المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
الاسرى النوبيون والسوريون.
2024-05-07
أعمال الوزير رخ مي رع.
2024-05-07
مخابز المعبد.
2024-05-07
واجبات الوزير رخ مي رع.
2024-05-07
رخ مي رع وعلاقته بمصانع آمون وضياعه.
2024-05-07
{الا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يـستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا}
2024-05-07

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


الصحافة  
  
910   02:06 صباحاً   التاريخ: 15-12-2019
المؤلف : عمر الدسوقي
الكتاب أو المصدر : في الأدب الحديث
الجزء والصفحة : ص :75-100ج1
القسم : الأدب الــعربــي / الأدب / الشعر / العصر الحديث /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-03-2015 2810
التاريخ: 24-03-2015 1745
التاريخ: 15-12-2019 592
التاريخ: 15-12-2019 565


وتعد الصحافة من أقوى عوامل النهوض بالشعب في عقليته، ولغته، وعلمه، والإصلاح الاجتماعيّ الذي يأخذ بيده صواب الكمال، وقد تحررت اللغة من آفاتها القديمة التي ورثتها عن عصور الانحطاط، ولا سيما السجع والمحسنات والزخرف اللفظيّ والركاكة، على يد الصحافة.
انقضى عصر محمد علي كما رأينا، وليس بمصر سوى صحيفةٍ واحدةٍ هي الوقائع المصرية، وكانت موضوعاتها قاصرةً على الأخبار الحكومية، ولغتها لا تكاد تستقيم من الركة، ولكننا نشاهد في عصر إسماعيل نهضةً جديدةً واسعةً, عظيمة الأثر في الصحافة.
سبق السوريون في بلادهم بإصدار صحف سياسية، وصدرت مرآة

(1/75)

الأحوال, بحلب سنة 1855، وإن لم تعمِّر أكثر من عام واحد، ثم صدرت حديقة الأخبار, ببيروت سنة 1858, وظلت تصدر حتى سنة 1909، وكانت يومًا لسان الحكومة الرسميّ، ثم خطت الصحافة خطوةً أوسع في سبيل الرقيّ بصدور الجوائب لصاحبها أحمد فارس الشدياق, بالآستانة سنة 1860, وقد طلعت على الناس بأسلوبٍ جديد في الكتابة العربية، وافتَنَّ صاحبها في تحريرها، وتخير موضوعاتها.
فجمعت بين السياسة والأدب بشتَّى ضروبه وأبوابه, بما في ذلك القصائد البليغة لكبار شعراء العربية، فذاعت، وأقبل الناس على قراءتها بشغفٍ بالغٍ، لم تدع بلدًا عربيًّا، بل إسلاميًّا إلّا دخلته, وقد سافرت كذلك إلى كثير من بلدان الغرب، واقتبسوا منها، وحكوا عنها، وظلت تعمل حتى سنة 1884، أما صاحبها:
أحمد فارس الشدياق:
هو من رواد النهضة الحديثة في الأدب، وممن سبق بفكره، وقلمه، وعلمه, أبناء زمانه لكثرة ما قرأ، وجرب ورأى بعينيه، وسمع بأذنيه؛ لأنه جاب بلادًا عديدة، وعرف لغاتٍ شتَّى، وأفاد مما رأى، ومما قرأ وعرف، فكان نادرةً من نوادر عصره.
وُلِدَ بقرية عشقون في لبنان سنة 1219هـ-1804م, من أسرة مارونية مشهورة, ثم انتقل والده إلى قرية "الحدث" بالقرب من بيروت، وتيتم فارس بن منصور "وعرف فيما بعد باسم: أحمد فارس الشدياق" وهو صغير، وكانت تتراءى عليه علامات النجابة؛ فأتقن صناعة الخط، وجعل ينسخ الكتب بنفسه، ولغيره, طلبًا للرزق.
وكان له أخٌ يسمى: "أسعد" على حظٍّ وفيرٍ من العلم والذكاء, وعليه تلقى فارس دروسه الأولى، وأفاد منه فائدةً جليلةً, ووجهه وجهةً صالحةً، وغرس في نفسه محبة العلم.
ثم اضهد "سعد" من بطريك المورانة، وسيم ألوانًا من العذاب، لتغيير

(1/76)

مذهبه المارونيّ إلى المذهب الإنجيليّ، حتى مات بأحد الأديرة, وهو في عنفوان شبابه, فأثر موته على فارس، وحزَّ في نفسه، فكره الإقامة ببلاد الشام، وأعلن سخطه على المارون، فجدّوا في أثره لينكلوا به، بيد أنه لجأ إلى المبشرين الأمريكيين ببيروت، فأحسنوا مقدمه، وبعثوا به إلى مصر ليعلم أعضاء بعثتهم فيها اللغة العربية.
وفي مصر, تعرف على الشيخ محمد شهاب, محرر الوقائع المصرية, فلازمه وقرأ عليه طائفة من كتب اللغة والأدب، وقرأ على غيره كتبًا في المنطق والنحو, حتى تمكَّن من سائر علوم العربية، وتقرَّب من كبار علماء مصر، ومن معية الخديوي، ثم أفسح له مجال الكتابة في الوقائع، فأخذ يدبج فيها المقالات الممتازة بأسلوبٍ جديدٍ لم يألفه المصريون من قبل، وهو الأسلوب المرسل الرصين، ثم أسند إليه تحرير الوقائع مدة.
وبعد ذلك سافر إلى "مالطة" سنة 1834, بدعوةٍ من الأمريكان، ليعلِّم في مدراسهم هنالك، فمكث بها أربعة عشر عامًا، عكف في أثنائها على التدريس، والتأليف، ونشر الكتب وتصحيحها، إلى أن طلبته جمعية ترجمة "التوراة" بلندن؛ ليساعد في التعريب والضبط والتنقيح، فسافر إليها سنة 1848، وأقام بها مدةً مكنته من تعلم اللغة الإنجليزية, وتعرف أحوال الإنجليز وبلادهم معرفةً دقيقةً، ثم سافر إلى باريس بعد أن نال الحماية البريطانية، وتجنس بالجنسية الإنجليزية.
وقد سجَّل رحلته إلى أوربا في كتابه "كشف المخبا عن أحوال أوربا", وقد ألَّفَ في أثناء مقامه بأوربا كتابه "الساق على الساق فيما هو الفارياق" والفارياق لفظ متقطع من "فارس الشدياق".
ولما زار باي تونس باريس، ووزَّع في فرنسا كثيرًا من الأموال على الفقراء, مدحه الشدياق بقصيدة طويلة حببته إليه, فاستدعاه للإقامة معه بتونس، وكان قد مدح السلطان عبد المجيد كذلك بقصيدةٍ طويلةٍ حسنت لديه، فاستدعاه للآستانة، ولكنه فضَّل الذهاب إلى تونس أولًا، فأرسل إليه "الباي" باخرةً حربيةً لحضوره عليها.
وقد وقعت بينه وبين شيخ الإسلام في تونس مجادلاتٍ في العقائد الدينية

