المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 16371 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
تاريخ أسرة رخ مي رع
2024-05-05
حياة «رخ مي رع» كما دونها عن نفسه.
2024-05-05
مناظر المقبرة.
2024-05-05
الوزير رخ-مي-رع.
2024-05-05
مقبرة «رخ مي رع» وزخرفها.
2024-05-05
ألقاب رخ مي رع.
2024-05-05

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


قصة الكهف  
  
4416   03:55 مساءاً   التاريخ: 2-06-2015
المؤلف : د. محمود البُستانِي
الكتاب أو المصدر : دراسات فنية في قصص القران
الجزء والصفحة : ص242-276
القسم : القرآن الكريم وعلومه / قصص قرآنية / مواضيع عامة في القصص القرآنية /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-03-08 742
التاريخ: 2023-03-28 891
التاريخ: 12-1-2023 2111
التاريخ: 2023-03-23 955

تتضمن سورة (الكهف) أربع قصص أو حكايات : يستقل كل منها عن الآخر من جانب ، تتداخل هذه القصص بعضها بالآخر من جانب ثان. أو لنقل ـ من جانب ثالث ـ انها تحوم على ما أفرزته مقدمة السورة من (أفكار) تتمثل بخاصة في الآيتين التاليتين اللتين سبقتا قصة أهل الكهف.

{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف : 7 ، 8]

ففي هذه المقدمة يحدثنا النص عن وظيفة الكائن الآدمي على الأرض ، واخضاعه للأختبار {أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف : 7] : مع ملاحظة ان النص رسم للأرض طابعا خاصا هو (الزينة) ، أي : ان الدنيا أو الأرض تظل مجرد زينة أو حلية أو متاع عابر صاغته السماء بمثابة منبهات أو مثيرات لها صلة بدوافع الشخصية ، لتختبر السماء من خلالها نمط الاستجابة التي ستصدر الشخصية عنها ، وهل انها إستجابة سوية ملتئمة مع مبادئ السماء التي أمرتنا بالالتزام بها ، أو أنها إستجابة مريضة تتمركز حول الذات وإشباعها بلا قيد.

وقد عقبت السماء ـ في الآية الثانية ـ على هذا المتاع أو الزينة ، حينما ألغته أساسا ، وجعلته صعيدا أجرد (وانا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا).

ونحن ينبغي ألا نقف عند هذه الصورة [صعيدا جرز] أو صورة [الأرض الجرداء] ، اقول : ينبغي إلا نقف على الصورة المتقدمة وكأنها مجرد صورة فنية أو تعبير جمالي ، بقدر ما ينبغي أن ننظر الى هذه الصورة أو الرمز إلى انها صورة فنية بالغة الجمال ، تنطوي على دلالة بالغة المدى أيضا. فالمتاع أو الزينة تظل مجرد حلية خارجية على الأرض ثم تتلاشى هذه الزينة حتى تصبح الأرض جرداء ملساء لا أثر لها من الزينة المذكورة وحيال هذا ، تحسسنا الصورة الفنية المتقدمة ، إلى اننا إزاء (اختبار) أو (إمتحان) ينبغي أن نجتازه بنجاح مادامت الزينة أو المتاع مجرد لباس أو نبت مصيره إلى الزوال التام : أي ، انه متاع فاقد للقيمة أساسا ، فيما ينبغي ألا نقيم له أي وزن على الإطلاق.

ولكي يجسد النص القرآني الكريم ، هذا المفهوم في أذهاننا ، يتقدم إلينا بنص قصصي يجسد عمليا مفهوم هذه الزينة على الأرض ، وكيفية سحقها ونبذها تماما : حيث يتم ذلك من خلال قصة أصحاب الكهف الذين نبذوا زينة الحياة الدنيا تماما ، واتجهوا إلى (كهف) يعزلهم تماما عن الأرض وزينتها.

إذن : المقدمة أو التمهيد الذي استهلت سورة الكهف به ، ينطوي على مهمة فنية تلقي باضوائها على محتويات السورة...

ومحتويات السورة توسلت بعنصر قصصي ، يجلي خطوطها بوضوح : ما دامت القصة ـ أساسا ـ توظف في النص القرآني الكريم ، لإنارة الحقائق بوسيلة فنية تكون اشد من غيرها في إحداث التأثير على المتلقي..

مرة جديدة ، يتعين علينا قبل أن نتابع قصص سورة الكهف ، أن نذكر المتلقي بأننا حيال مقدمة أو تمهيد تصدر سورة الكهف ، وإلى ان القصص التي تتضمنها السورة ، ستحوم على المفهوم الذي أفرزنه المقدمة ، وما يتفرع عليها من مفهومات ، سنقف عليها في حينه.

ومثلما قلنا ، فان أول قصة تواجهنا بها سورة الكهف هي : قصة أصحاب الكهف ، فيما يمثلون تجسيدا حيا لمفهوم الزهد بمتاع الحياة.

والآن : كيف تمت صياغة هذه القصة ، من حيث قيمها الفنية والفكرية؟

أول ما ينبغي أن نقف عنده في دراسة هذه القصة ، هو : شكلها الفني من حيث بناء الحدث فيها.

لقد بدأت القصة من وسط الحدث وارتدت الى البداية. ثم واصلت تسلسلها الزمني إلى نهاية الحدث.

لقد بدأت القصة ، هكذا :

{ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا } [الكهف : 10 - 12]

ففي هذه البداية القصصية يبدأ الحدث بدخول الفتية الى الكهف ، وطلبهم من الله أن يهديهم سبيل الرشاد. ثم يوضح النص القصصي في سرد مجمل الى ان هؤلاء الفتية قد أنامهم الله عددا من السنين إجابة لدعائهم. كما يوضح بالمستوى نفسه من الإجمال ، إلى أن الله بعثهم بعد ذلك ليعلم أي الفريقين : المؤمن والكافر أحصى لما لبثوا فيه من السنين.

بعد هذه البداية القصصية المجملة التي سرد الحدث فيها من الوسط ، يعود النص الى بداية الحدث من حيث تسلسله الزمني ، فيحدثنا عن هؤلاء الفتية الذين طلبوا من الله أن يهديهم سبيل الرشاد ، مبينا سبب ذلك. موضحا أن السبب في ذلك عائد الى انهم كانوا من الشخوص المؤمنة التي ضاقت ذرعا بمناخ الكفر : يقول النص القصصي في هذا الصدد ، على لسان الأبطال المذكورين :

{هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [الكهف : 15]

وتبعا لذلك ، اقترح أحدهم الدخول إلى الكهف :

{ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ } [الكهف : 16]

وبهذا النحو من تقطيع الحدث ، يعود النص القصصي إلى وسط القصة التي بدأ بها ، أي : الدخول الى الكهف. ثم يتابع الأحداث والمواقف التي رافقت دخولهم إلى الكهف ، حتى نهاية القصة التي سنقف عليها ، فيما أجملها النص في بداية القصة ، على نحو ما ذكرناه.

والآن : بعد أن أوضحنا بناء القصة من حيث الزمن النفسي والموضوعي فيها... يحسن بنا أن نوضح السبب الفني وراء بداية القصة من وسطها بدلا من أولها. أي : لماذا لم تبدأ القصة بالحديث عن مناخ الكفر الذي كان الأبطال المؤمنون يحيون فيه؟ ، بل بدأت بالحديث عن دخولهم الكهف ؟

السبب في ذلك واضح كل الوضوح ، اذا أخذنا بنظر الاعتبار أن مقدمة السورة أو تمهيدها الذي سبق قصة الكهف ، انما كان حائما على زينة الحياة الدنيا وضرورة نبذها. وحينئذ فإن أتم تجسيد لنبذ الحياة وزينتها هو : الهروب منها واللجوء الى (كهف) منزو ، منعزل عن الحياة وزينتها.

إذن : السبب الفني الكامن وراء بداية القصة بدخول الكهف ، يتمثل في تساوق مثل هذه البداية مع مقدمتها التي تشدد على إبراز مفهوم النبذ للحياة وزينتها.

ونحن حين ندقق النظر في هذه البيئة الجغرافية التي رسمتها القصة ، ونعني بها : (الكهف)... نجد أن (الكهف) يجسد ـ ليس (واقعا) حيا لمفهوم نبذ الحياة لدى الفتية فحسب ـ بل يجسد مضافا إلى (واقعيته) (رمزا) حيا لكل المفاهيم المتصلة بنبذ الحياة وزخرفها العابر.

فالكهف ـ من حيث بعده الجغرافي ـ منعزل تماما عن سطح الأرض وما يدب عليها من نشاط ومتعة. إنه منعزل ـ من حيث المسافات ـ عن مسافة ـ الأرض الشاسعة ، بل إنه غائر في (مكان) غير خاضع للمشاهدة ، لا أنه منعزل فحسب. فالانعزال وحده قد لا يفصل جزء من الأرض عن سطحها ، بل يبقيه عرضة للمشاهدة. أي : يمثل جزء أو شريحة من عملية العزل والانفصال. أما الغور في الداخل ـ وهو خصيصة الكهف ـ فإنه يعزل المكان تماما عن سطح الأرض ومشاهدتها ، بحيث يجسد العزلة بكل مستوياتها : وهو ما يستهدفه النص القصصي حينما يطالبنا بنبذ الحياة تماما ، والاتجاه الى اليوم الآخر.

إذن : الكهف يمثل واقعا حيا لأبطال القصة. كما يمثل رمزا حيا لمفهوم نبذ الحياة من حيث كون هذا الرمز صورة فنية واقعية ، يتآزر في صياغة تركيبتها كل من الواقع والفن بحيث يجدها المتلقي صورة تشبع احاسيسه الجمالية من جانب ، وترفده بعطاء فكري من جانب آخر.

