المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 16330 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
التفريخ في السمان
2024-04-25
منخبر رع سنب يتسلَّم جزية بلاد النوبة.
2024-04-25
منخبر رع سنب الكاهن الأكبر للإله آمون.
2024-04-25
أمنمحاب يخرج للصيد وزيارة حديقته.
2024-04-25
الوظائف العليا والكهنة.
2024-04-25
نظم تربية السمان
2024-04-25

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


تفسير الآية (7-15) من سورة يوسف  
  
12557   02:29 صباحاً   التاريخ: 28-6-2020
المؤلف : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : ......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الياء / سورة يوسف /

 

قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَواطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } [يوسف: 7 - 15]

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه  الآيات (1) :

أنشأ سبحانه في ذكر قصة يوسف فقال { لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} ومعناه: لقد كان في حديث يوسف وإخوته عبر للسائلين عنهم وأعاجيب فمنها أنهم نالوه بالأذى ودبروا في قتله واجتمعوا على إلقائه في البئر للحسد مع أنهم أولاد الأنبياء فصفح عنهم (عليهم السلام) لما مكنه الله منهم وأحسن إليهم ولم يعيرهم بما كان منهم وهذا خارج عن العادة وفيه عبرة لمن اعتبر فيها في منافع الدين ومنها الفرج بعد الشدة والمنحة بعد المحنة ومنها الدلالة على صحة نبوة نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) لأنه (عليه السلام) لم يقرأ كتابا فعلم أنه لم يأته ذلك إلا من جهة الوحي فهوبصيرة للذين سألوه أن يخبرهم بذلك ومعجزة دالة على صدقه.

 وإخوته: هم أولاد يعقوب وكان ليعقوب اثنا عشر ولدا لصلبه وكانوا أولاد علة عن الجبائي وقيل: أسماؤهم روبيل وهو أكبرهم وشمعون ولاوي ويهودا وريالون ويشجر وأمهم ليا بنت ليان وهي ابنة خالة يعقوب ثم توفيت ليا فتزوج يعقوب أختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين وقيل: ابن يامين وولد له من سريتين له اسم إحداهما زلفة والأخرى بلهة أربعة بنين دان ونفتالي وحاد وآشر(2). وكانوا اثني عشر ثم أخبر سبحانه عما قالت إخوة يوسف حين سمعوا منام يوسف وتأويل يعقوب إياه فقال: { إِذْ قَالُوا} أي قال بعضهم لبعض { لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ} لأبيه وأمه بنيامين { أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا} يعقوب { منا } وذلك أن يعقوب (عليه السلام) كان شديد الحب ليوسف وكان يوسف من أحسن الناس وجها وكان يعقوب يؤثره على أولاده فحسدوه ثم رأى الرؤيا فصار حسدهم له أشد وقيل: إنه (عليه السلام) كان يرحمه وآخاه ويقربهما لصغرهما فاستثقلوا ذلك وروي أبوحمزة الثمالي عن زين العابدين (عليه السلام) أن يعقوب كان يذبح كل يوم كبشا فيتصدق به ويأكل هو وعياله منه وأن سائلا مؤمنا صواما اعتر ببابه عشية جمعة عند أوان إفطاره وكان مجتازا غريبا فهتف على بابه واستطعمهم وهم يسمعون فلم يصدقوا قوله فلما يئس أن يطعموه وغشيه الليل استرجع واستعبر وشكا جوعة إلى الله تعالى وبات طاويا وأصبح صائما صابرا حامدا لله وبات يعقوب وآل يعقوب بطانا وأصبحوا وعندهم فضله من طعامهم فابتلاه الله سبحانه بيوسف (عليه السلام) وأوحي إليه أن استعد لبلائي وارض بقضائي واصبر للمصائب فرأى يوسف الرؤيا في تلك الليلة والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة  وروي ذلك عن ابن عباس أوقريب منه.

{وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} معناه: ونحن جماعة يتعصب بعضنا لبعض ويعين بعضنا بعضا أي: فنحن أنفع لأبينا وقيل: يعني ونحن عصبة لا يعجزنا الاحتيال عليه { إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي: في ذهاب عن طريق الصواب الذي هو التعديل بيننا في المحبة وقيل: معناه أنه في خطإ من الرأي في أمور الأولاد والتدبير الدنيوي ونحن أقوم بأمور مواشيه وأمواله وسائر أعماله ولم يريدوا به الضلال عن الدين لأنهم لوأرادوا ذلك لكانوا كفارا وذلك خلاف الإجماع ولأنهم بالاتفاق كانوا على دينه وكانوا يعظمونه غاية التعظيم ولذلك طلبوا محبته وأصل الضلال العدول وكل من ذهب عن شيء وعدل عنه فقد ضل وأكثر المفسرين على أن إخوة يوسف كانوا أنبياء وقال بعضهم لم يكونوا أنبياء لأن الأنبياء لا يقع منهم القبائح.

 وقال المرتضى قدس الله روحه: لم يقم لنا الحجة بأن إخوة يوسف الذين فعلوا ما فعلوه كانوا أنبياء ولا يمتنع أن يكون الأسباط الذين كانوا أنبياء غير هؤلاء الإخوة الذين فعلوا بيوسف ما قصة الله تعالى عنهم وليس في ظاهر الكتاب أن جميع إخوة يوسف وسائر الأسباط فعلوا بيوسف ما حكاه الله من الكيد وقيل: يجوز أن يكون هؤلاء الإخوة في تلك الحال لم يكونوا بلغوا الحلم ولا توجه إليهم التكليف وقد يقع ممن قارب البلوغ من الغلمان مثل هذه الأفعال ويعاتب على ذلك ويلام ويضرب وهذا الوجه قول البلخي والجبائي ويدل عليه قوله {نرتع ونلعب}.

 وروى أبوجعفر بن بابويه رحمه الله في كتاب النبوة بإسناده عن محمد بن إسماعيل بن بزيع عن حنان بن سدير قال: قلت لأبي جعفر: أ كان أولاد يعقوب أنبياء فقال لا ولكنهم كانوا أسباطا أولادا لأنبياء ولم يفارقوا الدنيا إلا سعداء تابوا وتذكروا ما صنعوا وقال الحسن: كانوا رجالا بالغين ووقعت ذلك منهم صغيرة ثم أخبر سبحانه عنهم أنهم قال بعضهم لبعض: { اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا} أي: اطرحوه في أرض بعيدة عن أبيه فلا يهتدي إليه وقيل: معناه في أرض تأكله السباع أويهلك بغير ذلك . { يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} عن يوسف وتخلص لكم محبته والمعنى: أنكم متى قتلتموه أوطرحتموه في أرض أخرى خلا لكم أبوكم وحن عليكم { وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} أي: وتكونوا من بعد قتل يوسف أوغيبته قوما تائبين والمعنى: أنكم إذا فعلتم ذلك وبلغتم أغراضكم تبتم مما فعلتموه وكنتم من جملة الصالحين الذين يعملون الصالحات وهذا يدل على أنهم رأوا ذلك ذنبا يصح التوبة منه عن جماعة من المفسرين وقيل معناه: وتكونوا قوما صالحين في أمر دنياكم أي يعود حالكم مع أبيكم إلى الصلاح عن الحسن.

 ومتى يسأل هاهنا على قول من جعلهم غير بالغين فقال: أ ليس يدل هذا القول منهم على بلوغهم لعلمهم بالوعيد؟ فالجواب أن المراهق قد يجوز أن يعلم ذلك خاصة إذا كان مر بي في حجر الأنبياء  ومن أولادهم. واختلف فيمن قال ذلك من إخوته فقال وهب: قاله شمعون وقال مقاتل: قاله روبين ثم أخبر سبحانه عن واحد من جملة القوم بقوله { قال قائل منهم } أي: من إخوة يوسف { لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} أي: القوة في قعر البئر يتناوله بعض مارة الطرق والمسافرين فيذهب به إلى ناحية أخرى والقائل لذلك روبين وهوابن خالة يوسف عن قتادة وابن إسحاق وكان أحسنهم رأيا فيه فنهاهم عن قتله وقيل هويهوذا: وكان أقدمهم في الرأي والفضل وأسنهم عن الأصم والزجاج وقيل هو لاوي: رواه علي بن إبراهيم في تفسيره.

 واختلفوا في ذلك الجب فقيل هو بئر بيت المقدس عن قتادة وقيل: بأرض الأردن عن وهب وقيل: بين مدين ومصر عن كعب وقيل: على ثلاث فراسخ من منزل يعقوب عن مقاتل { إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} معناه: إن كنتم فاعلين شيئا مما تقولون في يوسف فليكن هذا فعلكم فإنه دون القتل الصريح وقال ابن عباس يريد أن أضمرتم ما تريدون وقيل للحسن أ يحسد المؤمن فقال ما أنساك حديث بني يعقوب.

ثم بين سبحانه أنهم عند اتفاق آرائهم فيما تأمروا فيه من أمر يوسف كيف سألوا أباهم ف { قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} أي: ما لك لا تثق بنا ولا تعتمدنا في أمر يوسف { وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} أي: مخلصون في إرادة الخير به وفي هذا دلالة على أنه (عليه السلام) كان يأبى عليهم أن يرسله معهم { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا} أي: إلى الصحراء نرتع ونلعب الجزم على جواب الأمر والمعنى: أن ترسله معنا نرتع ونلعب أي نذهب ونجيء وننشط ونلهوعن الكلبي والضحاك وقيل: نتحافظ فيحفظ بعضنا بعضنا ونلهوعن مجاهد وقيل: نرعى ونتصرف والرتع هوالتردد يمينا وشمالا عن ابن زيد وأرادوا به اللعب المباح مثل الرمي والاستباق بالأقدام وقد روي أن كل لعب حرام إلا ثلاثة لعب الرجل بقوسه وفرسه وأهله.

 { وإنا له } أي: ليوسف { لحافظون } أي: نحفظه لنرده إليك وقيل: نحفظه في حال لعبة وقال مقاتل: هاهنا تقديم وتأخير وذلك إن إخوة يوسف قالوا له أرسله فقال أبوهم { إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} الآية فحينئذ قالوا { يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} وإذا صح الكلام من غير تقديم وتأخير فلا معنى لحمله عليه قال الحسن: جعل يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة وكان في البلاد إلى أن وصل إليه أبوه ثمانين سنة ولبث بعد الاجتماع ثلاثا وعشرين سنة ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة وقيل: أنه كان ليوسف يوم ألقي في الجب عشر سنين وقيل: كان له اثنتا عشرة سنة وقيل: كان ابن سبع سنين أوتسع وجمع بينه وبين أبيه وهوابن أربعين سنة عن ابن عباس وغيره وفي الآيات دلالة على ظهور حسدهم ليوسف لأنه كان يحرسه منهم ويمنعه عن الخروج معهم ولا يأمنهم عليه .