(1/77)

أدت إلى اعتناقه الإسلام, وسمى نفسه: "أحمد فارس"، وتكنَّى "بأبي العباس"، وكان يقول في هذا.
"
لعمري ما كنت أحسب أن الدهر ترك للشعر سوقًا ينفق فيها، ولكن إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا لم يعقه عنه الشعر ولا غيره".
وتولَّى عند الباي أرفع المناصب، واشتهر اسمه، فطلبته الآستانة مرةً أخرى، فلبّى الدعوة، وهناك ألحق بديوان الترجمة، وتولّى الإشراف على التصحيح بدار الطباعة.
ويقال: إن الخديوي إسماعيل هو الذي أشار عليه في أثناء زيارته للآستانة بإنشاء "الجوائب" وكان معجبًا به، فقام بإنشائها سنة 1861، واشتركت فيها الحكومة المصرية بألفي نسخة.
وقد قدم مصر سنة 1866، وهو شيخ هرم، في عهد الخديوي توفيق، فقوبل بكل إجلالٍ وترحابٍ، واجتمع به كثيرون من الأدباء ورجال الصحافة، فبهرهم على الرغم من شيخوخته بتوقد قريحته، وسرعة بديهته، وحلاوة سمره وطلاوته، ورقة حاشيته, ورشيق عبارته، ثم عاد إلى الآستانة, فتوفي بها سنة 1887، ونقلت جثته إلى سوريا, ودفن بقرية الحازمية على مقربة من بيروت.
والشدياق من أوائل الذين اهتموا بالأبحاث اللغوية في العصر الحديث، وله كتاب "الجاسوس على القاموس"، وهو كذلك من أوائل الكُتَّاب المترسلين، الذين خاضوا في كل موضوع، وأفادوا الأدب واللغة بأبحاثهم ومقالاتهم، وله عدة كتبٍ, كان لها في زمانه وبعد زمانه شأن يذكر، منها:
1- "
الواسطة في أحوال مالطة" وقد وصف فيه هذه الجزيرة وصفًا دقيقًا, وأبان فيه عن أصل اللغة التي ينطق بها زهلها، وبيَّنَ أنها اللغة العربية شيبت بلهجات الغزاة الفاتحين وألحانهم.
2- "
كشف المخبا عن أحوال أوربا" فَصَّلَ فيه سياحته في بلاد الإنجليز

(1/78)

وغيرها من الأقطار الأوربية، ووصف عادات الإنجليز وآدابهم، وأخلاقهم، وتاريخ تمدينهم, وسر تقدمهم بأسلوبٍ شائقٍ طليّ.
3- "
الساق على الساق فيما هو الفارياق" وهو كتابٌ ممتعٌ، سيق في أسلوبٍ قصصيٍّ, وذكر فيه تاريخ حياته، وأحوال الخاصة، وما عاناه في دهره، وفي معركته مع الحياة والأيام، وخلط فيه الجد بالهزل، والسجع بالترسل، والعلم بالأدب، وأغرب فيه وأطرب، وذهب في تدبيجه وصياغته كل مذهب، طبع بباريس 1855.
4-
سر الليالي في القلب والإبدال.
5- "
الجاسوس على القاموس" وضعه لاستدراك ما فات الفيروز آبادي في قاموسه, وما وَهِمَ فيه من الألفاظ، وهو مطبوع.
6- "
منتهى العجب في خصائص لغة الأدب"، في أسرار اللغة، وخصائص الحروف ومدلولاتها، ولكنه ذهب فريسة النار، وهو بعد مخطوط لم يطبع.
7- "
الجوائب" وقد اشتركت فيها مصر بألفي نسخة، وكان باي تونس يمدها بخمسمائة جنيه سنويًا، وتلقت مثل هذه الإعانة من السلطان عبد العزيز، وكانت تصدر أسبوعيًّا، وقد نالت شهرةً عظيمةً -كما ذكرنا آنفًا، وهي الجريدة الوحيدة التي جاهرت بالدفاع عن الخديوي إسماعيل في دار الخلافة, حينما خلع سنة 1879، ورثته يوم وفاته، ولم يخش سطوة الحكومة العثمانية، ويقال: إن السفارة الإنجليزية بالآستانة دفعت لصحابها ألف جنيه، نظير إذاعة المنشور الذي أصدره الباب العالي, فيه عصيان عرابي باشا سنة 1882، وأن ذلك كان من أسباب إخفاق عرابي.
وقد جمع سليم بن أحمد فارس منتخبات من الجوائب ونشرها في سبعة أجزاء.
8-
لأحمد فارس كتب مدرسية كثيرة منها: الباكورة الشهية في نحو اللغة الإنجليزية، والسند الراوي في الصرف الفرنساوي، واللفيف في كل معنى طريف.
9-
وله ديوان شعر لم يطبع.