ولسوف يتضخم جمال هذه الصورة أو الرمز الواقعي المتمثل في رمز (الكهف)... لسوف يتضخم احساسنا بجماليته ، عندما نتابع في الأجزاء اللاحقة من القصة ، كل الأبعاد الجغرافية التي تطبع هذا المكان ، وما يرافق ذلك من المواقف والحركات التي تم تكيف الأبطال ـ من خلالها ـ مع هذه البيئة الجديدة التي انتقلوا إليها.

ان ما يعنينا الآن من (الكهف) هو : موقعه الهندسي من القصة ، فيما أوضحنا المسوغ الفني وراء البداية القصصية برسمه : من حيث لجوء الأبطال إليه. أما رسم بيئة الكهف وتحركات الابطال فيه ، فأمر نتحدث عنه لاحقا إن شاء الله.

ويعنينا ـ من ثم ـ أن نتابع سلسلة الحدث الذي واكب هؤلاء الأبطال ، والمواقف التي واكبت سلوكهم في هذه الرحلة المثيرة.

يبدأ القسم الثاني من أصحاب الكهف بتفصيل الحدث الذي اجمله القسم الأول : حيث يرتد النص بسرد الحدث من أوله على النحو التالي :

{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا} [الكهف : 13 - 16]

تلخيص النص

يحدثنا النص ان هناك مجموعة من الأفراد المؤمنين قد شملتهم رعاية السماء بحيث ربطت على قلوبهم وزادتهم هدى ، ما داموا قد تعاملوا مع السماء تعاملا مخلصا.

ويبدو أن هؤلاء الفتية كانوا يعيشون في مناخ كافر ، لم يستطيعوا ان يتكيفوا معه بحال من الأحوال : حيث ان السلطة كانت تمارس عملية القتل حيال كل من يخالف سلوكها الوثني.

وتقول النصوص المفسرة ، أن هؤلاء الشخوص كانوا على مقربة من السلطة الوثنية.. إلا ان كلا منهم كان يسار الآخر بعقيدته ، حتى قرروا ذات يوم أن يهربوا من هذا المناخ ، ويتجهوا إلى كهف يزويهم عن الحياة الوثنية التي طبعت العصر فترتئذ.

وفعلا : توجهوا نحو الكهف ، آملين أن ينشر الله لهم من رحمته ، ويهيئ لهم وسائل التكيف مع هذه الحياة الجديدة.

ان ما نعتزم الوقوف عنده الآن ، هو : طريقة القص لهذا الجزء من القصة.

فالنص قد أبهم ملامح القوم الذين اتخذوا من دون الله آلهة : من حيث التعريف بشخصياتهم ، ونمط تعاملهم مع الذين يخالفونهم في الاتجاه الوثني.

كما انه أبهم ملامح الفتية المؤمنين أيضا : حيث لم يحدثنا عن اسمائهم ، وعددهم ، ومواقعهم في المجتمع الوثني. بل اكتفى النص بإبراز السلوك الإيجابي لديهم ، ألا وهو : ايمانهم العظيم بالسماء ، وثقتهم بها ، وشجبهم للمناخ الوثني الذي غلف عصرهم.

والسر في ذلك ـ جماليا ـ أن النص يختط أسلوب العرض القصصي وفقا لمتطلبات الاستجابة الفنية... وهي إستجابة تتآزر عدة مستويات على احداث التأثير فيها : منها : طريقة التشويق... حيث يصوغ النص الأحداث : جزء فجزء ، أو يلقي بالأضواء على جانب منها ، ويرجئ إلقاء الأضواء الأخرى إلى الفصول اللاحقة ، حيث يتعرف المتلقي على محتويات القصة تدريجيا : من خلال الفصول كلها ، لا من خلال فصل منها.

وواضح ، أن هذا المنحى الفني ، يضخم من عنصر المتابعة لدى القارئ أو السامع ، بحيث يدعه متشوقا ، متطلعا ، الى معرفة ما سيحدث ، ومعرفة ما ستتكشف حياله من ملامح الأبطال ، والمواقف ، والأحداث.

يضاف الى ذلك : ان تنكير الأبطال سواء أكانوا مؤمنين [كالفتية مثلا] أو وثنيين (كالقوم) الذين هرب الفتية منهم.. هذا التنكير يظل على صلة بطبيعة أفكار القصة التي يستهدفها النص.

فالقصة ليست في صدد تحديد ملامح القوم الكافرين : من حيث الأسماء ومواقعهم الاجتماعية. كما انها ليست في صدد تحديد ملامح الفتية من حيث العدد والاسم والموقع.. بل انها في صدد إبراز قضية النبذ لمتاع الحياة الدنيا وزخرفها العابر.. هذا الزخرف الذي أوضحت بداية سورة الكهف أنه سيتحول إلى صعيد جرز ، إلى أرض جرداء...

فالقصة تستهدف تجسيد هذا النبذ لزينة الحياة الدنيا. وكان من الطبيعي ـ وهي تستخدم أسلوب الاقتصاد اللغوي ـ ان تشدد على هذا الجانب.

وفعلا... أبرزت القصة قضية النبذ متمثلة في اللجوء إلى الكهف ، دون الحاجة إلى تحديد الإسم ، والعدد ، والموقع.

هنا ، ينبغي ان نلفت الانتباه إلى عنصر فني آخر ، يمكننا ان نستشفه من وراء التنكير لملامح الأبطال.

فالأبطال ـ ونعني بهم أصحاب الكهف ـ يجسدون مفهوما هو : نبذ زينة الحياة. وأوضح تجسيد لهذا النبذ هو : تنكير ملامحهم ومواقعهم... ورسمها ـ كالكهف تماما ـ بعيدة عن تسليط الأضواء الاجتماعية عليها... وهي أضواء تتمثل عادة في [التقدير الاجتماعي] الذي يتطلع إليه كل فرد عادة.

ان النص ـ بكلمة أخرى ـ جعل أبطال الكهف ، مبهمين ، لا أسماء تحدد موقعهم الشخصي ، ولا ملامح تحدد موقعهم الاجتماعي ، ولا عدد يحدد الكمية الاجتماعية لهم... بل رسمهم أبطالا لا يعرفوهم أحد من الآدميين ، أبطالا أسقطوا من حسابهم : الدافع الى التقدير الذاتي ، والتقدير الاجتماعي ، والانتماء الأجتماعي...

ومثل هذا الرسم يتوافق ـ فنيا ـ مع مفهوم النبذ لزينة الحياة الدنيا : بداهة ، أن الاسم والعدد والموقع الاجتماعي هو : جزء من (الزينة) جزء من [حب الذات] ، جزء من البحث عن تقدير من الآخرين... في حين أن من ينتبذ الحياة وزينتها ، ينبغي أن ينتبذ كل أشكال التأكيد على الذات.

وهكذا ، كان أبطال الكهف : ابطالا مبهمين ، لا يعرفهم أحد ، ولا يريدون أن يعرفهم أحد... لانهم أسقطوا الحياة من حسابهم.

إذن : جاء رسمهم ـ فنيا ـ مبهمين ، متوافقا ومفهوم النبذ لزينة الحياة.

لقد صاغت قصة أصحاب الكهف ، أبطال الكهف : مجموعة من الفتية يتحاورون فيما بينهم ، عبر المشكلات التي يواجهونها في مناخ الكفر.

فالنص لم يسرد لنا أفكارهم من الخارج ، بل قدمهم لنا على حقائقهم ، يكشفون بأنفسهم عن أفكارهم.

وبكلمة أخرى : أن النص القرآني الكريم ، وظف عنصر (الحوار) بدلا من (السرد)

في التعريف بشخصيات أهل الكهف.

ومن البين ، ان عنصر (الحوار) ـ من حيث البعد الفني ـ بمقدوره أن يطلع القارئ أو المستمع على أعماق البطل ، حينما يحدثه البطل مباشرة عن أفكاره... بمقدوره أن يطلع المتلقي ـ من خلال المباشرة المذكورة ـ على جوانب ما كانت لتحدث تأثيرها عليه ، لو لم يقف المتلقي بنفسه على طريقة التفكير لدى البطل ، وطريقة معالجته للمشكلات التي يواجهها.

ولعل أبرز ما يلفت الانتباه ، في عملية الحوار الذي جرى بين الأبطال ، هو : الاقتراح الذي قدمه أحدهم ، ثم : الثقة التي أو كلها بالسماء حينما خاطب جماعته قائلا :

{فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} وهذا هو الاقتراح.

ثم : هذه الثقة العظيمة بالسماء ، حينما خاطب جماعته :

{يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا}

ان هذه الفقرة الأخيرة من الحوار ، ونعني بها :

{وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا} .

هذه الفقرة من الحوار لها أهميتها الفنية الكبيرة ـ ليس من خلال انطوائها على ثقة بالسماء فحسب ـ بل من خلال الموقع الهندسي من بناء القصة أيضا. وانعكاسها على الجزء اللاحق من النص القصصي.

لقد كان القسم الأول من القصة ، يتحدث مجملا عن وجود فتية دخلوا الكهف ، وأنامتهم السماء عددا من السنين ، ثم بعثتهم بعد ذلك.

وجاء القسم الثاني من القصة ، مفصلا لوقائع هذه العملية : حيث أوضح ، انهم فتية ضاقوا ذرعا بمناخ الكفر ، واقترحوا ـ تبعا لذلك ـ أن ينزووا في كهف منعزل عن المناخ المذكور.

أما القسم الثالث من القصة ، فسيجيء مفصلا للبيئة الجديدة بيئة الكهف ، وعملية التكيف مع هذه الحياة التي اختاروها.

