المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 7457 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
{ربنا وآتنا ما وعدتنا على‏ رسلك}
2024-04-28
ان الذي يؤمن بالله يغفر له ويكفر عنه
2024-04-28
معنى الخزي
2024-04-28
شروط المعجزة
2024-04-28
أنواع المعجزة
2024-04-28
شطب العلامة التجارية لعدم الاستعمال
2024-04-28

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


القــول في الظـــن   
  
839   11:53 صباحاً   التاريخ: 18-8-2016
المؤلف : تقريرا لبحث السيد الخميني - بقلم الشيخ السبحاني
الكتاب أو المصدر : تهذيب الأصول
الجزء والصفحة : ج2 ص 364.
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / علم اصول الفقه / مباحث الحجة /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 18-8-2016 739
التاريخ: 5-9-2016 1139
التاريخ: 5-9-2016 1087
التاريخ: 18-8-2016 1273

الكلام في الظنّ :

ولابدّ من الكلام في مقامين :

الأوّل : في إمكان التعبّد بالظنّ ، والثاني : في وقوع التعبّد به .

المقام الأوّل: في إمكان التعبّد بالظنّ :

وقد حكي عن ابن قبة امتناع التعبّد وإنكار إمكانه(1) ، إلاّ أنّ ما استدلّ به ليس على نسق واحد; فإنّ قوله : التعبّد بالخبر الواحد يستلزم اجتماع الحلال والحرام والمفسدة والمصلحة وإن كان ظاهراً في نفي الإمكان إلاّ أنّ قوله الآخر : لو جاز الإخبار عن النبي لجاز الإخبار عن الله يلوح منه نفي الوقوع مع قبول إمكانه ، وعليه لا يكفي في ردّه إثبات الإمكان حتّى يثبت وقوعه.

المراد من «الإمكان» في عنوان البحث ثمّ إنّ الاستحالة التي ادّعيت إنّما هي الذاتي أو الوقوعي ، وأمّا الإمكان فليس المراد منه الإمكان الذاتي قطعاً ; فإنّه يحتاج إلى إقامة البرهان عليه ، ولا  برهان عليه .

بل المراد الإمكان الاحتمالي الواقع في كلام الشيخ رئيس الصناعة من «أ نّه كلّما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه قائم البرهان»(2) .

والإمكان الاحتمالي معناه تجويز وقوعه في مقابل ردعه وطرحه بلا برهان ، وإن شئت قلت : عدم الأخذ بأحد طرفي القضية ، والجزم بإمكانه أو امتناعه ، كما هو ديدن غير أصحاب البرهان .

وهذا من الأحكام العقلية ، يحكم به العقل السليم ، ولو جرى عليه العقلاء في اجتماعهم فلأجل حكم عقولهم الصحيحة ، وليس بناء منهم على الإمكان لمصلحة من المصالح الاجتماعية ، كما هو الحال في سائر اُصولهم العقلائية .

ثمّ إنّ ما هو المحتاج إليه في هذا المقام هو الإمكان الاحتمالي ; فلو دلّ دليل على حجّية الظنون وجواز العمل بآحاد الأخبار لا يجوز رفع اليد عن ظواهر تلك الأدلّة ما لم يدلّ دليل قطعي على امتناعه .

نعم ، لو دلّ دليل قطعي على امتناعه يأوّل ما دلّ على حجّيتها بظواهره . فاللازم ردّ ما استدلّ به القائل على الامتناع ; حتّى ينتج الإمكان الاحتمالي ، فيؤخذ بظواهر أدلّة الحجّية .

وبذلك يظهر : أنّ تفسير الإمكان بالذاتي والوقوعي في غير محلّه ; إذ مع أ نّه لا طريق إليه غير محتاج إليه . نعم الاستحالة المدّعاة هي الذاتي والوقوعي على بعض تقاديرها .

فالأولى أن يقال في عنوان البحث هكذا : «القول في عدم وجدان الدليل على امتناع التعبّد بالأمارات» .

وأمّا ما أفاد بعض أعاظم العصر من أنّ الإمكان هو الإمكان التشريعي لا التكويني ; فإنّ التوالي المتوهّمة هي المفاسد التشريعية لا التكوينية(3)  فلا يخلو عن إشكال ; فإنّ الإمكان التشريعي قسم من الوقوعي ، وليس قسيماً له . ولو صحّ تقسيمه حسب المورد لصحّ تقسيمه إلى أ نّه قد يكون فلكياً وعنصرياً ، ملكياً وملكوتياً ، وهكذا .

أضف إلى ذلك : أنّ المحذورات المتوهّمة ـ مثل اجتماع الحبّ والبغض ، والمصلحة والمفسدة ، والكراهة والإرادة في مورد واحد ـ محذورات تكوينية لا غير .

المحذورات المتوهّمة في التعبّد بالظنّ لمّا كان المنقول عن ابن قبة ممّا بحث عنه الأصحاب كثيراً ، فنرى المقام غنياً عن ذكر عبارته وجوابه ، فنبحث في المقام مثل ما بحث عنه الأعاظم من المتأخّرين ، ويتّضح في ضمنه خلل ما استدلّ به ابن قبة ; وإن كان كلامه أساساً لبعض ما ذكر .

فنقول : إنّ المحذورات المتوهّمة : إمّا راجعة إلى ملاكات الأحكام ، كاجتماع المصلحة والمفسدة الملزمتين بلا كسر وانكسار .

وإمّا إلى مبادئ الخطابات ، كاجتماع الكراهة والإرادة ، والحبّ والبغض .

أو إلى نفس الخطابات ، كاجتماع الضدّين والنقيضين والمثلين .

وإمّا إلى لازم الخطابات ، كالإلقاء في المفسدة وتفويت المصلحة .

فهذه أقسام أربعة من المحذورات ، وعلى ذلك فحصر ملاك الامتناع في الملاكي والخطابي(4)  لا وجه له ، كما أنّ عدّ الأخير من المحذورات الملاكية(5)  لا  يخلو عن خلل . فنقول :

المحذور الأوّل : تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة

أمّا هذا المحذور الذي هو رابع المحاذير  ; فلأنّ المفروض : أنّ الظنّ ليس دائم المطابقة ، فالأمر بالعمل على طبقه تفويت للمصالح من الشارع على المكلّف وإلقاء للمفاسد ; إذ لولا أمره لكان عليه السؤال وتحصيل العلم عند الانفتاح ، والعمل بالاحتياط عند انسداده .

وبذلك يظهر : أنّ هذا المحذور لا يختصّ بصورة الانفتاح ، كما ادّعاه بعض أعاظم العصر ـ قدس سره ـ  ; قائلاً بأنّ العمل على طبق الأمارة لو صادف خير جاء من قبلها(6) ، بل يجري في صورة الانسداد أيضاً ; إذ لولا أمره وترخيصه تركَ الاحتياط كان عليه العمل بما هو مبرئ للذمّة قطعاً .

وما استدلّ به مسلّم لو كان الأمر دائراً بين العمل به وبين ترك العمل به وبغيره مطلقاً ، لكنّه دائر بين العمل به وبين العمل بالاحتياط أو التجزّي فيه ، فلا يختصّ الإشكال بصورة الانفتاح ، بل يعمّ .

وقد يذبّ عن الإشكال : بأنّ الأمارات غير العلمية ربّما يمكن أن تكون أكثر إصابة عن العلم والاعتقاد الجازم أو مساوية لها ، فالشارع الواقف على السرائر لأجل وقوفه على هذه الجهة أمر بالعمل على طبق الأمارات ، وترك تحصيل العلوم المساوية للأمارات من حيث الصدق أو أدون ، فلا يكون إلقاء في المفسدة أو تفويتاً للمصلحة كان باب العلم مفتوحاً أو منسدّاً(7) .

الظاهر : عدم صحّة الجواب ; فإنّه إن أراد من الانفتاح حال حضور الإمام مع إمكان نيل حضوره والسؤال عنه فلا إشكال أنّ المسموع عنه ـ عليه السلام ـ أقلّ خطاءً من هذه الروايات المنقولة بوسائط ; فإنّ احتمال مخالفة الواقع فيما سمعه عن الإمام ليس إلاّ لأجل التقية أو أمر أندر منه . وهذا بخلاف الروايات المعنعنة المنقولة عن رجال يختلفون في الحفظ والوثاقة وحسن التعبير وجودة الفهم .

وإن أراد منه حضوره ـ عليه السلام ـ مع تعسّر السؤال عنه ـ لبعد بلد المكلّف أو كونه محبوساً أو محصوراً من ناحية الأشرار ـ ففيه : أنّ تحصيل العلم التفصيلي غير ممكن عادة ; حتّى يقال بأنّ الأمارات أكثر مطابقة منه ، وما هو الممكن هو العلم بالموافقة الإجمالية ، ولكنّه دائم المطابقة للواقع ; إذ لو أتى المكلّف بمؤدّى الأمارة وسائر المحتملات فلا يعقل أصوبية مؤدّى الأمارة عن العلم ، ولو صدق ذلك لكان الاحتياط في موارد تحقّق الأمارة خلاف الاحتياط ، مع الضرورة بخلافه ، ويظهر منه حال الانسداد .

فإن قلت : إنّ أمـر الشارع بالتعبّد بأخبار الآحاد علّـة لانتشار الأحاديث فـي الأقطـار والأمصار، فلو لم يقع مـن الشارع إيجاب التعبّد بها لم يتحقّق الـدواعي إلى نقلها أصلاً ، ولو ترك نقلها صارت الأحكام منسية غير معلومة ; لا إجمالاً ولا تفصيلاً ، ومعـه لا يتمكّن الإنسان مـن الإطاعـة الإجماليـة والاحتياط في العمل ; لأنّ طريقه صار مغفولاً عنه ; لعدم انقداح الاحتمال في الأذهان إلاّ ببركة ما وصل إلينا منهم ـ عليهم السلام ـ  .

قلت ـ مع أنّ الدواعي إلى نقل الأخبار كثيرة ـ إنّ الشارع يمكن أن يتوصّل إلى غرضه ـ الاحتياط عند عدم العلم ـ بإيجاب نشر الروايات ونقلها وبثّها حتّى يحصل بذلك موضوع للعمل بالاحتياط .

ويمكن أن يذبّ عن الإشكال : بأنّ في إيجاب تحصيل العلم التفصيلي في زمان الحضور وفي إيجاب الاحتياط في زمن الغيبة أو الحضور مع عدم إمكان الوصول إليه ـ عليه السلام ـ مفسدة غالبة .

توضيحه : أمّا في زمان الانفتاح : فلأنّ السؤال عن الأئمّة ـ عليهم السلام ـ وإن كان أمراً ممكناً غير معسور إلاّ أنّ إلزام الناس في ذلك الزمان على العمل بالعلم كان يوجب ازدحام الشيعة على بابهم وتجمّعهم حول دارهم ، وكان التجمّع حول الإمام أبغض شيء عند الخلفاء ، وكان موجباً للقتل والهدم وغيرهما .

فلو فرض وجوب العلم التفصيلي في زمن الصادقين ـ عليهما السلام ـ كان ذلك موجباً لتجمّع الناس حول دارهما وديارهما ، بين سائل وكاتب وقارئ ومستفسر ، وكان نتيجة ذلك تسلّط الخلفاء على الشيعة وردعهم وقطع اُصولهم عن أديم الأرض ، وعدم وصول شيء من الأحكام الشرعية موجودة بأيدينا .

فدار الأمـر بين العمل بالأخبار الواردة عنهم ـ عليهم السلام ـ بطريق الثقات الموصلـة إلى الواقـع غالباً ـ وإن خالفت أحياناً ـ وبين إيجاب العلم حتّى يصل بعض الشيعـة إلى الواقع ، ويحـرم آلاف مـن الناس عـن الأحكام والفروع العمليـة ; لما عرفت أنّ الإلـزام على تحصيل العلم كـان مستلزماً للتجمّع على باب الأئمّـة ، وكان نتيجـة ذلك صدور الحكم مـن الخلفاء بأخـذهم وشـدّهم وضربهم وقتلهم واضطهادهم تحت كلّ حجر ومدر .

وأمّا الاحتياط في هذه الأزمان أو زمن الحضور لمن لم يمكن له الوصول إليهم ـ عليهم السلام ـ ففساده أظهر من أن يخفى ; فإنّه مستلزم للحرج الشديد واختلال النظام ورغبة الناس عن الدين الحنيف ، بل موجب للخروج من الدين ; فإنّ الحكيم الشارع لابدّ له ملاحظة طاقة الناس واستعدادهم في تحمّل الأحكام والعمل بها .

ومثله التبعيض في الاحتياط ; فإنّه لو لم يوجب حرجاً شديداً لكنّه موجب رغبة جمهرة الناس عن الدين .

وبالجملة : البناء على الاحتياط المطلق أو بمقدار ميسور في جميع التكاليف ; من العبادات والمعاملات والمناكحات وغيرها يستلزم الحرج الشديد في بعض الأحوال ، ورغبة الناس عن الدين وقلّة العاملين من العباد للأحكام في بعض آخر . فلأجل هـذا كلّه أمضى عمل العقلاء وبنائهم في العمل بالظنون وأخبار الآحاد بمقدار يؤسّس لهم نظاماً صحيحاً ، وهذا وإن استلزم فساداً وتفويتاً غير أ نّـه في مقابل إعراض الناس عنه وخروجهم منه وقلّة المتديّنين بـه لا يعدّ إلاّ شيئاً طفيفاً يستهان به .

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم ـ قدس سره ـ التزم بقبح التعبّد بالظنون في حال الانفتاح ، وأمّا حال الانسداد فقد ذهب إلى أنّ التفويت متدارك بالمصلحة السلوكية(8) .

وأوضحه بعض أعاظم العصر بما حاصله : أنّ قيام الأمارة يمكن أن يكون سبباً لحدوث مصلحة في السلوك مع بقاء الواقع والمؤدّى على ما هما عليه من المصلحة والمفسدة ، من دون أن يحدث في المؤدّى مصلحة بسبب قيام الأمارة غير ما كان عليه من المصلحة ، بل المصلحة في تطرّق الطريق وسلوك الأمارة وتطبيق العمل على مؤدّاها والبناء على أنّه هو الواقع ، بترتيب الآثار المترتّبة على الواقع على المؤدّى ، وبهذه المصلحة السلوكية يتدارك ما فات من المكلّف(9) ، انتهى .

أقول : وفيه مواقع للنظر :

منها : أنّ حجّيـة الأمـارة في الشرع ليس إلاّ إمضاء مـا كان في يـد العقلاء في معاشهم ومعادهم، مـن غير أن يزيـد عليه شيئاً أو ينقص منه شيئاً . ومـن المعلوم أنّ اعتبار الأمارات لأجل كونها طريقاً للواقع فقط ، مـن دون أن يترتّب على العمل بها مصلحة وراء إيصالها إلى الواقع ، فليس قيام الأمارة عند العقلاء محدثاً للمصلحة ; لا في المؤدّى ولا في العمل بها وسلوكها . وعليه فالمصلحة السلوكية لا أساس لها .

ومنها : أ نّه لا يتصوّر لسلوك الأمارة وتطرّق الطريق معنى وراء العمل على طبق مؤدّاها ، فإذا أخبر العادل بوجوب صلاة الجمعة فليس سلوكها إلاّ العمل على مؤدّاها والإتيان به . فلا يتصوّر للسلوك وتطرّق الطريق مصلحة وراء المصلحة الموجودة في الإتيان بالمؤدّى .

وإن شئت قلت : الإتيان بالمؤدّى مع المؤدّى المحقّق في الخارج غير متغايرين إلاّ في عالم الاعتبار ، كتغاير الإيجاد والوجود . فهذه المفاهيم المصدرية النسبية لا يعقل أن تصير متّصفة بالمصلحة والمفسدة ، بل المفسدة والمصلحة قائمة بنفس الخمر والصلاة .