أخبر سبحانه أنهم لما أظهروا النصح والشفقة على يوسف هم يعقوب أن يبعثه معهم وحثهم على حفظه ف { قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي} أي: يغمني { أن تذهبوا به } وتغيبوه عني وقيل: معناه يحزنني مفارقته إياي { وأخاف } عليه إذا ذهبتم به إلى الصحراء { أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} فهذه جملة في موضع الحال وتقديره أخاف أن يأكله الذئب في حال كونكم ساهين عنه مشغولين ببعض أشغالكم قالوا: وكانت أرضهم مذأبة وكانت الذئاب ضارية في ذلك الوقت وقيل: أن يعقوب رأى في منامه كان يوسف قد شد عليه عشرة أذؤب ليقتلوه وإذا ذئب منها يحمي عنه فكأن الأرض انشقت فدخل فيها يوسف فلم يخرج منها إلا بعد ثلاثة أيام فمن ثم قال فلقنهم العلة وكانوا لا يدرون.

 وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال: لا تلقنوا الكذب فيكذبوا فإن بني يعقوب لم يعلموا أن الذئب يأكل الإنسان حتى لقنهم أبوهم وهذا يدل على أن الخصم لا ينبغي أن يلقن حجة وقيل: أنه خاف عليه أن يقتلوه فكنى عنهم بالذئب مسايرة لهم قال ابن عباس سماهم ذئابا { قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} أي: جماعة متعاضدون متناصرون نرى الذئب قد قصده ولا نمنعه منه { إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} أي: نكون كالذين تذهب عنه رءوس أموالهم على رغم منهم وقيل معناه: إنا إذا عجزة ضعفة قال الحسن والله لقد كانوا أخوف عليه من الذئب وقيل: معناه إنا إذا لمضيعون بلغة قيس عيلان عن المؤرج وهاهنا حذف والتقدير أنه أرسله معهم إجابة لما سألوه ليؤدي ذلك إلى الألفة والمحبة.

 { فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا} أي: عزموا جميعا { أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} أي: قعر البئر واتفقت دواعيهم عليه فإن من دعاه داع واحد إلى الشيء لا يقال فيه أنه أجمع عليه فكأنه مأخوذ من اجتماع الدواعي ويدل الألف واللام على أنه كان بئرا معروفة معهودة عندهم تجيئها السيارة وقيل: أنهم طلبوا بئرا قليلة الماء تغيبه ولا تغرقه فجعلوه فيها وقيل: بل جعلوه في جانب منها وقيل: أن يعقوب أرسله معهم فأخرجوه مكرما فلما وصلوا إلى الصحراء أظهروا له العداوة وجعلوا يضربونه وهويستغيث بواحد واحد منهم فلا يغيثه وكان يقول يا أبتاه! فهموا بقتله فمنعهم يهوذا منه وقيل: منعهم لاوي رواه بعض أصحابنا عنهم (عليهم السلام) فانطلقوا به إلى الجب فجعلوا يدلونه في البئر وهويتعلق بشفير البئر ثم نزعوا قميصه عنه وهويقول لا تفعلوا ردوا علي القميص أتوارى به فيقولون ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا يؤنسنك.

 فدلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم آوى إلى صخرة فقام عليها وكان يهوذا يأتيه بالطعام عن السدي وقيل: إن الجب أضاء له وعذب ماؤه حتى أغناه عن الطعام والشراب وقيل: كان الماء كدرا فصفا وعذب ووكل الله به ملكا يحرسه ويطعمه عن مقاتل وقيل: إن جبرائيل كان يؤنسه وقيل: إن الله تعالى أمر بصخرة حتى ارتفعت من أسفل البئر فوقف يوسف عليها وهوعريان وكان إبراهيم الخليل (عليه السلام) ) حين ألقي في النار جرد من ثيابه وقذف في النار عريانا فأتاه جبرائيل (عليه السلام) ) بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه وكان ذلك عند إبراهيم (عليه السلام) ) فلما مات ورثه إسحاق فلما مات إسحاق ورثه يعقوب فلما شب يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في تعويذ وعلقه في عنقه فكان لا يفارقه فلما ألقي في البئر عريانا جاءه جبرائيل وكان عليه ذلك التعويذ فأخرج منه القميص فألبسه إياه وروى ذلك مفضل بن عمر عن الصادق (عليه السلام) ) قال: وهو القميص الذي وجد يعقوب ريحه ولما فصلت العير من مصر وكان يعقوب بفلسطين فقال: إني لأجد ريح يوسف.

 وفي كتاب النبوة عن الحسن بن محبوب عن الحسن بن عمارة عن مسمع أبي سيار عن الصادق (عليه السلام) ) قال لما ألقى إخوة يوسف يوسف في الجب نزل عليه جبرائيل فقال: له يا غلام! من طرحك هنا؟ فقال: إخوتي لمنزلتي من أبي حسدوني ولذلك في الجب طرحوني فقال: أ تحب أن تخرج من هذا الجب قال: ذلك إلى إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب فقال: له جبرائيل فإن إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب يقول لك قل 0(اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام أن تصلي على محمد وآل محمد وأن تجعل لي في أمري فرجا ومخرجا وترزقني من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب)) فجعل الله له من الجب يومئذ فرجا ومخرجا ومن كيد المرأة مخرجا وآتاه ملك مصر من حيث لم يحتسب. وروي علي بن إبراهيم: أن يوسف (عليه السلام) ) قال في الجب يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ارحم ضعفي وقلة حيلتي وصغري وقوله { وأوحينا إليه } يعني إلى يوسف (عليه السلام) ) قال الحسن: أعطاه الله النبوة وهوفي الجب والبشارة بالنجاة والملك { لتنبئنهم بأمرهم هذا } أي: لتخبرنهم بقبيح فعلهم بعد هذا الوقت يريد ما ذكره سبحانه في آخر السورة من قوله: { هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه } { وهم لا يشعرون } أنك يوسف وكان الوحي إليه كالوحي إلى سائر الأنبياء وقال مجاهد وقتادة: أوحى الله إليه ونبأه وهو في الجب وكان فيما أوحي إليه :أن اكتم حالك واصبر على ما أصابك فإنك ستخبر إخوتك بما فعلوا بك في وقت لا يعرفونك وقيل: يريد: وهم لا يشعرون بأنه أوحي إليه وقيل: إن معنى قوله { لتنبئنهم } لتجازينهم على فعلهم تقول العرب للرجل يتوعده بمجازاة سوء فعله لأنبئنك ولأعرفنك أي: لأجازينك وقيل أراد بذلك أنهم لما دخلوا مصر عرفهم يوسف وهم له منكرون فأخذ الصاع ونقرة فطن(3) فقال: إن هذا الجام ليخبرني أنه كان لكم أخ من أبيكم ألقيتموه في الجب وبعتموه بثمن بخس فهذا معنى قوله { لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ } هذا عن ابن عباس.

__________________

1- تفسير مجمع البيان ،5ج،ص363-374.

2- وقد اختلفت كلمات المفسيرين والمؤرخين في ضبط اسماء اولاد يعقوب ، ولايخلوالكل عن التتصحيف.

3- الصاع :المكيال . ونقره : ضربه ليصوت . وطن :أي صوت.

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه  الآيات (1) :

المصلحة فوق القرابة :

الإنسان عبد مطيع لإحساسه وشعوره ، وليس في استطاعته أن ينعزل عنه أو

يتجاهله . كيف ؟ وهل ينفصل الشيء عن ذاته وهويته ؟ . والمحرك الأول لهذا الشعور هو المصلحة ، أي طلب اللذة ، وطرد الألم ، وهي المثل الأعلى للإنسان ، واليها يستند الدور الحاسم فيما يفعل أو يترك .

أما القرابة فليست بشيء يحرك الإنسان إذا لم تحقق له شيئا من اللذة ، أو تبتعد به عن الألم ، فحب الإنسان لقريب من أرحامه يقاس بهذه المصلحة ، وعلى نسبتها يضعف الحب أو يقوى ، وأوضح مثال على ذلك ان حزن القريب وأسفه على فقيد من أقاربه يأتي على مقدار نفعه منه في حياته - غالبا - ويصبح القريب من ألد الأعداء إذا تسبب في آلام قريبه ، أو أفسد عليه لذته وراحته . . فكم من والدة قضت على حياة وليدها لتشبع شهوتها ( 2 ) وتتمتع بلذتها ؟ . وكم من ولد استعجل ميراثه من أبيه فأودى بحياته ؟ . وقتل قابيل هابيل ، وهما أول أخوين انبثقا من نطفة واحدة ، وتكوّنا في رحم واحد . . وألقى أولاد إسرائيل يوسف في غيابة الجب ، ولم تأخذهم به رأفة على رغم القربى وصلة الدم .

ولذا قال علي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « القرابة إلى المودة أحوج من المودة إلى القرابة » حتى المودة والصداقة مصدرها اللذة الروحية ، ولكن كثيرا ما يذهل الإنسان عن نفسه ، ويسهو عن واقعه ، فيشرح بمنطق القرابة ما يفعله بوحي من مصلحته .

وليس من الضروري أن تكون هذه المصلحة التي تحرك الإنسان شخصيته ، فإن المخلص الواعي يؤمن قولا وعملا بأن مصلحته فرع عن مصلحة الجماعة ، فيألم لألمها ، ويفرح لفرحها ، ويرى الخير ، كل الخير ، في إحقاق الحق وإقامة العدل . . أما غير المخلص فلا يرى هما غير همه ، ولا حياة غير حياته ، تماما كما فعل أبناء إسرائيل بيوسف ، ليتمتعوا وحدهم بعطف أبيهم . . ولكن اللَّه سبحانه عاقبهم بالحرمان ، وباؤوا بغضب على غضب من اللَّه ونبيه يعقوب ، وظفر يوسف بالعز والكرامة ، ووقفوا بين يديه أذلاء يعترفون بالذنب ، ويطلبون العفو والصفح بقولهم : « تاللَّه لقد آثرك اللَّه علينا وان كنا لخاطئين » .

{ لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ } . ألقى أبناء إسرائيل يوسف في الجب ، لا لشيء إلا لأن أباه فضله عليهم بالعطف والحنان ، وحاربت قريش محمدا ، وبالغت في إيذائه ، وهو قرشي مثلهم ، لأن اللَّه فضله عليهم ، وعلى الناس أجمعين ، ونصر اللَّه يوسف على إخوته ، وكذلك نصر محمدا ( صلى الله عليه واله وسلم ) على عشيرته ، وفي ذلك عبر وعظات لمن أراد معرفة الحقائق ، ويعتبر بها .

{ إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا ونَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } . معنى هذه الآية وما بعدها ظاهر ، ومع هذا نعقب على كل آية بما يناسبها . . لما رأى أبناء إسرائيل ميل أبيهم إلى يوسف وأخيه غلى الحقد والحسد في قلوبهم ، وقال بعضهم لبعض : ما الذي حمل هذا الشيخ على أن يؤثر هذين الصبيين علينا ، ونحن أكبر سنا ، وأشد قوة ، وأكثر نفعا وخدمة ؟ . إن هذا هو الحيف والضلال . . وكان يوسف وأخوه بنيامين من أم ثانية اسمها راحيل ، وكثيرا ما يكون تعدد الأمهات سببا للحقد والحسد بين بني العلَّات .

{ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ } . تآمروا على قتله ، لا لشيء باعترافهم إلا ليحتكروا عطف أبيهم من دونه . . وهذا هو منطق الاحتكار والمحتكر . . اقتل وشرد . . حتى الأقارب والأرحام حرصا على الأرباح والمكاسب .

{ وتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ } . قال كثير من المفسرين : ان المراد بالصلاح هنا صلاح الدين ، وانهم يتوبون إلى اللَّه بعد فعلتهم الشنعاء . ولكن ظاهر السياق يدل على أن المراد بالصلاح صلاح شأنهم مع أبيهم ، وان يتفرغ لهم وحدهم .

{ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ } . السيارة هم المسافرون . وعن سفر التكوين من التوراة ان الذي أشار عليهم بهذا هو أخوهم روبين ، وانه قد كان في نيته أن يخرج يوسف من الجب بعد ذهاب إخوته .

{ قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ } . نحبه ونريد له الخير . . وهكذا الغادر الماكر في كل زمان ومكان ، ذئب في جلد حمل { أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ ويَلْعَبْ وإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ } . لقد علموا ان أباهم يحب يوسف ، ويحب أن يتنعم ويفرح ، وعلموا أيضا شدة حرصه عليه ، فدخلوا إلى نفسه من أبوابها . .

يوسف يلعب ، وهم يحرسونه من كل مكروه . . حاميها حراميها . { قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ } . اعتذر إليهم بأنه لا يطيق فراق يوسف . فضاعف هذا العذر من حقدهم على يوسف . وأيضا اعتذر بأنه يخاف عليه من الذئب ، وعقّب الرازي على هذا العذر بقوله : « وكأنه قد لقنهم الحجة ، وفي الأمثال : ان البلاء موكل بالمنطق » .

{ قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ ونَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ } . أي عاجزون لا نصلح لشيء : واغتر الشيخ بقولهم وأرسل معهم يوسف ، وكانوا من القوم الخاسرين { فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ } ونفذوا ما أجمعوا عليه ، وهم يحسبون انهم قد أصابوا ما يريدون . . ولكن يوسف فوّض أمره إلى اللَّه فوقاه سيئات مكرهم { وأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وهُمْ لا يَشْعُرُونَ } .

فألقى اللَّه في روع يوسف انك ناج من محنتك هذه ، وانك سوف تخبرهم بصنيعهم هذا دون أن يعرفوا من أنت .بين أولاد إسرائيل وأولاد العلماء :

وبهذه المناسبة نذكر أوجه الشبه بين بعض أولاد العلماء بالدين ، وأولاد إسرائيل وهو الاسم الثاني ليعقوب .

قال أولاد إسرائيل : « ان أبانا لفي ضلال مبين » .

وبهذا الوصف ينعت بعض أولاد العلماء آباءهم إذا قالوا كلمة أو تصرفوا تصرفا لا يعجبهم ولا يتفق مع أهوائهم ، حتى ولو كان وحيا منزلا .

وقال أولاد إسرائيل : { اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين } .

وهكذا يفعل بعض أولاد العلماء . . يتآمرون على الناصح الأمين ، ويدسون عليه الدسائس والمفتريات ليخلو لهم وجه أبيهم وللشياطين من أمثالهم ، ثم يوحون إليه

بما استوحوه من وسطاء الشر وعملاء الشيطان ، ويقبضون الأجر بالعملة الصعبة والنقد النادر ، وكلما كان التأثير بالغا تضاعف الأجر .

وجاء أولاد إسرائيل على قميص يوسف { بدم كذب } .

وفي كل يوم يحمل بعض أولاد العلماء لأبيهم أحاديث وروايات ابتدعوها ظلما وزورا ينالون بها من مقام المخلص الأمين ، ويرفعون من شأن الخائن العميل عند أبيهم ليأخذ منه ومنهم دون مراقب ومعاتب .

وجاء أولاد إسرائيل { أباهم عشاء يبكون } يسترون فعلتهم الشنعاء بالنفاق ودموع التماسيح .

وتظاهر أولاد العلماء أمام أبيهم المقدس بالتقى والقداسة كذبا ورياء ، لينخدع بدسائسهم ومؤامرتهم .

___________________

1- التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية،ج4، صفحه 290-294.

2- قرأت في الصحف ان امرأة كانت مع عشيقها ، وطفلها الصغير نائم بالقرب منها ، ولما بكى أماتته خنقا ، وقرأت أيضا ان فتاة قتلت أبويها بالسم ، ولما سئلت قالت : أريد ان يخلو البيت لي ولعشيقي . وهكذا يرحل الدين والضمير والرحم إذا جاءت الشهوات .

تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

شروع في القصة بعد ذكر البشارة التي هي كالمقدمة الملوحة إلى إجمال الغاية التي تنتهي إليها القصة، والآيات تتضمن الفصل الأول من فصول القصة وفيه مفارقة يوسف ليعقوب (عليهما السلام) وخروجه من بيت أبيه إلى استقراره في بيت العزيز بمصر، وقد حدث خلال هذه الأحوال أن ألقاه إخوته في البئر، وأخرجته السيارة منها، وباعه إخوته من السيارة، وهم حملوه إلى مصر وباعوه من العزيز فبقي عنده.

قوله تعالى:{ لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} شروع في القصة وفيه التنبيه على أن القصة مشتملة على آيات إلهية دالة على توحيد الله سبحانه، وأنه هو الولي يلي أمور عباده المخلصين حتى يرفعهم إلى عرش العزة، ويثبتهم في أريكة الكمال فهو تعالى الغالب على أمره يسوق الأسباب إلى حيث يشاء لا إلى حيث يشاء غيره ويستنتج منها ما يريد لا ما هو اللائح الظاهر منها.

فهذه إخوة يوسف (عليه السلام) حسدوا أخاهم وكادوه وألقوه في قعر بئر ثم شروه من السيارة عبدا يريدون بذلك أن يسوقوه إلى الهلاك فأحياه الله بعين هذا السبب اللائح منه الهلاك.

وأن يذللوه فأعزه الله بعين سبب التذليل، ووضعوه فرفعه الله بعين سبب الوضع والخفض، وأن يحولوا حب أبيهم إلى أنفسهم فيخلوا لهم وجه أبيهم فعكس الله الأمر، وذهبوا ببصر أبيهم حيث نعوا إليه يوسف بقميصه الملطخ بالدم فأعاد الله إليه بصره بقميصه الذي جاء به إليه البشير وألقاه على وجهه.

ولم يزل يوسف (عليه السلام) كلما قصده قاصد بسوء أنجاه الله منه وجعل فيه ظهور كرامته وجمال نفسه، وكلما سير به في مسير أو ركب في سبيل يهديه إلى هلكة أو رزية هداه الله بعين ذلك السبيل إلى غاية حسنة ومنقبة شريفة ظاهرة، وإلى ذلك يشير يوسف (عليه السلام) حيث يعرف نفسه لإخوته ويقول:{ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}: الآية 91 من السورة، ويقول لأبيه بحضرة من إخوته:{ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} ثم تأخذه الجذبية الإلهية فيقبل بكلية نفسه الوالهة إلى ربه ويعرض عن غيره فيقول:{ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ }: الآية 101 من السورة.

وفي قوله تعالى:{للسائلين} دلالة على أنه كان هناك جماعة سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن القصة أوعما يرجع بوجه إلى القصة فأنزلت في هذه السورة.

قوله تعالى:{ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} ذكر في المجمع، أن العصبة هي الجماعة التي يتعصب بعضها لبعض، ويقع على جماعة من عشرة إلى خمسة عشر، وقيل: ما بين العشرة إلى الأربعين، ولا واحد له من لفظه كالقوم والرهط والنفر.  انتهى.

وقوله:{إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا} القائلون هم أبناء يعقوب ما خلا يوسف وأخاه الذي ذكروه معه، وكانت عدتهم عشرة وهم رجال أقوياء بيدهم تدبير بيت أبيهم يعقوب وإدارة مواشيه وأمواله كما يدل عليه قولهم:{ونحن عصبة}.

وقولهم:{ليوسف وأخوه} بنسبته إلى يوسف مع أنهم جميعا أبناء ليعقوب وإخوة فيما بينهم يشعر بأن يوسف وأخاه هذا كانا أخوين لأم واحدة وأخوين لهؤلاء القائلين لأب فقط، الروايات تذكر أن اسم أخي يوسف هذا{بنيامين}، والسياق يشهد أنهما كانا صغيرين لا يقومان بشيء من أمر بيت يعقوب وتدبير مواشيه وأمواله.

وقولهم:{ونحن عصبة} أي عشرة أقوياء مشدود ضعف بعضنا بقوة بعض، وهو حال عن الجملة السابقة يدل على حسدهم وحنقهم لهما وغيظهم على أبيهم يعقوب في حبه لهما أكثر منهم، وهو بمنزلة تمام التعليل لقولهم بعده:{إن أبانا لفي ضلال مبين}.

وقولهم:{إن أبانا لفي ضلال مبين} قضاء منهم على أبيهم بالضلال ويعنون بالضلال الاعوجاج في السليقة وفساد السيرة دون الضلال في الدين.

