّاد بن عثمان عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر»(18).

وكذلك ما رواه معاوية بن عمّار عن رجل من أصحابنا قال: «كنت عند أبي جعفر(عليه السلام)فسأله رجل عن الجبن فقال أبو جعفر(عليه السلام): أنّه طعام يعجبني وساُخبرك عن الجبن وغيره، كلّ شيء فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام فتدعه بعينه»(19).

وغيره من روايات الباب (الباب 61، من أبواب الأطعمة المباحة) وعلى هذا فالروايات المتظافرة بهذا المضمون، وهو يغنينا عن البحث في إسنادها.

وأمّا الدلالة: فالأقوال فيها خمسة لابدّ لتوضيحها من بيان مقدّمة، وهى أنّ هنا نوعين من الطهارة أو الحلّية: أحدهما الطهارة أو الحلّية الواقعية، والثاني الطهارة أو الحلّية الظاهريّة، والظاهريّة بنفسها أيضاً على قسمين: الطهارة أو الحلّية المستفادة من قاعدة الطهارة أو قاعدة الحلّية التي لا تلاحظ فيها الحالة السابقة، والطهارة أو الحلّية المستفادة من قاعدة الاستصحاب الملحوظة فيها الحالة السابقة.

والبحث في ما نحن فيه في أنّه هل هذه الطهارة أو الحلّية واقعيّة أو ظاهريّة؟ وعلى فرض كونها ظاهريّة هل هى من باب تطبيق قاعدة الطهارة أو الحلّية، أو من باب تطبيق قاعدة الاستصحاب.

ولا يخفى أنّ هذا القبيل من الروايات إنّما يفيدنا في المقام إذا كانت الحلّية أو الطهارة فيها ظاهرة أوّلا، ومن باب قاعدة الاستصحاب ثانياً.

وكيف كان، فالأقوال في المسألة خمسة:

1 ـ قول المحقّق الخراساني(رحمه الله) في حاشية الرسائل بأنّها ناظرة إلى الواقعيّة والظاهريّة بكلتا قسميها.

2 ـ القول بأنّها ناظرة إلى الواقعيّة بصدرها، واستصحاب الطهارة أو الحلّية بذيلها، ولا نظر لها إلى قاعدة الحلّية أو قاعدة الطهارة، وهذا هو ظاهر المحقّق الخراساني(رحمه الله) في الكفاية.

3 ـ أن يكون صدر الرواية ناظراً إلى قاعدة الحلّية أو قاعدة الطهارة، وذيلها إلى قاعدة الاستصحاب، وهذا هو قول صاحب الفصول، ولعلّه أوّل من استدلّ بها على الاستصحاب في المقام.

4 ـ أن تكون ناظرة إلى قاعدة الطهارة أو الحلّية فحسب، وهذا منسوب إلى المشهور.

5 ـ قول الشيخ الأعظم(رحمه الله) في الرسائل وهو التفصيل بين حديث «الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر» فيكون ناظراً إلى الحكم الواقعي والاستصحاب، وبين حديثين آخرين (حديث كلّ شيء نظيف(20)... وحديث كلّ شيء لك حلال) فيكونان ناظرين إلى خصوص القاعدة.

واستدلّ القائلون بعدم دلالة هذا الحديث على الطهارة الواقعيّة:

أوّلا بأنّ الطهارة والنجاسة أمران طبيعيان عرفيّان لا مجعولان شرعيّان.

أضف إلى ذلك أنّه لو كانتا مجعولين من ناحية الشرع المقدّس للزم إمكان خلوّ الواقع من كليهما، وهو خلاف إرتكاز المتشرّعة.