وبعبارة أوضح : كون شرب الخمر وإتيان الصلاة متعلّقاً للحرمة والوجوب وموصوفاً بالمصلحة والمفسدة لا ينافي كون تطرّق الطريق محلاًّ للحكم وموضوعاً له ; فإنّ تطرّق الطريق عين ترك شرب الخمر وعين الإتيان بالصلاة .

ومنها : أنّ ظاهر عبارة الشيخ وشارح مراده أنّ المصلحة قائمة بالتطرّق والسلوك ، بلا دخالة للواقع في حدوث تلك المصلحة . وعليه فلو أخبر العادل عن الاُمور العادية لزم العمل على قوله في هذه الموارد أيضاً ; لأنّه ذا مصلحة سلوكية ، وهو كما ترى .

ومنها : أنّ لازم تدارك المصلحة الواقعية بالمصلحة السلوكية هو الإجزاء وعدم لزوم الإعادة والقضاء ; إذ لو لم يتدارك مصلحة الواقع لزم قبح الأمر بالتطرّق ، ولو تدارك سقط الأمر ، والمفروض أنّ المصلحة القائمة بتطرّق الطريق ليست مقيّدة بعدم كشف الخلاف . فما يظهر من التفصيل من الشيخ الأعظم وبعض أعاظم العصر ليس في محلّه .

ثمّ إنّ البحث عن الإجزاء قد فرغنا عنه في الأوامر فراجع ، وسيوافيك لُباب القول فيه في مبحث الاجتهاد والتقليد .

المحذور الثاني : محذور اجتماع الضدّين والنقيضين والمثلين أمّا هذا المحذور الذي كان ثالث المحاذير فهو مبني على ما هو المسلّم عندهـم ; مـن أنّ الأحكام الخمسـة متضـادّة بأسرهـا ، يمتنع اجتماعها فـي موضوع  واحد(10) .

والمراد من الأحكام ـ على ما صرّحوا به في بحث اجتماع الأمر والنهي وفي باب الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ـ هو الأحكام البعثية والزجرية وغيرهما ، فلو فرضنا كون صلاة الجمعة محرّمة في نفس الأمر ، وقامت الأمارة على وجوبها تصير صلاة الجمعة مهبطاً لحكمين متضادّين .

ولا يخفى عليك : أنّ ما اشتهر بينهم من أنّ الأحكام متضادّة بأسرها ليس له أساس صحيح ، وقد استوفينا بعض الكلام في ذلك عند البحث عن جواز اجتماع الأمر والنهي ، ولكن نعيده هنا; حذراً عن الإحالة :

فنقول : إنّهم عرّفوا الضدّين بأنّهما الأمران الوجوديان غير المتضائفين ، المتعاقبان على موضوع واحد ، لا يتصوّر اجتماعهما فيه ، بينهما غاية الخلاف . وعليه : فما لا وجود له لا ضدّية بينه وبين شيء آخر ، كما لا ضدّية بين أشياء لا  وجود لها ، كالاعتباريات التي ليس لها وجود إلاّ في وعاء الاعتبار .

وعلى هذا التعريف لا ضدّية أيضاً بين أشياء لا حلول لها في موضوع ولا قيام لها به ; قيام حلول وعروض .

إذا عرفت هذا فاعلم : أنّ الإنشائيات كلّها من الاُمور الاعتبارية لا تحقّق لها إلاّ في وعاء الاعتبار ; فإنّ دلالة الألفاظ المنشأ بها على معانيها إنّما هي بالمواضعة والوضع الاعتباريين ، فلا يعقل أن يوجد بها معنى حقيقي تكويني أصيل .

فهيئة الأمر والنهي وضعت للبعث والزجر الاعتباريين في مقابل البعث والزجر التكوينيين . فقول القائل «صلّ» مستعمل في إيجاد البعث والحثّ والتحريك الاعتباري ، فالعلّة اعتباري والمعلول مثله .

ومـا ربّما يقال : مـن أنّ الإنشاء قـولٌ قُصد به ثبوت المعنى فـي نفس الأمر(11) ، يراد به أنّ نفس الإنشاء يكون منشأ للمعنى في وعاء الاعتبار ; بحيث يكون الألفاظ التي بها يقع الإنشاء ـ كهيئتي الأمر والنهي ـ مصاديق ذاتية للّفظ وعرضية للمعنى المنشأ ، لا أ نّهما علل المعاني المنشأة ; فإنّ العلّية والمعلولية الحقيقيتين لا يعقل بينهما .

وإن شئت قلت : إنّ التكلّم بصيغة الأمر بما هو تكلّم وصوت معتمد على مقطع الفم أمر تكويني من مراتب التكوين ، وأمّا جعل هذا التكلّم دليلاً على إرادة البعث والتحريك بلا آلة تكوينية فإنّما هو بالجعل والمواضعة التي هي الموجب الوحيد لانفهام الأمر المنشأ البعث ، فإذا كان المبدأ أمراً اعتبارياً فالآخر مثله .

وعلى هذا الأساس فالأحكام التكليفية كلّها من الاُمور الاعتبارية لا وجود حقيقي لها إلاّ في وعاء الاعتبار .

ومن ذلك يعلم : أنّ الإضافات المتصوّرة عند الأمر بالشيء ليست إلاّ إضافات اعتبارية ، فإنّ للأمر إضافة إلى الآمر إضافة صدور ، وإضافة إلى المأمور إضافة انبعاث ، وإضافة إلى المتعلّق إضافة تعليقية أوّلية ، وإلى الموضوع إضافة تعليقية ثانوية ، وهكذا . فهذه الإضافات ليست من مراتب التكوين ، وإنّما هي اُمور اعتبارية يستتبع بعضها بعضاً .

وبذلك يظهر : أنّ الأحكام التكليفية ليست أعراضاً بالنسبة إلى متعلّقاتها ، فليس قيام المعاني الاعتبارية ـ الأحكام ـ بمتعلّقاتها أو موضوعاتها قيام حلول وعروض فيهما ، بل كلّ ذلك تشبيهات وتنزيلات للمعقولات على المحسوسات ; فإنّ الاُمور الاعتبارية أنزل من ذلك كلّه .

إذا عرفت ذلك : تقف على بطلان القول بأنّ الأحكام الخمسة اُمور متضادّة ، كما اشتهر عنهم في باب الترتّب واجتماع الأمر والنهي والجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية وغيرها .

وأظنّ أ نّك بعد الوقوف على ما ذكرنا تقف على أنّ بطلان الضدّية فيها ليس لأجل انتفاء شرط الضدّية أو قيدها فيها ، بل البطلان لأجل أنّ التضادّ والتماثل والتخالف من مراتب الحقيقة ـ أي الماهية الموجودة في المادّة الخارجية ـ فالأحكام لا حظّ لها من الوجود الخارجي حتّى يتحمّل أحكامه . وقس عليه سائر القيود ; فإنّها أيضاً منتفية ، كما ذكرنا .

وأمّا امتناع الأمر والنهي بشيء واحد بجهة واحدة من شخص واحد فليس لأجل تضادّ الأحكام ، بل لأجل مبادئهما ، كالمصالح والمفاسد والإرادة والكراهة ، وهما لا تجتمعان .

على أنّ الأمر بالشيء جدّاً والنهي عنه كذلك من آمر عالم ممتنع ; لأنّه يرجع إلى التكليف بالمحال ، ومرجعه إلى التكليف المحال ، كما مرّ وجهه في مبحث الاجتماع والامتناع . وليعذرني إخواني من الإطالة ، وهو أولى من الإحالة .

المحذور الثالث : محذور اجتماع الإرادة الوجوبية والتحريمية

حاصل الإشكال : أنّ الإرادة القطعية قد تعلّقت بالعمل على الأحكام الواقعيـة ، والمفروض أنّ الأمـارات قـد تؤدّي إلى خلاف الواقـع ، فإيجاب التعبّد بها والترخيص بالعمل بها مـع فعليـة الإرادة المتعلّقة بالأحكام الواقعيـة ممّا لا  يجتمعان .

وهـذا الإشكال سيّال في الأحكام الظاهريـة كلّها ـ أمـارة كانت أو أصلاً ـ فإنّ إرادة العمل على طبق الأمارة والاستصحاب أو قاعدة الفراغ وأصالة الإباحة وهكـذا . . . ممّا لا يجتمع مـع الإرادة الحتميـة بالنسبـة إلى الأحكام الواقعيـة ، بعدما علم أنّ الاُصول والأمارات قد تؤدّيان إلى خلاف الواقع .

أمّا الجواب فنقول : اعلم أنّ للحكم الشرعي مرتبتين ، ليس غير :

الاُولى : مرتبة الإنشاء وجعل الحكم على موضوعه ، كالأحكام الكلّية القانونية قبل ملاحظة مخصّصاتها ومقيّداتها ، نحو قوله تعالى : {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، أو {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] ، وكالأحكام الشرعية التي نزّل به الروح الأمين على قلب نبيّه ، ولكن لم يأن وقت إجرائها ; لمصالح اقتضته السياسة الإسلامية ، وترك إجرائها إلى ظهور الدولة الحقّة ، عجّل الله تعالى فرجه .

الثانية : مرتبة الفعلية ; وهي تقابل الاُولى من كلتا الجهتين ، فالأحكام الفعلية عبارة عن الأحكام الباقية تحت العموم والمطلق بعد ورود التخصيصات والتقييدات حسب الإرادة الجدّية ، أو ما آن وقت إجرائها .

فالذي قام الإجماع على أ نّه بين العالم والجاهل سواسية إنّما هو الأحكام الإنشائية المجعولة على موضوعاتها ; سواء قامت عليه الأمارة أم لا ، وقف به المكلّف أم لا ، وهكذا ; وهي لا يتغيّر عمّا هي عليه . وأمّا الفعلية فيختلف فيها الأحوال ، كما سيوضح .

وأمّا توضيح الجواب وحسم الإشكال فهو ما مرّ منّا(12) : أنّ مفاسد إيجاب الاحتياط ـ كلاًّ أو تبعيضاً ـ صارت موجبة لرفع اليد في مقام الفعلية عن الأحكام الواقعية في حقّ من قامت الأمارة أو الاُصول على خلافها .

وليس هذا أمراً غريباً منه ، بل هذا نظام كلّ مقنّن ; إذ في التحفّظ التامّ على الواقعيات من الأحكام مفسدة عظيمة لا تجبر بشيء ، أيسرها خروج الناس من الدين ورغبتهم عنه وتبدّد نظام معاشهم ومعادهم . فلأجل هذا كلّه رفع اليد عن إجراء الأحكام في الموارد التي قام الأمارة أو الأصل على خلافها .

وليس هذا من قبيل قصور مقتضيات الأحكام وملاكاتها في موارد قيام الأمارات والاُصول على خلافها حتّى يتقيّد الأحكام الواقعية بعدم القيام ، بل من قبيل رفع اليد لجهة اللا بدّية ومزاحمة الفاسد والأفسد في مقام الإجراء . فالأحكام الواقعية تنشأ على موضوعاتها من غير تقييد .

وتوهّم لغوية تلك الأحكام الإنشائية إذا فرض قيام الأمارة أو الأصل على خلافها من أوّل زمن تشريعها مندفعة بأنّه لا محالة ينكشف الخطأ ـ ولو عند ظهور الدولة الحقّة ـ ولو كانت عاطلة غير منشأة من رأس صارت مهملة إلى الأبد ; حتّى بعد قيام القائم ـ عليه السلام ـ  ; لانسداد الوحي وتشريع الأحكام بعد ما رفع النبي الأكرم ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إلى الرفيق الأعلى.

وبذلك يندفع الإشكال كلّه .

فإن قلت : إنّه ليس في الواقع أحكام إنشائية ، بل الموجود في نفس الأمر هـو إنشاء الأحكام ; أي تشريعها على موضوعاتها المقدّر وجـودها بجميع مـا

اعتبر فيها ; من القيود والشرائط وعدم الموانع على نهج القضايا الحقيقية ، وفعلية الحكم عبارة عـن تحقّق موضوعـه بجميع ما اعتبر فيه ، ولا يعقل لفعلية الحكم معنى غير ذلك .

فالأحكام الواقعية : إمّا مقيّدة بعدم قيام الأمارة على الخلاف أو لا ، فعلى الأوّل يلزم التصويب ، وعلى الثاني يلزم اجتماع الضدّين(13) .

قلت : يكفي في صحّة ما ذكرنا ملاحظة القوانين العالمية أو المختصّة بجيل دون جيل وطائفة دون اُخرى ; فإنّ الأحكام ينشأ على وجه الإنشاء على موضوعاتها العارية من كلّ قيد وشرط . ثمّ إذا آن وقت إجرائه يذكر في لوح آخر قيوده ومخصّصاته .

فالمنشأ على الموضوعات قبل ورود التخصيص والتقييد هو الحكم الإنشائي ، والحكم الفعلي اللازم الإجراء ما يبقى تحت العموم والمطلق ، بعد ورودهما عليه ، هذا أوّلاً .

وثانياً : أ نّه لو صحّ ما ذكر ; من أنّ الأحكام مجعولة على موضوعاتها من أوّل الأمر بجميع قيوده لما جاز التمسّك بالإطلاق والعموم ; فإنّ مبنى التمسّك هو أنّ الحكم مجعولة على الماهية المجرّدة ، وأنّ الإرادة الاستعمالية مطابقة للإرادة الجدّية ، إلاّ ما قام الدليل على خلافه .

فلو كان اللازم إنشاء الحكم على موضوعه بعامّة قيوده لما صار للتمسّك بأصالـة الإطلاق معنى  ; فإنّ الإطلاق متقوّم بأنّ الواقـع تحت دائـرة الحكم هـو تمام الموضـوع للحكم ، ومثله أصالـة العموم ; فإنّها متقوّمة بظهور الكلام في كـون الحكم على العموم ، وأنّ التخصيص كالتقييد أمـر خارجي لا يتصرّف فـي اللفظ ، بل يكشف عن ضيق الإرادة الجدّية .

والحاصل : أنّ ملاحظة تقنين القوانين العرفية كافية في إثبات ما قلناه ; فإنّ الدائر بينهم هو وضع الأحكام أوّلاً بنحو العموم والإطلاق ، ثمّ بيان مخصّصاتها ومقيّداتها منفصلاً عنها ، من دون أخذ ما هو الملاك بحسب الإرادة الجدّية في موضوع الأحكام من أوّل الأمر .

وأنت إذا تدبّرت تعرف أنّ هذا الجواب سيّال في موارد الأمارات والاُصول إذا كانت مخالفة للواقع .

المحذور الرابع : محذور التدافع بين ملاكات الأحكام

وهذا المحذور ـ أعني ما يرجع إلى التدافع بين ملاكات الأحكام ، كاجتماع المصلحة والمفسدة الملزمتين بلا كسر وانكسار ـ أوّل المحاذير ، فقد ظهر الجواب عنه ممّا تقدّم(14) ، ومحصّله : أرجحية ملاكات تجويز العمل على طبق الأمارات والاُصول من العمل بالاحتياط للتحفّظ على الواقع .

وقد ظهر ممّا تقدّم(15) : عدم اجتماع الملاكين في موضوع واحد على ما سبق ; من لزوم المفاسد الخارجية أو السياسية لو ألزم العمل بالاحتياط .

جولة فيما ذكر من الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري

ثمّ إنّ الأعلام قد مالوا يميناً ويساراً في هذا الباب ; فكلٌّ اختار مهرباً للجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية ، فلا بأس بالإشارة إلى بعضها ، فنقول :

تقريب المحقّق النائيني للجمع

قد ذكر بعض أعاظم العصر جواباً لتخلّف الطرق والأمارات ، وجواباً آخر للأصول المحرزة ، وثالثاً لغير المحرزة منها .