أما أولا: فلأن ذلك هو مقتضى ما تذاكروا فيما بينهم إنهم جماعة إخوان أقوياء متعاضدون متعصب بعضهم لبعض يقومون بتدبير شئون أبيهم الحيوية وإصلاح معاشه ودفع كل مكروه يواجهه، ويوسف وأخوه طفلان صغيران لا يقويان من أمور الحياة على شيء، وليس كل منهما إلا كلا عليه وعليهم، وإذا كان كذلك كان توغل أبيهم في حبهما واشتغاله بكليته بهما دونهم وإقباله عليهما بالإعراض عنهم طريقة معوجة غير مرضية فإن حكمة الحياة تستدعي أن يهتم الإنسان بكل من أسبابه ووسائله على قدر ما له من التأثير، وقصر الإنسان اهتمامه على من هو كل عليه ولا يغني عنه طائلا، والإعراض عمن بيده مفاتيح حياته وأزمة معاشه ليس إلا ضلالا من صراط الاستقامة واعوجاجا في التدبير، وأما الضلال في الدين فله أسباب أخر كالكفر بالله وآياته ومخالفة أوامره ونواهيه.

وأما ثانيا: فلأنهم كانوا مؤمنين بالله مذعنين بنبوة أبيهم يعقوب كما يظهر من قولهم:{ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} وقولهم أخيرا:{يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا}: الآية 97 من السورة وقولهم ليوسف أخيرا:{تالله لقد آثرك الله علينا} وغير ذلك، ولوأرادوا بقولهم:{إن أبانا لفي ضلال مبين} ضلاله في الدين لكانوا بذلك كافرين.

وهم مع ذلك كانوا يحبون أباهم ويعظمونه ويوقرونه، وإنما فعلوا بيوسف ما فعلوا ليخلص لهم حب أبيهم كما قالوا:{ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ } فهم - كما يدل عليه هذا السياق - كانوا يحبونه ويحبون أن يخلص لهم حبه، ولو كان خلاف ذلك لانبعثوا بالطبع إلى أن يبدءوا بأبيهم دون أخيهم وأن يقتلوا يعقوب أو يعزلوه أو يستضعفوه حتى يخلو لهم الجو ويصفو لهم الأمر ثم الشأن في يوسف عليهم أهون.

ولقد جبهوا أباهم أخيرا بمثل قولهم هذا حين قال لهم:{ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ}: الآية 95 من السورة، ومن المعلوم أن ليس المراد به الضلال في الدين بل الإفراط في حب يوسف والمبالغة في أمره بما لا ينبغي.

ويظهر من الآية وما يرتبط بها من الآيات أنه كان يعقوب (عليه السلام) يسكن البدو وكان له اثنا عشر ابنا وهم أولاد علة، وكان عشرة منهم كبارا هم عصبة أولو قوة وشدة يدور عليهم رحى حياته ويدبر بأيديهم أمور أمواله ومواشيه، وكان اثنان منهم صغيرين أخوين لأم واحدة في حجر أبيهما وهما يوسف وأخوه لأمه وأبيه، وكان يعقوب (عليه السلام) مقبلا إليهما يحبهما حبا شديدا لما يتفرس في ناصيتهما من آثار الكمال والتقوى لا لهوى نفساني فيهما كيف؟ وهو من عباد الله المخلصين الممدوح بمثل قوله تعالى:{ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ}: ص: 46 وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك.

فكان هذا الحب والإيثار يثير حسد سائر الإخوة لهما ويؤجج نائرة الأضغان منهم عليهما ويعقوب (عليه السلام) يتفرس ذلك ويبالغ في حبهما وخاصة في حب يوسف وكان يخافهم عليه ولا يرضى بخلوتهم به ولا يأمنهم عليه وذلك يزيد في حسدهم وغيظهم فصار يتفرس من وجوههم الشر والمكر كما مرت استفادته من قوله فيكيدوا لك كيدا} حتى رأى يوسف الرؤيا وقصها لأبيه فزاد بذلك إشفاق أبيه عليه وازداد حبه له ووجده فيه، وأوصاه أن يكتم رؤياه ولا يخبر إخوته بها لعله يأمن بذلك كيدهم لكن التقدير غلب تدبيره.

فاجتمع الكبار من بني يعقوب وتذاكروا فيما بينهم ما كانوا يشاهدونه من أمر أبيهم وما يصنعه بيوسف وأخيه حيث يشتغل بهما عنهم ويؤثرهما عليهم وهما طفلان صغيران لا يغنيان عنه بطائل وهم عصبة أولو قوة وشدة أركان حياته وأياديه الفعالة في دفع كل رزية عادية وجلب منافع المعيشة وإدارة الأموال والمواشي، وليس من حسن السيرة واستقامة الطريقة إيثار هذين الضعيفين على ضعفهما على أولئك العصبة القوية على قوتهم فذموا سيرة أبيهم وحكموا بأنه في ضلال مبين من جهة طريقته هذه.

ولم يريدوا برمي أبيهم بالضلال الضلال في الدين حتى يكفروا بذلك بل الضلال في مشيته الاجتماعية كما توفرت بذلك شواهد الآيات وقد تقدمت الإشارة إليها.

وبذلك يظهر ما في مختلف التفاسير من الانحراف في تقرير معنى الآية: منها: ما ذكره بعضهم أن هذا الحكم منهم بضلال أبيهم عن طريق العدل والمساواة جهل مبين وخطأ كبير لعل سببه اتهام إياه بإفراطه في حب أمهما من قبل فيكون مثاره الأول اختلاف الأمهات بتعدد الزوجات ولا سيما الإماء منهن وهو الذي أضلهم من غريزة الوالدين في زيادة العطف على صغار الأولاد وضعافهم وكانا أصغر أولاده.

قال: ومن فوائد القصة وجوب عناية الوالدين بمداراة الأولاد وتربيتهم على المحبة والعدل، وإنقاء وقوع التحاسد والتباغض بينهم ومنه اجتناب تفضيل بعضهم على بعض بما يعده المفضول إهانة له ومحاباة لأخيه بالهوى، وقد نهى عنه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مطلقا، ومنه سلوك سبيل الحكمة في تفضيل من فضل الله تعالى بالمواهب الفطرية كمكارم الأخلاق والتقوى والعلم والذكاء.

وما كان يعقوب بالذي يخفى عليه هذا وما نهى يوسف عن قص رؤياه عليهم إلا من علمه بما يجب فيه، ولكن ما يفعل الإنسان بغريزته وقلبه وروحه؟ أ يستطيع أن يحول دون سلطانها على جوارحه؟ كلا.  انتهى.

أما قوله: إن منشأ حسدهم وبغيهم اختلاف الأمهات وخاصة الإماء منهن{إلخ} ففيه: أن استدعاء اختلاف الأمهات اختلاف الأولاد وإن كان مما لا يسوغ إنكاره، ووجود ذلك في المورد محتمل، لكن السبب المذكور في كلامه تعالى لذلك غير هذا، ولو كان هو السبب الوحيد لفعلوا بأخي يوسف ما فعلوا به ولم يقنعوا به.

وأما قوله:{وهو الذي أضلهم من غريزة الوالدين في زيادة العطف على صغار الأولاد وضعافهم} ومفاده أن محبة يعقوب ليوسف إنما كانت رقة وترحما غريزيا منه لصغرهما كما هو المشهود من الآباء بالنسبة إلى صغار أولادهم ما داموا صغارا فإذا كبروا انتقلت إلى من هو أصغر منهم.

ففيه: أن هذا النوع من الحب المشوب بالرقة والترحم مما يسلمه الكبار للصغار وينقطعون عن مزاحمتهم ومعارضتهم في ذلك، ترى كبراء الأولاد إذا شاهدوا زيادة اهتمام الوالدين بصغارهم وضعفائهم واعترضوا بأن ذلك خلاف التعديل والتسوية فأجيبوا بأنهم صغار ضعفاء يجب أن يرق لهم ويرحموا ويعانوا حتى يصلحوا للقيام على ساقهم في أمر الحياة سكتوا وانقطعوا عن الاعتراض وأقنعهم ذلك.

فلو كانت صورة حب يعقوب ليوسف وأخيه صورة الرقة والرأفة والرحمة لهما لصغرهما وهي التي يعهدها كل من العصبة في نفسه ويذكرها من أبيه له في حال صغره لم يعيبوها ولم يذموا أباهم عليها ولكان قولهم{ونحن عصبة} دليلا عليهم يدل على ضلالهم في نسبة أبيهم إلى الضلال لا دليلا لهم يدل على ضلال أبيهم في زيادة حبه لهما.

على أنهم قالوا لأبيهم حينما كلموا أباهم في أمر يوسف:{ مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} ومن المعلوم أن إكرامه ليوسف وضمه إليه ومراقبته له وعدم أمن أحد منهم عليه، أمر وراء المحبة بالرقة والرحمة له ولصغره وضعفه.

وأما قوله: وما كان يعقوب يخفى عليه هذا إلى آخر ما قال ومعناه أن هوى يعقوب في ابنه صرفه عن الواجب في تربية أولاده على علم منه بأن ذلك خلاف العدل والإنصاف وأنه سيدفعه إلى بلوى في أولاده ثم تعذيره بأن مخالفة هوى القلب وعلقة الروح مما لا يستطيعه الإنسان.

ففيه أنه إفساد للأصول المسلمة العقلية والنقلية التي يستنتج منها حقائق مقامات الأنبياء والعلماء بالله من الصديقين والشهداء والصالحين وما بني عليه البحث عن كرائم الأخلاق أن الإنسان بحسب فطرته في سعة من التخلق بها ومحق الرذائل النفسانية التي أصلها وأساسها اتباع هوى النفس وإيثار مرضاة الله سبحانه على كل مرضاة وبغية، وهذا أمر نرجوه من كل من ارتاض بالرياضات الخلقية من أهل التقوى والورع فما الظن بالأنبياء ثم بمثل يعقوب (عليه السلام) منهم.

وليت شعري إذا لم يكن في استطاعة الإنسان أن يخالف هوى نفسه في أمثال هذه الأمور فما معنى هذه الأوامر والنواهي الجمة في الدين المتعلقة بها وهل هي إلا مجازفة صريحة.

على أن فيما ذكره إزراء لمقامات أنبياء الله وأوليائه وحطا لمواقفهم العبودية إلى درجة المتوسطين من الناس أسراء هوى أنفسهم الجاهلين بمقام ربهم، وقد عرف سبحانه الأنبياء بمثل قوله{ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} الأنعام: 87 وقال في يعقوب وأبويه إبراهيم وإسحاق (عليهما السلام):{وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاء وكانوا لنا عابدين}: الأنبياء: 73، وقال فيهم أيضا:{إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار}: ص 46.