ويرد عليه: أنّ الطهارة والنجاسة أمران مجعولان من ناحية الشارع قطعاً وأنّ النسبة بين الطهارة والنجاسة الشرعيتين والطهارة والنجاسة العرفيتين عموم من وجه، فربّ شيء نظيف بحسب الإرتكاز العرفي ولكنّه نجس وقذر شرعاً، كالكافر النظيف وعرق الجنب عن الحرام الذي لا فرق بينه وبين عرق الجنب عن الحلال عند العرف (بناءً على ما ذكره المشهور من نجاسة الكافر، وما ذهب إليه جمع من الأصحاب من نجاسة عرق الجنب من الحرام)، وربّ شيء طاهر شرعاً ولكنّه قذر عرفاً، كالمسلم غير النظيف وغسالة الإستنجاء.

وأمّا ما ذكر من اللازم فإنّا نلتزم به ولا ضير فيه، فلا إشكال في إمكان خلوّ الواقع عن كلّ واحد من الطهارة والنجاسة.

وأمّا إرتكاز المتشرّعة فهو مختصّ بالوقوع الخارجي ومقام الإثبات لا بالإمكان ومقام الثبوت.

واستدلّوا ثانياً: بأنّ الحديث ناظر إلى الحكم الظاهري، وإنّ نظره إلى الحكم الواقعي يستلزم منه الجمع بين اللحاظين في آن واحد.

توضيح ذلك: أنّ كلمة «شيء» الواردة في الحديث لو كان المراد منه الشيء الواقعي فيكون هو الشيء بعنوانه الأوّلي، أي الشجر مثلا بما هو شجر، والفاكهة بما هى فاكهة، ولو كان المراد منه الحكم الظاهري فيكون المراد منه الشيء بما هو مشكوك، ولا يخفى أنّ الحكم الظاهري متأخّر عن الحكم الواقعي برتبتين، فإنّ الحكم الواقعي متأخّر عن موضوعه برتبة، والشكّ فيه موضوع للحكم الظاهري، فيكون الحكم الظاهري متأخّراً عن الحكم الواقعي برتبة اُخرى، ومع هذا لا يمكن كون لفظ واحد فانياً في المعنيين في آن واحد.

وهكذا بالنسبة إلى كلمة «نظيف» (أو طاهر) فلا يمكن أن يريد منه النظافة الواقعيّة والظاهريّة معاً بنفس البيان.

وكذلك بالنسبة إلى قوله(عليه السلام): «حتّى تعلم» لأنّه إذا كان المراد من الطهارة الطهارة الواقعية كان العلم فيها مأخوذاً بعنوان الطريق إلى الواقع، لأنّه لا يمكن أن تكون الطهارة الواقعية مغيّاة بالعلم بالنجاسة، بل إنّها مغيّاة بالنجاسة الواقعيّة.

وإن كان المراد منها الطهارة الظاهرية كان العلم فيها مأخوذاً بعنوان الموضوع، لأنّ العلم يرتفع به موضوع الطهارة الظاهرية وهو الشكّ.

ولا إشكال في أنّ اللحاظ في العلم الطريقي آلي، وفي الموضوعي استقلالي، والجمع بينهما محال، وحينئذ نقول: لا كلام في كون الطهارة الظاهرية مرادة قطعاً، فيستحيل أن تكون الطهارة الواقعيّة أيضاً مرادة.

ولكن يمكن الجواب عنه: بأنّ كلّ هذه مبنى على مبنى فاسد في حقيقة الاستعمال، وهو أنّ حقيقة الاستعمال فناء اللفظ في المعنى كما هو مختار المحقّق الخراساني ومن تبعه، وأمّا إذا قلنا بأنّ الاستعمال نوع من التعهّد والالتزام، أي التعهّد بأنّ هذا اللفظ علامة لهذا المعنى فلا إشكال في البين ولا استحالة.