(1/79)

وقد عُنِيَ الشدياق -كما رأينا من مؤلفاته- بالأبحاث اللغوية, ومن ذلك كتابه "الجاسوس على القاموس" الذي حاول فيه أن يستدرك على صاحب "القاموس" ما جاء في معجمه من قصورٍ وإبهامٍ وإيجازٍ وريهامٍ وعسرٍ في مراجعة الأفعال ومشتقاتها، وذلك بأن يؤلف في اللغة كتابًا سهل الترتيب, واضح التعاريف، شاملًا للألفاظ التي استعملها الأدباء والكُتَّاب, وكل من اشتهر بالتأليف.
وقد دعاه إلى ذلك أمران:
أولهما: مزاحمة اللغات الأجنبية للغة العربية واللسان؛ فكادت تجلي عنه أهله، وتحجب عنهم ظله، وتحبس وابله وطله؛ لأن ترتيب كتب لغاتهم أسهل, والوصول إليها أعجل، ولا سيما أنها قليلة المشتقات، وليس في تعريف ألفاظها كبير اختلاف في الروايات، أما من يتعاطون من التجارة، ويحملون عبء الإمارة، فإنهم يزعمون أن اللغة العربية لا تصلح في هذا الزمن لهاتين الخطتين, فلابد بكلام الأجانب وإن أدى إلى الحطتين، فمن ثَمَّ مست الحاجة إلى زيادة تفصيل لمفردات لغتنا ومركباتها، وتبيين لأصولها من متفرعاتها ... إلخ".
وثانيهما: رغبة في حَثِّ أهل العربية على حب لغتهم الشريفة، وحَثِّ أهل العلم على تحرير كتابٍ فيها, خالٍ من الإخلال، مقرب كما يطلبه الطالب منها دون كلال، فإني رأيت جميع كتب اللغة مشوشة الترتيب، كثر ذلك أو قلّ, وخصوصًا كتاب "القاموس" الذي عليه اليوم المعول".
وقد أثار في هذا الكتاب موضوعاتٍ لا تزال موضع بحثٍ حتى يومنا هذا، وقد حاول في غير هذا الكتاب أن يدافع عن اللغة العربية, وأن يعمل على تزويدها بالمصطلحات الفنية، فهو في الوقت الذي يمتدح فيه اللغة العربية لسهولة ألفاظها ووضوحها, نراه يعترف بأن مفردات العربية غير تامةٍ فيما يتعلق بما استحدث بعد العرب الذين وضعوا اللغة من فنون وصناعات، مما لم يكن يخطر ببالهم، ولكن ذلك في رأيه مما لا يشين اللغة؛ إذ لا يحتمل أن واضع اللغة يضع أسماء لمسمياتٍ غير موجودة, وإنما الشين علينا الآن في أن نستعير هذه الأسماء

(1/80)

الأجنبية, على قدرتنا على صوغها من لغتنا، على أن أكثر هذه الأسماء هو من قبيل اسم المكان أو الآلة، وصوغ اسم المكان والآلة في العربية مطرد من كل ثلاثي".
وقد حثَّ على استخدام "النحت" والإكثار منه؛ لإثراء اللغة كما فعلت اللغات الأجنبية الأخرى، وذلك حتى نستغني عن استعمال الدخيل.
ومن روائع أدبه قوله يصف مصر في كتابه "الساق على الساق":
"
ومن خواصِّها أن أسواقها لا تشبه رجالها ألبنه، فإن لأهلها لطافة وظرافة، وأدبًا وكياسة وشمائل، وأخلاقًا زكية, وأسواقها عارية عن ذلك رأسًا.
ومنها: أن العالم عالم، والأديب أديب، والفقيه فقيه، والشاعر شاعر، والفاسق فاسق، والفاجر فاجر، ومن ذلك أن البنات اللائي يستخدمن في "الميرى" لحمل الآجر, والجبس, والتراب، والطين, والحجر, والخشب، وغير ذلك، يحملنه على رءوسهن، وهن فَرِحَات، جامحات، سابحات، صادحات، مادحات، وغير ترحات، ولا دالحات(1)، ولا رازحات، ولا كالحات، ولا نائحات، ومن كان نصيبها من الأجر نظمت عليه "موالًا" أجيرًا، أو من الجبس غنت له أغنية جبيسةً، كأنما هن سائرات في زفاف عروس.
ومن ذلك أن "الرنيطة" فيها تَنْمِي وتعظم، وتغلظ وتضخم، وتتسع وتطول، وتعرض وتعمق، فإذا رأيتها على رأس لابسها حسبتها "شونة"(2)، قال "الفارياق": وكثيرًا ما كنت أتعجب من ذلك وأقول: كيف صح في الإمكان، وبدا للعيان أن مثل هذه الرءوس الدميمة, الضيئلة الذميمة، الخسيسة اللئيمة، المستنكرة المشئومة، المستقذرة المهوعة(3) المستقيمة المستفظعة، المستسمجة المستشنعة، والمسترزلة المستبشعة.
(1/81)

هواء مصر، وكبرها إلى هذا المقدار، وقد طالما كانت في بلادها لا تساوي قارورة الفراش، ولا توازن ناقورة الفرَّاش، وكيف كانت هناك كالتراب، فأصبحت هنا كالتبر؟ يا هواء مصر، يا نارها، يا ماءها، يا ترابها(4) صيري طربوشي هذا "برنيطة"، وإن يكن أحسن منها عند الله والناس وأفضل، وأجمل وأمثل، وللعين أبهى وأكمل, وعلى الرأس أطبق, وبالجسم أليق.. قال: فلم يغن عني النداء شيئًا، وبقي رأسي مطربشًا، وطرف دهري مطرفشًا(5).
ومن خصائصها أيضًا أن البغاث بها يستنسر، والذباب يستصقر، والناقة تستبعر، والجحش يستمهر، والهر يستنمر، بشرط أن تكون هذه الحيوانات مجلوبة إليها من بلاد بعيدة.
ومن ذلك أن كثيرًا من أهلها يرون أن كثيرة الأفكار في الرأس يكثر عنها الهموم والأكدار, أو بالعكس، وأن العقل الطويل يتناول البعيد من الأمور, كما أن الرجل الطويل يتناول البعيد من الثمر وغيره, وأن تلك الكثرة سبب في الإقلال، فما دام النور موقدًا، فلابد أن تفقد الفتيلة، ولا يمكن إبقاؤها إلّا بإطفاء النور، أو كالماء في الوادي, فإذا دام الماء جاريًا فلابد أن ينصب في البحر، فمتى حقن بقي، أو كالفلوس في الكيس، فما دام المفلس أي: صاحب الفلوس يمد يده إلى كيسه، وينفق منه, فني ما عنه, إلّا أن تربط يده عن الكيس، أو يربط الكيس عن يده، فمن ثَمَّ اصطلحوا على طريقةٍ لتوقيف جريان العقل في ميدان الدماغ حينًا من الأحيان، ليتوفر لهم في غيره، وذلك بشرب شيء من الحشيش، أو بمضغه، أو بالنظر إليه، أو بذكر اسمه، فحين يتعاطونه تغيب عنهم الهموم، ويحضر السرور، وتولي الأحزان، ويرقص المكان".
(1/82)