فأخبر أنه هداهم إلى مستقيم صراطه ولم يقيد ذلك بقيد، وأنه اجتباهم وجمعهم وأخلصهم لنفسه فهم مخلصون - بفتح اللام - لله سبحانه لا يشاركه فيهم مشارك.

فلا يبتغون إلا ما يريده من الحق ولا يؤثرون على مرضاته مرضاة غيره سواء كان ذلك الغير أنفسهم أوغيره، وقد كرر سبحانه في كلامه حكاية إغواء بني آدم عن الشيطان واستثنى المخلصين:{ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}: ص 83.

فالحق أن يعقوب إنما كان يحب يوسف وأخاه في الله سبحانه لما كان يتفرس منهما التقوى والكمال ومن يوسف خاصة ما كانت تدل عليه رؤياه أن الله سيجتبيه ويعلمه من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليه وعلى آل يعقوب، ولم يكن حبه هوى البتة.

ومنها ما ذكره بعضهم أن مرادهم من قولهم:{إن أبانا لفي ضلال مبين} ضلاله في الدين، وقد عرفت أن سياق الآيات الكريمة يدفعه.

ويقابل هذا القول بوجه قول آخرين: إن إخوة يوسف كانوا أنبياء وإنما نسبوا أباهم إلى الضلال في سيرته والعدول في أمرهم عن العدل والاستقامة، وإذا اعترض عليهم بما ارتكبوه من المعصية والظلم في أخيهم وأبيهم.

أجابوا عنه بأن ذلك كانت معصية صغيرة صدرت عنهم قبل النبوة أولا بأس به بناء على جواز صدور الصغائر عن الأنبياء قبل النبوة وربما أجيب بجواز أن يكونوا حين صدور المعصية صغارا مراهقين ومن الجائز صدور أمثال هذه الأمور عن الأطفال المراهقين.

وهذه أوهام مدفوعة، وليس قوله تعالى:{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ}: النساء: 163 الظاهر في نبوة الأسباط صريحا في إخوة يوسف.

والحق أن إخوة يوسف لم يكونوا أنبياء بل كانوا أولاد أنبياء حسدوا يوسف وأذنبوا بما ظلموا يوسف الصديق ثم تابوا إلى ربهم وأصلحوا وقد استغفر لهم يعقوب ويوسف (عليه السلام) كما حكى الله عن أبيهم قوله:{سوف أستغفر لكم ربي}: الآية: 98 من السورة بعد قولهم:{ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} وعن يوسف قوله:{ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}: الآية: 92 من السورة بعد اعترافهم له بقولهم:{وإن كنا لخاطئين}.

ومنها: قول بعضهم: إن إخوة يوسف إنما حسدوه بعد ما قص عليهم رؤياه وقد كان يعقوب نهاه أن يقص رؤياه على إخوته والحق أن الرؤيا إنما أوجبت زيادة حسدهم وقد لحق بهم الحسد قبل ذلك كما مر بيانه.

قوله تعالى:{ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} تتمة قول إخوة يوسف والآية تتضمن الفصل الثاني من مؤامرتهم في مؤتمرهم الذي عقدوه في أمر يوسف ليرسموا بذلك خطة تريح نفوسهم منه كما ذكره تعالى بقوله:{ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ}: الآية 102 من السورة.

وقد ذكر الله سبحانه متن مؤامرتهم في هذه الآيات الثلاث:{قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة - إلى قوله - إن كنتم فاعلين}.

فأوردوا أولا ذكر مصيبتهم في يوسف وأخيه إذ صرفا وجه يعقوب عنهم إلى أنفسهما وجذبا نفسه إليهما عن سائر الأولاد فصار يلتزمها ولا يعبأ بغيرهما ما فعلوا، وهذه محنة حالة بهم توعدهم بخطر عظيم في مستقبل الأمر فيه سقوط شخصيتهم وخيبة مسعاهم وذلتهم بعد العزة وضعفهم بعد القوة، وهو انحراف من يعقوب في سيرته وطريقته.

ثم تذاكروا ثانيا في طريق التخلص من الرزية بطرح كل منهم ما هيأه من الخطة ويراه من الرأي فأشار بعضهم إلى لزوم قتل يوسف، وآخرون إلى طرحه أرضا بعيدة لا يستطيع معه العود إلى أبيه واللحوق بأهله فينسى بذلك اسمه ويمحو رسمه فيخلو وجه أبيهم لهم وينبسط حبه وحبائه فيهم.

ثم اتفقوا على ما يقرب من الرأي الثاني وهو أن يلقوه في قعر بئر ليلتقطه بعض السيارة ويذهبوا به إلى بعض البلاد النائية البعيدة فينقطع بذلك خبره ويعفى أثره.

فقوله تعالى:{اقتلوا يوسف} حكاية لأحد الرأيين منهم في أمره، وفي ذكرهم يوسف وحده - وقد ذكروا في مفتتح كلامهم في المؤامرة يوسف وأخاه معا:{ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا} - دليل على أنه كان مخصوصا بمزيد حب يعقوب وبلوغ عنايته واهتمامه وإن كان أخوه أيضا محبوا بالحب والإكرام من بينهم وكيف لا؟ ويوسف هو الذي رأى الرؤيا وبشر بأخص العنايات الإلهية والكرامات الغيبية، وقد كان أكبرهما والخطر المتوجه من قبله إليهم أقرب مما من قبل أخيه، ولعل في ذكر الأخوين معا إشارة إلى حب يعقوب لأمهما الموجب لحبه بالطبع لهما وتهييج حسد الإخوة وغيظهم وحقدهم بالنسبة إليهما.

وقوله:{أواطرحوه أرضا} حكاية رأيهم الثاني فيه، والمعنى صيروه أو غربوه في أرض لا يقدر معه على العود إلى بيت أبيه فيكون كالمقتول ينقطع أثره ويستراح من خطره كإلقائه في بئر أو تغريبه إلى مكان ناء ونظير ذلك.

والدليل عليه تنكير{أرض} ولفظ الطرح الذي يستعمل في إلقاء الإنسان المتاع أوالأثاث الذي يستغني عنه ولا ينتفع به للإعراض عنه.

وفي نسبة الرأيين بالترديد إليهم، دليل على أن مجموع الرأيين كان هو المرضي عند أكثر الإخوة حتى قال قائل منهم: لا تقتلوا يوسف إلخ.

وقوله:{يخل لكم وجه أبيكم} أي افعلوا به أحد الأمرين حتى يخلو لكم وجه أبيكم وهو كناية عن خلوص حبه لهم بارتفاع المانع الذي يجلب الحب والعطف إلى نفسه كأنهم ويوسف إذا اجتمعوا وأباهم حال يوسف بينه وبينهم وصرف وجهه إلى نفسه فإذا ارتفع خلا وجه أبيهم لهم واختص حبه بهم وانحصر إقباله عليهم.

وقوله:{وتكونوا من بعده قوما صالحين} أي وتكونوا من بعد يوسف أو من بعد قتله أو نفيه - والمال واحد - قوما صالحين بالتوبة من هذه المعصية.

وفي هذا دليل على أنهم كانوا يرونه ذنبا، وإثما، وكانوا يحترمون أمر الدين ويقدسونه لكن غلبهم الحسد وسولت لهم أنفسهم اقتراف الذنب وارتكاب المظلمة وآمنهم من عقوبة الذنب بتلقين طريق يمكنهم من الاقتراف من غير لزوم العقوبة الإلهية وهو أن يقترفوا الذنب ثم يتوبوا.

وهذا من الجهل فإن التوبة التي شأنها هذا الشأن غير مقبولة البتة فإن من يوطن نفسه من قبل على المعصية ثم التوبة منها لا يقصد بتوبته الرجوع إلى الله والخضوع لمقامه حقيقة بل إنما يقصد المكر بربه في دفع ما أوعده من العذاب والعقوبة مع المخالفة لأمره أو نهيه، فتوبته ذيل لما وطن عليه نفسه أولا: أن يذنب فيتوب فهي في الحقيقة تتمة ما رامه أولا من نوع المعصية وهو الذنب الذي تعقبه توبة وليست رجوعا إلى ربه بالندم على ما فعل.

وقد تقدم البحث عن معنى التوبة في تفسير قوله تعالى:{ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} الآية:. النساء: 17 في الجزء الرابع من الكتاب.

وقيل المراد بالصلاح في الآية صلاح الأمر من حيث سعادة الحياة الدنيا وانتظام الأمور فيها والمعنى وتكونوا من بعده قوما صالحين بصلاح أمركم مع أبيكم.

قوله تعالى:{ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} الجب هو البئر التي لم يطو أي لم يبن داخلها بالحجارة، وإن بني بها سميت البئر طويا، والغيابة بفتح الغين المنهبط من الأرض الذي يغيب ما فيه من الأنظار وغيابة الجب قعره الذي لا يرى لما فيه من الظلمة.

وقد اختار هذا القائل الرأي الثاني المذكور في الآية السابقة الذي يشير إليه قوله:{أو اطرحوه أرضا} إلا أنه قيده بما يؤمن معه القتل أو أمر آخر يؤدي إلى هلاكه كأن يلقى في بئر ويترك فيها حتى يموت جوعا أو ما يشاكل ذلك، فما أبداه من الرأي يتضمن نفي يوسف من الأرض من غير أن يتسبب إلى هلاكه بقتل أو موت أو نقص يشبهه فيكون إهلاكا لذي رحم، وهو أن يلقى في بعض الآبار التي على طريق المارة حتى يعثروا به عند الاستقاء فيأخذوه ويسيروا به إلى بلاد نائية تعفو أثره وتقطع خبره، والسياق يشهد بأنهم ارتضوا هذا الرأي إذ لم يذكر رد منهم بالنسبة إليه وقد جرى عملهم عليه كما هو مذكور في الآيات التالية.

واختلف المفسرون في اسم هذا القائل بعد القطع بأنه كان أحد إخوته لقوله تعالى{قال قائل منهم} فقيل: هو روبين ابن خالة يوسف، وقيل: هو يهوذا، وقد كان أسنهم وأعقلهم، وقيل: هو لاوى، ولا يهمنا البحث فيه بعد ما سكت القرآن عن تعريفه باسمه لعدم ترتب فائدة هامة عليه.