فأفاد ـ قدس سره ـ في الجمع عند تخلّف الطرق ما هذا حاصله : إنّ المجعول فيها ليس حكماً تكليفياً حتّى يتوهّم التضادّ بينها وبين الواقعيات ، بل الحقّ أنّ المجعول فيها هو الحجّية والطريقية ، وهما من الأحكام الوضعية المتأصّلة في الجعل ; خلافاً للشيخ ـ قدس سره ـ  ; حيث ذهب إلى أنّ الأحكام الوضعية كلّها منتزعة من الأحكام التكليفية(16) .

والإنصاف : عدم تصوّر انتزاع بعض الأحكام الوضعية من الأحكام التكليفية ، مثل الزوجية فإنّها وضعيـة ويتبعها جملة مـن الأحكام ، كوجـوب الإنفاق على الزوجة وحرمة تزويج الغير لها ، وحرمة ترك وطيها أكثر من أربعة أشهر إلى غير ذلك .

وقد يتخلّف بعضها مع بقاء الزوجية ، فأيّ حكم تكليفي يمكن انتزاع الزوجية منه ؟ وأيّ جامع بين هذه الأحكام التكليفية ليكون منشأً لانتزاع الزوجية ؟ فلا محيص في أمثالها عن القول بتأصّل الجعل .

ومنها الطريقية والوسطية في الإثبات ; فإنّها متأصّلة بالجعل ـ ولو إمضاءًـ لما تقدّمت الإشارة إليه من كون الطرق التي بأيدينا يعتمدون عليها العقلاء في مقاصدهم ، بل هي عندهم كالعلم لا يعتنون باحتمال مخالفتها للواقع ، فنفس الحجّية والوسطية في الإثبات أمر عقلائي قابل بنفسه للاعتبار ، من دون أن يكون هناك حكم تكليفي منشأ لانتزاعه .

إذا عرفت حقيقة المجعول فيها ظهر لك : أنّه ليس فيها حكم حتّى ينافي الواقع ، فلا تضادّ ولا تصويب . وليس حال الأمارات المخالفة إلاّ كحال العلم المخالف ، فلا يكون في البين إلاّ الحكم الواقعي فقط مطلقاً ، فعند الإصابة يكون المؤدّى هو الحكم الواقعي ـ كالعلم الموافق ـ ويوجب تنجيزه ، وعند الخطأ يوجب المعذورية وعدم صحّة المؤاخذة عليه ـ كالعلم المخالف ـ من دون أن يكون هناك حكم آخر مجعول (17)، انتهى .

وفيما أفاده مواقع للنظر :

أمّا أوّلاً : فقد أشرنا إليه(18)  وسيوافيك تفصيله عند البحث عن حجّية الأمارات العقلائية(19)، ومحصّله : أنّه ليس في باب الطرق والأمارات حكم وضعي ولا تكليفي ، وإنّما عمل بها الشارع كما يعمل بها العقلاء في مجاري اُمورهم من معاملاتهم وسياساتهم .

وليس إمضاء الشارع العمل بالأمارات مستتبعاً لإنشاء حكم ، بل مآله إلى عدم الردع وعدم التصرّف في بناء العقلاء . وما ورد من الروايات(20)  كلّها إرشاد إلى ما عليه العقلاء ، وقد اعترف به ـ قدس سره ـ فيما سبق(21) ، ولكنّه أفاد هنا ما ينافيه .

وثانياً : لو كان المستند للقول بجعل الوسطية والطريقية من جانب الشارع هـو الأخبار الواردة في شأن الآحاد من الأخبار أو شأن مخبريها ، كقولـه ـ عليه السلام ـ  : «إذا أردت حديثاً فعليك بهذا الجالس» وأشار إلى زرارة(22) ، ومثل قولـه ـ عليه السلام ـ  : «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا»(23) ، ومثل قولـه ـ عليه السلام ـ  : «عليك بالأسـدي» ; يعني أبا بصير(24) ، وقولـه ـ عليه السلام ـ  : «العمري ثقتي ، فاسمع له وأطع فإنّه الثقة المأمـون»(25) ، إلى غير ذلك مـن الروايات الكثيرة التي سيجيء كثير منها في بابه .

فلا شكّ أ نّه لو كان المستند هذه الأخبار فالمجعول فيها ـ مع قطع النظر عمّا قلنا من أ نّها إرشاد إلى ما عليه العقلاء ـ هو وجوب العمل على طبقها تعبّداً على أنّها هو الواقع ، وترتيب آثار الواقع على مؤدّاها ، وليس فيها أيّ أثر من حديث جعل الوسطية والطريقية .

نعم ، لو كان المدرك مفهوم آية النبأ{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [الحجرات: 6]  يمكن أن يقال : إنّها بصدد جعل الكاشفية لخبر العادل ولكنّه ـ مع قطع النظر عن الإشكالات المقرّرة في محلّه(26) ، وعمّا احتملناه في الأخبار ; من كونها إرشاداً إلى عمل العقلاء ـ مدفوع بأنّها بصدد جعل وجوب العمل على طبق قول العادل ، لا جعل المبيّنية والكاشفية ، وإنّما المبيّنية جهة تعليلية لجعل وجوب العمل ، وليست موردة للجعل .

وثالثاً : أنّ ما هو القابل للجعل في المقام إنّما هو وجوب العمل على طبق الأخبار ووجوب ترتيب الأثر على مؤدّاها ، وأمّا الطريقية والكاشفية فليس ممّا تنالها يد الجعل ; فلأنّ الشيء لو كان واجداً لهذه الصفة تكويناً فلا معنى لإعطائها لها ، وإن كان فاقداً له ـ كالشكّ ـ فلا يعقل أن يصير ما ليس بكاشف كاشفاً ، وما ليس طريقاً طريقاً ; فإنّ الطريقية والكاشفية ليست أمراً اعتبارياً كالملكية حتّى يصحّ جعلها بالاعتبار .

وقس عليه تتميم الكشف وإكمال الطريقيـة ، فكما أنّ اللاكاشفية ذاتيـة للشكّ لا يصحّ سلبه ، فكذلك النقصان في مقام الكشف ذاتي للأمارات لا يمكن سلبها . فما ينالـه الجعل ليس إلاّ إيجـاب العمل بمفادهـا والعمل على طبقها وترتيب آثـار الواقـع عليها ، ولمّا كـان ذاك التعبّد بلسان تحقّق الواقـع وإلغاء احتمال الخلاف تعبّداً صحّ انتزاع الوسطية والكاشفية .

وقس عليه الحجّية ; فلأنّ معناها كون الشيء قاطعاً للعذر في ترك ما اُمر بفعله وفعل ما اُمر بتركه ، ومعلوم أ نّه متأخّر عن أيّ جعل ـ تكليفاً أو وضعاً ـ فلو لم يأمر الشارع بوجوب العمل بالشيء ـ تأسيساً أو إمضاءً ـ فلا يتحقّق الحجّية ولا يقطع به العذر .

ورابعاً : أنّ عدم إمكان انتزاع الزوجية عمّا ذكره مـن الأحكام لا لعدم الجامـع بينها ، بل لأجـل كونها آثـاراً متأخّرة عـن الزوجيـة ، وهي بعد يعـدّ موضوعاً لهذه الأحكام المتأخّرة ، فلا معنى لانتزاع ما هو المتقدّم طبعاً عمّا هـو متأخّر كـذلك .

نعم ، هاهنا أحكام تكليفية يمكن أن يتوهّم إمكان انتزاع الزوجية منها ، كالأوامر الواردة بالنكاح في الآيات { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3] و {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور: 32] ، أو قوله تعالى : {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } [النساء: 24].

ومع ذلك كلّه فالتحقيق : أنّ الزوجية ليست من المخترعات الشرعية ، بل مـن الاعتبارات العقلائية التي يدور عليها فلك الحياة الإنسانية ، فبما أنّ الزوجية ممّا يتوقّف عليه نظام الاجتماع ويترتّب عليه آثار ومنافع لا تحصى قام العقلاء على اعتبارها ، نعم الشرائع السماوية قد تصرّف فيها ; تصرّفاً يرجع إلى إصلاحها وبيان حدودها .

وخامساً : فبعد هذا الإطناب فالإشكال باق بعد بحاله ; فإنّ جعل الوسطية والطريقية والحجّية للطرق والأمارات مع العلم بأنّها ينجرّ أحياناً إلى المخالفة والمناقضة للواقع لا يجتمع مع بقاء الأحكام الواقعية على ما عليها من الفعلية التامّة .

وبالجملة : أنّ الإرادة الجدّية الحتمية بالأحكام الواقعية لا تجتمع مع تعلّق مثل تلك الإرادة على جعل الوسطية للطرق التي ربّما يوجب تفويت الواقع ; فإنّ ذلك الجعل يلازم الترخيص الفعلي في مخالفة الأحكام الواقعية .

وقياس جعل الوسطية في الإثبات بالعلم المخالف للواقع أحياناً قياس مع الفارق ; فإنّ العمل بالعلم المخالف ليس ترخيصاً من الشارع في مخالفة الأحكام الواقعية ، وإنّما هو ضرورة ابتلى به المكلّف لا من جانب الشارع بل لقصور منه ، وهذا بخلاف جعل الحجّية على الأمارة المؤدّية إلى خلاف الواقع .

هذا كلّه إذا قلنا ببقاء الواقع على ما عليه من الفعلية ـ أي باعثاً وزاجراً ـ وأمّا إذا قلنا بأنّه يصير إنشائياً أو فعلياً بمرتبة دون مرتبة ، وأنّ الشارع قد رفع اليد لأجل مصالح اجتماعية عن تلك الواقعيات فلا مضادّة ولا منافاة بين الواقعي والظاهري ، ولا يحتاج إلى إتعاب النفس وعقد هذه المباحث .

وبذلك يظهر ما في كلام المحقّق الخراساني ; حيث تخلّص عن كافّة الإشكالات بأنّ الحجّية غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفية(27) ; فإنّ هذا التقريب لا يحسم مادّة الإشكال ، كالقول بأنّ أحدهما طريقي والآخر واقعي(28) ; فإنّ جعل الحجّية والطريقية لمّا كان ينتهي أحياناً إلى مخالفة الواقع ومناقضته لا تجتمع مع فعلية الأحكام الواقعية .

ما أفاده المحقّق النائيني في الاُصول المحرزة

ثمّ إنّه أفاد فيها ما هذا حاصله : أنّ المجعول فيها هو البناء العملي على أحد طرفي الشكّ على أ نّه الواقع وإلغاء الطرف الآخر وجعله كالعدم ، ولأجل ذلك قامت مقام القطع الطريقي . فالمجعول فيها ليس أمراً مغايراً للواقع ، بل الجعل الشرعي تعلّق بالجري العملي على المؤدّى على أ نّه هو الواقع .

كما يرشدنا إليه قوله ـ عليه السلام ـ في بعض أخبار قاعدة التجاوز : «بأنّه قد ركع»(29)  فإن كان المؤدّى هو الواقع فهو ، وإلاّ كان الجري العملي واقعاً في غير محلّه ، من دون أن يتعلّق بالمؤدّى حكم على خلاف ما هو عليه ، فلا يكون ما وراء الحكم الواقعي حكم آخر حتّى يناقضه ويضادّه(30) ، انتهى .

وفيه : أنّ الجري العملي والبناء العملي على أحد طرفي الشكّ ـ كما هو ظاهر كلامه ـ ممّا لا تناله يد الجعل ; لأنّه فعل للمكلّف ، وما يصحّ جعله إنّما هو إيجاب الجري العملي ، فهو لا يفيد ولا يرفع غائلة التضادّ بين الواقعية والظاهرية ; فإنّ إيجاب الجري العملي على إتيان الشرط أو الجزء بعد تجاوز محلّه ـ مع أ نّه أحياناً يؤدّي إلى ترك الواقع ـ لا يجتمع مع فعلية حكم الجزئية والشرطية ، ولا يعقل جعل الهوهوية بين الواقع وما يخالفه أحياناً .

أضف إلى ذلك : أنّه ليس من حديث الهوهوية عين ولا أثر في الاُصول التنزيلية ، كما سيوافيك بيانه عند البحث عن الاستصحاب وقاعدة التجاوز .

كلام المحقّق النائيني في غير المحرزة من الاُصول ثمّ إنّه ـ قدس سره ـ قد أفاد في هذا الباب ما هذا ملخّصه : إنّ للشكّ في الحكم الواقعي  اعتبارين :

أحدهما : كونه من الحالات والطوارئ اللاحقة للحكم الواقعي أو موضوعه ، كحالة العلم والظنّ. وهو بهذا الاعتبار لا يمكن أخذه موضوعاً لحكم يضادّ الحكم الواقعي ; لانحفاظ الحكم الواقعي عنده .

ثانيهما : اعتبار كونه موجباً للحيرة في الواقع ، وعدم كونه موصلاً إليه ومنجّزاً له . وهو بهذا الاعتبار يمكن أخذه موضوعاً لما يكون متمّماً للجعل ومنجّزاً للواقع وموصلاً إليه . كما أ نّه يمكن أخذه موضوعاً لما يكون مؤمّناً عن الواقع حسب اختلاف مراتب الملاكات النفس الأمرية.

فلو كانت مصلحة الواقع مهمّة في نظر الشارع كان عليه جعل المتمّم ، كمصلحة احترام المؤمن وحفظ نفسه ; فإنّه أهمّ من مفسدة حفظ نفس الكافر ، فيقتضي جعل حكم طريقي لوجوب الاحتياط في موارد الشكّ.

وهذا الحكم الاحتياطي إنّما هو في طول الواقع لحفظ مصلحته ; ولذا كان خطابـه نفسياً لا مقدّمياً ; لأنّ الخطاب المقدّمي ما لا مصلحـة فيه أصلاً ، والاحتياط ليس كذلك ; لأنّ أهمّية الواقع دعت إلى وجوبه ، فهو واجب نفسي للغير لا واجب بالغير ; ولذا كان العقاب على مخالفته ـ لا على مخالفة الواقع ـ لقبح العقاب عليه مع الجهل .

فإن قلت : فعليه يصحّ العقوبة على مخالفة الاحتياط ـ صادف الواقع أو لا ـ لكونه واجباً نفسياً .

قلت : فرق بين علل التشريع وعلل الأحكام ، والذي لا يدور الحكم مداره هو الأوّل دون الثاني، ولا إشكال في أنّ الحكم بوجوب حفظ نفس المؤمن علّة للحكم بالاحتياط . ولا يمكن أن يبقى في مورد الشكّ مع عدم كون المشكوك ممّا يجب حفظه ، ولكن لمكان جهل المكلّف كان اللازم عليه الاحتياط ; تحرّزاً عن مخالفة الواقع .

ومن ذلك يظهر : أنّه لا مضادّة بين إيجاب الاحتياط وبين الحكم الواقعي ; فإنّ المشتبه إن كان ممّا يجب حفظ نفسه واقعاً فوجوب الاحتياط يتّحد مع الوجوب الواقعي ويكون هو هو ، وإلاّ فلا; لانتفاء علّته ، والمكلّف يتخيّل وجوبه لجهله بالحال . فوجوب الاحتياط من هذه الجهة يشبه الوجوب المقدّمي ; وإن كان من جهة اُخرى يغايره .

والحاصل : أنّه لمّا كان إيجاب الاحتياط من متمّمات الجعل الأوّلي فوجوبه يدور مداره ، ولا يعقل بقاء المتمّم ـ بالكسر ـ مع عدم المتمّم . فإذا كان وجوب الاحتياط يدور مدار الوجوب الواقعي فلا يعقل التضادّ بينهما ; لاتّحادهما في مورد المصادفة وعدم وجوب الاحتياط في مورد المخالفة ، فأين التضادّ ؟ !