وفي الحق لم يدع أحمد فارس شيئًا من أهل مصر وعاداتهم إلّا وصفه وصفًا دقيقًا بذلك الأسلوب المرح، وهذا التهكم المحبوب، وله نظراتٌ نافذاتٌ حين يتكلم على الأجانب, وكيف صار لهم الحول والسلطان، مع أنهم كانوا في بلادهم أفاقين مفلسين، وحين يعبِّر عن فلسفة الحشاشين، وكيف يعملون جادين مخلصين على تغييب العقل، وهو الذي يهدي الإنسان سواء السبيل.
وأنت ترى في أسلوبه السجع، والترسل، والسهولة، والتوعر، والكلمات العامية، والكلمات الغريبة التي لا تستعمل إلّا في المعاجم، وكأنه قصد إلى إحيائها، وكما كان يفعل أصحاب المقامات، لولا طرافة الموضوع، وصدق الوصف، ومما يلفت الأنظار في أدب أحمد فارس أنه كان قوي الملاحظة، معنيًّا بأحوال الشعوب وطرق حياتهم، والموازنة بين الشعوب التي زارها, والشعوب العربية، وله فصولٌ ممتعة في كتابه "الساق على الساق" عن الإنجليز وبلادهم، والفرنسيين وأحوالهم، ومما قاله في الموازنة بين الأدب الغربيّ والعربيّ قوله:
"
فإنهم أول ما يبتدئون المدح يوجهونه إلى المخاطب، ويجعلونه ضربًا من التاريخ، فيذكرون فيه مساعي الممدوح، ومقاصده, وفضله على مَنْ تقدَّمَه من الملوك, بتعديد أسمائهم, ولما ترجم "مسيو دوكان" قصيدتي التي مدحت بها المرحوم أحمد باشا, والي تونس, وطبعها مع الترجمة، كان بعضهم يسألني "هل اسم الباشا "سعاد"؟ وذلك لقولي: "زارت سعاد وثوب الليل مسدول" فكنت أقول: لا، بل هو اسم امرأة, فيقول السائل: "وما مدخل المرأة بينك وبين الباشا؟ " وهو في الحقيقة أسلوب غريب للعرب، قال العلامة الدسوقي: "اعلم أنه قد جرت عادة الشعراء أنهم إذا أرادوا مدح إنسانٍ أن يذكروا قبله الغزل؛ لأجل تهييج القريحة وتحريك النفس للشعر، والمبالغة في الوصف، وترويح النفس ورياضتها" قلت: كما أن الإفرنج ينكرون علينا هذه العادة، كذلك ينكرون المبالغة في وصف الممدوح, وأما تشبيهه بالبحر والسحاب والأسد، والطود، والبدر، والسيف، فذلك عندهم من التشبيه المبتذل، ولا يعرضون له بالكرم، وبأن عطاياه تصل إلى البعيد، فضلًا عن القريب، فهم إذا مدحوا ملوكهم، فإنما يمدحونهم للناس، لا لأن يصل مدحهم إليهم".

(1/83)

ومن فكاهاته التهكمية، ونقداته اللاذعة, ما قاله عن علم النحو وتعلمه، قال أحد التلميذين: ألا قبحًا لذوي الخواطر البليدة، والفطن البعيدة، وكيف لا يتعلم الناس كلهم فن النحو، وهو أسهل من حك ما تحت الحقو، أما والله لو كانت العلوم كلها مثله، لما غادرت منها كبيرًا ولا صغيرًا إلّا استوعبته كله، ولكني سمعت أن النحو إنما هو مفتاح العلوم، ولا يعد منها فلابد أن يكون غيره أصعب منه.
فقال له معلمه: لا تقل هكذا, بل النحو أساس العلوم، وكل العلوم مفتقرة إليه افتقار البناء إلى الأساس، ألَا ترى أن أهل بلادنا لا يعلمون سواه، ولا يعرجون على غيره؟ وعندهم أن من تَمَكَّن منه, فقد تَمَكَّن من معرفة خصائص الموجودات كلها, ولذلك لا يؤلفون إلّا فيه, وإنما يحصل فيه خلاف بنيهم في تقديم بعض الأبواب على بعض، وفي توضيح ما كان مبهمًا منه بأدلةٍ وشواهد، واختلفوا أيضًا في الشواهد، فمن قال إنها مفتعلة، ومن قائل إنها ضرورة أو شاذة، بيد أن المآل واحد، وهو أن العالم لا يسمى عالمًا إلّا إذا كان متمكنًا من النحو, مستقصيًا لجميع وقائعه، ولا يكاد يستتب أمر إلّا به, ولو قلت مثلًا: ضرب "زيد عمرو" من غير رفع زيد, ونصب عمرو، فما يكون ضربه حقًّا، ولا يصح الاعتماد على هذا الإخبار، فإن حقيقة فعل الضرب متوقفة على علم كون زيد مرفوعًا، وجميع اللغات التي ليس فيها علامات الرفع, فهي خالية عن الإفادة التامة، وإنما يفهم الناس بعضهم بعضًا من دون هذه العلامة, عن دربة واتفاق، فلا معول على كتبهم وإن كثرت، ولا على علومهم وإن جلت".
وأخذ المعلم يثني على النحو ثناءً عظيمًا، ويبين أنه هداه إلى مسألةٍ حار فيها حيرةً عجيبةً، فسأله تلميذه: وما هذه الفائدة يا أستاذي؟ قال: قد طالما كان يخامرني الريب في قضية خلود النفس، فكنت أميل إلى ما قالته الفلاسفة، ومن أنه كل ما كان له ابتداء فهو متناهٍ، فلما رأيت النحو له ابتداء، وليس له انتهاء قست النفس عليه فزال عني والحمد لله ذلك الإبهام" وفي هذا الكلام لذعات حادة للنحاة لا تخفى على اللبيب.