وذكر بعضهم: أن تعريف الجب باللام يدل على أنه كان جبا معهودا فيما بينهم.

وهو حسن لو لم يكن اللام للجنس، وقد اختلفوا أيضا في أن هذا الجب أين كان؟ هو على أقوال مختلفة لا يترتب على شيء منها فائدة طائلة.

قوله تعالى:{ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} أصل{لا تأمنا} لا تأمننا ثم أدغم بالإدغام الكبير.

والآية تدل على أن الإخوة أجمعوا على قول القائل: لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب، وأجمعوا على أن يمكروا بأبيهم فيأخذوا يوسف ويفعلوا به ما عزموا عليه وقد كان أبوهم لا يأمنهم على يوسف ولا يخليه وإياهم فكان من الواجب قبلا أن يزكوا أنفسهم عند أبيهم ويجلوا قلبه من كدر الشبهة والارتياب حتى يتمكنوا من أخذه والذهاب به.

ولذلك جاءوا أباهم وخاطبوه بقولهم:{يا أبانا - وفيه إثارة للعطف والرحمة وإيثار للمودة - ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون} أي والحال أنا لا نريد به إلا الخير ولا نبتغي إلا ما يرضيه ويسره.

ثم سألوه ما يريدونه وهو أن يرسله معهم إلى مرتعهم الذي كانوا يخرجون إليه ماشيتهم وغنمهم ليرتع ويلعب هناك، وهم حافظون له فقالوا:{أرسله معنا} إلخ.

قوله تعالى:{ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الرتع هو توسع الحيوان في الرعي والإنسان في التنزه وأكل الفواكه ونحو ذلك.

وقولهم{أرسله معنا غدا يرتع ويلعب} اقتراح لمسئولهم كما تقدمت الإشارة إليه وقولهم:{وإنا له لحافظون} أكدوه بوجوه التأكيد: إن واللام والجملة الاسمية على وزان قولهم:{وإنا له لناصحون} كما يدل أن كل واحدة من الجملتين تتضمن نوعا من التطيب لنفس أبيهم كأنهم قالوا: ما لك لا تأمنا على يوسف فإن كنت تخاف عليه إيانا معشر الإخوة كأن نقصده بسوء فإنا له لناصحون وإن كنت تخاف عليه غيرنا مما يصيبه أو يقصده بسوء كان يدهمه المكروه ونحن مساهلون في حفظه ومستهينون في كلاءته فإنا له لحافظون.

فالكلام مسوق على ترتيبه الطبعي: ذكروا أولا أنه في أمن من ناحيتهم دائما ثم سألوا أن يرسله معهم غداة غد ثم ذكروا أنهم حافظون له ما دام عندهم، وبذلك يظهر أن قولهم:{وإنا له لناصحون} تأمين له دائمي من ناحية أنفسهم، وقولهم:{وإنا له لحافظون} تأمين له موقت من غيرهم.

قوله تعالى:{ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} هذا ما ذكر أبوهم جوابا لما سألوه، ولم ينف عن نفسه أنه لا يأمنهم عليه وإنما ذكر ما يأخذه من الحالة النفسانية لو ذهبوا به فقال وقد أكد كلامه:{إني ليحزنني أن تذهبوا به} وقد كشف عن المانع أنه نفسه التي يحزنها ذهابهم به ولا ذهابهم به الموجب لحزنه تلطفا في الجواب معهم ولئلا يهيج ذلك عنادهم ولجاجهم وهو من لطائف النكت.

واعتذر إليهم في ذلك بقوله:{ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} وهو عذر موجه فإن الصحاري ذوات المراتع التي تأوي إليها المواشي وترتع فيها الأغنام لا تخلو طبعا من ذئاب أو سباع تقصدها وتكمن فيها للافتراس والاصطياد فمن الجائز أن يقبلوا على بعض شأنهم ويغفلوا عنه فيأكله الذئب.

قوله تعالى:{ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} تجاهلوا لأبيهم كأنهم لم يفقهوا إلا أنه يأمنهم عليه لكن يخاف أن يأكله الذئب على حين غفلة منهم فردوه رد منكر مستغرب، وذكروا لتطيب نفسه أنهم جماعة أقوياء متعاضدون ذوو بأس وشدة، وأقسموا بالله إن أكل الذئب إياه وهم عصبة يقضي بخسرانهم ولن يكونوا خاسرين البتة، وإنما أقسموا - كما يدل عليه لام القسم - ليطيبوا نفسه ويذهبوا بحزنه فلا يمنعهم من الذهاب به، وهذا شائع في الكلام{وفي الكلام وعد ضمني منهم له أنهم لن يغفلوا} لكنهم لم يلبثوا يوما حتى كذبوا أنفسهم فيما أقسموا له وأخلفوه ما وعدوه إذ قالوا:{ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} الآية.

قوله تعالى:{ولما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب قال الراغب: أجمعت على كذا أكثر ما يقال فيما يكون جمعا يتوصل إليه بالفكرة نحو فأجمعوا أمركم وشركاءكم.

قال: ويقال أجمع المسلمون على كذا اتفقت آراؤهم عليه. انتهى.

وفي المجمع،: أجمعوا أي عزموا جميعا أن يجعلوه في غيابة الجب أي قعر البئر واتفقت دواعيهم عليه فإن من دعاه داع واحد إلى الشيء لا يقال فيه أنه أجمع عليه فكأنه مأخوذ من اجتماع الدواعي. انتهى.

والآية تشعر بأنهم أقنعوا أباهم بما قالوا له من القول وأرضوه أن لا يمنعهم أن يخرجوا يوسف معهم إلى الصحراء فحملوه معهم لإنفاذ ما أزمعوا عليه من إلقائه في غيابة الجب.

وجواب لما محذوف للدلالة على فجاعة الأمر وفظاعته، وهي صنعة شائعة في الكلام ترى المتكلم يصف أمرا فظيعا كقتل فجيع يحترق به القلب ولا يطيقه السمع فيشرع في بيان أسبابه والأحوال التي تؤدي إليه فيجري في وصفه حتى إذا بلغ نفس الحادثة سكت سكوتا عميقا ثم وصف ما بعد القتل من الحوادث فيدل بذلك على أن صفة القتل بلغت من الفجاعة مبلغا لا يسع المتكلم أن يصرح به ولا يطيق السامع أن يسمعه.

فكأن الذي يصف القصة - عز اسمه - لما قال:{ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} سكت مليا وأمسك عن ذكر ما فعلوا به أسى وأسفا لأن السمع لا يطيق وعي ما فعلوا بهذا الطفل المعصوم المظلوم النبي ابن الأنبياء ولم يأت بجرم يستحق به شيئا مما ارتكبوه فيه وهم إخوته وهم يعلمون مبلغ حب أبيه النبي الكريم يعقوب له فيا قاتل الله الحسد يهلك شقيقا مثل يوسف الصديق بأيدي إخوته، ويثكل أبا كريما مثل يعقوب بأيدي أبنائه، ويزين بغيا شنيعا كهذا في أعين رجال ربوا في حجر النبوة ونشئوا في بيت الأنبياء.

ولما حصل الغرض بالسكوت عن جواب لما جرى سبحانه في ذيل القصة فقال:{وأوحينا إليه} إلخ.

قوله تعالى:{ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} الضمير ليوسف وظاهر الوحي أنه من وحي النبوة، والمراد بأمرهم هذا إلقاؤهم إياه في غيابة الجب، وكذا الظاهر أن جملة{وهم لا يشعرون} حال من الإيحاء المدلول عليه بقوله:{وأوحينا}{إلخ} ومتعلق{لا يشعرون} هو الأمر أي لا يشعرون بحقيقة أمرهم هذا أو الإيحاء أي وهم لا يشعرون بما أوحينا إليه.

والمعنى - والله أعلم - وأوحينا إلى يوسف أقسم لتخبرنهم بحقيقة أمرهم هذا وتأويل ما فعلوا بك فإنهم يرونه نفيا لشخصك وإنساء لاسمك وإطفاء لنورك وتذليلا لك وحطا لقدرك وهو في الحقيقة تقريب لك إلى أريكة العزة وعرش المملكة وإحياء لذكرك وإتمام لنورك ورفع لقدرك وهم لا يشعرون بهذه الحقيقة وستنبئهم بذلك وهو قوله لهم وقد اتكى على أريكة العزة وهم قيام أمامه يسترحمونه بقولهم:{يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين} إذ قال:{هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون - إلى أن قال - أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا} إلخ.

انظر إلى موضع قوله:{هل علمتم} فإنه إشارة إلى أن هذا الذي تشاهدونه اليوم من الحال هو حقيقة ما فعلتم بيوسف، وقوله:{إذ أنتم جاهلون} فإنه يحاذي من هذه الآية التي نحن فيها قوله:{وهم لا يشعرون}.

وقيل: في معنى الآية وجوه أخر: منها: أنك ستخبر إخوتك بما فعلوا بك في وقت لا يعرفونك، وهو الذي أخبرهم به في مصر وهم لا يعرفونه ثم عرفهم نفسه.

ومنها: أن المراد بإنبائه إياهم مجازاتهم بسوء ما فعلوا كمن يتوعد من أساء إليه فيقول: لأنبئنك ولأعرفنك.

ومنها: قول بعضهم كما روي عن ابن عباس أن المراد بإنبائه إياهم بأمرهم ما جرى له مع إخوته بمصر حيث رآهم فعرفهم وهم له منكرون فأخذ جاما فنقره فظن فقال: إن هذا الجام يخبرني أنكم كان لكم أخ من أبيكم ألقيتموه في الجب وبعتموه بثمن بخس.

وهذه وجوه لا تخلو من سخافة والوجه ما قدمناه، وقد كثر ورود هذه اللفظة في كلامه تعالى في معنى بيان حقيقة العمل كقوله تعالى:{ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}: المائدة: 105 وقوله:{ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}: المائدة: 14 وقوله:{ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا}: المجادلة: 6 إلى غير ذلك من الآيات وهي كثيرة.

ومنها: قول بعضهم إن المعنى وأوحينا إليه ستخبرهم بما فعلوا بك وهم لا يشعرون بهذا الوحي.

وهذا الوجه غير بعيد لكن الشأن في بيان نكتة لتقييد الكلام بهذا القيد ولا حاجة إليه ظاهرا.

ومنها: قول بعضهم: إن معنى الآية لتخبرنهم برقي حياتك وعزتك وملكك بأمرهم هذا إذ يظهرك الله عليهم ويذلهم لك ويجعل رؤياك حقا وهم لا يشعرون يومئذ بما آتاك الله.