هذا إذا كانت المصلحة مقتضية لجعل المتمّم ، وأمّا مع عدم الأهمّية فللشارع جعل المؤمّن بلسان الرفع ، كما في قوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ  : «رفع عن اُمّتي ما لا يعلمون»(31)، وبلسان الوضع ، مثل قوله ـ عليه السلام ـ  : «كلّ شيء حلال»(32) ; فإنّ رفع التكليف ليس من موطنه ليلزم التناقض ، بل رفع التكليف عمّا يستتبعه من التبعات وإيجاب الاحتياط .

فالرخصة المستفادة من دليل الرفع نظير الرخصة المستفادة من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان في عدم المنافاة للواقع .

والسرّ فيه : أ نّها تكون في طول الواقع ; لتأخّر رتبته عنه ; لأنّ الموضوع فيها هو الشكّ في الحكم من حيث كونه موجباً للحيرة في الواقع وغير موصل إليه ، ولا منجّز له ، فقد لوحظ في الرخصة وجود الحكم الواقعي ، ومعه كيف يعقل أن تضادّه ؟ !

وبالجملة : الرخصة والحلّية المستفادة من حديث الرفع وأصالة الحلّ تكون في عرض المنع والحرمة المستفادة من إيجاب الاحتياط ، وقد عرفت أنّ إيجاب الاحتياط يكون في طول الواقع ، فما يكون في عرضه يكون في طول الواقع أيضاً ، وإلاّ يلزم أن يكون ما في طول الشيء في عرضه(33) ، انتهى كلامه رفع مقامه .

ولا يخفى : أنّ في كلامه ـ قدس سره ـ مواقع للنظر ، نشير إلى مهمّاتها :

1ـ إنّ أخذ الشكّ تارة بما أ نّه من الحالات والطوارئ اللاحقة للحكم الواقعي ، واُخرى بما أ نّه موجب للحيرة فيه لا يرجع إلى محصّل ; لأنّه تفنّن في التعبير وتغيير في اللفظ .

ولو سلّمنا ذلك حكماً يرتفع غائلة التضادّ بالاعتبار الثاني ـ أعني جعله موضوعاً بما أ نّه موجب للتحيّر ـ لكون المجعول والموضوع في طول الواقع .

كذلك يرتفع الغائلة بجعل الحكم على الشكّ بالاعتبار الأوّل ; لكون الشكّ في الشيء متأخّراً عن الشيء ، فجعل أحدهما رافعاً دون الآخر لا محصّل له .

والحقّ : عدم ارتفاعها بكلا الاعتبارين ; لكون الحكم الواقعي محفوظاً مع الشكّ والحيرة .

2 ـ إنّ الحكم الواقعي إن بقي على فعليته وباعثيته فجعل المؤمّن ـ كأصالة البراءة ـ مستلزم لترخيص ترك الواقع الذي هو فعلي ومطلوب للمولى ، ومع هذا فكيف يرتفع غائلة التضادّ ؟ وإن لم يبق على فعليتـه وباعثيتـه ـ كما اعترف في المقام بأنّ الأحكام الواقعيـة بوجوداتها النفس الأمرية لا تصلح للداعوية(34) ـ فالجمع بين الواقعي والظاهري حاصل بهذا الوجـه ، بلا احتياج إلى ما أتعب به نفسه الزكية .

3 ـ إنّ ما أورده على نفسه من أنّ لازم كون الاحتياط واجباً نفسياً هو صحّة العقوبة على مخالفة الاحتياط ـ صادف الواقع أو لا ـ بعد باق على حاله .

وما تفصّى به عنه من عدم وجوب الاحتياط واقعاً في مورد الشكّ مع عدم كون المشكوك ممّا يجب حفظه ; لكون وجوب حفظ المؤمن علّة للحكم بالاحتياط لا علّة للتشريع لا يدفع الإشكال ; فإنّ خلاصة كلامه ـ قدس سره ـ يرجع إلى أنّ وجوب الاحتياط دائر مدار وجود الحكم الواقعي.

وعليه فالعلم بوجود الحكم الواقعي يلازم العلم بلزوم الاحتياط ، كما أنّ العلم بعدمه يلازم العلم بعدم وجوب الاحتياط .

ويترتّب عليه : أنّ الشكّ في الحكم الواقعي يستلزم الشكّ في وجوب الاحتياط ، فكما أنّ الحكم الواقعي لا داعوية له في صورة الشكّ في وجوده فهكذا وجوب الاحتياط ، فلا يصلح للباعثية في صورة الشكّ .

ولو تعلّق وجوب الاحتياط بمورد الشكّ الذي ينطبق على الواجب الواقعي دون غيره لاحتاج إلى متمّم آخر ، ويصير إيجاب الاحتياط حينئذ لغواً ; فإنّ موارد الاحتياط ـ كافّة ـ ممّا يكون وجود الحكم الواقعي مشكوكاً ، كما في الاحتياط في الدماء والأعراض والأموال .

وبذلك يظهر : أنّ ما ذكره من أنّ المكلّف لمّا لم يعلم كون المشكوك ممّا يجب حفظ نفسه أو لا يجب كان اللازم هو الاحتياط ; تحرّزاً عن مخالفة الواقع غير واضح ; فإنّ وجوب الاحتياط على النحو الذي قرّره لا يقصر عن الأحكام الواقعية . فكما لا داعوية له في ظرف الشكّ في وجوده فهكذا ما هو مثلها ; أعني وجوب الاحتياط على ما التزم به .

وعليه يصير الاحتياط في عامّة الموارد اللازمة في الشبهات البدوية لغواً باطلاً ; فإنّ الاحتياط في كافّة الموارد إنّما هو في صورة الشكّ في الحكم الواقعي ، لا غير .

والتحقيق : ما هو المشهور من أنّ الاحتياط ليس محبوباً وواجباً نفسياً ومتعلّقاً لغرض المولى ، والغرض من إيجابه هو حفظ الواقع لا غير ، ولأجله لا يستلزم ترك الاحتياط عقوبة وراء ترك الواقع .

4ـ إنّ ما ذكره في بعض كلامه من أنّ متمّم الجعل ـ أصالة الاحتياط ـ فيما نحن فيه يتكفّل بيان وجود الحكم في زمان الشكّ فيه لا يخلو من ضعف ; لأنّه ـ  مضافاً إلى مخالفته لما قال سابقاً من أنّ الاحتياط أصل غير محرز ـ يستلزم كون الاحتياط أو إيجابه أمارة لوجود الحكم في زمان الشكّ ، وهو خلاف الواقع ; فإنّ إيجاب الاحتياط مع الشكّ لغرض الوصول إلى الواقع غير كونه كاشفاً عن الواقع .

5 ـ ما ذكره من أنّ أصالة البراءة والحلّية في طول الواقع ; لأنّهما في عرض الاحتياط الذي هو في طول الواقع غير واضح ; فإنّ التقدّم الرتبي غير التقدّم الزماني والمكاني ; فإنّ ما ذكره صحيح فيهما ، وأمّا الرتبي فالتقدّم والتأخّر تابع لوجود الملاك في الموصوف ; فإنّ مجرّد كون الشيء في عرض المتأخّر رتبة عن الشيء لا يستلزم تأخّره عنه أيضاً ; فإنّ المعلول متأخّر رتبة عن علّته . وأمّا ما هو في رتبة المعلول من المقارنات الخارجية فليس محكوماً بالتأخّر الرتبي عن تلك العلّة ، كما هو واضح في محلّه وعند أهله(35) .

وأمّا حديث قياس المساواة فقد ذكر المحقّقون : أنّ مجراها إنّما هو المسائل الهندسية ، فراجع إلى مظانّها وأهلها(36) .

تقريب المحقّق العراقي للجمع بين الحكم الواقعي والظاهري وهو ما أفاده بعض محقّقي العصر ـ قدس سره ـ  ، وخلاصة ما أفاده لرفع التضادّ هو أنّ الأحكام متعلّقة على العناوين الذهنية الملحوظة خارجية على وجه لا يرى بالنظر التصوّري كونها غير الخارج ; وإن كانت بالنظر التصديقي غيره ، مع وقوف الحكم على نفس العنوان وعدم سرايته إلى المعنون .

وأنّه قد ينتزع من وجود واحد عنوانان طوليان ; بحيث يكون الذات ملحوظة في رتبتين : تارة في رتبة سابقة على الوصف ، واُخرى في رتبة لاحقة ، نظير الذات المعروضة للأمر التي يستلزم تقدّم الذات عليه ، والذات المعلولة لدعوته المنتزع عنها عنوان الإطاعة التي يستلزم تأخّر الذات عنها ، وكالجهات التعليلية التي اُنيط بها الحكم ; فإنّه لابدّ فيها من فرض وجود الوصف قائماً بموصوفه ، والحكم في هذا الظرف على نفس الذات الملحوظة في الرتبة المتأخّرة عن الوصف بلا أخذ الوصف قيداً للموضوع ، كالجهات التقييدية .

ومن هذا القبيل صفة المشكوكية ; لأنّها جهة تعليلية لتعلّق الحكم بالموضوع حسب ظاهر أدلّتها لا تقييدية لموضوعاتها ، ولازم ذلك اعتبار الذات في رتبتين : تارة في الرتبة السابقة على الوصف ، واُخرى في الرتبة اللاحقة .

فيختلف موضوع الحكم الظاهري والواقعي رتبة ; بحيث لا يكاد يتصوّر الجمع لهما في عالم عروض الحكم ، بخلاف الطولية الناشئة من الجهات التقييدية ; لعدم طولية الذات رتبة ، ومحفوظيتها في رتبة واحدة . فلا يمكن رفع التضادّ كما اُفيد ، انتهى . ومن أراد التوضيح فليرجع إلى كتابه(37) .

وفيما ذكره جهات من الخلل :

منها : أنّ ما ذكره في المقدّمة الاُولى من أنّ كلّ حكم لا يتجاوز عن عنوان إلى عنوان آخر ـ وإن اتّحدا وجوداً ـ صحيح جدّاً ، إلاّ أنّ ما ذكره من أنّ الأحكام متعلّقة على العناوين الذهنية الملحوظة خارجية على وجه لا يرى بالنظر التصوّري كونها غير الخارج ـ وإن كانت بالنظر التصديقي غيره ـ غير صحيح ; فإنّه إن كان المراد أنّ الحاكم يختلف نظره التصوّري والتصديقي عند الحكم فهو واضح الفساد ، وإن أراد أنّ الحاكم لا يرى الاثنينية حين الحكم ; وإن كانت المغايرة موجودة في نفس الأمر أو في نظرة اُخرى فهو يستلزم تعلّق الأمر بالموجود، وهو مساوق لتحصيل الحاصل بنظره .

وبالجملة : أنّ مآله إلى تعلّق البعث إلى الأمر الخارجي ; فإنّ إلقاء الصورة الذهنية من رأس وعدم التوجّه إليها عند الحكم يستلزم تعلّق البعث على الطبيعة الموجودة .

والظاهر : أنّ منشأ ما ذكره هو ما اشتهر بينهم من أ نّه لو تعلّق الأحكام بالطبائع بما هي هي بلا لحاظ كونها مرآة للخارج يلزم كون الطبيعة مطلوبة من حيث هي هي ، وقد ذكرنا ما هو الحقّ في مباحث الألفاظ(38) .

منها : أنّ ما ذكره ـ قدس سره ـ من أنّ الذات في الجهات التعليلية والقضايا الطلبية الشرطية يلاحظ مرّتين : متقدّماً تارة ومتأخّراً اُخرى ، كما في باب الأوامر غير صحيح ; لا في المقيس ولا في المقيس عليه :

أمّا الثاني : فإنّ الأوامـر والأحكام التي يعبّر عنها بالزجـر والبعث ـ إلزامياً أو غير إلزامي ـ ليست من قبيل الأعراض بالنسبة إلى موضوعاتها حتّى يكون فيها مناط التأخّر الرتبي ، بل لها قيام صدوري بالأمر ، كما أنّ لها إضافة اعتبارية بالنسبـة إلى المأمور والمأمـور به والآمـر ، وإنّما قلنا اعتباريـة ; لأنّها تحليلات ذهنيـة لا يقابلها شيء في الخارج ; بحيث لولاه فهي ليست عرضاً ; لا في الذهن ولا في الخارج .

وأمّا الداعوية : فلو كانت داعوية الأمر أمراً تكوينياً حقيقياً كان لما ذكره وجه ; لأنّه حينئذ يتأخّر الانبعاث عن البعث ; تأخّر المعلول عن علّته .

ولكن داعويته ليس إلاّ إيقاعياً ـ أي مبيّناً لموضوع الإطاعة فقط ـ لا محرّكاً للمأمور نحو الأمر; ضرورة أنّ العبد إنّما ينبعث عن المبادئ الحاصلة في نفسه ; من الخوف والرجاء ، وأمّا مجرّد الأمر فليس محرّكاً ; ولو مع العلم به .

وعلى هذا : فانبعاث العبد ليس من البعث حتّى يقال : إنّ الانبعاث متأخّر عن البعث رتبة ; لعدم ملاك التأخّر الرتبي .

وأمّا تأخّر الانبعاث عن البعث زماناً وتصوّراً فهو لا يستلزم التأخّر الرتبي الذي لا يتحقّق إلاّ بين العلل والمعاليل .

وأمّا المقيس : فلو سلّم في المقيس عليه لأجل أنّ الذات تارة يلاحظ معروضة فيصير متقدّمة ، واُخرى معلولة لدعوته فتصير متأخّرة ، فلا نسلّم في المقيس ; فإنّ الجهات التعليلية ليست إلاّ علّة لتعلّق الحكم بالموضوع ، فهي مقدّمة على الحكم وتعلّقه بالموضوع ، وأمّا تقدّمها على الذات فلا وجه له .

فلو قلنا : «العصير العنبي يحرم ; لغليانـه» فهنا موضوع وحكم وعلّـة ، فلا  شكّ أنّ الذات مقدّم على الغليان لكونه وصفاً له ، والحكم متأخّر عن الوصف لكونه علّة له .

وعلى ذلك : فتقدّم العلّة على الحكم تقدّم رتبي ، وتأخّره عنها أيضاً كذلك ، وأمّا تقدّمها على الذات فليس له وجه ولا ملاك .

هذا ، مع أنّ القول بارتفاع التضادّ بالجهات التقييدية أولى بارتفاعه من التشبّث بالجهات التعليلية; فإنّه يمكن أن يقال : إنّ بين عنواني الخمر والمشكوك فيه عموماً من وجه ; لتصادقهما في الخمر المشكوك فيه مع كونه خمراً في الواقع ، وتفارقهما في الخمر المعلومة ، والمشكوك فيه إذا كان خلاًّ ، فيمكن أن يكون أحد العنوانين مصبّاً للحلّية واُخرى للحرمة ، كما في عنواني الصلاة والغصب .

لكن قد مرّ منّا في مباحث القطع ما يردّه أيضاً ; للفرق بين المقامين ; فإنّ الدليل الدالّ على وجوب الصلاة غير ناظر إلى ما يدلّ على حرمة الغصب ، وهذا بخلاف المقام فإنّ الأدلّة المرخّصة ناظرة إلى العناوين المحرّمة .

والشاهد عليه : تحديد الحلّية إلى زمن العلم بالخلاف . ولأجل ذلك لا يجتمع الإرادة الحتمية التحريمية على نحو الإطلاق مع الترخيص الفعلي لأجل الاشتباه ، أو جعل الطرق وإمضائها ، التي يؤدّي أحياناً إلى خلاف الواقع .

ومنها : أنّ ما ادّعاه من أنّ صفة المشكوكية والمشتبهية جهات تعليلية خلاف ظاهر أدلّة الباب ; فإنّ الظاهر من حديث الرفع وروايات الحلّ والطهارة وأدلّة الاستصحاب والشكّ بعد تجاوز المحلّ أنّ الأحكام متعلّقة بالمشكوك بما أ نّه مشكوك ، وغير المعلوم بما أ نّه كذلك .