(1/84)

وهكذا نجد أحمد فارس في كل ما كتبه يخلط الجد بالهزل، ويتهكم تهكمًا مريرًا على الأوضاع التي لا تروقه، وقد قال عن كتابه "الساق على الساق فيما هو الفارياق":
هذا كتابي للظريف ظريفًا ... طلق اللسان وللسخيف سخيفًا
أودعته كلمًا وألفاظًا حلت ... وحشوته نقطًا زهت وحروفًا
وبداهةً وفكاهةً ونزاهة ... وخلاعةً، وقناعةً وعزوفًا
كالجسم فيه كل عضوٍ تعشق الـ ... مستور منه وتحمد المكشوفا
فصلته لكن على عقلي فما ... مقياس عقلك كان لي معروفًا
وقد وضع أحمد فارس كل تجاربه وعلمه وفنه، وقلمه الظريف القوي المتمكن من مختلف أساليب اللغة في إخراج "الجوائب" فكانت من الصحف الأولى في العالم، وله يرجع فضل السبق في تعبيد العربية وتذليلها بأسلوبه المرسل الطليق، كما أنه من أوائل الذين مُلِئَت قلوبهم بغضًا للأجانب, فهم عن حق أغراضهم الدنيئة، وسلقهم بلسان حاد، وحَرَّضَ على إخراجهم من ديار العرب والشرق, وقد خَصَّ مصر بحبٍّ وفيرٍ، وكان مثلًا في الصحافة انتهجه المصريون، وحذوا حذوه, فلا بدع أن كان من رواد النهضة الحديثة.
كل ذلك حفَّزَ المصريين إلى الاهتمام بالصحافة، ووجدوا من إسماعيل صدرًا رحبًا للنقد السياسيّ, اللهم إلّا ما يمس شخصه، فلصحابه الويل والثبور كما حدث لمدير الأهرام سنة1889، حين أشار إلى مالٍ صرف من الخزينة، ولم يعلم مصيره، وكاد إسماعيل يبطش به، وبجريدته, لولا أن ارتمى في حضن فرنسا فحمته، كما وجدوا إسماعيل تشجيعًا للحركة الأدبية, وميلًا للأدب والفن والعلم, ومن الصحف المصرية التي ظهرت في عهد إسماعيل:
1 -
مجلة اليعسوب:
وهي أولى هذه الصحف المصرية، وهي مجلةٌ طبيةٌ أصدرها الدكتوران: محمد علي البقلي، وإبراهيم الدسوقي، وكانت شهرية عربية اللغة، وهذا يدلنا على عظم المحاولة التي ان يبذلها أطباء البعثات العلمية في تذليل اللغة العربية للمصطلحات العلمية, والاستعانة بالكتب القديمة، وبوضع كلمات من عندهم-

(1/85)

على سبيل الاشتقاق- ولقد كانت هذه المجلة الأولى من نوعها في الشرق، ولكنها للأسف لم تعمِّرْ طويلًا، ومنها نماذج بدار الكتب, وكان ظهورها سنة 1865.
2-
مجلة روضة المدارس:
أنشأها العلامة علي مبارك سنة 1870, حين كان وزيرًا للمعارف المصرية، وهي من أجلِّ أعماله خدمةً للغة والأدب، وكانت الوزارة تتولى إصدارها والإنفاق عليها، وقد أسست لإحياء الآداب العربية، ونشر المعارف الحديثة, وأسندت رئاسة تحريرها للعالم الأديب رفاعة الطهطاوي، فقد رأى علي مبارك أن رفاعة أجدر الناس أن يتولى الإشراف على روضة المدارس، وفي ذلك يقول: "لما كان حضرة رفاعة بك ناظر قلم الترجمة بديوان المدارس، وهو المشار إليه بين أرباب المعارف بالبنان، والمعترف بدرجة فضله الرفيعة كل إنسان، ناسب أن يجعل هذه الصحيفة تحت نظارته، لتتحلى من معلوماته بالدر الثمين، وينشر علمها، فيتلقاه محب المعارف باليمين".
وقد صَدَّرَ رفاعة بك أول عدد منها بمقالٍ بَيَّنَ فيه الهدف الذي تسعى إليه المجلة، والخطة التي تسير عليها لبلوغ هذا الهدف، ومما جاء في هذا المقال قوله: "بحيث تكون فيها الفوائد المتنوعة، والمسائل المتأصلة والمتفرعة، أقرب تناولًا للمطلع المستفيد، وأسهل مأخذًا لمن يعانيها من قريب الفهم والبعيد، بقلم سهل العبارة، واضح الإشارة، وألفاظٍ فصحيةٍ غير حوشيةٍ، ولا متجسمةٍ لصعب التراكيب، ومعانٍ رجيحة تنفرط في سلك مستحسن الأساليب".
وقال: "وقد تنزهت صحيفتنا هذه مما سوى ما يخص نشر فائدة علمية، ومحمدة أثرية, مما يقع عليه الاختيار, ولا ضرر فيها ولا ضرار، فليس من وظائفها تقييد الأحوال السياسية الوقتية، والأفعال الرئاسية والإدارية".

(1/86)