والحوار الذي جرى بين أبطال الكهف ، هو الذي سيلقي الضوء على القسم الثالث من القصة : حيث كانت الفقرة الاخيرة من حوار البطل { وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا } ...

هذه الفقرة ، لها موقعها الهندسي الكبير من البناء القصصي : كما قلنا ، حيث انها تشكل همزة وصل بين القسم الثاني والثالث من القصة.

فالبطل الذي رسمه النص واثقا بالله ، من ان الله سيهيء لهم في حياة الكهف ، تكيفا جديدا ، أو إنقاذا من كل صعوبة محتملة... هذه الثقة بالله ، ستجد لها صدى كبيرا في الجزء اللاحق من القصة ، حيث ستكون السماء عند حسن ظن البطل... وستحقق له ولجماعته كل وسائل الحياة التي تتطلبها طبيعة الكهف.

إن القارئ أو المستمع ، سيلفه غموض تام حيال هذا الكهف الذي توجه الفتية إليه.

انه يتساءل : ماذا سيصنع الفتية في الكهف ؟

ما هو زادهم.. من مأكل أو مشرب ؟

هل انهم يستسلمون للموت : ما دامت حياة الكهف خالية من الزاد الذي يمدهم بالحياة ؟

هل انهم يتوقعون ان تمدهم السماء بوسائل جديدة من التكيف ؟

هذه الأسئلة يطرحها المتلقي دون أدنى شك... ولسوف نجدها لها جوابا عندما نتابع الجزء الجديد من القصة.

غير ان ما نعتزم لفت الانتباه إليه الآن ، هو : الموقع الهندسي لحوار البطل من حيث بناء القصة.

فالقصة ، سرعان ما تقدم لنا جوابا على فقرة البطل الذي كان واثقا من ان السماء ، ستهيئ له ولجماعته ، خلاصا في حياة الكهف.

وها هو الجواب ، يقدمه النص القصصي في الفصل الثالث من القصة :

{وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} [الكهف : 17]

{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا } [الكهف : 18]

إن هذا الفصل القصصي ، يظل ـ من جانب ـ متصلا بالحوار الذي لحظناه في الفصل السابق من القصة : حيث يجيء في سياق البناء الفني تطورا عضويا لذلك الحوار الذي أوكل ثقته بالله : إذ يقدم النص جوابا لتلك الثقة ، والظن الحسن بالسماء. حتى كأنه يقول لنا :

أنعموا ايها الأبطال بهذا الظن الحسن ، وبتلك الثقة العظيمة... فلقد قلبنا ـ من أجلكم موازين الكون : حيث الشمس تخرق قانونها الطبيعي ، وحيث النوم يخرق قانونه الحيوي ، وحيث الحياة والموت أساسا سيكون لهما ـ من خلال الأبطال ـ مسار آخر ، يلفه المعجز والمدهش والمثير.

إذن : كيفت السماء لهؤلاء الأبطال حياة جديدة ، جاءت متوافقة تماما مع حسن ظن الأبطال بالله.... مع تلك الثقة العظيمة بالله... تلك الثقة التي جسدها حوار أحد الأبطال حينما قال : (يهيء لكم ـ أي الله ـ من أمركم مرفقا). تلك الثقة التي قلنا : ان الحوار من خلالها ـ يجسد موقعا فنيا من القصة ، بحيث يسهم في تطوير المبنى العضوي لها ، فضلا عن الوظائف الفنية التي لحظناها في عنصر الحوار المذكور.. مما يكسب النص القصصي مزيدا من الجمالية التي نحرص على تحديد معالمها في هذا النص الذي ندرسه.

بيئة الكهف

في هذا الفصل من قصة أصحاب الكهف ، يبدأ الرسم القصصي يأخذ منحى إعجازيا ، في وصف (البيئة) التي يتحرك من خلالها أصحاب الكهف.

فهؤلاء الأبطال ، قد صمموا على التوجه الى الكهف. وكانت ثقتهم بالله ـ سلفا, أن السماء ستهيء لهم وسائل التكيف مع البيئة الجديدة.

والان : ما هي معالم هذه البيئة ؟؟

من حيث المكان

يقول النص القصصي ، ان المكان الذي انتظمه الكهف ، هو : (في فجوة منه) ، أي : كان فناء متسعا من الكهف ، ربض الأبطال فيه. هذا المكان ، لم تكن الشمس لتدخل فيه.

فعند طلوع الشمس ، تميل الشمس عن الكهف إلى جهة اليمين. وعند غروب الشمس تميل عنهم نحو الشمال. وهذا يعني ، ان الكهف يظل بمنأى عن الشمس في الأزمنة جميعا.

وتقول النصوص المفسرة ، أن ذلك قدتم تكيفه ، حتى لا يؤذي الأبطال حر الشمس ، وحتى لا تغير الشمس من ألوانهم ، وحتى لا تبلي ثيابهم.

ويلاحظ : ان النص لم يرسم لنا من المكان إلا ما تقدم. كما يلاحظ ، انه لم يرسم من عمليات التكيف معه إلا ظاهرة الشمس من حيث انحرافها عن الكهف.

ويلاحظ ثالثا ان النص رسمهم رقودا يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال.

وعدا اولئك ، لم يحدثنا النص القصصي عن أي ملمح من ملامح التكيف مع حياة الكهف : خلال فترة الرقاد.

ان ما نعتزم طرحه ـ في ضوء (البيئة) القصصية المذكورة ـ هو :

1ـ الطابع (المعجز) لها.

2ـ البناء الجمالي في الرسم.

3ـ المفردات التي اكتنفتها.

1 ـ الطابع (المعجز) للبيئة

منذ البداية ، يظل الطابع المعجز سمة ملحوظة ترافق كل معالم البيئة التي تحرك الأبطال من خلالها.

فلو عدنا إلى النصوص المفسرة للحظنا ان بعضها يشير إلى أن الأبطال ما أن صمموا على اللجوء إلى الكهف ، والتوجه فعلا إليه... حتى واجهوا منذ البداية عناية خاصة تظلهم ، حيث وجدوا بإزاء الكهف ينبوعا وأشجارا مثمرة : وعندها تناولوا من الطعام والشراب ما سد حاجتهم من ذلك.

وعندما جن الليل ، قبضت ارواحهم ، وناموا على تلك الصفة التي سنتحدث عنها فيما بعد.

ونحن لو عدنا على المسافة الزمنية التي سبقت لجوءهم الى الكهف للحظنا ـ من خلال النصوص المفسرة ـ ان عناية السماء كانت تظل هؤلاء الأبطال منذ اللحظة التي اعتزموا اللجوء فيها الى الكهف. فالنصوص المفسرة تحدثنا ، ان هؤلاء الفتية ركبوا خيولهم ، وساروا عدة أميال. ثم نزلوا عنها : نبذا لمتاع الدنيا. وواصلوا رحلتهم على الاقدام. وهنا واجههم احد الرعاة مستفسرا عن أمرهم ، فأخبروه بقضيتهم ، وذلك بعد أن طلبوا منه ـ في بداية التعرف عليه ـ شيئا من اللبن ليشربوه ، وقد اقتنع الراعي بصواب قضيتهم ، فقرر الالتحاق بهم بعد أن رد الأغنام الى مرابضها. وتبعه كلبه أيضا.

ولقد سار الراعي بهم ، حتى اعتلى بهم جبلا... ثم نزل بهم إلى الكهف. فوجدوا النبع والشجر على مقربة منه.

ومع ان بعض النصوص المفسرة ، تذكرلنا ان الراعي لم يجبهم إلى طلبهم ، والى أن الكلب أجابهم الى ذلك...

إلا ان الملاحظ في الحالتين ، ان الفتية ـ في ضوء هذا البعض من النصوص المفسرة ـ تمكنوا من الهروب ، تحت ستار الصيد ، إلى خارج المدينة التي كان ملكها عصرئذ قد أوكل على بابها من يرغم الخارج منها على السجود للأصنام.

المهم ـ في الحالتين ـ أن رعاية السماء كانت تظلهم في واقعة الهروب ، والوصول الى الكهف على النحو الذي أوضحناه :

من حيث تيسر الهرب ، ومن حيث الحصول على الزاد.

إن رعاية السماء لهؤلاء الأبطال ، تأخذ طابعها (المعجز) في عمليتي الشمس والنوم داخل الكهف.

وقد لحظنا كيف ان الشمس تميل عن كهفهم شروقا وغروبا. والى ان موقعه جغرافيا كان بحيث لا يرى الواقف على الباب ، داخل الكهف.

أما عملية النوم ، فإن الطابع المعجز منها يتمثل في طبيعة الرسم الخارجي لملامح الأبطال ، حيث رسمهم النص على النحو التالي :

أ ـ رقودا : من حيث الهيئة الجسمية.

ب ـ مفتوحي العيون.

ج ـ متقلبين في النوم : يمينا وشمالا.

د ـ تقول النصوص المفسرة : كان الأبطال يتنفسون في نومهم كالمعتاد.

هـ ـ تقول بعض النصوص : ان تقلبهم في النوم ، كان : كل عام مرتين ، وبعضها يقول : مرة واحدة.

و ـ تعلل بعض النصوص هذه الظاهرة : بأن الأبطال لو لم يتقلبوا لبليت ثيابهم ، ولأكلتهم الأرض.

ز ـ يقول النص القصصي :

{لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا } [الكهف : 18]

وحسب النصوص المفسرة : ان الرعب الذي سيملأ المشاهد ، كامن وراء استيحاش الموضع ، والى ان المساء قد صنعت ذلك ، حتى تمنع الآدميين من الوصول الى الأبطال.

ويلاحظ : ان بعض النصوص ، تذهب الى ان وثن العصر فترتئذ ، أي ، الملك الذي هرب الأبطال منه ، عندما سمع بهروبهم ، توجه الى الكهف ، وأمر بسد باب الكهف ، وبنائه بالحجارة ، عقابا للأبطال.