تقريب السيّد الفشاركي للجمع بين الحكم الواقعي والظاهري

إنّ شيخنا العلاّمة قد نقل وجوهاً للجمع ، ونقل وجهاً عن السيّد الجليل الاُستاذ السيّد محمّد الفشاركي ، ومحصّله : عدم المنافاة بين الحكمين إذا كان الملحوظ في موضوع الآخر الشكّ في الأوّل .

وتوضيحه : أنّ الأحكام تتعلّق بالمفاهيم الذهنية ; من حيث إنّها حاكية عن الخارج ، فالشيء ما لم يتصوّر في الذهن لا يتّصف بالمحبوبية والمبغوضية . ثمّ المفهوم المتصوّر : تارة يكون مطلوباً على نحو الإطلاق واُخرى على نحو التقييد ، وعلى الثاني فقد يكون لعدم المقتضي في غير ذلك المقيّد ، وقد يكون لوجود المانع .

وهذا الأخير مثل أن يكون الغرض في عتق الرقبة مطلقاً ، إلاّ أنّ عتق الرقبة الكافرة مناف لغرضه الآخر الأهمّ ، فلا محالة بعد الكسر والانكسار يقيّد الرقبة بالمؤمنة ، لا لعدم المقتضي بل لمزاحمة المانع ، وذلك موقوف على تصوّر العنوان المطلوب مع العنوان الآخر المتّحد معه، المخرج له عن المطلوبية الفعلية .

فلو فرضنا عدم اجتماع العنوانين في الذهن ; بحيث يكون تعقّل أحدهما لا مع الآخر دائماً لا يتحقّق الكسر والانكسار بين الجهتين .

فاللازم منه : أنّه متى تصوّر العنوان الذي فيه جهة المطلوبية يكون مطلوباً مطلقاً ; لعدم تعقّل منافيه ، ومتى تصوّر العنوان الذي فيه جهة المبغوضية يكون مبغوضاً كذلك ; لعدم تعقّل منافيه. والعنوان المتعلّق للأحكام الواقعية مع العنوان المتعلّق للأحكام الظاهرية ممّا لا يجتمعان في الوجود الذهني أبداً ; لأنّ الحالات اللاحقة للموضوع بعد تحقّق الحكم وفي الرتبة المتأخّرة عنه ، لا يمكن إدراجها في موضوعه .

فلو فرضنا بعد ملاحظة اتّصاف الموضوع بكونه مشكوك الحكم تحقّق جهة المبغوضية فيه، ويصير مبغوضاً بهذه الملاحظة ، لا يزاحمها جهة المطلوبية الملحوظة في ذاته ; لأنّ الموضوع بتلك الملاحظة لا يكون متعقّلاً فعلاً ; لأنّ تلك الملاحظة ملاحظة ذات الموضوع مع قطع النظر عن الحكم ، وهذه ملاحظته مع الحكم .

إن قلت : العنوان المتأخّر وإن لم يكن متعقّلاً في مرتبة تعقّل الذات ، ولكن الذات ملحوظة في مرتبة تعلّق العنوان المتأخّر ، فيجتمع العنوانان ، وعاد الإشكال .

قلت : كلاّ ، فإنّ تصوّر موضوع الحكم الواقعي مبني على تجرّده عن الحكم ، وتصوّره بعنوان كونه مشكوك الحكم لابدّ وأن يكون بلحاظ الحكم ، ولا يمكن الجمع بين لحاظي التجرّد واللاتجرّد(39) ، انتهى كلامه رفع مقامه .

وفيه أوّلاً : أنّ ذلك مبني على امتناع أخذ ما يأتي من قبل الأمر في دائرة موضوع الحكم ، كالشكّ في الحكم والعلم به ، وقد قدّمنا صحّة الأخذ في باب التعبّدي والتوصّلي(40) ، واعترف ـ قدس سره ـ بصحّته(41) . فعدم اجتماع العنوانين في الذهن من هذه الجهة ممنوع .

وثانياً : أنّ تأخّر الشكّ عن الحكم وتحقّقه بعد تعلّقه بالموضوع ممنوع ; فإنّ الشكّ في الشيء لا يستلزم تحقّق المشكوك في الخارج كما هو واضح ، وإلاّ لزم انقلاب الشكّ علماً لو علم بهذه الملازمة ، ومع الغفلة ينقلب إذا توجّه .

مضافاً إلى أنّ تعلّقه مع الغفلة دليل على بطلان ما ذكر .

وأمّا لغوية جعل الحكم على المشكوك من دون سبق حكم من الحاكم على الطبيعة المحضة فإنّما يلزم لو لم يكن للحاكم حكم أصلاً ، وهو لا يستلزم تأخّر جعل الحكم على المشكوك عن نفس الحكم على الذات الواقعي .

وثالثاً : أنّ ما أفاده ـ قدس سره ـ من مزاحمة جهة المبغوضية مع جهة المحبوبية مرجعها إلى التصويب الباطل ; فإنّ تلك المزاحمة يستلزم تضيّق الحكم في المزاحم ـ بالفتح ـ بحسب اللبّ .

وما ذكره من إطلاق الحكم بسبب الغفلة عن المزاحم غير مفيد ; فإنّ الإهمال في الثبوت غير متصوّر ; فإنّ الصلاة وإن كانت واجبة في نفس الأمر إلاّ أنّ الصلاة المشكوك حكمها ـ لأجل ابتلائها بالمزاحم الأقوى ، ومزاحمة الجهة المبغوضية الموجود فيها في حال الشكّ مع المحبوبية الكامنة في ذاتها ـ يستلزم تقيّد الوجوب في ناحية الوجوب المتعلّق بالصلاة ، ويختصّ الوجوب بغير هذه الصورة ، وينحصر بالصلاة المعلومة الوجوب ، فعاد الإشكال .

 

ورابعاً : أنّ ما أفاده في دفع الإشكال من أنّ موضوع الحكم الواقعي هو الذات المجرّد عن الحكم غير واضح ; فإنّه إن أراد من التجرّد لحاظ الماهية مقيّدة بالتجرّد عن الحكم حتّى يصير الموضوع هو الطبيعة بشرط لا ، فهو خلاف التحقيق ; فإنّ متعلّق الأوامر إنّما هو نفس الطبائع، غير مقيّدة بشيء من القيود ; حتّى التجريد .

على أنّه ـ أي لحاظ تجرّد الموضوع عن الحكم ـ يستلزم تصوّر الحكم في مرتبة الموضوع ، مع أنّه حكم بامتناعه ، وجعل الحالات اللاحقة للموضوع كالحكم والشكّ فيه ممّا يمتنع لحاظه في ذات الموضوع .

وإن أراد من التجرّد عدم اللحاظ ـ أعني اللا بشرط ـ فهو محفوظ في كلّ مرتبة ; مرتبة الحكم الواقعي والظاهري ، فيصير مقسماً لمعلوم الحكم ومشكوكه ، فعاد المحذور .

وبقي في المقام تقريبات ، ضربنا عنها صفحاً ، وفيما ذكرنا غنىً وكفاية .

المقام الثاني: في وقوع التعبّد بالظنّ:

تأسيس الأصل في التعبّد بالظنون:

ولنقدّم اُموراً :

الأوّل : اعلم أنّ للحجّية معنيين :

أحدهما : الوسطية في الإثبات والطريقية إلى الواقع . وبهذا المعنى تطلق الحجّة على المعلومات التصديقية الموصلة إلى المجهولات ، وعلى الأمارات العقلائية أو الشرعية باعتبار كونها برهاناً عقلائياً أو شرعياً على الواقع ، لا باعتبار صيرورتها بعناوينها وسطاً في الإثبات .

ثانيهما : الغلبة على الخصم وقاطعية العـذر . وإطلاق الحجّـة بهذا المعنى على الأمارات أنسب.

ثمّ إنّ الحجّية بالمعنى الأوّل تستلزم وجوداً وعدماً جواز الانتساب إلى الشارع وعدمه ; إذ ليس للطريقية والوسطية في الإثبات معنى سوى ذلك . وأمّا بالمعنى الثاني فلا تلازم بينهما أصلاً ; فإنّ الظـنّ على الحكومـة حجّـة بالمعنى الثاني ; لكونه قاطعاً للعذر ، ومع ذلك لا يصحّ معه الانتساب إليه .

الثاني : ربّما وقع الخلط بين عنواني التشريع والقول بغير علم ; فاستدلّ بما  يدلّ على حرمة القول بغير علم على حرمة التشريع(42) ، مع أنّ بينهما فرقاً ; فإنّ التشريع عبارة عن إدخال ما ليس في الشريعة فيها ، وإن شئت قلت : تغيير القوانين الإلهية والأحكام الإلهية بإدخال ما ليس في الدين فيه وإخراج ما هو منه عنه ، وهذا ما يسمّى بدعة ، فلا كلام في حرمته ومبغوضيته .

وأمّا تفسير التشريع بالتعبّد بما لا يعلم جواز التعبّد به من قبل الشارع فإن اُريد منه التعبّد الحقيقي جدّاً فلا شكّ أ نّه أمر غير ممكن خارج عن اختيار المكلّف ; إذ كيف يمكن التعبّد الحقيقي بما لا يعلم أ نّه عبادي ؟ فإنّ الالتزامات النفسانية ليست واقعة تحت اختيار النفس حتّى توجدها في أيّ وقت شاء .

وإن اُريـد منه إسناد ما لم يعلم كونه مـن الشريعـة إليها فهو أمـر ممكن لكنّه غير التشريع ، بل عنوان آخـر محـرّم أيضاً . ويـدلّ على حرمتـه ما ورد مـن حرمـة القول بغير علم(43) ، وما ورد مـن أدلّة حرمـة الإفتاء والقضاء بغير علم(44) . على إشكال في دلالة القسم الثاني بلحـاظ أنّ الحكم إنشاء لا إسناد إلى الشرع .

وممّا ذكرنـا يظهر الخلط فيما أفـاده بعض الأعـاظم ـ قدس سره ـ  ; حيث جعل العنوانين واحداً(45) .

الثالث : الظاهر أنّ للتشريع واقعاً قد يصيبه المكلّف وقد لا يصيبه ; فإنّ تغيير القوانين الشرعية كسائر المحرّمات مبغوض واقعي قد يتعلّق بها العلم وقد لا يتعلّق ، فهو مبغوض بمناطها الواقعي ، كما أنّ القول بغير علم وإسناد شيء إلى الشارع بلا حجّة مبغوض بما له من المناط .

وما أفاده بعض أعاظم العصر ـ قدس سره ـ من أ نّه ليس للتشريع واقع يمكن أن يصيبه أو لا يصيبه ، بل واقع التشريع هو إسناد الشيء إلى الشارع مع عدم العلم بتشريعه إيّاه ; سواء علم المكلّف بالعدم أو ظنّ أو شكّ ، وسواء كان في الواقع ممّا شرّعه الشارع أو لم يكن(46) .

غير واضح ; إذ قد عرفت : أنّ التشريع غير الإسناد من غير علم ولا حجّة ، وأنّ الأوّل عبارة عن تغيير القوانين الإلهية والتلاعب بأحكام الله تعالى ، وهو من العناوين الواقعية متّصفة بالقبح كالظلم ، بل هو منه ، فلو جهل المكلّف به لما اتّصف بالقبح الفاعلي ، مع كون الفعل حراماً واقعاً .

الرابع : أنّ التشريـع ـ بأيّ معنى فسّر ـ لا يسري قبحـه إلى الفعل الخارجي ; إذ لا وجه لتسرية القبح مـن عنوان إلى عنوان آخـر مغاير معه ، كما هـو المطّرد فـي الأحكام العقلية . وعلى ذلك فعلى القول بالملازمة فلا نستكشف من كون التشريع قبيحاً عقلاً إلاّ حرمة ذلك العنوان شرعاً ، لا حرمة عنوان آخر مغاير معه ، وهذا واضح جدّاً .

فما أفاده بعض الأعاظم ـ قدس سره ـ من إمكان كون القصد والداعي من الجهات والعناوين المغيّرة لجهة حسن العمل وقبحه ، فيكون التعبّد بعمل لا يعلم التعبّد به من

الشارع موجباً لانقلاب العمل عمّا هو عليه . ويشهد على ذلك قوله ـ عليه السلام ـ  : «رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم»(47) ; لدلالته على حرمة القضاء واستحقاق العقوبة عليه ، فيدلّ على حرمة نفس العمل (48).

غير واضح جدّاً ; فإنّ إمكان كون القصد من الجهات المغيّرة لا يدلّ على فعلية ما ادّعاه من النتيجة ; إذ هي تابعة لأخسّ المقدّمتين .

أضف إليه : أنّ كون بعض العناوين مغيّراً فما الدليل على أنّ هذه العناوين كذلك ؟ فالإشكال في كلّية ما ادّعاه . وما استدلّ من الرواية ضعيف ; فإنّ حرمة القضاء ممّا لا كلام فيه ، وإنّما الكلام في حرمة العمل . إذا عرفت ذلك فنقول :

ما أفاده الأعلام في تقرير الأصل:

الحقّ في تقرير الأصل ما أفاده في «الكفاية» فإنّه الأنسب بالبحث الاُصولي ; حيث قال : إنّ الأصل فيما لا يعلم اعتباره بالخصوص شرعاً ولا يحرز التعبّد به واقعاً عدم حجّيته جزماً ; بمعنى عدم ترتّب الآثار المرغوبة من الحجّة عليه قطعاً(49) .

وما أفاده شيخنا العلاّمـة ـ أعلى الله مقامه(50) ـ فكأنّه خارج عن محطّ الكلام ، فراجع ، هذا .

ثمّ إنّ ما أفاد الشيخ الأعظم ـ قدس سره ـ في تأسيس الأصل من حرمة التعبّد بالظنّ الذي لم يدلّ دليل على وقوع التعبّد به إذا تعبّدنا على أ نّه من الشارع والالتزام به كذلك ، لا إذا أتى به رجاء إدراك الواقع ; فإنّه ليس بمحرّم إلاّ إذا استلزم طرح ما يقابله من الاُصول والأدلّة . ثمّ استدلّ على مختاره بالأدلّة الأربعة(51) .

فيه مواقع للنظر :

منها : أنّ البحث عن الحرمة التكليفية للتعبّد بالظنّ لا يناسب مع تقرير الأصل في المسألة الاُصولية . اللهمّ إلاّ أن يرجع إلى نفي الحجّية بإثبات الحرمة ; استدلالاً على الملزوم ـ عدم الحجّية ـ بوجود اللازم ، بناءً على الملازمة بينهما . والذي دعاه إلى ذلك بناؤه على عدم كون الحجّية مجعولة .

وفيه : منع الملازمة بينهما ، ولم يقم برهان عليه بل قام على خلافه .

واُورد عليه ـ قدس سره ـ نقوض :

منها : ما عن المحقّق الخراساني ـ قدس سره ـ  ; قائلاً بنفي الملازمة بين الحجّية وصحّة الاستناد ; مستشهداً بأنّ حجّية الظنّ عقلاً على الحكومة في حال الانسداد لا توجب صحّة الاستناد(52) .

ومنها : ما عن بعض محقّقي العصر ـ قدس سره ـ من أنّ الشكّ حجّة في الشبهات البدوية قبل الفحص ، مع أ نّه لا يجوز الانتساب إليه تعالى(53) .

ومنها : ما عنه ـ قدس سره ـ من أنّ جعل الاحتياط في الشبهات البدوية كلّها أو بعضها حجّة على الواقع ، مع أ نّه لا يصحّ معه الانتساب(54) .