إن قلت: فكيف يكون المتكلّم غافلا عن اللفظ وملتفتاً إلى خصوص المعنى حين التلفّظ؟ وكيف يسري القبح أو الحسن من المعنى إلى اللفظ؟

قلنا: كلّ هذا لأجل كثرة الاستعمال، ولا ربط بالفناء ونحوها، وإن أبيت فانظر إلى من كان حديث العهد بلغة جديدة، فإنّه ينظر إلى اللفظ أيضاً حين الاستعمال، ولا يحسّ قبحاً أو حسناً بالنسبة إلى الألفاظ التي لها معان قبيحة أو معان حسنة، فإذا ضممنا هذا إلى ما اخترناه في محلّه من جواز استعمال لفظ واحد في أكثر من معنى بلا إشكال، وإنّ كثيراً من البدائع والظرائف الكلامية مبنية عليه (كما جاء في قول الشاعر:

المرتمى في الدجى والمبتلى بعمى *** والمبتغي ديناً والمشتكي ظمأً

يأتون سدّته من كلّ ناحية *** ويستفيدون من نعمائه عيناً

والنتيجة إندفاع إشكال الجمع بين اللحاظين، كما مرّ تفصيله في محلّه.

إلى هنا ثبت إمكان إرادة المعاني الثلاثة معاً (الحكم الواقعي والقاعدة والاستصحاب) من الحديث وأنّه لا استحالة فيه.

لكن الكلام بعدُ فيما هو الظاهر منه، فنقول: الصحيح أنّ الظاهر منه بصدره وذيله وبغايته ومغيّاه إنّما هو قاعدة الطهارة والحلّية، كما نسب إلى المشهور، فلا يستفاد منها الحكم الواقعي ولا الاستصحاب، وذلك لقرائن مختلفة:

أحدها: أنّ الغاية (وهى كلمة «حتّى تعلم») سواء كانت قيداً للموضوع (أي كلّ شيء مقيّد بعدم العلم بنجاسته طاهر) أو كان قيداً للحكم (أي كلّ شيء طاهر بالطهارة المقيّدة بعدم العلم بالنجاسة) أو كان قيداً للنسبة كما هو الموافق مع الوجدان العرفي والإرتكاز العقلائي (أي أنّ الطهارة ثابتة ما لم يعلم بالنجاسة) لا تناسب كون المراد الحكم الواقعي، لأنّ الأحكام الواقعيّة مغيّاة بقيود واقعيّة وعناوين حقيقية، وليست تابعة للعلم والجهل، فإنّ ماء الكرّ مثلا طاهر واقعاً إلى أن يتغيّر لونه أو طعمه أو ريحه بالنجاسة واقعاً، لا إلى أن يعلم بتغيّره.

الثانية: أنّ العرف إذا اُعطيت بيده الغاية (حتّى تعلم) يؤخذ ضدّها (وهو الشكّ) في

موضوع المغيّى فيحكم بأنّ المغيّى في ما نحن فيه عبارة عن «كلّ شيء مشكوك»، أي «كلّ شيء مشكوك طاهر حتّى تعلم أنّه قذر»، أو «كلّ شيء طاهر ما دمت في شكّ حتّى تعلم أنّه قذر»، ولا يخفى أنّ المأخوذ في موضوعه الشكّ حكم ظاهري لا واقعي.

الثالثة: ظاهر التعبير بـ «حتّى تعلم أنّه قذر» أنّه قد سبقه جعل حكم واقعي بالطهارة أو القذارة ثمّ شكّ فيه، فلا يكون المقام إلاّ مقام الحكم الظاهري.

هذه قرائن يندفع بها احتمال إرادة الحكم الواقعي، ويثبت أنّ الظاهر هو جعل حكم ظاهري، وحينئذ يبقى الكلام في أنّ الظاهر من الحديث هل هو قاعدة الطهارة أو الحلّية، أو الظاهر منه استصحاب أحدهما؟ فنقول: الصحيح هو الأوّل، لأنّ معنى الاستصحاب يحتاج إلى ما يدلّ على استمرار الحالة السابقة، وهو غير ظاهر في الحديث.

إن قلت: يدلّ عليه كلمة «حتّى»، لأنّها تدلّ على الاستمرار.