هذا ، إلى ان ثمة نصوصا مفسرة ، لاتصل بين الرعب الذي يملأ المشاهد من الكهف ، وبين منعه من التعرف على الأبطال ، بل تفسره من حيث صلته بالملمح الخارجي للأبطال ، متمثلا في شعورهم وفي أظفارهم الطويلة التي أتى عليها حين من الدهر ، دون ان تقص الشعور وتقلم الأظافر.

وأيا كان : فان الطابع المعجز ، يظل سمة لرسم بيئة الكهف وابطاله ، مصحوبا برعاية السماء لهم منذ خطواتهم الاولى نحو الكهف ، وحتى دخولهم فيه ، ورقودهم على النحو الذي تم الحديث عنه.

إن الإمتاع الفني والفكري ، في رسم ملامح اصحاب الكهف ، يتمثل ـ في جملة ما يتمثل ـ في ذلك الغموض الشفاف الذي يفجر لدى القارىء أو المستمع ، اكثر من تساؤل ، واستخلاص ، واستحياء ، واستشفاف لما وراء هذه الملامح لدى الابطال ، من دلالات و... ولما رواءها من احداث واكبت لبثهم في الكهف. فنحن ـ بعيدا عن النصوص المفسرة ـ نلحظ ، ان القصة رسمت ثلاثة ملامح خارجية لهؤلاء الابطال :

1 ـ الملمح الاول : رسم الأبطال ـ من خلال ـ على هيئة رقود ، ولكنهم أيقاظ {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف : 18]

2ـ الملمح الثاني : رسم الأبطال ـ من خلاله ـ يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف : 18]

3ـ الملمح الثالث : رسم الابطال ـ من خلال ـ ذوي مظهر جسمي ، يفر المشاهد من رؤيته ، ويملأ منهم رعبا : {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا } [الكهف : 18]

ومع ان هذا الملمح الثالث من الممكن ألا يكون رسما لسمة خارجية لدى الابطال [في ضوء بعض النصوص المفسرة] لكننا ـ مثلما قلنا ـ نظل بمنأى لأول وهلة عن النصوص المفسرة عبر عملية التذوق الفني لنهتد بعدها الى عملية اليقين الفكري الذي يحققه النص المفسر.

اقول : بغض النظر عن ذلك ، فاننا بحكم كوننا متذوقين لا مناص من ان نستجيب للنص ـ في بادئ الأمر ـ من خلال الاستجابة الفنية الصرف... وعندها ، فماذا سيستخلص القارئ أو المستمع من رسم الملامح المذكورة لدى الابطال.

ولنقف عند الملمح الأول :

هذا الملمح ، يرسم لنا الابطال في هيئة نوم : لكنهم أيقاظ. والمتلقي يضطر الى أن يمارس عمليات فكرية شتى ، حتى يصل الى استخلاص ما.

فمن المحتمل ان يكون الابطال مفتوحي العيون : في هيئة نائم.

ومن الممكن أن يمارسوا ـ وهم ممددون ـ بعض الممارسات التي توهم المشاهد بانهم ايقاظ.

ومن الممكن أن يصدر عنهم نشاط لفظي ، يحقق الإيهام ذاته بأنهم أيقاظ : لكنهم ـ في الحقيقة ـ نوم.

ومع ان النصوص المفسرة ، تذهب إلى ان الملمح الموهم بانهم ايقاظ ، هو : كونهم مفتوحي العيون.

ومع ان هذا الملمح أشد الوان الاستخلاص قفزا إلى ذهن المتلقي... إلا ان الاستخلاصات الاخرى ،... بل ان نفس الملمح ـ ونعني بهم مفتوحي العيون ـ يظل مفتوحا لأكثر من استخلاص ، وتساؤل ، واستشفاف.

فاليقظ لا يأخذ انفتاح عيونه ، سمة ثابتة : فقد يتأرجح بين الانفتاح والإغماض ـ وهو الغالب . لكن اقتران ذلك بحركات جسمية بعامة ، او حركة يد ، أو رجل أو سعال ونحوه : كل اولئك لا يتعارض مع كونهم مفتوحي العيون. بل ، لا يتعارض مع كونهم غير مفتوحي العيون أيضا : كأن تكون عيونهم مغمضة ،... لكن التنحنح والسعال وغيرهما ـ على سبيل المثال ـ هو الذي يوهم المشاهد بانهم أيقاظ.

والمهم ، ان المتلقي يستطيع ـ وهو يجد متعة فكرية : تخيلية في ذلك ـ ان يستخلص اكثر من ملمح يدل على أنهم أيقاظ دون ان ينحصر ذلك في كونهم مفتوحي العيون.

وهذا الترشح باكثر من استيحاء ، أو استخلاص ، أو استشفاف ، هو الذي يحقق إشباعا جماليا للمتلقي ، ويعمق من تذوقه الفني للنص.

الملمح الثاني : ونعني به [تقلبهم ذات اليمين والشمال] ، يظل بدوره مرشحا باكثر من استخلاص ، واستيحاء ، واستشفاف.

وواضح ، ان (التقلب) لا يشكل دليلا على اليقظة. ولذلك أفرده النص القصصي برسم مستقل : لبداهة ان النائم قد (يتقلب) ، وقد يكون هو الغالب في هذا الصدد.

بيد ان القارئ أو المستمع ، يظل ممارسا لنشاطه التخيلي في استخلاص الدلالة الفكرية لعملية (التقلب) ، والتساؤل عن هذه الحركة الجسمية : من حيث صلتها بمناخ اللبث في الكهف ، ومن حيث كونها مظهرا إعجازيا ، فيما أشار النص القصصي إليه من ان السماء هي التي تقلبهم ذات اليمين والشمال.

بكلمة اخرى : ان المتلقي يظل متسائلا عن السر لهذا التقلب. وما دام التقلب غير مرتبط بظاهرة اليقظة كما قلنا : حينئذ فان التساؤل يظل حائما على هذا الجانب.

ومع ان النصوص المفسرة تعلل ذلك بانه من أجل ألا يأكل البلى أجسامهم ،... إلا أننا نستطيع الذهاب الى ان الرقاد غير المقترن باليقظة : من حيث التوازن الحيوي للجسم ،... هذه الظاهرة بدورها تظل مظهرا إعجازيا ، فيما يدفعنا إلى ان القول بان السماء ستحفظ أجسامهم من البلى بنفس الاعجاز الكامن وراء لبثهم سنين طوالا في مكان لا تتوفر فيه الأسباب الطبيعية للحياة. وهذا يعني ان مجرد (التقلب) لا يكفي دليلا على حفظ الجسم من البلى ، وبخاصة ان بعض النصوص المفسرة ، تؤكد ان تقلبهم ، كان مرتين في العام : أي انهم يتقلبون كل ستة اشهر. وهذه المدة الزمنية طويلة المسافة كما هو واضح ، أي : انها لا تمنع من البلى.

إذن : يظل استخلاص القارىء أو المستمع غير منحصر في اليقين بان السبب الرئيسي كامن في ظاهرة واحدة ،... بل يظل مرشحا باكثر من استخلاص... ولعل أوضح استخلاص في هذا الصدد ، ان الظاهرة المذكورة قد تكون مرتبطة بأسباب يجهلها العلم أو الفن تماما. لكننا في الحالات جميعا ،لانعدم الظفر بإمتاع فكري وفني حينما ننشط في استخلاص الأسباب الكامنة وراء التقلب ، دون ان يعني ذلك ضرورة الوصول الى استخلاص واقعي. ذلك ان مجرد الاستخلاص وتقليب الفكر في هذه الممارسة : له إمتاعه الفكري والفني من حيث إثراء الذهن وإشباع الحاسة الجمالية للمتلقي.

السمة الأخيرة التي رسمتها قصة اصحاب الكهف لهؤلاء الأبطال ، هي : كون المشاهد سيفر منه ، وسيملأ رعبا من المشاهدة.

والاستخلاص الفني الذي يمكن للقارئ أو المستمع ، أن يتوفر عليه ، يظل بدوره خاضعا لأكثر من استخلاص واستيحاء واستشفاف : مما يعمق إثراء ذهنه ، واشباع حسه الجمالي.

والنصوص المفسرة تتأرجح في عملية الاستخلاص... بين قائلة بان الرعب والفرار عائدان الى استيحاش الموضع ، أي : ان الملمح المذكور لا يعود إلى ملمح خارجي للأبطال ، بل الى ملمح للبيئة. وبين قائلة بان ذلك عائد إلى ملمح الابطال من حيث إطالة شعورهم واظافرهم.

وبعض المفسرين قد استبعد القول الأخير ، معللا ذلك بان شعورهم واظافرهم لو كانت بشكلها غير الاعتيادي ، لما صح ان يقول الابطال بانهم لبثوا يوما أو بعض يوم.

وفي تصورنا ان هذا التعليل قد يكون صائبا لو لا ان النص القصصي قد خلع على الظاهرة صفة (البشر) وليس (الجماد) وذلك في قوله تعالى : (لوليت (منهم) فرارا. ولملئت (منهم) رعبا" فمن الواضح ان الرعب والفرار لو كان من جهة (الكهف) لقال النص [لوليت منه فرارا ، ولملئت منه رعبا] ، أو : لقال (منها) إذا كان ذلك عائدا إلى مجموع مفردات بيئة الكهف... ومن هنا ، نستخلص ان الضمير (هم) عائد الى الابطال أنفسهم ، وليس الكهف ومفرداته.

يضاف الى ذلك : ان الرعب والفرار لا يتجسدان في مجرد رؤية كهف موحش ، أي : ان الفرار والرعب ينجمان عن مثير أو منبه ، له فاعلية على احداث الخوف : وليس من مثير جامد.