وعمدة الفرق بين هذا القول وما قدمناه من الوجه أن في هذا القول صرف الإنباء عن الإنباء الكلامي إلى الإنباء بالحال الخارجي والوضع العيني، ولا موجب له بعد ما حكاه سبحانه عنه قوله:{هل علمتم ما فعلتم بيوسف} إلخ.

______________________

1- تفسير الميزان،الطباطبائي،ج11،ص74-86.

تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه  الآيات (1) :

المؤامرة:

من هنا تبدأ قصّة مواجهة إِخوة يوسف واشتباكهم معه:

ففي الآية الأُولى ـ من الآيات محل البحث ـ إِشارة الى الدروس التربوية الكثيرة التي توحيها القصّة، إِذ تقول الآية:{ لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ}.

وفي أنّ المراد بالسائلين، من هم؟ يقول بعض المفسّرين كالقرطبي في التّفسير الجامع وغيره: إِنّ هؤلاء السائلين هم جماعة من يهود المدينة، جاؤوا يسألون النّبي أسئلة في هذا المجال، ولكن ظاهر الآية مطلق، فلا مرجّح لأنّ يكون المراد بالسائلين هم اليهود دون غيرهم.

وأيّ درس أعظم من أن يجتمع عدّة أفراد لإِهلاك فرد ضعيف ووحيد ـ في الظاهر ـ وبخطط أعدّها الحسدُ، ويبذلون أقصى جهودهم لهذا الأمر، ولكن نفس هذا العمل ـ ودون شعور وارادة منهم ـ بات سبباً في تربّعه على سرير الملك وصيرورته آمراً على البلد الكبير «مصر» ثمّ يأتي إِخوته في النهاية ليطأطئوا برؤوسهم إِعظاماً له، وهذا يدلّ على أن الله إِذا أراد أمراً فهو قادر على أن يجريه حتى على أيدي من يخالفون ذلك الأمر، ليتجلّى أن الإِنسان المؤمن الطاهر ليس وحيداً في هذا العالم، فلو سعى جميع أفراد هذا العالَم الى إزهاق روحه والله لا يريد ذلك، فانهم لا يستطيعون أن يسلبوا منه شعرة واحدة.

كان ليعقوب اثنا عشر ولداً، واثنان منهم: يوسف وبنيامين وهما من أُم واحدة اسمها راحيل(2)، وكان يعقوب يولي هذين الولدين محبّة خاصّة، لا سيما يوسف.

لأنّهما أوّلا: أصغر أولاده، وبالطبع فهما يحتاجان الى العناية والرعاية والمحبة.

وثانياً: لأنّ أُمّهما ارتحلت من الدنيا (3)ـ طبقاً لبعض الرّوايات ـ وبعد هذا كلّه كانت بوادر النبوغ والذكاء والحادّ ترتسم على يوسف، وهذه الأُمور أدّت الى أن أن يولي يعقوب ابنه هذا عناية أكثر.

إِلاّ أن الإِخوة الحساد ـ دون أن يلتفتوا الى هذه الجهات ـ تألّموا من حبّ أبيهم ليوسف وأخيه، وخاصّة بعد اختلافهم في الاُم والمنافسة الطبيعية المترتبة على هذا الأمر. لهذا اجتمعوا فيما بينهم وتدارسوا الأمر وصمموا على المؤامرة{ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ}(4).

وحكموا على أبيهم من جانب واحد بقولهم:{إِن أبانا لفي ضلال مبين}.

إِن نار الحسد والحقد لم تدعهم ليفكروا في جميع جوانب الأمر ليكتشفوا دلائل علاقة الحبّ التي تربط يعقوب بولديه يوسف وبنيامين، لأنّ المنافع الخاصّة لكل فرد تجعل بينه وبين عقله حجاباً فيقضي من جانب واحد لتكون النتيجة «الضلال عن جادة الحق والعدل» وبالطبع فإنّ اتهامهم لأبيهم بالضلالة، لم يكن المقصود منها الضلالة الدينية، لأنّ الآيات الآتية تكشف عن اعتقادهم بنبوّة أبيهم، وإِنما استنكروا طريقة معاشرته فحسب.

ثمّ أدّى بهم الحسد الى أن يخططوا لهذا الأمر، فاجتمعوا وقدموا مقترحين وقالوا:{ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا ـ أرسلوه الى منطقة بعيدة ـ يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ}.

ومن الحق أن تشعروا بالذنب والخجل في وجدانكم لأنّكم تقدمون على هذه الجناية في حق أخيكم الصغير، ولكن يمكن أن تتوبوا وتغسلوا الذنب{ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ}.

وهناك احتمال آخر لتفسير هذه الآية هو أنّكم إِذا أبعدتم أخاكم عن عيني أبيكم يصلح ما بينكم وبين أبيكم وتذهب أتعابكم ويزول أذاكم من هذا الموضوع، ولكن التّفسير الأوّل أقرب للنظر!

وعلى كل حال فإنّ هذه الجملة تدلّ على إِحساسهم بالذنب من هذا العمل، وكانوا يخافون الله في أعماق قلوبهم، ولذلك قالوا: نتوب ونكون من بعده قوماً صالحين.

ولكن المسألة المهمة هنا هي أنّ الحديث عن التوبة قبل الجريمة ـ في الواقع ـ هو لأجل خداع «الوجدان» وإِغرائه وفتح الباب للدخول الى الذنب، فلا يعدّ دليلا على الندم أبداً.

وبتعبير آخر: إِنّ التوبة الواقعية هي التي توجِد بعد الذنب حالة من الندم والخجل للإِنسان، وأمّا الكلام في التوبة قبل الذنب فليس توبة.

وتوضيح ذلك أنّه كثيراً ما يقع أن الإِنسان حين يواجه الضمير و«الوجدان» عند الإِقدام على الذنب، أو حين يكون الإِعتقاد الديني سدّاً وحاجزاً أمامه يمنعه عن الذنب وهو مصمم عليه، فمن أجل أن يجتاز حاجز الوجدان أو الشرع بيسر، يقوم الشخص بخداع نفسه وضميره يأتي سوف أقف مكتوف اليدين بعد الذنب، بل سأتوب وأمضي الى بيت الله وأؤدي الأعمال الصالحة، وسأغسل جميع آثار الذنوب.

أي إِنّه في الوقت الذي يرسم الخطة الشيطانية للإِقدام على الذنب، يرسم خطة شيطانية أُخرى لمخادعة الضمير والوجدان ... وللإِعتداء على عقيدته! فإلى أيّ درجة تبلغ هذه الخطة من السوء بحيث تمكّن الإِنسان من تحقيق الجناية والذنب وكسر الحاجز الديني الذي يقف أمامه!!

إِنّ إِخوة يوسف دخلوا من هذا الطريق أيضاً.

المسألة الدقيقة الأُخرى في هذه الآية: أنّهم قالوا:{يخلُ لكم وجه أبيكم}ولم يقولون: يخلُ لكم قلب أبيكم، وذلك لأنّهم لم يطمئنّوا الى أنّ أباهم ينسى يوسف بهذه السرعة ... فيكفي أن يتوجه إِليهم أبوهم، ولو ظاهراً!

وهناك احتمال آخر لهذا التعبير، وهو أنّ الوجه والعينين نافذتان الى القلب، فمتى ما خلا الوجه لهم فإنّ القلب سيخلو ويتوجه إِليهم بالتدريج.

ولكن كان من بين الأُخوة من هو أكثر ذكاءً وأرق عاطفة ووجداناً، لأنّه لم يرض بقتل يوسف أو إِرساله الى البقاع البعيدة التي يُخشي عليه من الهلاك فيها ... فاقترح عليهم اقتراحاً ثالثاً، وهو أن يلقى في البئر{بشكل لا يصيبه مكروه) لتمرّ قافلة فتأخذه معها، ويغيب عن وجه أبيه ووجوههم، حيث تقول الآية في هذا الصدد{ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ...}.

المؤامرة المشؤومة!

بعد أن صوّب إِخوة يوسف إِقتراحَ أخيهم في عدم قتل يوسف، وإِلقائه في الجبّ، أخذوا يفكرون في كيفية فصل يوسف عن أبيه لذلك أقدموا على تخطيط آخر، فجاؤوا الى أبيهم بلسان ليّن يدعو إلى الترحم، وفي شكل يتظاهرون به أنهم مخلصون له وحدثوا أباهم و{قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ }.

تعال يا أبانا وارفع اليد عن اتهامنا، فإِنّه أخونا وما يزال صبياً وبحاجة الى اللهو واللعب، وليس من الصحيح حبسه عندك في البيت، فخلّ سبيله{ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ}(5).

وإِذا كنت تخشى عليه من سوء فنحن نواظب على حمايته{وإِنا له لحافظون}.

وبهذا الأسلوب خططوا لفصل أخيهم عن أبيه بمهارة، ولعلّهم قالوا هذا الكلام أمام يوسف ليطلب من أبيه إِرساله معهم.

وهذه الخطة تركت الأب ـ من جانب ـ أمام طريق مسدود، فإِذا لم يرسل يوسف مع إِخوته فهو تأكيد على اتهامه إِيّاهم، وحرضت ـ من جانب آخر ـ يوسف على أن يطلب من أبيه الذهاب معهم ليتنزّه كما يتنزه إِخوته، ويستفيد من هذه الفرصة لاستنشاق الهواء الطلق خارج المدينة.

أجل، هكذا تكون مؤامرات الذين ينتهزون الفرصة، وغفلة الطرف الآخر، فيستفيدوا من جميع الوسائل العاطفية والنفسيّة، ولكن المؤمنين ينبغي ألاّ ينخدعوا بحكم الحديث المأثور «المؤمن كيّس»(6) أي فطن ذكي فلا يركنُوا للمظهر المنمّق حتى لو كان ذلك من أخيهم.

ولكن يعقوب ـ دون أن يتهم إِخوة يوسف بسوء القصد ـ أظهر تردّده في إِرسال يوسف لأمرين: الأوّل: أنه سيبتعد عنه فيحزن عليه، والثاني: ربّما يوجد خارج المدينة بعض الذئاب المفترسة فتأكله، فاعتذر إِليهم و{ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ}.

وهذه المسألة طبيعية، حيث قد يبتعد إِخوة يوسف عنه فيغفلون عن أمره، فيأتي إِليه الذئب فيأكله.