ويمكن أن يجاب : عن الأوّل : بأنّ الحجّة في حال الانسداد هو العلم الإجمالي ; فيكون الحجّة هو العلم لا الظنّ ، وسيوافيك ـ لو ساعدنا الحال لبيان ما هو الحقّ في الانسداد ـ أنّ ما يدّعى من عدم كون العلم مقدّمة ضعيف ; فإنّ العلم الإجمالي بالأحكام مع عدم جواز الاحتياط والإهمال يوجب حكومة العقل بأنّ أقرب الطرق إلى الواقع هو الظنّ ، فالظنّ ليس حجّة بما هو ظنّ ، بل الحجّة هو العلم الإجمالي .

وأمّا الجواب عن ثاني النقوض : أنّ الحجّة ليس نفس الشكّ ; لأنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان غير محكّمة مع وجود البيان في الكتب المعدّة للبيان ، فالحجّة الواصلة الواردة في الكتب حجّة على الواقع دون الشكّ ، نعم يمكن أن يجعل ذلك نقضاً عليه إن كان محطّ البحث أعمّ من قبل الفحص .

وقس عليه ثالث النقوض ; فإنّ إيجاب الاحتياط رافع لموضوع حكم العقل ، فليس الشكّ حجّة بل الحجّة هو الحكم الواقعي أو إيجاب الاحتياط ، وهذا أيضاً نقض عليه ولا الشكّ البدوي .

ومنها : أنّ مـا استدلّ به مـن الأدلّـة غير حكم العقل مخـدوش جـدّاً ، بعد الغضّ عمّا تقدّم منّا(55)  مـن أنّ الالتزام الجـزمي بما شكّ كونه مـن المولى ، أمر ممتنع لا حرام .

وأمّا ضعف الأدلّة اللفظية : فلأنّ الافتراء في قوله تعالى : {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] عبارة عن الانتساب إلى الله تعالى عمداً وكذباً ; إذ الافتراء لغةً هو الكذب لا انتساب المشكوك فيه إليه .

وما ربّما يقال : من أنّ الافتراء وإن كان لغة هو الكذب إلاّ أ نّه لوقوعه في مقابل قولـه : (أَذِنَ لَكُمْ) يعمّ المقام أيضاً(56)  ضعيف ; فإنّ المراد من الإذن هو الإذن الواقعي لا الإذن الواصل ; حتّى يقال بأنّ عدم وصول الإذن يلازم كونه افتراءً ، كما لا يخفى .

والأولى : الاستدلال على حرمة الانتساب بقوله تعالى : {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] إلى أن قال عزّ اسمه : {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].

وبالأخبار الـواردة في القول بغير علم(57) ، لـو لم نقل بكونها إرشاداً إلى حكـم العقل .

وأمّا الآيـة السابقة : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ . . .) إلى آخـره فظاهـرها يأبى عـن الإرشاد .

وأمّـا الإجماع فموهـون بالعلم بمستنده . نعم حكم العقل بقبح الانتساب بغير علم لا سترة فيه ; خصوصاً إلى الله تعالى .

ومنها : أنّ ما أفاده من حرمة العمل بالظنّ إذا استلزم طرح ما يقابله من الاُصول والأمارات لا يصحّ على مختاره ; لأنّ المحرّم هو مخالفة الواقع لا الأمارات والاُصول ، والأمر دائر بين التجرّي والمعصية .

وربّما يقرّر الأصل الأوّلي بالتمسّك بالاستصحـاب ; أعني أصالـة عـدم حجّيـة الظنّ .

وأورد عليه الشيخ : بعدم ترتّب الأثر العملي على مقتضى الاستصحاب ; لأنّ نفس الشكّ في الحجّية موضوع لحرمة التعبّد ، ولا يحتاج إلى إحراز عدم ورود التعبّد بالأمارة(58) .

واستشكل عليه المحقّق الخراساني ـ قدس سره ـ بوجهين :

أحدهما : أنّ الحجّية من الأحكام الوضعية ، وجريان الاستصحاب وجوداً وعدماً لا يحتاج فيها إلى أثر آخر ورائها ، كاستصحاب عدم الوجوب والحرمة .

ثانيهما : لو سلّم الاحتياج إلى الأثر فحرمة التعبّد كما تكون أثراً للشكّ في الحجّية كذلك تكون أثراً لعدم الحجّية واقعاً ، فيكون الشكّ في الحجّية مورداً لكلّ من الاستصحاب والقاعدة المضروبة لحال الشكّ ، ويقدّم الاستصحاب على القاعدة ; لحكومتها عليها كحكومة استصحاب الطهارة على قاعدتها(59) .

وأورد على الوجهين بعض أعاظم العصر ، بعدما لخّص كلامه كما ذكرنا بما ملخّصه :

أمّا الأوّل : فلأنّ الاستصحاب من الاُصول العملية ، ولا يجري إلاّ إذا كان في البين عمل ، وما اشتهر : أنّ الاُصول الحكمية لا تتوقّف على الأثر إنّما هو فيما إذا كان المؤدّى بنفسه من الآثار العملية لا مطلقاً ، والحجّية وإن كانت من الأحكام الوضعية المجعولة إلاّ أ نّها بوجودها الواقعي لا يترتّب عليها أثر عملي .

والآثار المترتّبة عليها : منها ما يترتّب عليها بوجودها العلمي ، ككونها منجّزة للواقع عند الإصابة وعذراً عند المخالفة ، ومنها ما يترتّب على نفس الشكّ في حجّيتها ، كحرمة التعبّد بها وعدم جواز إسنادها إلى الشارع .

فليس لإثبات عدم الحجّية أثر إلاّ حرمة التعبّد بها ، وهو حاصل بنفس الشكّ في الحجّية وجداناً . فجريان الأصل لإثبات هذا الأثر أسوأ حالاً من تحصيل الحاصل ; للزوم إحراز ما هو محرز وجداناً بالتعبّد .

وأمّا الوجه الثاني : فلأنّ ما أفاده ـ يعني المحقّق الخراساني ـ من أنّ حرمة التعبّد بالأمارة تكون أثراً للشكّ في الحجّية ولعدم الحجّية واقعاً ، وفي ظرف الشكّ يكون الاستصحاب حاكماً على القاعدة المضروبة له .

ففيه : أنّه لا يعقل أن يكون الشكّ في الواقع موضوعاً للأثر الشرعي في عرض الواقع . مع عدم جريان الاستصحاب على هذا الفرض أيضاً ; لأنّ الأثر يترتّب بمجرّد الشكّ لتحقّق موضوعه ، فلا يبقى مجال لجريان الاستصحاب ، ولا تصل النوبـة إلى إثبات الواقع ليجري الاستصحاب ; فإنّـه في الرتبـة السابقة على هذا الإثبات ، تحقّق موضوع الأثـر وترتّب عليـه الأثـر ، فأيّ فائدة في جريان الاستصحاب ؟

 

وحكومته على القاعدة إنّما تكون فيما إذا كان ما يثبته الاستصحاب غير ما يثبته القاعدة ، كقاعدتي الطهارة والحلّ واستصحابهما ; فإنّ القاعدة لا تثبت الطهارة والحلّية الواقعية ، بل مفادهما حكم ظاهري ، بخلاف الاستصحاب .

وقد يترتّب على بقاء الطهارة والحلّية الواقعية غير جواز الاستعمال وحلّية الأكل . وعلى ذلك يبتني جواز الصلاة في أجزاء الحيوان الذي شكّ في حلّيته إذا كان استصحاب الحلّية جارياً ، كما إذا كان الحيوان غنماً ، فشكّ في مسخه إلى الأرنب وعدم جواز الصلاة في أجزائه إذا لم يجر الاستصحاب ; وإن جرت فيه أصالة الحلّ ، فإنّها لا تثبت الحلّية الواقعية .

وكذا الكلام في قاعدة الاشتغال مع الاستصحاب ; فإنّه في مورد جريان القاعدة لا يجري الاستصحاب وبالعكس .

فالقاعدة تجري في مورد العلم الإجمالي عند خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء بالامتثال ونحوه ، والاستصحاب يجري عند الشكّ في فعل المأمور به ، وأين هذا ممّا نحن فيه ممّا كان الأثر المترتّب على الاستصحاب عين الأثر المترتّب على الشكّ ؟ !

فالإنصاف : أ نّـه لا مجال لتوهّم جريان استصحاب عـدم الحجّيـة عند الشكّ فيها(60) ، انتهى .

أقول : قد عرفت سابقاً(61)  أنّ التشريع وإدخال شيء في الشريعة وتبديل الأحكام عنوان برأسه ومبغوض شرعاً ومحرّم واقعي ـ علم المكلّف أو لا ـ كما أنّ القول بغير العلم وانتساب شيء إلى الشارع بلا حجّة قبيح عقلاً ومحرّم شرعي غير التشريع ، وبمناط مستقلّ خاصّ به . فالشكّ في الحجّية كما أ نّه موضوع لحرمة التعبّد وحرمة الانتساب إلى الشارع موضوع لاستصحاب عدم الحجّية وحرمة التشريع وإدخال ما ليس في الدين فيه .

وعليه : يكون الاستصحاب حاكماً على القاعدة المضروبة للشكّ ; بمعنى أ نّه مع استصحاب عدم جعل الحجّية وعدم كون شيء من الدين يخرج الموضوع عن القول بغير علم ; لأنّ المراد من القول بغير علم هو القول بغير حجّة ; ضرورة أنّ الإفتاء بمقتضى الأمارات والاُصول والانتساب إلى الشارع مقتضاهما غير محرّم وغير داخل في القول بغير علم . فعليه : لا يكون الانتساب مع استصحاب العدم انتساباً بغير حجّة ، بل انتساب مع الحجّة على العدم ، وهو كذب وافتراء وبدعة ، وتكون حرمته لأجل انطباق تلك العناوين عليه ، لا عنوان القول بغير علم . وتوهّم مثبتية الأصل في غير محلّه ، كما لا يخفى على المتأمّل .

ثمّ إنّه يرد على ما أفاده بعض أعاظم العصر اُمور :

الأوّل : أنّ قولـه جريان الاستصحاب تحصيل للحاصل بل أسوأ منه ، لا يخلو من خلط ; لما عرفت أنّ التشريع غير التقوّل بغير علم ، وما يحصل حكمـه ـ أعني الحرمة بمجرّد الشكّ ـ إنّما هو الثاني ، وأمّا الأوّل فهو يحتاج إلى عناية اُخرى ، كما تقدّم .

الثاني : أنّ ما ادّعاه من امتناع كون الشكّ موضوعاً للأثر في عرض الواقع لم يقم عليه برهان إذا فرضنا وجود جعلين مستقلّين .

الثالث : أنّ ما أفاده من أنّ الشكّ في الرتبة السابقـة على الاستصحاب يترتّب عليه الأثر ، فلا يبقى مجال لجريانه ، غير وجيه ; فإنّ الشكّ في الواقع في رتبة واحدة موضوع للقاعدة والاستصحاب ، فكيف يمكن أن يتقدّم على موضوع الاستصحاب بعدما كان الأثر مترتّباً على الواقع كما هو المفروض لا على العلم بعدم الواقع حتّى يقال : تحقّق هذا العنوان تعبّداً في الرتبة المتأخّرة عن الاستصحاب ، فتأمّل .

 

وتقدّمه على الحكم الاستصحابي ليس إلاّ كتقدّمه على الحكم الثابت بالقاعدة ; ضرورة تقدّم كلّ موضوع على حكمه .

فإن قلت : لعلّ نظره ـ كما يستفاد مـن كلمات الشيخ الأعظم أيضاً ـ أنّ صرف الشكّ يترتّب عليه الأثر في القاعدة ، وأمّا الاستصحاب فهو يحتاج إلى عنايـة اُخـرى ; مـن لحاظ الحالة السابقة وجـرّ الثابت سابقاً إلى الزمان اللاحق .

قلت : ترتّب الأثر على الشكّ عبارة اُخرى عن جعل الحكم عليه ، كما أنّ العناية في الاستصحاب كذلك ، فالشكّ فيهما موضوع للحكم في عرض واحد ، وحكمهما متأخّر عنه ; تأخّر الحكم عن موضوعه .

الرابع : أنّ ما أفاده من الفرق بين قاعدة الحلّية والطهارة واستصحابهما من جواز الصلاة في المحكوم بالطهارة والحلّية بالاستصحاب ، دون المحكوم بهما بمعونة القاعدتين ، قد فرغنا(62)  عن ضعف هذا التفصيل في محلّه ، وأوضحنا حكومة القاعدتين على أدلّة الشرائط والأجزاء ، وحكمنا بصحّة الصلاة ، فراجع .

الخامس : أنّ ما أفاده من عدم جريان الاستصحاب في مورد قاعدة الاشتغال ضعيف إذا ادّعى الكلّية ، وإن ادّعى في بعض الموارد ـ كما إذا اختلّ أركان الاستصحاب ـ فلا يفيد بحاله .

ولعلّ ما ذكره من المثال من هذا القبيل ، كما أنّ ما ذكره من عدم جريان القاعدة عند الشكّ في المأمور به غير صحيح ، فتدبّر .

اعلم أ نّه قد خرج عن الأصل المذكور اُمور :

الأمر الأوّل : في حجّية الظواهر:

وكان الأولى تأخير البحث عنها عن سائر المقامات ; لأنّ حجّية الظاهر فرع كونه صادراً إلاّ أنّا نقتفي أثر الشيخ الأعظم ـ قدس سره ـ  :

فنقول : إنّ استفادة الحكم الشرعي من الأدلّة يتوقّف على طيّ مراحل :

منها : إثبات صدوره ، والمتكفّل له كبروياً هو البحث عن حجّية الخبر الواحد ، وصغروياً هو علم الرجال وملاحظة أسانيد الروايات .

ومنها : إثبات أصل الظهور بالتبادر وعدم صحّة السلب وقول اللغوي ومهرة الفنّ ، بعد إثبات حجّية قولهم .

ومنها : إثبات جهة الصدور وأنّ التكلّم لأجل إفهام ما هو الحكم الواقعي لا لملاك آخر ; من التقيّة وغيرها ، ويقال : أصالة التطابق بين الإرادتين .

ومنها : إثبات حجّية الظهورات ; كتاباً وسنّـة ، وهذا هو الذي انعقد له البحث .

وما ذكرناه جار في عامّة التخاطبات العرفية ; فإنّ حجّية قول الرجل في أقاريره ووصاياه وإخباراته يتوقّف على طيّ تلك المراحل عامّة ، من غير فرق بين الكتاب والسنّة وغيرهما .

ولا ريب لمن له أدنى إلمام بالمحاورات العرفية في أنّ ظواهر الكلام متّبعة في تعيين المراد . وعليه يدور رحى التكلّم والخطابات ، من دون أيّ غمض منهم أصلاً ، وأ نّهم يفهمون من قول القائل : «زيد قائم» بالدلالة العقلية على أنّ فاعله مريد له ، وأنّ صدوره لغرض الإفادة ، وأنّ قائله أراد إفادة مضمون الجملة ; إخبارياً أو إنشائياً لا لغرض اُخرى .

وبما أنّ مفردات كلامه موضوعة يحكمون أنّ المتكلّم أراد المعاني الموضوعة لها ، وبما أنّ له هيئة تركيبية وله ظاهر ومتفاهم عرفي يحملون كلامه على أ نّه مستعمل فيما هو ظاهر فيه ، وأنّ الظاهر من تلك الهيئة التركيبية مراد استعمالاً . ثمّ يتّبعون ذلك أنّ المراد استعمالاً مراد جدّي ، وأنّ الإرادة الاستعمالية مطابقة بالإرادة الجدّية .

كلّ ذلك اُصول وبناء منهم في محاوراتهم العرفية ، ولا يصغون إلى قول من أراد الخروج عن هذه القواعد ، وهذا واضح .