قلنا: هذا الاستمرار إنّما هو من جهة بقاء الحكم ببقاء موضوعه الثابت في جميع الموارد، لا الاستمرار الاستصحابي، فمعنى الحديث أنّ حكم الطهارة ثابت لمشكوك الطهارة ما دام مشكوكاً، وأين هذا من الاستصحاب؟

إن قلت: يمكن أن يكون صدر الحديث ناظراً إلى الحكم الواقعي وذيله إلى الاستصحاب (كما هو ظاهر المحقّق الخراساني(رحمه الله) في الكفاية) فيكون المعنى في الواقع: «الأشياء بعناوينها الواقعية طاهرة، ويستمرّ هذا الحكم عند الشكّ حتّى تعلم أنّه نجس»، فيصير «حتّى تعلم» غاية للجملة المقدّرة (أي لجملة «يستمرّ هذا الحكم») لا للحكم الواقعي حتّى يستشكل بعدم إمكان وقوع العلم غاية له.

قلنا: التقدير خلاف الظاهر ومحتاج إلى قرينة، وهى مفقودة في المقام.

إن قلت: أي مانع في أنّ يكون صدر الحديث ناظراً إلى القاعدة وذيله إلى الاستصحاب مع عدم ابتلائه بإشكال التقدير؟

قلنا: هذا غير ممكن فإنّه لولا التقدير لكان الذيل غاية لما ثبت في الصدر، فكما أنّ الذيل ناظر إلى الحكم الظاهري (أي الطهارة للمشكوك) لابدّ أن يكون صدره كذلك.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ ما نسب إليه المشهور هو الحقّ، وهو أنّ الحديث دالّ على خصوص القاعدة بصدره وذيله.

بقي هنا شيء:

وهو استشهاد المحقّق الخراساني(رحمه الله) لإثبات مقالته في الحديث (وهو أنّ صدر الحديث ناظر إلى حكم الله الواقعي وذيله إلى الاستصحاب) بما ورد في ذيل الحديث، وهو «فإذا علمت فقد قذر وما لم تعلم فليس عليك»، حيث إنّ الفقرة الاُولى وهى (فإذا علمت فقد قذر) بمنزلة قوله(عليه السلام): «بل إنقضه بيقين آخر» والفقرة الثانية وهى قوله(عليه السلام): «وما لم تعلم فليس عليك» بمنزلة قوله(عليه السلام): «لا تنقض اليقين بالشكّ» فتكون الفقرتان متلائمتين ومرتبطتين معاً بالاستصحاب، بخلاف ما إذا قلنا بأنّ صدر الرواية ناظر إلى القاعدة وذيلها إلى الاستصحاب، حيث إنّه حينئذ لابدّ من أن تكون الفقرة الثانية ناظرة إلى قاعدة الطهارة، لأنّ معنى «ما لم تعلم» هو الشكّ الذي يكون موضوعاً لها، مع أنّ الفقرة الاُولى ناظرة إلى الاستصحاب بلا ريب، وبهذا يلزم التفكيك بين الفقرتين، وهو خلاف الظاهر، حيث إنّ الظاهر كون الثانية من قبيل المفهوم للاُولى.

والجواب عنه: أنّه كذلك فيما إذا دار الأمر بين إرادة الحكم الواقعي والاستصحاب من الحديث، أو القاعدة والاستصحاب، وأمّا بناءً على المختار (من كون الحديث بصدره وذيله ناظراً إلى القاعدة) فيكون المراد من الفقرة الاُولى بيان أنّ الحكم يرتفع إذا تبدّل موضوع القاعدة وهو الشكّ إلى العلم، ومن الفقرة الثانية بيان أنّ هذا الحكم ثابت ما دام الموضوع باقياً، فهما ناظران إلى طرفي مفهوم واحد.

7 ـ ومن الروايات ما رواه عبدالله بن سنان قال: «سأل أبي أبا عبدالله(عليه السلام) وأنا حاضر، أنّي اُعير الذمّي ثوبي وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير فيردّه عليّ فأغسله قبل أن اُصلّي فيه؟ فقال أبو عبدالله(عليه السلام): صلّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ولم تستيقن أنّه نجّسه فلا بأس أن تصلّي فيه حتّى تستيقن أنّه نجّسه»(21).