ومن الذين أسهموا في تحرير المجلة: عبد الله فكري, الذي أحيلت عليه العلوم العربية والفنون الأدبية, و"بروكش" ناظر مدرسة اللسان المصريّ القديم, وخُصَّ بالتاريخ، وإسماعيل الفكلي, وعُهِدَ إليه بالفلك، ومحمد قدري, وخُصَّ بالجغرافية والأخلاق والعقائد، وأحمد ندا, وعُهِدَ إليه ببيان المواد النباتية، والشيخ عثمان مدوخ، وطُلِبَ منه إمداد المجلة بغرائب النوادر والمضحكات والألغاز والأحاجي والنكات، وأُحِيلَ على مباشر تحريرها الكلام على محروسة مصر القاهرة، وذكر أخطاطها وشوارعها، وأُحِيلَت كافة العلوم الرياضية على مدرسي المدارس، وما يراد منه في القابل، ويذكر اسم صاحبه حتى لا يضيع عمل عامل(5).
وقد ضُمَّ إلى هيئة التحرير بعد إنشائها السيد مجدي, وكيل ديوان المدراس، والشيخ حسونة النواوي, مدرس الفقه وعلم الكلام بمدرسة الألسن, وصار فيما بعد شيخًا للأزهر, وأسنتدت مباشرة تحريرها وترتيب مقالاتها على علي فهمي ولد رفاعة "بك"، وكان مدرس الإنشاء بمدرسة الإدارة والألسن، واتخذت المجلة شعارها:
تعلم العلم واقرأ ... تحز فخار النبوة
فالله قال ليحيى ... "خذ الكتاب بقوة"
فكانت هذه المجلة ميدانًا يتبارى فيه فطاحل الكتاب في ذلك العصر، وقد عنيت -كما رأيت- بالمباحث الطريفة في العلم والأدب والاجتماع والفلك والتاريخ والرياضيات، وكانت تصدر مرتين في الشهر، وظلت تصدر ثماني سنوات، فمهدت السبيل للصحافة الحديثة، وكانت توزع بالمجان على جميع التلاميذ، وقد أفسحت أعمدتها للطلبة ينشرون أبحاثهم الجيدة فيها, فعودتهم بذلك الاطلاع والكتابة والبحث، وبذل الجهد المستقل عن أساتذتهم.
ومن الأمثلة على تشجيع المجلة للتلاميذ ما نشرته "للشاب النجيب، إسماعيل أفندي صبري, أحد تلاميذ مدرسة الإدراة وقتئذ", وقد صار فيما بعد الشاعر المشهور إسماعيل "باشا" صبري.
(1/87)

فمن ذلك قصديته في مدح الخديو إسماعيل, بالعدد العشرين من السنة الأولى, مطلعها:
سفرت فلاح لنا هلال سعود ... ونما الغرام بقلبي المعمود
وقصيدة أخرى, بالعدد الخامس من السنة الثانية, قال فيها:
أغُرَّتُك الغراء أم طلعة البدر ... وقامتك الهيفاء أم عادل السمر
وشعرك أم ليل تراخى سدوله ... وثغرك أم عقد تنظم من در
وقصيدة أخرى, بالعدد الثالث والعشرين من السنة الثانية, استهلَّها بقوله:
لا والهوى العذري والوجد ... عذل عذولي فيك لا يجدي
إني مع الصد وطول الجفا ... باقٍ على الميثاق والعهد
وغير ذلك ما يعد تقدمي وباكورة للشعر الحديث(6).
3-
أما الصحف السياسية بمصر: فأقدمها ظهورًا جريدة "وادي النيل" أنشأها الكاتب الأديب الشاعر عبد الله أبو السعود(7), وكانت تصدر مرتين في الأسبوع على شكل المجلات, ثم ألغتها الحكومة في سنة 1883، بيد أنها استأنفت جهادها وحياتها باسم جديد هو "روضة الأخبار" التي أصدرها محمد أنسي, نجل عبد الله أبي السعود، وكان والده يحرر القسم السياسيّ بها إلى آخر حياته.
4-
وتليها في الظهور جريدة "نزهة الأفكار" سنة 1869, لمنشئها إبراهيم المويلحي، ومحمد عثمان جلال، وناهيك بهما في ذلك العصر فحولة قلم، وجزالة أسلوب, وطرافة موضوع, وحلاوة نكتة، وكانت هذه الجريدة أسبوعية، ولكن لسوء الحظ لم يصدر إلّا عددان، وضاق بها إسماعيل ذرعًا، فعطلها حين نصحه بذلك أحد وزرائه خشيةَ أن تثير لهجتها الخواطر ضده.
(1/88)

5- وأنشأ بعض الأقباط بمصر في سنة 1877، جريدة "الوطن"، وكانت سياسيةً وطنيةً تميل إلى التحرر, ثم نزح عقب حوادث سنة 1860, في سوريا(8) جماعةٌ من الأدباء الذين فروا بحريتهم من الاضطهاد، وجاءوا وقلوبهم تغص بالحقد والإحن على تركيا، وفي نفوسهم ميل إلى الحرية, والتنفيس عن الآراء المكبوتة, وقد شجعهم إسماعيل على الإقامة بمصر، والإسهام في نهضتها، ولا نستطيع أن ننكر ما أسدوه للصحافة ولنشر الثقافة من خدمات.
ومن أوائل الذين وفدوا إلى مصر عقب هذه الحوادث الدامية:
أديب إسحق:
وهو فلتة من فلتات الزمن, استطاع مع حداثة سنه أن يتوهج في سماء الأدب والسياسة والخطابة نجمًا ساطعًا، وأن يكون مدرسةً إنشائيةً يحتذيها الآباء والخطباء، وكان من الذين امتلأ قلوبهم بحب مصر والشرق، ورأى الأجانب الطامعين، والمرتزقة والأفاقين، فأضرمها عليهم نارًا مشبوبة، لا تخمد لها جذوةٌ في كل مكان حلَّ به، وقد ارتحل وشُرِّدَ في سبيل مبدأه, وفيض وطنيته, وحرارة أسلوبه, حتى احترق صغيرًا ومات, ولما ينته العقد الثالث من عمره.
ولد أديب إسحق سنة 1856, من أبوين سوريين, ونشأ بلبنان، وتعلم العربية والفرنسية في مدرسة الآباء العازاريين، واضطر إلى الكدح في سبيل بريد بيروت, وقد ظهرت ميوله الأدبية في حداثته, فعهد إليه وهو في السابعة عشرة بتحرير جريدة "التقدم".
وكان إلى عمله الصحفيّ يترجم عن الفرنسية ويؤلف، وانتمى إلى جمعية "زهرة الآداب", ثم صار رئيسًا لها فيما بعد, وقد ترجم "أندروماك" لراسين، وساعد صديقه "سليم نقاش" في تأليف المسرحيات، وتمثيلها، ولحق به في الإسكندرية.
(1/89)