اذن : في ضوء هذين السببين ، يمكننا ، ان نستخلص ان سمة الخوف والفرار عائدة الى ملامح الابطال أنفسهم : أي : ان اصحاب الكهف كانوا بنحو من الأشكال بحيث يفر المشاهد من هول ما يرى ، ويداخله الرعب الحاد من ذلك.

ومما لاشك فيه ، أن طول الشعور والأظافر بنحو غير معهود ، يصح ان يصبح مثيرا أو منبها يستجيب له المشاهد بالرعب والفرار.

بيد ان لاستخلاص والاستيحاء والاستشفاف ، يمكن أن لا ينحصر في هذا الجانب فحسب ، بل يتعداه الى سمات جسمية أخرى تتصل بالتغيير الجسمي العام ،... كما يتعداه إلى ما يقترن بهذا التغيير من مشاعر وأحاسيس تتصل بطبيعة الاستجابة التي يفجرها منبه أو مثير غيبي يشي بقدرات السماء وامكاناتها التي لا حد لها.

ومن الممكن أيضا ان يكون الرعب والفرار ناجمين عن تدخل السماء في ذلك ، بحيث تحدث الرعب في قلوب الذين يحاولون أن يلحقوا أذى بهؤلاء الفتية... المهم ، ان المتلقي يظل مستخلصا جملة من الدلالات التي تفجرها هذه الملامح... وهي دلالات تثري ذهنه من جانب ، وتنبهه الى قدرات السماء من جانب ثان ، وتشبع أحاسيسه الجمالية من جانب ثالث.

ونحن حين نترك البطل الإنساني في هذا الجزء من القصة ، ونتجه الى البطل الحيواني : (الكلب) ، حينئذ نلحظ رسما لملمح خارجي ، يرشح بدوره باكثر من استخلاص.

لقد رسم الملمح الخارجي للكلب ، على النحو التالي :

{ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف : 18]

إن هذا الحيوان ، لم يرد رسمه إلا في سياق بيئة الكهف ونحن حين نعود الى النصوص المفسرة ، نجدها تشير الى ان البطل الحيواني المذكور ، قد تبع الأبطال الأدميين اثناء رحلتهم نحو الكهف. وإلى انه تابعهم للحراسة. والى انه كان على وعي بحقيقة الموقف : شأنه في ذلك شأن كثيرا من ابطال الحيوان الذين يرد رسمهم في القصص : فيما تسخرهم السماء للآدميين. وفيما تستخلص العظة منهم أيضا.

وأيا كان الأمر ، فإن عنصر (المفاجأة) القصصية ، يحقق هنا إمتاعا فنيا ، حينما يستوقف المتلقي دخول بطل حيواني في بيئة القصة.

فالنص يتحدث عن أبطال آدميين هربوا من مناخ الشرك ، واتجهوا الى الكهف. والقارئ أو السامع ، يتوقع أن يظل الرسم القصصي حائما على هؤلاء الابطال. لكنه سرعان ما يفاجأ ببطل حيواني ضمن أهل الكهف.

وهذه المفاجأة القصصية ، لا ينحصر الامتاع الفني من خلالها في كونها مجرد عنصر فني فحسب ، بل يتعداها الى عناصر أخرى تحقق الإمتاع الفني والفكري لدى المتلقي.

فبغض النظر عن كون (المفاجأة) احد العناصر الفنية التي تستشير إهتمام المتلقي ،... بغض النظر عن ذلك ، فإن عملية الاستخلاص أو الاستيحاء أو الاستشفاف ، تظل أيضا مرشحة باكثر من استخلاص للدلالة التي ينطوي الموقف عليها من وراء هذا الرسم.

ومثلما قلنا ، فان المتلقي يمكنه ان يستكشف دلالة الحراسة في رسم (الكلب) ، أو دلالة (الوعي) لديه ، أو دلالة الافادة منه من حيث الاتعاظ... كل ذلك يظل من جملة الاستخلاصات الفكرية والفنية لدى المتلقي : من حيث عملية التذوق للنص.

بيد ان رسم الكلب بملمح خارجي هو كونه (باسط ذراعيه بالوصيد) ، هذا الملمح هو الذي يلفت انتباه المتلقي ، ويدعه أيضا يقوم بممارسات ذهنية لاستخلاص الدلالة من ذلك ثم ما يواكب هذه العملية الذهنية من إغناء فكري وجمالي للمتلقي.

ان ما قلناه ، عن ظاهرة (التقلب) ذات اليمين وذات الشمال ، نكرره هنا أيضا من حيث تعدد وتنوع الاستجابات لدى المتلقي. والى انه من الصعوبة ان يركن المتلقي الى استخلاص دلالة ثابتة محددة في هذا الصدد.

وسواء كان الرسم ، متصلا بكونه مجرد رسم لملمح خارجي ، مفصح عن (واقع) هذا البطل الحيواني : من حيث هيئته الجسمية حال النوم أو اليقظة ،... أو كان الرسم متصلا بنفس مظاهر الاعجاز الذي رافق الأبطال الآدميين ،... او كان عنصرا جماليا يحقق الإشباع الفني لدى المتلقي... أو كان هو : مجموع هذه الدلالات أو سواها ،... ففي الحالات جميعا يظل مجرد إمكان استخلاص هذه الدلالة أو تلك ، أمرا له أهميته الفكرية والفنية في حقل القصة.

نتجه الآن الى القسم الرابع من قصة اصحاب الكهف. يتناول هذا الفصل القصصي واقعة انبعاث الأبطال من رقدتهم ويلاحظ ، ان النص لم يحدد الآن عدد السنين التي وقد الابطال فيها. وانما اكتفى بالسرد المتصل بدخولهم الى الكهف ، ثم الرقاد فيه.

والى هنا ، فإن المتلقي يعرف مجملا بانه ثمة ابطالا هربوا من مناخ الشرك ، واتجهوا نحو الكهف ، ورقدوا فيه. والى ان عناية السماء شملت هؤلاء الابطال ، من حيث انها حفظتهم من كل سوء ، وهيأت لهم مناخا خاصا من التكيف : حيث ان الشمس تميل عن كهفهم شروقا وغروبا ، وحيث انهم رقدوا بنحو يحسبهم الرائي ايقاظا وهم رقود ، يتقلبون يمينا وشمالا ، وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ثم ، انهم لبثوا بنحو اذا قدر للرائي أن يشاهدهم :

عندئذ سيهرب منهم ، ويمتلئ رعبا من مشاهدتهم.

إن هذه الخاتمة القصصية للفصل المتقدم ، توحي للقارئ او المستمع ، ان الابطال قد مكثوا أمدا من الزمان. ولابد ان يكون هذا الأمد طويلا : لأن الفرار من مشاهدتهم ، والرعب منهم بسبب من طول شعرهم وأظافرهم ، يدل على ان مدة اللبث طويلة دون ادنى شك : غير انها ليست معلومة من حيث العدد.

والنص حينما يتقدم بالفصل الجديد من القصة ، لايزال يحيط مدة اللبث بالإبهام والغموض. لكنه يقدم ثلاث وقائع في هذا الفصل تزيد من قناعة المتلقي بان مدة اللبث تتسم بكونها طويلة دون ادنى شك.

وهذا النحو من التدريج في كشف الاحداث والاستجابة حيالها ، يظل جزء من خصيصة فنية تتصل بالبناء الجمالي للقصة حيث يضطلع كل فصل ، بتقديم حدث جديد ، يطور وينمي احداث الفصول السابقة ، حتى تصل الأحداث الى نهايتها مع نهاية القصة ذاتها. كما يلاحظ ـ من حيث عنصر التشويق الفني ـ أن القصة تتدرج باستجابة المتلقي على النحو ذاته عن البناء. فهي تحيطه علما بأن ثمة مدة من الزمن قد رقد الأبطال من خلالها في الكهف.

وهذا قد تم في الفصل السابق.

ثم قدمت في الفصل الجديد ، أحداثا ومواقف ، استشف المتلقي من خلالها بان المدة قد اتسمت بالطول.

وبهذا النحو من التدرج في تقديم المعلومات ، تحقق القصة عنصر المماطلة والتشويق بأمتع ما يمكن للنص القصصي ان يحققه للمتلقي : من حيث كونه يتابع باهتمام جزئيات القصة ونصولها : مقابلا لتلك المماطلة التي يسلكها منطق القصة .

والآن ، ما هو هذا الفصل الجديد ؟

لنستمع إلى النص القصصي :

{وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف : 19 ، 20] .

إن هذا الفصل ينطوي على ثلاثة مواقف وأحداث : توحي للمتلقي بأكملها بان المدة الزمنية للنوم تتسم بالطول في نهاية المطاف.

غير ان عنصر التشويق الفني يضعه المتلقي أمام رحلة طويلة من التأمل ، والاستخلاص ، وتقليب النظر ، والتخمين ، والتردد ، ومعاودة الحساب : دون ان يركن ـ بادئ ذى بدء ـ الى يقين محدد بطول المدة أو قصرها.

ويمكننا ملاحظة ذلك بوضوح ، في اول موقف قصصي من هذا الفصل : حيث تجئ صباغة الحوار بين الأبطال من أمتع الوان الحوار واشدها إثارة في تجسيد عملية المماطلة والتشويق.