وبديهي أنّ الإِخوة لم يكن لهم جواب بالنسبة للأمر الأوّل الذي أشار إِليه أبوهم يعقوب، لأنّ الحزن والإِغتمام على فراق يوسف لم يكن شيئاً عاديّاً حتى يعوّض عنه، وربّما كان هذا التعبير مثيراً لنار الحسَد في إِخوة يوسف أكثر.

ومن جهة أُخرى فإن هذا الموضوع الذي أشار إِليه يعقوب، وهو حزنه على ابتعاد يوسف عنه يمكن ردّه، وهو لا يحتاج الى بيان، لأنّ الولد لابدّ له من الإِبتعاد عن أبيه من أجل أن ينمو ويرشد، وإِذا أريد له أن يكون كنبات «النّورس» بحيث يبقى تحت ظل شجرة «وجود الأب» فإنّه سوف يبقى عالة عليه فلابدّ من هذا الإِبتعاد والإِنفصال حتى يتكامل ولده، فاليوم تنزّه وغداً اجتهاد ومثابرة لتحصيل العلم، وبعد غد عمل وسعي للحياة، وأخيراً فإِنّ الإِنفصال لابدّ منه.

لذلك فإِنّهم لم يجيبوه عن الشقّ الأوّل من كلامه، بل أجابوه عن الشقّ الثّاني لأنّه كان مهماً وأساسياً بالنسبة لهم إِذ{ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ}.

أي: أترانا موتى فلا ندافع عن أخينا، بل نتفرج على الذئب كيف يأكله! ثمّ إِضافةً الى علاقة الأخوة التي تدفعنا للحفاظ على أخينا، ما عسى أن نقول للناس عنّا؟ هل ننتظر ليقال عنّا: إنّ جماعة أقوياء وفتية أشداء جلسوا وتفرجوا على الذئب وهو يفترس أخاهم! فهل نستطيع العيش بعد هذا مع الناس؟!

لقدْ أجابوا أباهم بما تضمن قوله:{ أَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ}ومشغولون بلعبكم، كيف يكون ذلك؟ والمسألة ليست بهذه البساطة ... إِنّها الخسارة وذهاب ماء الوجه والخزي ... إِذ كيف يمكن لواحد منّا أن يشغله اللعب فيغفل عن أخيه يوسف، لأنّه في مثل هذه الحال لا تبقى لنا قيمة ولا نصلح لأي عمل.

ويبرز هنا سؤال مهم ... وهو: لماذا أشار يعقوب الى خطر الذئب من دون الأخطار الأُخرى؟!

قال البعض: إِن صحراء كنعان ـ كانت ـ «صحراء مذئبة» ومن هنا كان الخوف من الذئب أكثر من غيره.

وقال البعض الآخر: كان ذلك للرؤيا التي رآها يعقوب من قبل وهي أن ذئاباً هجمت على ولده يوسف.

وهناك احتمال آخر هو أن يعقوب أجابهم بلسان الكناية، والمقصود من الذئاب في كلامه هم الأناس المتصفون بصفة الذئب إِخوة يوسف.

وعلى كل حال فقد استطاع إِخوة يوسف بما أوتوا من الحيل، وبتحريك أحاسيس يوسف النقيّة وترغيبه الى التنزه خارج المدينة، وربّما كان الأوّل مرّة يتاح ليوسف أن يحصل على مثل هذه الفرصة ... استطاعوا أن يأخذوا يوسف معهم وأن يستسلم الأب لهذا الأمر فيوافق على طلبهم.

الكذب المفضوح:

وأخيراً إنتصر إِخوة يوسف وأقنعوا أباهم أن يرسل معهم أخاهم يوسف، فباتوا ليلتهم مطمئني البال بانتظار الصبح لتنفيذ خطتهم وإِزاحة أخاهم الذي يقف عائقاً في طريقهم ... وكان قلقهم الوحيد أن يندم أبوهم ويسحب كلامه ووعده بإِرسال يوسف معهم.

فجاؤوا صباحاً الى أبيهم فأمرهم بالمحافظة على يوسف، وكرر توصياته في شأنه، فأظهر الأبناء طاعتهم لأبيهم وأبدوا احترامهم الفائق ومحبتهم العميقة، وتحركوا الى خارج المدينة.

يقال: إِنّ أباهم ودعهم الى بوابة المدينة ثمّ أخذ منهم يوسف وضمّه الى صدره ودمعت عيناه، ثمّ أودع يوسف عندهم وفارقهم(7)، ولكن يعقوب كان يودعهم بنظراته، وكان إِخوة يوسف لا يقصرون عن مدارة أخيهم يوسف وإِظهار عنايتهم به ومحبتهم له طالما كانت تلاحظهم عينا أبيهم، ولكن ما أن غاب عنهم أبوهم واطمأنوا الى أنّه لا يراهم، حتى انفجرت عقدتهم وصبوا «جام غضبهم» وحقدهم وحسدهم المتراكم لعدّة سنوات على رأس يوسف، فالتفّوا حوله يضربونه بأيديهم ويلتجىء من واحد لآخر ويستجير بهم فلا يجيرهُ أحد منهم.(8)

نقرأ في رواية أنّ يوسف كان يبكي تحت وابل اللكمات والضربات القاسيّة، ولكن حين أرادوا أن يلقوه في الجبّ شرع بالضحك فجأة ... فتعجب إِخوته كثيراً وحسبوا أن أخاهم يظنّ الأمر لا يعدو كونه مزاحاً ... ولكنّه رفع الستار عن ضحكه وعلّمهم درساً كبيراً إِذ قال: ـ لا أنسى أنني نظرت ـ أيها الإِخوة ـ الى عضلات أيديكم القويّة وقواكم الجسدية الخارقة، فسررت وقلت في نفسي: ما عسى أن يخشى ويخاف من الحوادث والملمّات من كان عنده مثل هؤلاء الإِخوة، فاعتمدت عليكم وربطت قلبى بقواكم، والآن وقد أصبحت أسيراً بين أيديكم وأستجير بكم من واحد للآخر فلا أُجار، وقد سلطكم الله عليّ لأتعلم هذا الدرس، وهو ألاّ أعتمد وأتوكّل على أحد سواه ... حتى ولو كانوا إِخوتي.

وعلى كل حال فالقرآن الكريم يقول في هذا الصدد:{ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ}(9).

جملة «أجمعوا» تدلّ على أنّ جميع الإِخوة كانوا متفقين على هذه الخطّة، وإِن لم يتفقوا جميعاً على قتله.

وأساساً فإنّ كلمة «أجمعوا» مأخوذة من مادة «جمع» وهي في هذه الموارد إِشارة الى جمع الأراء والأفكار.

ثمّ تبيّن الآية أنّ الله أوحى الى يوسف وهدأ روعه وألهمه ألاّ يحزن فالعاقبة له، إِذ تقول:{ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}.

ذلك اليوم الذي تجلس فيه على العرش وأنت القوي الأمين، فيأتي إِخوتك ليمدّوا أيدي الحاجة إِليك، ويكونوا كالظامئين الى النبع العذب في الصحراء اللاهبة ويسرعون إِليك في منتهى التواضع، ولكنّك في حال من العظمة بحيث لا يصدّقون أنك أخوهم، وستقول لهم في ذلك اليوم: ألستم الذين فعلتم مع أخيكم الصغير يوسف كذا وكذا ... وكم سيكونون خجلين من فعلهم هذه في ذلك اليوم!

وهذا الوحي الإِلهي لم يكن وحي النبوة، بقرينة الآية (22) من السورة ذاتها، بل كان إِلهاماً لقلب يوسف ليعلم أنه ليس وحيداً، بل له حافظ ورقيب، وهذا الوحي بثّ في قلب يوسف نور الأمل وأزال عن روحه ظلمات اليأس والحيرة.

لقد نفّذ إِخوة يوسف خطتهم كما أردوا، ولكن ينبغي أن يفكروا عند العودة ماذا كيف كي يصدّق أبوهم أن يوسف إنتهى بصورة طبيعية لا عن مكيدة ليضمنوا عواطف أبيهم نحوهم.

وكانت الفكرة التي أوصلتهم الى هذا الهدف هي ما تخوّف أبوهم منه، فأقنعوه ـ ظاهراً ـ عن هذا الطريق مدّعين بأنّ الذئب قد أكل يوسف وجاؤوا إِليه بدلائل مزيّفة!!

______________________

1- تفسير الامثل ،مكارم الشيرازي ،ج6،ص230-246.

2-بحار الانوار،ج12،ص219ن وتفسير مجمع البيان،ذيل الاية مورد البحث.

3- المصدر السابق.

4 ـ «العصبة» معناها الجماعة المتفقون على الأمر، وهذه الكلمة معناها الجمع إِلاَّ لا مفرد لها من جنسها.

5-  «يرتع» من مادة «رتع» على وزن «قطع» ومعناه في الأصل رعي الأغنام والأنعام بصورة عامّة للنباتات وشبعها منها، ولكن قد يطلق هذا اللفظ (رتع، يرتع) ويراد به تنزّه الإِنسان وكثرة الأكل والشرب أيضاً.

6- بحار الانوار ،ج64نص307،ح40,. غرر الحكم ،ص89،ح1512.

7- بحار الانوار ج12،ص273، تفسير الصافي ، ج3،ص8, ذيل الآية 15 من سورة يوسف.

8- تفسير روح المعاني ج12،ص196، ذيل الآية 15 من سورة يوسف.

9-  في العبارة المتقدمة حُذف جوابُ «لما» والتقدير كما يلي: فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجبّ عظمت فتنتهم (تفسير القرطبي) ولعل هذا الحذف اقتضى لعظم هذه الحادثة المؤلمة أن يسكت عنه المتكلم، وهو بنفسه من فنون البلاغة العربية (تفسير الميزان).

 




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .



خلال الأسبوع الحالي ستعمل بشكل تجريبي.. هيئة الصحة والتعليم الطبي في العتبة الحسينية تحدد موعد افتتاح مؤسسة الثقلين لعلاج الأورام في البصرة
على مساحة (1200) م2.. نسبة الإنجاز في مشروع تسقيف المخيم الحسيني المشرف تصل إلى (98%)
تضمنت مجموعة من المحاور والبرامج العلمية الأكاديمية... جامعتا وارث الأنبياء(ع) وواسط توقعان اتفاقية علمية
بالفيديو: بعد أن وجه بالتكفل بعلاجه بعد معاناة لمدة (12) عاما.. ممثل المرجعية العليا يستقبل الشاب (حسن) ويوصي بالاستمرار معه حتى يقف على قدميه مجددا