وكانت فرقتهما التمثيلية من أوائل الفرق العربية, وعرف أديب رواية "شارلمان" وأعجب بها المصريون إعجابًا عظيمًا(9) وألف رواية "غرائب الاتفاق".
وحَنَّ إلى الصحافة فذهب إلى القاهرة، واتصل بالسيد جمال الدين الأفغاني, وأنشأ هو وصديقة سليم نقاش جريدة "مصر" سنة 1877، وكانت أسبوعيةً، وقد تأثرا فيها بتعاليم جمال الدين الأفغاني, وأسلوبه الملتهب، أنشآها وهما مفلسان لا يملكان غير عشرين "فرنكًا" بيد أن أسلوبها وقوة بيانها، وجدة أفكارها، ودعوتها الجريئة للحرية، قد ضمنت لها الإقبال، والرواج، ورحَّبَ بها الذين يحبون القلم القويّ، والأسلوب الجزل, والأفكار الجريئة، واندفع كاتبها كالبركان يرسل نارًا، ونورًا، وينفس عن نفسه ما طالما كبت فيها وهو ببيروت، وما ذاقه وقومه من اضطهادٍ وظلمٍ على أيدي الأتراك، فحركت الهمم وأعادت للأسلوب الرفيع عزته.
وقد وجد أديب إسحاق, وسليم نقاش في رواج مصر, ما شجعهما على إصدار جريدة يومية سمياها "التجارة"، وكانت لا تقل عن أختها حماسةً وقوةً، ونشر فيها جمال الدين الأفغاني بعض المقالات، تارةً ممهورة بتوقيعه، وتارة بتوقيع مستعارٍ، وقد ألغاهما رياض باشا سنة 1880.
ولكن ذلك لم يثن من عزيمة "أديب إسحاق" فهاجر إلى باريس، واستأنف جهاده, وإصدر ثمة جريدة "القاهرة" بالعربية, وقال في مقالها الأول: "ما تغيرت الحقيقة بتغير الاسم، بل هي مصر خادمة مصر".
وقد حرص في أثناء مقامه بباريس على معرفة عدد كبير من ساسة فرنسا وعلمائها, حتى روى فيكتور هوجو أنه قال لمن كانوا في حضرته، على أثر انصراف أديب: "هذا نابغة الشرق", ولكن برد باريس، وإسرافه على نفسه في كل شيء, قد جنى على صدره، فرجع إلى لبنان ملتمسًا الشفاء، وعاد إلى تحرير جريدة "التقدم" مرة أخرى.
(1/90)

وحين تغيرت الأحوال في مصر, دُعِيَ إليها، وعُيِّنَ مديرًا لقلم الإنشاء والترجمة بوزارة المعارف، وسُمِحَ لجريدة مصر بالظهور، وشغل وظيفةً أخرى بجانب وظيفته الأولى؛ حيث عُيِّنَ كاتب سر مجلس شورى القوانين، وحين قامت الثورة العرابية واشتد لظاها, عاد إلى بيروت, ثم رجع إلى الإسكندرية، ثم اشتد به مرض الصدر، فعاد إلى لبنان؛ حيث مات بقرية الحدث بالقرب من بيروت, وهو في التاسعة والعشرين من عمره سنة 1885, وهي قريبة من القرية التي دفن فيها أحمد فارس الشدياق، وهكذا جمع الموت بين علمين من أعلام النهضة الحديثة, ورواد الفكر والأدب الجديد.
وكان أديب إسحاق نارًا مسلطة على الاستعمار، والذل والعبودية، وقد التقى بجمال الدين فزادت حماسته واضطرمت النار في فؤاده، فأخرجها شواظًا ملتهبًا في كلماتٍ تصب الحمم على الأعداء، وتثير الهمم الفاترة. لقد نادى بوجوب اتحاد الأمم العربية، فسبق زمنه قرنًا, أو ما يقرب من قرنٍ، وفي ذلك يقول: "ما ضر زعماء هذه الأمة لو سارت بينهم الرسائل بتعيين الوسائل، ثم حشدوا إلى مكانٍ يتذاكرون فيه ويتحاورون، ثم ينادون بأصواتٍ متفقة المقاصد كأنها من فمٍ واحد, قد جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة، وهبت الحاصبة، تليها العاصفة، فذرت حقوقنا فصارت هباءً منثورًا، ولمت بناء القارعة، ووقعت الواقعة، فصرنا كأن لم نغن بالأمس، ولم نكن شيئًا مذكورًا، فهل ننشد الضالة، ونطلب المنهوب، لا تقوم بأمر ذلك فئة بدون فئة، ولا نتعصب لمذهب دون مذهب، فنحن في الوطن إخوان، وتجمعنا جامعة اللسان، وكلنا وإن تعدد الأفراد إنسان.
أيحسبون أن ذلك الصوت لا يكون له من صدًى، أم يخافون أن يذهب ذلك الاجتهاديّ سدًى، أم لا يعلمون أن مثل هذا الاجتماع، منزهًا عن المقاصد الدينية، منحصرًا في العصبية الجنسية والوطنية، مؤلفًا من أكثر النحل العربية, يزلزل الدنيا اضطرابًا، ويستميل الدول جذبًا وإرهابًا، فتعود للعرب الضالة التي ينشدون، والحقوق التي يطلبون، ولا خوف على زعمائهم ولا هم يحزنون".

(1/91)