ولنقرأ هذا الحوار من جديد :

{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} [الكهف : 19]

فهذا الحوار بأعداده الثلاثة قد جسد العنصر الفني للمماطلة والتشويق ، تجسيدا بلغ الذرى من الإمتاع. فقد صور للقارئ أولا : أن المدة غامضة مبهمة لا توحي بقصر أو طول {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ }

ثم جاء الحوار الثاني ، موصيا للمتلقي بأن المدة قصيرة جدا بحيث لا تتجاوز اليوم الواحد { قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}

ثم عمق قناعة المتلقي بأن المدة قصيرة جدا ، حينما استدرك الحوار قائلا (أو : بعض يوم) وهذا يعني أن القناعة بقصر المدة قد بلغت منتهاها ، مادام ، احساس الأبطال بأنفسهم ، لم يتجاوز الذهاب الى ان نومهم كان يوما ، بل بعض يوم.

ثم : عاد الحوار في رقمه الثالث ، وأوقع المتلقي من جديد في لبس وإبهام وغموض بالنسبة لتحديد المدة ، وذلك في قولهم { رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ}.

فبعد ان كان المتلقي أن يقتنع بقصر المدة : واذا بالحوار الثالث { رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} يعيده الى نفس الغموض الذي بدأه الحوار الاول في قولهم (كم لبثتم؟).

وهكذا بدأ الحوار أولا بإكساب الموقف غموضا. ثم اوضحه بانه يوم او بعض يوم. ثم اكسبه من جديد ، غموضا : حينما أوكل ذلك الى الله بأنه اعلم بمدة المكوث. وواضح ، أن هذا النحو من الابهام بتعريف المتلقي بحجم المدة الزمنية ، يظل ـ كما قلنا ـ من اشد انواع المماطلة والتشويق ، إثارة : حتى انك تكاد تشتعل شوقا الى معرفة المدة التي تؤرجحك بين كونها جد قصيرة ، وبين كونها جد طويلة ، وبين كونها لا هذه ولا تلك.

هذا النمط من التشويق ، لا يدرك مدى ما ينطوي عليه من خطورة فنية ، ومن امتاع ضخم ، إلا من خبر فن القصة ، وأد من قراءتها ، واحتفظ برصيد ضخم من التذوق الفني.

نواجه الآن : الواقعة الثانية عند انبعاث اصحاب الكهف من رقادهم.

كانت الواقعة الاولى هي : تساؤلهم عن مدة لبثهم.

وقد اوحت هذه الواقعة للمتلقي بان الاحساس الداخلي للابطال ، هذا الاحساس بالزمن كان منصبا على انه يوم أو بعض يوم.

اما الواقعة الثانية ، فإن عنصر الإحساس بالزمن ، بدأ من خلالها يميل بالقارئ الى القناعة ايضا بأنه كان زمنا قصيرا.

ولنقرا هذه الواقعة :

{فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا } [الكهف : 19]

إن هذه الواقعة تظل امتدادا للإحساس القصير بالزمن. فلو لم يكن الأمر كذلك ، لتردد الابطال في استخدام العملة ولترددوا في الاقتراح بشراء الطعام الزكي. انهم لا يزالون يعيشون الاحساس بزمنهم وبيئتهم التي عهدوها.

لكننا حين ننساق مع النصوص المفسرة ، نجدها تلقي ضوء كافيا على ان الاحساس بالزمن بدأ يتغير لديهم حتى كادوا يتعرفون على الحقيقة.

تقول النصوص المفسرة : إن البطل الذي دخل المدينة ، بدأ الاحساس بالغربة لديه يتحدد ، منذ اللحظة التي وطأت المدينة قدماه فوجد المعالم الجغرافية متغيرة تماما. كما انه اتجه الى أحدهم ليشتري طعاما فانكر البائع عملة البطل. وجرى بينهما حوار موداه ان البائع خيل إليه أن البطل قد عثر على كنز مالي بضمنه هذه العملة وتضيق النصوص المفسرة ان البطل سلم الى احد المسؤولين واستفسر عن حقيقة الأمر ، والى ان البطل قد ساق المسؤول الى داره : أي البطل ، فوجدوا فيها شيخا طاعنا في السن فيما ظهر انه جد البطل.

ونتيجة لذلك كله أحس البطل بالزمن الحقيقي وعاد الى الكهف برفقة بعض المسؤولين على نحو ما سنتحدث عنه فيما بعد.

ويهمنا الآن أن نشير إلى ان الاحساس بالزمن الحقيقي لا يزال غامضا لدى أبطال الكهف من خلال الواقعة الثانية (واقعة العملة النقدية) إذا ابتعدنا عن جو النصوص المفسرة. وسنظل بعيدين عن هذه النصوص مؤقتا حتى نتابع قضية الاحساس بالزمن

لدى الابطال ، ولدى المتلقي أيضا.

الواقعة الثالثة بدورها ، لا تزال تصوغ الاحساس بالزمن إحساسا غامضا لدى الابطال ، ولدى المتلقي :

ولنقرأ النص :

{وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف : 19 ، 20]

ان هذه الواقعة تفصح عن اكثر من دلالة فيما يتصل بعنصر (الزمن) وملابساته. فالأبطال يتقدمون بتوصيتهم الى البطل الذي اختاروه للذهاب الى المدينة ان يكون حذرا في تحركاته حتى لا يتعرف أحد عليه. لان التعرف عليه يؤدي الى قتلهم ، او الى عودتهم الى مناخ الكفر الذي لا زال باقيا ما داموا قد لبثوا يوما أو بعض يوم ويخيل اليهم ان المسؤولين سيقتلونهم أو على الأقل سيردونهم إلى الكفر اذن : إحساس الأبطال بالزمن : إحساس مفصح عن قصر المدة التي لبثوا فيها.

ونحن لو عدنا من جديد الى النصوص المفسرة ، لوجدنا ان الاحساس المذكور قد زامنته تساؤلات متنوعة منذ اللحظة التي افاقوا فيها من النوم حتى انهم خيل إليهم ان العبادة لله قد فاتتهم الليلة الماضية... وحتى انهم تساءلوا متعجبين من جفاف الشجر الذي تناولوا منه الطعام عند دخولهم الكهف ، وجفاف الينبوع الذي شربوا منه كل هذه التساؤلات تدلنا على ان الاحساس بقصر المدة التي لبثوا فيها ، لا يزال قويا في اذهان الأبطال.

لكننا مع ذلك كله لا نستطيع أن نقرر بان الاحساس المذكور كان ثابتا لديهم اذ لو كان الأمر كذلك ، لما تساءلوا عن تلك الظواهر التي اثارت تعجبهم. ولا بد ان تكون تلك الظواهر قد اوقعتهم ـ على الاقل ـ في تردد وشك وغموض.

هذا كله ، فيما يتصل بالإحساس الداخلي للأبطال.

اما فيما يتصل بإحساسنا نحن المتلقين فإن استخلاص طول المدة وليس قصرها ـ هو الذي سيطبع استجابتنا دون أدنى شك : وبخاصة ـ كما سبق القول ـ إن رسم ملامحهم الخارجية : طول الشعر والأظافر قد عمق لدينا مثل هذا الاحساس.

بيد ان تحديد الزمن ـ وليس تحديد طوله ـ هو الذي سيظل من نصيب المتلقي فيما استخدم النص القصصي عنصر التشويق (وقد شرحناه مفصلا) أسلوبا في تضبيب المدة الزمنية حتى يطلعنا عليها في الفصل الاخير من القصة.

ومن الواضح ـ في حقل الفن القصصي ان الاحتفاظ بأحد الاسرار : سواء أكان متصلا بعنصر الزمن أو الشخصية او الحديث... هذا الاحتفاظ ، بأحد الأسرار : طوال فصول القصة بأكملها ثم : كشفه في الفصل الأخير يظل واحدا من الطرائق الفنية في حقل القصة

ولهذه الطريقة ، تأثيرها الفني الكبير على المتلقي ان كلا من المماطلة والتشويق يسهمان في تفجير اثارة المتلقي ، ودفعه الى ان يتطلع ويتابع باهتمام كل فصول القصة.

ولسوف : نرى كيف ان النص القرآني الكريم ، قد كشف ذلك السر الكامن وراء عنصر (الزمن) في الفصل الأخير من القصة : بعد أن لحظنا كيف ان النص في الفصول الاربعة التي وقفنا عندها قد أبهم الزمن وجعله متأرجحا بين القصر والطول ، جعله غامضا مبهما ، جعله حينا وكأنه يوم أو بعض ، وحينا كأنه حين من الدهر وحينا ملفعا بالضباب الا ان هذا كله واحد من الاسرار الفنية العظيمة في النص القرآني الكريم.

نحن الآن مع الفصل الأخير من قصة أصحاب الكهف.

وهذا الفصل يواجهنا بأسرار فنية في غاية الاثارة : من حيث بناء القصة الهندسي ، ومن حيث عنصر التشويق الذي استخدمته القصة بنحو لافت للنظر : بخاصة في ظاهرة الاحساس بالزمن.

ولنقرأ الفصل القصصي :

{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف : 21]

{سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف : 22]

{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا..} [الكهف : 25 ، 26]

هذا الفصل الأخير من القصة ، يحفل ـ مثلما قلنا ـ بأسرار فنية في غاية الاثارة والدهشة ، من حيث البناء الهندسي ، ومن حيث عنصر التشويق الفني.

من حيث عنصر التشويق ،... لحظنا ان الفصول السابقة بقيت محتفظة بسر المدة الزمنية التي لبث فيها أصحاب الكهف. ولحظنا كيف ان تلك الفصول القصصية ، لفعت الموقف بغموض وضبابية ممتعة فيما تسمى بلغة الادب القصصي بـ(المماطلة). لكننا ـ في لغة الادب الاسلامي ـ قد نتحفظ على مثل هذا المصطلح ، ونكتفي بتحديد دلالته التي تعني أن المعلومات التي يستهدف النص توصيلها الى المتلقي ، تظل في حالة تأجيل وإرجاء ، بحيث لا يستطيع المتلقي ان يرسو عل يقين محدد بها. ثم يوضحها النص في خاتمة القصة :

بغية حمل المتلقي على المتابعة اولا. وجعله يحيا في مناخ ممتع من التشويق والتطلع الى ما سيحدث.