وإنّما الكلام في أنّ حجّية الظواهر هل هو لأجل أصالة الحقيقة أو أصالة عدم القرينة أو أصالة الظهور ، أو أنّ لكلّ مورد من الشكّ أصل يخصّ به ؟

التحقيق : هو الأخير ; وإن بنينا في الدورة السابقة على أنّ المعتبر عندهم أصل واحد ; وهو أصالة الظهور(63) ، ولكن بعد التدبّر ظهر لنا أنّ الحقّ هو الأخير .

وخلاصته : أنّ الكلام الصادر من المتكلّم إذا شكّ في حجّيته : فإن كان منشأ الشكّ احتمال عدم كونه بصدد التفهيم ، وأنّ التخاطب لأجل أغراض اُخر ; من الممارسة والتمرين فقد عرفت أنّ الأصل العقلائي على خلافه .

وإن كان مبدأ الشكّ احتمال استعمال اللفظ في غير ما وضع له غلطاً من غير مصحّح فالأصل العقلائي على خلافه .

وإن كان الشكّ لأجل احتمال استعمال المتكلّم كلامه في المعنى المجازي على الوجه الصحيح : فإن قلنا إنّ المجاز استعمال اللفظ في غير ما وضع له ابتداءً ـ  كما هو المشهور(64) ـ فأصالة الحقيقة هو المتّبع ، وإن قلنا على ما هو التحقيق : بأنّ المجاز استعمال اللفظ في ما وضع له ; للتجاوز إلى المعنى الجدّي ـ كما مرّ تحقيقه(65) ـ فالمتّبع هو تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدّية .

وإن كان الشكّ لأجل احتمال أنّ المتكلّم يخرج بعض الموارد الذي ليس مراداً جدّياً ببيان آخر ـ كالتخصيص والتقييد بالمنفصل ـ فمرجعه إلى مخالفة الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدّية ، على ما هو الحقّ من أنّ العامّ بعد التخصيص حقيقة أيضاً فقد عرفت أنّ أصالة التطابق بين الإرادتين محكّمة أيضاً(66) .

وأمّا المنقول بالواسطة : فإنّ المبدأ للشكّ لو كان احتمال التعمّد بحذف القرينة فعدالة الراوي ووثاقته دافعة لذلك ، وإن كان لأجل احتمال السهو والنسيان والاشتباه والخطأ فكلّ ذلك منفية بالأصول العقلائية . فما هو الحجّة هو الظهور ، لكن مبنى الحجّية الاُصول الاُخر ، كما تقدّم ذكرها .

وأمّا أصالة الظهور فليست أصلاً معوّلاً ، بل إضافة الأصل إلى الظهور لا يرجع إلى محصّل ، إلاّ أن يراد بعض ما تقدّم .

تفصيل المحقّق القمّي بين من قصد إفهامه وغيره:

وقد فصّل في حجّية الظواهر ذلك المحقّق العظيم ; حيث ذهب إلى حجّية الظواهر بالنسبة إلى من قصد إفهامه دون من لم يقصد(67)، وهو ضعيف صغرى وكبرى :

أمّا الأوّل : فلأنّ الأخبار الواصلة إلينا عن النبي والأئمّة المعصومين ـ عليهم السلام ـ ليس إلاّ كالكتب المؤلّفة التي قال ـ قدس سره ـ بحجّية ظواهرها بالنسبة إلى الجميع ; وذلك لأنّ الخطاب وإن كان متوجّهاً إلى مخاطب خاصّ ـ كزرارة ومحمّد بن مسلم وأمثالهما ـ إلاّ أنّ الأحكام لمّا كانت مشتركة وشأن الأئمّة ليس إلاّ بثّ الأحكام بين الناس فلا جرم يجري الخطاب الخاصّ مجرى الخطاب العامّ في أنّ الغرض نفس مفاد الكلام ، من غير دخالة إفهام متكلّم خاصّ .

وأمّا الكبرى : فلبناء العقلاء على العمل بالظواهر مطلقاً ما لم يحرز أنّ بناء المتكلّم على الرمز وحذف القرائن اللازمة ; لوضوحه عند المخاطب . فلو أراد المفصّل هذا القسم فلما قاله وجه وجيه ، وإن أراد غير ذلك فمدفوع بالبناء منهم على خلافه .

هذا ، وإنّ من المرسوم الدائر في بعض الأحيان مراقبة الرسائل الدائرة بين الأصدقاء والإخوان من جانب الحكومة ، ولا شكّ أنّ الرسائل الدائرة لم يقصد كاتبها إلاّ إفهام من أرسله إليه ، إلاّ أنّ الحكومة والرقابة العسكرية إذا وجدوا فيها ما يستشمّ منه الخيانة أو التجمّع للفتنة صاروا إلى إحضار الكاتب وزجره وحبسه .

مقالة الأخباريين في عدم حجيّة ظواهر الكتاب:

وهم استدلّوا على عدم حجّية ظواهره بوجوه :

منها : ادّعاء وقوع التحريف في الكتاب حسب أخبار كثيرة(68) ، وهو يوجب عروض الإجمال المانع من التمسّك به(69) .

وهو بمعرض من السقوط ; صغرى وكبرى :

أمّا الصغرى : فإنّ الواقف على عناية المسلمين على جمع الكتاب وحفظه وضبطه ـ قراءةً وكتابةً ـ يقف على بطلان تلك المزعمة ، وأنّه لا ينبغي أن يركن إليه ذو مسكة . وما وردت فيه من الأخبار بين ضعيف لا يستدلّ به ، إلى مجعول يلوح منها أمارات الجعل ، إلى غريب يقضى منه العجب ، إلى صحيح يدلّ على أنّ مضمونه تأويل الكتاب وتفسيره ، إلى غير ذلك من الأقسام التي يحتاج بيان المراد منها إلى تأليف كتاب حافل .

ولولا خوف الخروج عن طور الكتاب لأرخينا عنان البيان إلى بيان تأريخ القرآن وما جـرى عليه طيلـة تلك القرون(70) ، وأوضحنا عليك أنّ الكتاب هـو عين ما بين الدفّتين ، والاختلافات الناشئـة بين القرّاء ليس إلاّ أمـراً حديثاً لا ربط لـه

بما نزل به الروح الأمين على قلب سيّد المرسلين .

وأمّا الكبرى : فالتحريف على فرض وقوعه إنّما وقعت في غير الأحكام ممّا هو مخالف لأغراضهم الفاسدة ; من التنصيص على الخلافة والإمامة ، وهذا لا يضرّ بالتمسّك في الأحكام.

منها : العلم الإجمالي بوقوع التخصيص والتقييد في العمومات والمطلقات ، وهو يمنع عن الاستدلال بالظهور(71) .

ومنها : الأخبار الناهية عن العمل بالكتاب(72) .

إلى غير ذلك ممّا أجاب عنه الأساطين ، ولا حاجة إلى الإطالة .

الأمر الثاني : في البحث عمّا يتعيّن به الظاهر:

ونكتفي في المقام بالبحث عن حجّية قول اللغوي ; إذ أكثر ما يبحث عنه في مباحث الألفاظ يرجع إلى تشخيص الظاهر :

حجّية قول اللغوي:

وقد استدلّ عليه : تارة ببناء العقلاء على الرجوع إلى مهرة الفنّ من أهل الصناعات ; لكونهم أهل الخبرة في هذا الأمر ، واُخرى بالإجماع والانسداد . والمهمّ هو الأوّل .

وهو مدفوع بأنّ اللغوي مرجع في موارد الاستعمال ، لا في تشخيص الحقائق عن المجاز .

أضف إلى ذلك : أنّ مجرّد بناء العقلاء على الرجوع في هذه القرون لا يكشف عن وجوده في زمن المعصومين حتّى يستكشف من سكوته رضاه ، مثل العمل بخبر الواحد وأصالة الصحّة ، ولم يرد منهم ـ عليهم السلام ـ ما يدلّ على رجوع الجاهل بالعالم حتّى نتمسّك بإطلاقه أو عمومه في موارد الشكّ .

والحاصل : أنّ موارد التمسّك ببناء العقلاء إنّما هو فيما إذا اُحرز كون بناء العقلاء بمرأى ومسمع من المعصومين ـ عليهم السلام ـ  ، ولم يحرز رجوع الناس إلى صناعة اللغة في زمن الأئمّة ; بحيث كان الرجوع إليهم كالرجوع إلى الطبيب .

فإن قلت : رجوع الصحابة في معاني مفردات القرآن إلى حَمَلة العلم ـ كابن عبّاس ونظرائه ـ ممّا لا سترة فيه ، وكون الرجل عربياً فصيحاً لا يوجب إحاطته بعامّة لغاته ، كما في غير العربي من الألسنة ، ولا شكّ أ نّه كان اُمّة كبيرة من الأصحاب مراجع فيما يتعلّق بالقرآن والحديث في توضيحهما وتفسيرهما وتبيين مفرداتهما .

على أنّ اللغة قد دوّنت في زمن المعصومين ـ عليهم السلام ـ  ; فإنّ أوّل من دوّنه هو خليل بن أحمد الفراهيدي الذي عدّه الشيخ من أصحاب الصادق ـ عليه السلام ـ  ، وبعده ابن دريد صاحب «الجمهرة» الذي هو من أصحاب الجواد ـ عليه السلام ـ  ، وألّف ابن السكّيت «إصلاح المنطق» الذي قتله المتوكّل لتشيّعه ، وهذا يكشف عن كون التدوين والرجوع إلى معاجم اللغة كان أمراً دائراً .

قلت : لم يثبت رجوعهم إلى مثل ابن عبّاس وغيره في لغة القرآن ومفرداته ، بل الظاهر رجوعهم إلى مثله في تفسير القرآن المدّخر عنده من أصحاب الوحي .

وصرف تدوين اللغة في عصر الأئمّة ـ عليهم السلام ـ لا يدلّ على أخذ الناس اللغة بصرف التقليد ، كالرجوع إلى الطبيب والفقيه .

نعم ، الرجوع إلى كتب اللغة ربّما يوجب تشخيص المعنى بمناسبة سائر الجمل ، كما في رجوعنا إليها ، فصرف تدوين اللغة والرجوع إليها في تلك الأعصار لا يفيد شيئاً .

الأمر الثالث : في الإجماع المنقول:

وتحقيق الحال يتوقّف على رسم اُمور :

الأوّل : أنّ الإجماع عند العامّة دليل برأسه في مقابل الكتاب والسنّة ; لما نقلوا عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ  : «لا تجتمع اُمّتي على الضلالة»(73)  أو «على الخطأ»(74)  ولذلك اشترطوا اتّفاق الكلّ . وعرّفه الغزالي : بأنّه اتّفاق اُمّة محمّد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ على أمر من الاُمور الدينية(75) .

ولكن لم يكن المرمي من الإجماع وحجّيته وما اختلقوا له من المستند إلاّ إثبات خلافة الخلفاء .

ولمّا رأوا أنّ ما عرّف به الغزالي لا ينطبق على مورد الخلافة ـ ضرورة عدم اجتماع الاُمّة جميعاً عليها ; لمخالفة كثير من الأصحاب وجمهرة بني هاشم ـ عدل

الرازي والحاجبي إلى تعريفه بوجه آخر ، فعن الأوّل بأنّه اتّفاق أهل الحلّ والعقد من اُمّة محمّد على أمر من الاُمور(76) ، وعن الثاني : أنّه اتفاق المجتهدين من هذه الاُمّة في عصر على ما أمر(77) ، مع عدم تتميم مقصدهم بأيّ تعريف عرف ; لمخالفة جمع من أهل الحلّ والعقد والمجتهدين معها .

وأمّا عند الخاصّة : فليس حجّة بنفسه اتّفاقاً ، بل لأجل أ نّه يستكشف منه قول المعصوم أو رضاه ; سواء استكشف من الكلّ أو اتّفاق جماعة .

ولعلّ تسمية ما هو الدليل الحقيقي ـ السنّة ـ بالإجماع لإفادة أنّ لهم نصيباً منها ، وليكون الاستدلال على أساس مسلّم بين الطرفين . ولعلّه على ذلك يحمل الإجماعات الكثيرة الدائرة بين القدماء ، كالشيخ وابن زهرة وأضرابهم ، كما يظهر من مقدّمات «الغنيـة»(78) ، وإلاّ فقد عرفت أنّ الإجمـاع عندنا وعندهم مختلف ; غايةً وملاكاً .

الثاني : أنّ البحث في المقام إنّما هو عن شمول أدلّة حجّية الخبر الواحد للإجماع المنقول به وعدم شموله ، وكان الأولى إرجاع البحث إلى الفراغ عن حجّيته .

وكيف كان فنقول : إنّه سيوافيك(79)  أنّ الدليل الوحيد على حجّية الخبر الواحد ليس إلاّ بناء العقلاء ، وما ورد من الآيات والأخبار كلّها إرشاد إلى ذلك البناء .

وعليه فنقول : لا شكّ في حجّية الخبر الواحد في الإخبار عن المحسوسات المتعارفة أو غير المحسوس إذا عدّه العرف لقربه إلى الحسّ محسوساً .

وأمّا إذا كان المخبر به ـ محسوساً ـ غريباً غير عادي أو مستنبطاً بالحدس عن مقدّمات كثيرة فللتوقّف مجال ; لعدم إحراز وجود البناء في هذه المقامات . فلو ادّعى تشرّفه أو سماع كلامه بين المجمعين فلا يعبأ به .

وإن شئت قلت : حجّية الأخبار الآحاد مبنية على أمرين : عدم التعمّد في الكذب ، وعدم خطأه فيما ينقله ، والأوّل مدفوع بعدالته ووثاقته ; سواء كان الإخبار عن حسّ أو حدس ، وأمّا الثاني فأصالة عدم الخطأ أصل عقلائي ، ومورده ما إذا كان المخبر به أمراً حسّياً أو قريباً منه .

وأمّا إذا كان عن حدس ، أو حسّ لكن المخبر به كان أمراً غريباً غير عادي فلا يدفع احتمال الخطأ بالأصل ، بل يمكن أن يقال : إنّ أدلّة حجّية خبر الثقة غير واف لإثبات مثل الإخبار بالغرائب ، إلاّ إذا انضمّ إلى دعواه قرائن وشواهد .

الثالث : أنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد حجّة بالنسبة إلى الكاشف إذا كان ذا أثر شرعي ، وأمّا بالنسبة إلى المنكشف فليس بحجّة ; لأنّه ليس إخباراً عن أمر محسوس ، فلا يشمله ما هو الحجّة في ذلك الباب .

وقياس المقام بالإخبار عن الشجاعة والعدالة غير مفيد ; لأنّ مبادئهما محسوسة ، فإنّهما من المعقولات القريبة إلى الحسّ ، ولأجل ذلك يقبل الشهادة عليهما . وأمّا قول الإمام فهو مستنبط بمقدّمات وظنون متراكمة ، كما لا يخفى .

الرابع : أنّ القوم ذكروا لاستكشاف قول الإمام ـ عليه السلام ـ طرقاً ; أوجهها دعوى الملازمة العادية بين اتّفاق المرئوسين على شيء ورضا الرئيس به ، وهـذا أمر قريب جدّاً ، ولأجل ذلك لو قدّم غريب بلادنا وشاهد إجـراء قانون العسكرية في كلّ دورة وكورة يحـدس قطعاً أنّ هذا قانون قـد صوّب في مجلس النوّاب ، واستقرّ عليه رأي من بيده رتق الاُمور وفتقه .

وأمّا ما أفاده بعض أعاظم العصر : من أنّ اتّفاقهم على أمر إن كان نشأ عن تواطئهم على ذلك كان لتوهّم الملازمة العادية بين إجماع المرؤوسين ورضاء الرئيس مجال ، وأمّا إذا اتّفق الاتّفاق بلا تواطؤ منهم فهو ممّا لا يلازم عادة رضاء الرئيس ولا يمكن دعوى الملازمة(80) .