ولكن الإنصاف أنّها من الروايات الخاصّة التي لا يستفاد منها العموم، ولو سلّمنا ظهور التعليل الوارد فيها في العموم إلاّ أنّه مختصّ أيضاً بباب الطهارة والنجاسة ويشكل التعدّي عنه إلى غيره، فالأولى جعلها مؤيّدة للمقصود.

8 ـ ومنها ما رواه عبدالله بن بكير عن أبيه قال: قال لي أبو عبدالله (عليه السلام): «إذا استيقنت إنّك قد أحدثت فتوضّأ، وإيّاك أن تحدث وضوء أبداً حتّى تستيقن أنّك قد أحدثت»(22).

وهذا أيضاً خاصّ بباب الوضوء وإن كان تعليق الحكم فيه على وصف اليقين مشعراً العلّية، فالأولى أيضاً جعلها مؤيّدة.

___________
 

  1. وسائل الشيعة: ج1، أبواب نواقض الوضوء، الباب1، ح1
  2. ولعلّ من هذا الباب بدّل صاحب الفصول الضمير باسم الظاهر، وإلاّ فمن البعيد جدّاً حصوله على منبع ذكر فيه اسم الظاهر مقام الضمير ولم يصل إلينا مع أنّه قريب العصر منّا.
  3. وسائل الشيعة: ج2، أبواب النجاسات، ح2، من الباب42، وح1، من الباب41، مع ما ورد في الهامش، وح1، من الباب44، وح1، من الباب37، فأنت بالمراجعة إلى هذه المواضع الخمسة تجد الرواية إلى قوله(عليه السلام): «الذي وقع في نفسك» وبمراجعتك إلى التهذيب: ج1، ص421 طبع الآخوندي تجدها بمجموعها.
  4. وسائل الشيعة: ج5، الباب10 و11، من أبواب الخلل، ح3، في كلا البابين.
  5. راجع نهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص58.
  6. راجع نهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص59 ـ 60.
  7. وسائل الشيعة: الباب1، من أبواب التسليم، ح1
  8. وسائل الشيعة: ج1، أبواب نواقض الوضوء، الباب1، ح1.
  9. وسائل الشيعة: ج7، أبواب أحكام شهر رمضان، الباب3، ح13.
  10. راجع أجود التقريرات: ج2، ص373، طبع مؤسسة مطبوعات ديني.

11. وسائل الشيعة: الباب3، من أبواب أحكام شهر رمضان، ح1.

12. المصدر السابق: ح2.

13.وسائل الشيعة: الباب 3، من أبواب أحكام شهر رمضان، ح3.

14. المصدر السابق: ح6.

15. وسائل الشيعة: الباب 3، من أبواب أحكام شهر رمضان، ح11.

16. المصدر السابق: ح16.

17. وسائل الشيعة: الباب37، من أبواب النجاسات، ح4.

18. المصدر السابق: ح5.

19. المصدر السابق: ح7.

20. لا يخفى أنّ تعبير الشيخ الأعظم(رحمه الله) في الرسائل عن هذا الحديث: «كلّ شيء طاهر حتّى يعلم ورود النجاسة عليه» بينما الوارد في الوسائل إنّما هو «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر» (وسائل الشيعة: أبواب النجاسات، الباب37، ح4).

21. وسائل الشيعة: الباب74، من أبواب النجاسات، ح1.

22. وسائل الشيعة: الباب1، من أبواب نواقض الوضوء، ح7.




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.


لأعضاء مدوّنة الكفيل السيد الصافي يؤكّد على تفعيل القصة والرواية المجسّدة للمبادئ الإسلامية والموجدة لحلول المشاكل المجتمعية
قسم الشؤون الفكرية يناقش سبل تعزيز التعاون المشترك مع المؤسّسات الأكاديمية في نيجيريا
ضمن برنامج عُرفاء المنصّة قسم التطوير يقيم ورشة في (فنّ الٕالقاء) لمنتسبي العتبة العباسية
وفد نيجيري يُشيد بمشروع المجمع العلمي لحفظ القرآن الكريم