علي اية حال ،... ها هو النص في الفصل الأخير من القصة ، يقدم لنا ذلك السر الذي احتفظ به طوال فصول القصة ،... يقدمه لنا على النحو التالي :

{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف : 25]

إذن : المدة التي استغرقها نوم أهل الكهف هي : ثلاث مائة وتسع سنين...

هنا ، ينبغي ان نتعرف على الطريقة الفنية التي تم فيها تقديم هذا السر بعد الاحتفاظ به طوال القصة .

لقد تم هذا من خلال مواقف وحوادث جديدة ، سردها النص في الفصل الأخير من القصة .

ومن خلال هذه المواقف والحوادث الجديدة ذاتها ، قدم النص سرا آخر قد احتفظ به أيضا طوال القصة ، ونعني به : عدد أصحاب الكهف.

إذن : عدد السنين التي لبث فيها اصحاب الكهف من جانب. وعدد افراد أهل الكهف من جانب آخر ، ... هو الذي طبعه عنصر التشويق والارجاء [تأجيل المعلومات] ، وجعله النص جزء من طرائق فنية : بغية إحداث المتعة القصصية لدى القارئ والسامع.

والحديث عن هذا المنحى الفني يتصل بالبناء الهندسي للقصة : أي طريقة البناء التي سلكها النص في تقديم المادة القصصية.

وهو ما ينبغي ان نتحدث عنه الآن .

من الملاحظ ان النص القصصي قد ربط بين حاضر الزمن والماضي عند حديثه عن قصة أصحاب الكهف. أي. بين زمن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ والزمن الذي جرت أحداث الكهف فيه.

فالقصة جاءت في سياق اسئلة وجهها بعض المعاصرين لزمن الرسالة عن اصحاب الكهف وسواهم. ثم جاء جواب النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ على النحو الذي صيغ قصة فنية كما لحظنا.

وهذا يعني ان هيكل القصة قائم على التداخل بين الزمن الماضي والحاضر.

وعنصر (الحوار) في القصة ، هو الذي وظف فنيا لعملية التداخل المذكورة. فالسائل والمجيب هنا يمثلان حاضر الرسالة] نفر من قريش أو الكتابيين من اليهود ثم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

والاجابة هي التي تتكفل بسرد القصة : بما في ذلك عنصر (الحوار) الذي جرى بين أبطالها.

ومن هنا يتداخل ـ في هيكل القصة ـ كل من الحوارين : حوار النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ مع السائل ، وحوار أبطال الكهف وسائر الابطال الذين تذكرهم نصوص التفسير ، فيما بينهم.

وحين نعود إلى السر الزمني الذي احتفظ النص القصصي به ، ثم أعلن عنه في نهاية القصة فحسب [أي : الثلثمائة وتسع سنين] ، نحد ان فقرة {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف : 25] تتحمل أكثر من تفسير فني واحد.

ونحن اذا انسقنا مع نصوص التفسير المأثورة ، حينئذ من الممكن أن تكون الفقرة المذكورة سردا وليس حوارا. أي : من الممكن ان تكون الفقرة تعقيبا من السماء على الغموض الذي لف إحساس الأبطال ، وإحساس المتلقي بالزمن.

ومن الممكن ان تكون الفقرة المذكورة ، حوارا وليس سردا ، أي : من كلام اليهود ، فيما عقبت السماء على ذلك : (قل : الله أعلم بما لبثوا)

وأيا كان الأمر : ففي الحالتين يجيء كشف السر العددي للزمن في سياق الحاضر.

أي : ان ذلك قد تم ليس من سياق أحداث القصة نفسها ، بل من السماء أو النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أو السائل.

لكننا لوعدنا إلى نصوص تفسيرية أخرى ، للحظنا ، ان السر العددي لنوم أهل الكهف ، قد كشفه أهل الكهف أنفسهم ، وذلك عندما ذهب أحدهم الى المدينة ليشتري الطعام الزكي. وعندها تعرف على الحقيقة ، واخبر اصحابه بان لبثهم قد كان ثلاثمائة وتسع سنين ، وليس يوما أو بعض يوم.

بيد ان هذا لا يستكشف من خلال الفقرة القائلة : {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف : 25] ، بل ، يستكشف من نصوص التفسير التي تنقل لنا تفصيلات القصة. إذ لو كانت الفقرة المذكورة من كلام الأبطال ، لجاءت في سياق الحوار المتبادل فيما بينهم ، لا انها تجيء منفصلة عن ذلك :

في خاتمة القصة التي تضمنت تعقيبات السماء على الطريقة التي واجه النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بها السائل.

لقد احتفظت قصة اصحاب الكهف بسر العدد الزمني وكشفته في نهاية القصة من خلال تعقيب السماء على ذلك. غير ان هناك سرا آخر قد احتفظت القصة به أيضا ، وهو عدد ابطال الكهف وليس عدد السنين التي رقدوا فيها. وإذا كان عدد السنين قد تم الإعلان عنه عبر عنصر التشويق والتأجيل في نهاية القصة من خلال تعقيب السماء. فإن عدد الأبطال قد تم الإعلان عنه من خلال الشخوص ، ولكن بنحو ملفع بالغموض.

وهنا ، تتفاوت النصوص المفسرة في تحديد هؤلاء الشخوص. فمن ذاهب الى ان الشخوص هم جماعة ، كانوا في زمن اكتشاف الكهف ، أي : انبعاثه ، وذلك عندما وقفوا على حقيقة الأمر ، من خلال البطل الذي توجه الى المدينة لاشتراء الطعام ، حيث أقبلوا على الكهف للتعرف على أبطاله وعددهم ، وهو العدد الذي ذكرته القصة متراوحا بين أربعة وستة وثمانية.

{سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ } [الكهف : 22]

وهناك من يذهب الى ان التساؤل المذكور ، عائد الى الاختلاف بين طوائف من أهل الكتاب والمسلمين ، في تحديد العدد : حيث عقب النص على ذلك ، مخاطبا محمدا ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ :

(قل : ربي أعلم بعدتهم).

إن ما يعنينا من ظاهرة العدد : سواءا كان ذلك متصلا بالسنين ، أو بالأبطال ، هو : طبيعة البناء الهندسي الذي قامت القصة عليه. وهو بناء قائم على جملة من الخطوط الرئيسة والثانوية : حيث يأخذ بعضها امتدادا طوليا ، والآخر : امتدادا عرضيا قائما على التوازن الفني الدقيق بينها.

فمن حيث الامتداد الطولي لشكل القصة ، نجد ان القصة قد احتفظت طوال فصولها بسرين : أحدهما يتصل بعدد السنين التي رقد ابطال الكهف فيها ، والآخر : بعدد اصحاب الكهف أنفسهم. فالقارئ أو السامع ، يظل على جهل تام بعدد السنين ، وبعدد الأبطال. والحوار الذي جري بين الأبطال قد ساهم في تضبيب عدد السنين. كما ان الحوار الذي جرى بين الطوائف أو مكتشفي الكهف قد ساهم ايضا في تضبيب عدد الأبطال. كل ما في الأمر أن القصة قد مسحت الغموض في الفصل الأخير عن عدد السنين. لكنها أبقت الغموض على حالته بالنسبة لعدد الأبطال ، وارجعت ذلك الى علم الله سبحانه وتعالى. مع ملاحظة ان بعض النصوص المفسرة ، ترى ان النص ابقى عدد السنين غامضا أيضا ، بدليل قوله تعالى : {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} [الكهف : 26]

والسر في الأول عائد ـ في تصورنا ـ الى ان الاعلان عن عدد السنين له أهميته من قناعة المتلقي بظاهرة الإعجاز. أما عدد الابطال ، ليس من الضروري التعرف عليه : سواءا كانوا أربعة أم ثمانية أم اكثر ام أقل. المهم هو : وجود بطل يحيا قضية معجزة. ومن هنا ، أرجع النص تحديد العدد الى الله سبحانه وتعالى.

أما من حيث الخطوط العرضية لبناء القصة ،... فإن التوازن الهندسي بينها ، يظل من الجمال والتناسق والدقة ، ما يلفت انتباه المتلقي حقا.

فهناك توازن هندسي في ظاهرة التشويق والتأجيل : حيث يتوازن الزمن والبطل من خلال ظاهرة العدد. أي : ان النص ضبب عدد السنين ، وضبب عدد الأبطال.

وهذا واحد من الخطوط العرضية.

ثم : أجل معرفة هذا العدد : عدد السنين ، وعدد الأبطال : بنحو متوازن ، الى نهاية القصة. وهذا توازن عرضي آخر.

ثم : أعلن تحديد عدد السنين ، مقابلا : لعدم تحديد الأبطال. وهذا توازن ثالث ، لكنه من خلال ما يسمى بـ[التوازن : من خلال التضاد]. قد أبهمه النص ايضا. فحينئذ يتحقق التوازن بنحوه الاعتيادي.

ثم : كان إعلان التحديد المذكور ، من قبل السماء. بينما كان تضبيب العدد من قبل الشخوص المتحاورين.

وهذا توازن عرضي رابع بين خطوط القصة...

وهكذا ، سائر الخطوط التي لا نجد حاجة الى توضيحها ما دام المتذوق بمقدوره ان يتحسس مواقعها بأدنى تأمل.

بقي أن نشير الى حادثة اكتشاف الكهف نفسه ، وما رافقته من وقائع ومواقف : تكفل الفصل الأخير بتفصيلاتها : ثم ، صلة اولئك جميعا بـ(أفكار) القصة من جانب ، وما تضمنته من قيم فنية ، من جانب آخر.