فضعيف جدّاً ; لأنّ إنكار الملازمة في صورة التواطؤ أولى وأقرب من الإجماع بلا تواطؤ ; فإنّ الاتّفاق مع عـدم الرابـط بينهما يكشف عن وجـود ملاك لـه ـ  من نصّ أو غيـره ـ وأمّا الاتّفاق مع التواطؤ فيحتمل أن يكون معلّلاً بأمر غير ما هو الواقع .

فلو ادّعى القائل بحجّية الإجماع المنقول أ نّه كاشف عن الدليل المعتبر الذي لم نعثر عليه أو عن رضاه فلا يعدّ أمراً غريباً .

هذا ، ولكنّه موهون من جهة اُخرى ; فإنّ من البعيد جدّاً أن يقف الكليني أو الصدوق أو الشيخ ومن بعده على رواية متقنة دالّة على المقصود ، ومع ذلك تركوا نقلها .

والأولى أن يقال : إنّ الشهرة الفتوائية عند قدماء الأصحاب يكشف عن كون الحكم مشهوراً في زمن الأئمّة ـ عليهم السلام ـ  ; بحيث صار الحكم في الاشتهار بمنزلة أوجبت عدم الاحتياج إلى السؤال عنهم ـ عليهم السلام ـ  ، كما نشاهده في بعض المسائل الفقهية .

وبالجملة : أنّ اشتهار حكم بين الأصحاب يكشف عن ثبوت الحكم في الشريعة المطهّرة ومعروفيته من لدن عصر الأئمّة ـ عليهم السلام ـ .

الأمر الرابع :في الشهرة الفتوائية:

لا إشكال في عدم حجّية الشهرة الفتوائية في التفريعات الفقهية الدائرة بين المتأخّرين من زمن شيخ الطائفة إلى زماننا هذا .

وما استدلّوا به على حجّيتها من التمسّك بفحوى أدلّة حجّية الخبر الواحد أو تنقيح المناط أو تعليل آية النبأ أو دلالة المقبولة أو تعليلها(81)  لا يخلو من ضعف غني عن البيان .

حجّية الشهرة الفتوائية الدائرة بين القدماء

وإنّما الكلام في الشهرة المتقدّمة على الشيخ ـ أعني الشهرة الدائرة بين قدماء أصحابنا ، الذين كان ديدنهم التحفّظ على الاُصول والإفتاء بمتون الرواية إلى أن ينتهي الأمر إلى أصحاب الفتوى والاجتهاد ـ فالظاهر وجود مناط الإجماع فيه ، وكونه موجباً للحدس القطعي على وجود نصٍّ معتبر دائر بينهم ، أو معروفية الحكم من لدن عصر الأئمّة ، كما أشرنا إليه .

وأمّا ما اشتهر من الشيخ عن مقدّمة «المبسوط»(82)  من أنّ ديدن الأصحاب قد كان جارياً على الجمود على النصوص ، من دون أدنى خروج من ظواهرها ; تكريماً لأئمّتهم وتعظيماً لهم ـ عليهم السلام ـ  ، غير أنّ الشيخ قد نقض تلك الطريقة ببعض تآليفه ، وأورد المسائل بعبارات غير دارجة عند أصحاب النصوص ، وفرّع على الاُصول كثيراً من التفريعات غير المذكورة في الروايات ، وجاء الأصحاب بعد الشيخ فحذوا حذوه إلى يومنا هذا .

فغير ظاهر ; فإنّا بعد الفحص لم نجد الكتب المؤلّفة في عصره أو في عصر قبله على ما وصفه، فراجع ما بقي بأيدينا من تآليف المفيد والمرتضى وسلاّر وابن حمزة وأضرابهم ممّن نقل العلاّمة في «المختلف» عبائرهم ، كابن جنيد وابن أبي عقيل وابن شاذان . لكن الطبقة السابقة على أصحاب الفتوى كان دأبهم على ما وصفه ; من الجمود على ذكر الروايات المطابقة لفتواهم ، أو نقل ألفاظها بعد الجمع والترجيح والتقييد والتخصيص ، ومن أظهر مصاديقه «فقه الرضا» ، وقريب منه بعض كتب الصدوق وأبيه ، قدّس الله أسرارهم .

وعلى ذلك فلو قلنا : إنّ في مثل تلك الشهرة مناط الإجماع ، بل الإجماع ليس إلاّ ذاك فليس ببعيد .

ويمكن أن يستدلّ على حجّيتها بالتعليل الوارد في مقبولة عمر بن حنظلة ; حيث قـال : «ينظـر إلى مـا كان مـن روايتهم عنّا فـي ذلك الـذي حكما بـه المجمع عليه بين أصحابك ، فيؤخذ به من حكمهما ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ; فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»(83) .

وجه الاستدلال : أنّ الاشتهار بين الأصحاب في تلك الأزمنة ; بحيث يكون الطرف المقابل شاذّاً معرضاً عنه بينهم ، ولا يكون مضرّاً بإجماعهم عرفاً ; بحيث يقال : إنّ القول الشاذّ مخالف لإجماع أصحابنا ، لا شبهة في كشفه عن رأي المعصوم وحجّيته ، وهذا هو الإجماع المعتبر الذي يقال في حقّه : إنّ المجمع عليه لا ريب فيه .

ومن ذلك يظهر : أنّه لا دليل على حجّية مجرّد الشهرة الفتوائية لو لم يحدس منها قول الإمام ـ عليه السلام ـ  ، كما هو المناط في الإجماع المحصّل والمنقول .

ثمّ إنّ بعض أعاظم العصر ـ قدس سره ـ قد ضعّف هذا الاستدلال ، وقال : إنّ الاستدلال بهذا التعليل ضعيف ; لأنّه ليس من العلّة المنصوصة ليكون من الكبرى الكلّية التي يتعدّى عن موردها ; فإنّ المراد من قوله ـ عليه السلام ـ  : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» إن كان هو الإجماع المصطلح فلا يعمّ الشهرة الفتوائية .

وإن كان المراد منه المشهور فلا يصحّ حمل قوله «ممّا لا ريب فيه» عليه بقول مطلق ، بل لابدّ أن يكون المراد منه عدم الريب بالإضافة إلى ما يقابله ، وهذا يوجب خروج التعليل عن كونه كبرى كلّية ; لأنّه يعتبر في الكبرى الكلّية صحّة التكليف بها ابتداءً بلا ضمّ المورد إليها ، كما في قوله : «الخمر حرام ; لأنّه مسكر» فإنّه يصحّ أن يقال : «لا تشرب المسكر» بلا ضمّ الخمر إليه .

والتعليل الوارد في المقبولة لا ينطبق على ذلك ; لأنّه لا يصحّ أن يقال : يجب الأخذ بكلّ ما لا ريب فيه بالإضافة إلى ما يقابله ، وإلاّ لزم الأخذ بكلّ راجح بالنسبة إلى غيره ، وبأقوى الشهرتين وبالظنّ المطلق وغير ذلك من التوالي الفاسدة التي لا يمكن الالتزام بها ، فالتعليل أجنبي عن أن يكون من الكبرى الكلّية التي يصحّ التعدّي عن موردها(84) ، انتهى .

وفيه : أنّ الكبرى ليست مجرّد كون الشيء مسلوباً عنه الريب بالإضافة إلى غيره حتّى يتوهّم سعة نطاق الكبرى ، بل الكبرى كون الشيء ممّا لا ريب فيه بقول مطلق عرفاً ; بحيث يعدّ طرف الآخر شاذّاً نادراً لا يعبأ به عند العقلاء ، وهذا غير موجود في الموارد الذي عدّه ـ قدس سره ـ  ; فإنّ ما ذكره من الموارد ليس ممّا لا ريب فيه عند العرف ; بحيث صار الطرف المقابل أمراً غريباً غير معتنى به .

بل الظاهر : أنّ عدم الريب ليس من المعاني الإضافية حتّى يقال : لا ريب فيه بالنسبة إلى مقابله ، بل من المعاني النفسية التي لا يصدق إلاّ مع فقد الريب بقول مطلق عن شيء . فقوله «لا ريب فيه» كبرى كلّية ، وكلّ ما كان كذلك عرفاً يجب الأخذ به ، ولا يرد عليه ما جعله نقضاً لذلك .

فتلخّص ممّا ذكر : حجّية الشهرة الفتوائية الدائرة بين القدماء إذا كان موجباً للحدس بثبوت الحكم دون غيره من الشهرة في التفريعات الاجتهادية ، وسيوافيك بعض الكلام في مبحث التعادل والترجيح ، وأنّ الشهرة الفتوائية على مضمون إحدى الروايتين يوجب سقوط الاُخرى عن الحجّية(85) .

____________
1 ـ اُنظر معارج الاُصول : 141 ، فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24 : 105 .

2 ـ شرح الإشارات والتنبيهات 3 : 418 .

3 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 88 .

4 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 89 .

5 ـ نفس المصدر.

6 ـ نفس المصدر : 90 .

7 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 90 ـ 91 .

8 ـ فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24 : 109 و 112 .

9 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 95 ـ 96 .

10 ـ قوانين الاُصول 1 : 142 / السطر 14 ، كفاية الاُصول : 193 ، فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 2 : 437 .

11 ـ كفاية الاُصول : 87 ـ 88 ، فوائد الاُصول ، المحقّق الخراساني : 17 .

12 ـ تقدّم في الصفحة 371 .

13 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 103 ـ 104 .

14 ـ تقدّم في الصفحة 369 ـ 371 .

15 ـ تقدّم في الصفحة 370 ـ 371 .

16 ـ فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 125

17 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 105 ـ 108 .

18 ـ تقدّم في الصفحة 332 .

19 ـ يأتي في الصفحة 472 .

20 ـ راجع وسائل الشيعة 27 : 136 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 11 .

21 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 30 و 90 .

22 ـ اختيار معرفة الرجال : 136 / 216 ، وسائل الشيعة 27 : 143 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 11 ، الحديث 19 .

23 ـ كمال الدين : 484 / 4 ، وسائل الشيعة 27 : 140 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 11 ، الحديث 9 .

24 ـ اختيار معرفة الرجال : 171 / 291 ، وسائل الشيعة 27 : 142 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 11 ، الحديث 15 .

25 ـ الكافي 1 : 329 / 1 ، وسائل الشيعة 27 : 138 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 11 ، الحديث 4 .

26 ـ يأتي في الصفحة 437 .

27 ـ كفاية الاُصول : 319 .

28 ـ نفس المصدر : 319 ـ 320 .

29 ـ راجع وسائل الشيعة 6 : 317 ، كتاب الصلاة ، أبواب الركوع ، الباب 13 ، الحديث 2 و 3 .

30 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 110 ـ 112 .

31 ـ الخصال : 417 / 9 ، التوحيد : 353 / 24 ، وسائل الشيعة 15 : 369 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس ، الباب 56 ، الحديث 1 .

32 ـ الكافي 5 : 313 / 40 ، وسائل الشيعة 17 : 89 ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ، الباب 4 ، الحديث 4 .

33 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 114 ـ 119 .

34 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 113 .

35 ـ راجع شرح الإشارات والتنبيهات 3 : 233 ـ 236 ، الحكمة المتعالية 2 : 138 ـ 141 .

36 ـ راجع شرح الإشارات والتنبيهات 1 : 279 ـ 280 ، التحصيل : 109 .

37 ـ نهاية الأفكار 3 : 60 ـ 62 .

38 ـ تقدّم في الجزء الأوّل : 487 .

39 ـ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 351 ـ 353 .

40 ـ تقدّم في الجزء الأوّل : 208 .

41 ـ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 94 ـ 95 .

42 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 121 ـ 122 .

43 ـ راجع وسائل الشيعة 27 : 20 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 4 ، الحديث 5 و9 و10 و14 و30 .

44 ـ راجع وسائل الشيعة 27 : 20 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 4 ، الحديث 1 و2 و3 و29 و31 و32 .

45 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 124 .

46 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 124 .

47 ـ الكافي 7 : 407 / 1 ، وسائل الشيعة 27 : 22 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 4 ، الحديث 6 .

48 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 121 ـ 122 .

49 ـ كفاية الاُصول : 322 .

50 ـ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 356 .

51 ـ فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24 : 125 .

52 ـ كفاية الاُصول : 323 .

53 ـ نهاية الأفكار 3 : 80 .

54 ـ نفس المصدر 3 : 80 ـ 81 .

55 ـ تقدّم في الصفحة 346 .

56 ـ بحر الفوائد في شرح الفرائد : 77 / السطر11 ، أوثق الوسائل : 65 / السطر35 .

57 ـ تقدّم تخريجها في الصفحة 402 .

58 ـ فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24 : 127 ـ 128 .

59 ـ درر الفوائد ، المحقّق الخراساني : 80 ـ 81 .

60 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 126 ـ 132 .

61 ـ تقدّم في الصفحة 402 .

62 ـ تقدّم في الجزء الأوّل : 272 .

63 ـ راجع أنوار الهداية 1 : 241 .

64 ـ المطوّل : 353 ، قوانين الاُصول 1 : 13 / السطر 5 ، الفصول الغروية : 14 / السطر12 .

65 ـ تقدّم في الجزء الأوّل : 63 .

66 ـ تقدّم في الصفحة 169 .

67 ـ قوانين الاُصول 1 : 398 / السطر 23.

68 ـ راجع الكافي 1 : 421 / 43 و 45 ، 422 / 51 ، 432 / 91 ، و 2 : 627 / 2 .

69 ـ الدرر النجفية : 294 / السطر 12 .

70 ـ غير أنّ فيما ألّفه فقيد العلم والأدب ، فقيد التفسير والفلسفة ، العلاّمة الحجّة ، الشيخ أبو عبدالله الزنجاني ـ رحمه الله ـ غنىً وكفاية ، وقد أسمى كتابه بـ «تأريخ القرآن» وطبع في القاهرة ، وعليها مقدّمة بقلم الاُستاذ أحمد أمين . [المؤ لّف]

71 ـ الدرر النجفية : 171 / السطر 3 .

72 ـ راجع الدرر النجفية : 169 / السطر 23 ، الحدائق الناضرة1 : 27 ، وسائل الشيعة 27 : 176 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 13 .

73 ـ سنن ابن ماجة 2 : 1303 / 3950 ، كنزل العمّال 1 : 180 / 909 .

74 ـ لم نعثر على مستنده فيما بأيدينا من المجاميع الروائية ، ولكن ورد في بعض الكتب الفقهية والاُصولية ، راجع المستصفى 1 : 175 ، المجموع 10 : 42 .

75 ـ المستصفى 1 : 173 .

76 ـ المحصول في علم الاُصول 3 : 770 .

77 ـ شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب : 122 .

78 ـ غنية النزوع 2 : 384 .

79 ـ يأتي في الصفحة 472 .

80 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 150 ـ 151 .

81 ـ راجع فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24 : 231 ، كفاية الاُصول : 336 ، فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 154 ـ 156 ، نهاية الأفكار 3 : 100.

82 ـ المبسوط 1 : 2 .

83 ـ الكافي 1 : 67 / 10 ، وسائل الشيعة 27 : 106 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي، الباب 9 ، الحديث 1 .

84 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 154 ـ 155 .

85 ـ التعادل والترجيح ، الإمام الخميني ـ قدس سره ـ  : 175 .




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.


لأعضاء مدوّنة الكفيل السيد الصافي يؤكّد على تفعيل القصة والرواية المجسّدة للمبادئ الإسلامية والموجدة لحلول المشاكل المجتمعية
قسم الشؤون الفكرية يناقش سبل تعزيز التعاون المشترك مع المؤسّسات الأكاديمية في نيجيريا
ضمن برنامج عُرفاء المنصّة قسم التطوير يقيم ورشة في (فنّ الٕالقاء) لمنتسبي العتبة العباسية
وفد نيجيري يُشيد بمشروع المجمع العلمي لحفظ القرآن الكريم