أما حادثة (الاكتشاف) : اكتشاف الكهف ، فقد مهد لها النص في الفصل ما قبل الأخير ، بقوله :

(وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم. قال قائل منهم : كم لبثتم؟) الخ.

ثم : حددها تماما في الفصل الأخير من القصة ، على هذا النحو :

{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} [الكهف : 21]

{فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف : 21]

هذا النص ، يتكفل بتوضيح حادثة اكتشاف الكهف. وهي حادثة لها أهميتها الكبيرة بالنسبة الى ما تستهدفه القصة أساسا من وراء سردها لحكاية أهل الكهف.

كما ان الحادثة التي سبقتها ، ونعني بها : حادثة الانبعاث ، منضمة الى حادثة اكتشاف الكهف ، تظل متصلة بالهدف الفكري لهذه القصة.

حادثة الانبعاث تظل على صلة بالأبطال أنفسهم في المقام الاول : {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} [الكهف : 19]

وأما حادثة الاكتشاف ، فبالرغم من انها ستعكس أثرها على الأبطال ـ كما سنرى لاحقا ـ ، إلا أنها تنصب في المقام الاول على (الآخرين) : وما تتنازعهم من تيارات ، وما تلفهم من أفكار...

والمهم ، ان الحادثتين كلتيهما ، تلقيان إنارة كبيرة على (الهدف) الفكري الذي صيغت القصة من أجله كما سنرى.

واقعة إكتشاف الكهف

تقول النصوص المفسرة أن الابطال عندما دخلوا الكهف ، وبلغ خبرهم الى السلطة ، أمرت السلطة بسد باب الكهف : عقابا للأبطال حتى يموتوا داخل الكهف. وكان هناك بعض المؤمنين قد كتب تفصيلات هذه الواقعة وجعلها في البنيان ، بغية أن تتبدل الظروف ، ويتعرف الآخرون على قضيتهم. ومع مرور السنين الطوال جاءت سلطة جديدة يتقاسمها إتجاهان : مؤمن وملتو. وتقول بعض النصوص المفسرة أن ممثل الاتجاه المؤمن تضرع الى المساء بان تريه آية تحمل الناس على اليقين بالله واليوم الآخر : بعد أن رأى الناس منشطرين الى مؤمن وملتو يتجادلون في قضية الايمان. وحينئذ الهم الرجل بأن يبني له حظيرة للغنم في مكان الكهف : الأمر الذي ادى الى اكتشاف الكهف والعثور على الفتية.

وهناك من النصوص المفسرة ، ما تذهب الى أن ممثلي الاتجاه المؤمن والملتوي قد ذهبا الى الكهف مباشرة ، للاطلاع على حقيقة الأمر ، بعد أن كشفت حقيقة البطل الذي ذهب الى المدينة لاشتراء الطعام : حيث دلهم بنفسه على الكهف.

وأيا كان الأمر ، فإن ما يعنينا من ذلك هو : اكتشاف الكهف ذاته ، وليس طريقة اكتشافه.

ولعله لهذا السبب ، لم يحدثنا النص القصصي عن طريقة اكتشاف الكهف ، وانما حدثنا مباشرة عن اكتشافه : الأمر الذي يفسر لناـ من الناحة الفنية ـ إختزال تفصيلات العثور في عملية السرد الفني للقصة.

إن ما يعنينا من واقعة الاكتشاف هو : دلالتها الفنية والفكرية في القصة.

فما هي هذه الدلالة ؟؟

لنقرأ النص القصصي من جديد :

{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} [الكهف : 21]

من هذا النص ، نستكشف ان العثور على الكهف ينطوي على مهمة فكرية هي : وضع حد للتنازع القائم بين الناس عن الايمان بالله واليوم الآخر...

ومن الناحية الفنية ، فإن القصة لم تدخل في تفصيلات المناخ التاريخي الذي واكب هذه الواقعة. وانما سلكت طريقة فنية قائمة على عنصر الاستخلاص أو الكشف الذي توكله القصة الى القارئ أو السامع ، حتى يستخلص بنفسه ويكتشف ملابسات الموقف.

من هنا ، فان القارئ او السامع ، سيكتشف ـ لا محالة ـ بان زمن العثور على الكهف ، كان يتنازعه تياران : مؤمن وملتو.

فما دام هنا تنازع وتصارع بين الاطراف {يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} [الكهف : 21] حينئذ لا بد ان يكون التنازع حول قضية الإيمان واليوم . الدليل على ان التنازع حول الايمان واليوم الآخر هو ان النص القصصي نفسه ، يعلل سبب العثور على الكهف ، بأنه من أجل : {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا} [الكهف : 21]

إذن : القصة ـ من حيث منطق الفن ـ هي التي توحي إلى المتلقي بان حادثة اكتشاف الكهف مرتبطة بقضية التنازع حول اليوم الآخر ، والايمان بعامة. أما تفصيلات هذا التنازع وصلتها بالمناخ التأريخي ، وموقف السلطة السياسية من ذلك ، فأمر لا يحتل خطورة مماثلة لخطورة الموقف العقائدي للجمهور.

ومن هنا أوكلت القصة تلك التفصيلات ،... أوكلتها الى نصوص التفسير. وهي بهذا المنحى الفني من القص ، تكون قد حققت للقارئ أو السامع عنصر المتعة الفنية ما دام الأمر متصلا بشكل قصصي في كشف الحقائق.

ومع أن القصة ـ من خلال منطلق الفن ـ قد أوحت للقارئ أو السامع ، أن المناخ التاريخي لواقعة اكتشاف الكهف ، مرتبط بوجود فريقين متنازعين ،... فإنها تقدمت بألقاء أضواء جديدة على ذلك المناخ ، بحيث أفرزت موقع القوى المؤمنة من ذلك المناخ ، ومدى تمتعها بالنفوذ السياسي ، أو عدمه في هذا المجال. مثلما افرزت عقلية القوى غير المؤمنة ، وطريقة تعاملها مع الظواهر التي تجددت تماما.

ولنقرأ النص القصصي :

{فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف : 21]

إن هذين الحوارين : الحوار الذي يقترح ـ بعد العثور على الفتية ـ ان يبنى جدار على الكهف. ثم : الحوار الذي يقترح ان يبنى مسجد في ذلك الموضع... هذين الحوارين يكشفان لنا بطريقة فنية بالغة المدى عن عقلية كل من الفريقين المتنازعين ، ومدى نظافة الفريق المؤمن ، مقابلا لوساخة الفريق غير المؤمن.

فمن الواضح ـ من خلال منطق الفن القصصي ـ أن رسم المظاهر المادية للبيئة ـ في أي نص قصصي ـ إنما يكتسب خطورته الفنية بقدر ما يحقق تلاحما بين الشكل والمضمون : أي ، ينبغي ان يكون رسم مشهد أو مرأى طبيعي أو مصنوع مثل [الجدار والمسجد] ، غير مقتصر على كونه مجرد مشهد أو مراى يشبع احاسيسنا الجمالية ، ويمدنا بمجرد التسلية والمتعة ،... بل ينبغي ـ وهذا شأن الأعمال الفنية الكبيرة ـ أن يعبر المشهد أو المرأى عن دلالة وراء رسمه.

وهنا ، في حقل الاقتراح الذي يطالب ببناء الجدار ، والاقتراح الذي يطالب ببناء المسجد ، نلحظ ان كلا من (الجدار) و(المسجد) ينطويان على دلالة نستكشف من خلالها : الموقف العقائدي لكل من الفريقين وطريقة تعاملهما مع الحقائق التي تكشفت تماما أمام الجمهور ، عندما شاهد ـ من خلال منطق التجربة ـ ان السماء قادرة على ان تميت وتحي ، وان تفعل ما تشاء : تماما كما صنعت بهؤلاء الفتية الذين أنامتهم طوال هذه المسافة الزمنية ، ثم أيقظتهم قبل النشور.

اقول : بالرغم من هذا المنطق التجريبي الذي دمغ القوم غير المؤمنين ... فان عنصر التشكيك قد لف عقولهم ، بحيث اقترحوا إقامة الجدار عليهم ، معقبين على ذلك (ربهم اعلم بهم) فان هذه الفقرة تفصح عن انهم لم يبلغوا مرتبة اليقين بهذا المعجز كما هو واضح.

وعلى العكس من ذلك ، فإن المؤمنين تقدموا باقتراح بناء مسجد على الكهف ، ليكون شاهدا حيا على المعجز ،... مفصحا في الآن ذاته عن إيمانهم بالقضية المذكورة.

وهذا كله ، في حالة تذوقنا الفني الصرف ـ نحن المتلقين ـ .

لكننا حينما ننساق مع تفاوت النصوص المفسرة من جانب ، ونخضع التذوق الفني استخلاصات غير ما تقدم... حينئذ سنواجه دلالات أخرى يحسن الوقوف عندها أيضا .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .



بوقت قياسي وبواقع عمل (24)ساعة يوميا.. مطبعة تابعة للعتبة الحسينية تسلّم وزارة التربية دفعة جديدة من المناهج الدراسية
يعد الاول من نوعه على مستوى الجامعات العراقية.. جامعة وارث الانبياء (ع) تطلق مشروع اعداد و اختيار سفراء الجامعة من الطلبة
قسم الشؤون الفكرية والثقافية يعلن عن رفد مكتبة الإمام الحسين (ع) وفروعها باحدث الكتب والاصدارات الجديدة
بالفيديو: بمشاركة عدد من رؤساء الاقسام.. قسم تطوير الموارد البشرية في العتبة الحسينية يقيم ورشة عمل لمناقشة خطط (2024- 2025)