إن هذا ولا ريب تفكير مشرق، وقلب يتجه الاتجاه السليم, الذي يجب أن تسير فيه الأمة العربية منذ أن رأت الغرب الجشع يطمع، ويحد براثنه لينهشها الواحدة تلو الأخرى، ولو فعلت ذلك من أواسط القرن التاسع عشر ما أصابها اليوم ما أصابها.
وكان أديب ممن يعشق حرية الرأي وينادي بالدستور، وقد كتب مقالًا يرد فيه على الشيخ حمزة فتح الله, محرر جريدة "البرهان" في سنة 1881, حين دعا الشيخ إلى حكم الفرد يوم افتتاح مجلس النواب، فقال له أديب:
صفحًا لصرف الدهر عن هفواته ... إن كان هذا اليوم من حسناته
وكيف لا؟ وهو حاجة النفس, وأمنية القلب، منذ توجه الخاطر إلى السياسة الوطنية، وانصرف العزم إلى إحياء الهمم، وانعقدت النية على حفظ الحقوق، واتحدت الوجهة في القيام بالواجبات، وهو النشأة التي كست الوطن رداء الفتوة قشيبًا، وهو البنية التي غرست للأمة غصن الأمل رطيبًا، وهو ما رجوناه زمانًا, ودافعنا الزمن فيه، وتمنيناه أعوامًا, وغلبنا الحدثان عليه، فيها حسنه من يوم رد فائت البهاء، وأحيا مائت الرجاء، وأعاد شباب الأمة، وسدل ستور النعمة، وأظهرت مقاصد الأمير، وأيَّد مساعي الوزير، وقضى لبانات النبهاء، وحقق أماني النزهاء(10)".
وكان أديب مغرمًا بمصر، محبًّا لها حبًّا ملك شغاف قلبه، مثله في ذلك مثل الشدياق، ولا بدع, فقد آنته في غربته، وأعطته الحرية التي حرمها في وطنه، وأفسحت له مجال العمل، وقدرت جهده، حتى منحه الخديوي الرتبة الثالثة بيده، وأنزلت كفاءته منزلتها, فعينته في الوظائف الكبيرة، ثم إنها ملجأ الأحرار، وزعيمة الشرق العربيّ، ونهوضها -كما كان ذلك رأي أستاذه جمال الدين- نهوض للعرب أجمعين، وفي مصر يقول أديب: "ومصر، ولا حياء في الحب، بلد تركت فيه زهرة أيام الشباب، وخلفت غرس الآداب، وهززت غصن الأماني رطيبًا،
(1/92)

ولبست ثوب الآمال قشيبًا، فما عدلت بي عن حبكها النكبة، ولا أنستني عهدها الغربة، ولست أول محب زاده البعد وجدًا، ولم ينكث على العهد عهدًا، فحذار أهل مصر إن العدو لكم بالمرصاد، وإنكم لمحفوفون بالعيون والأرصاد".
واستمع إليه يقول في الحزب الوطنيّ وأمانيه وأنه "يريد أن يكون المصريّ في مقام الإنسان، مستقلًّا بوجوده متمتعًا باستقلاله، فائزًا بحقوقه، نهاضًا بواجباته، وتريدونه بمنزلة الحيوان، يساق للموت، فإن عجز فللسلخ، ويطلب أن يكون الوطنيّ آمنًا في دراه، مساويًا لجاره، ويستغل زرعه، ويستدر ضرعه، وتلتمسون أن يكون غريبًا في آله، مصادرًا بماله، يطعم من يحرمه، ويؤمِّنُ من يروعه، ويحفظ من يضيعه(11)".
وكان أديب من ألد أعداء الأجانب، وإليك بعض نفثاته الحارة ضد صحيفةٍ مواليةٍ للأجانب، وقد كانت تشيد بإلغائهم بعض الضرائب؛ لتمكن أقدامهم في احتلال مصر: "فهل خفي عن تلك الصحف أنه ليس من شفقة الصياد على الطير إلقاؤه الحب بين يديها؟ أو تعلم أن القائل بهمجية المصريين، المعتقد بانحطاط مدراكهم، لا يطعمهم هذه الفتات، إلّا ليسهل على الإنجليز هضم قوتهم والتهام ثروتهم!.
كلا! إن الجرائد المصرية لا تجهل حقيقة الأمر، ولكنها لا تستطيع التصريح، علمًا بأن اللص العازم على سرقة الحقوق الوطنية يكره النور، فإذا حاولت إظهاره سارع إلى إطفائه بتعطيلها وإلغائها.
يا أهل مصر:
إني محدثكم حديثًا غريبًا: إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم أسخاءكم، وأموركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم، وإغنياؤكم بخلاءكم, وأموركم إلى نسائكم، فبطن الأرض خير لكم من ظهرها".
(1/93)

كان أديبُ جنديًّا من جنود الحرية، ومصر، والعروبة، ولما عُطِّلَتْ جريدة التجارة أسبوعين أول الأمر, دبج مقالًا جاء فيه: "ولئن ساءنا أن جاءنا ذلك الإخطار بلوم، وعقاب أليم، لقد سرنا أن تكون الجرائد موضوعًا للنظر، ومجالًا للنقد، ولم نر في القصاص شيئًا يستعين به اللائم، أو مصابًا يعتضد به الشامت، فإن "التجارة" تحسب حب الوطن دينًا والمدافعة عنه جهادًا، فإن عاشت فهي سعيدة، وإن ماتت فهي شهيدة، ولقد آتاها الله النعمتين، وأتاح لها الحسنيين، فعاشت به، وماتت عليه، وستبعث بعد أسبوعين، رافلةً في ثوب الشهادة، مزينةً بحلى السعادة، على الرغم من أنوف حاسديها، الذين أَوَّلُوا كلامنا إلى ما لم نقصد، وسعوا بها بما لم يخطر على قلوبنا، وحاولوا إطفاء نور الحق، ويأبى الله إلّا أن يتم نوره ولو كره المبطلون(12)".
ولم يثنه تعطل جريدته ونزوحه إلى باريس عن غايته المثلى، وهي العمل على إيقاظ الشرق العربيّ، والدعوة للحرية، وطرد الأجانب من البلاد، وقد أعلن خطة جريدته "القاهرة" التي أصدرها بباريس, بقوله: "إني لا أقصد إلى الانتقام، وإنما أروم مقاومة الباطل ونصرة الحق، والمدافعة عن الشرق وآله، وعن الفضل ورجاله، فمَسْلَكِي أن أكشف حقائق الأمور، ملتزمًا جانب التصريح، متجافيًا عن التعريض والتلميح، وأن أجلو مبادئ الحرية، وآراء ذوي النقد، ومقصدي أن أثير بقية الحمية الشرقية، وأهيج فضالة الدم العربيّ، وأرفع الغشاوة عن أعين الساذجين، وأحيي الغيرة في قلوب العارفين، ليعلم قومي أن لهم حقًّا مسلوبًا فيلتمسوه، ومالًا منهوبًا فيطلبوه، وليخرجوا من خطة الخسف، وينبذوا عنهم كل مدلس يشتري بحقوقهم ثمنًا قليلًا، ويذيقوا الخائنين عذابًا وبيلًا، وليستصغروا الأنفس والنفائس في جنب حقوقهم، وليستميتوا في مجاهدة الذين يبيعون أبدانهم وأموالهم وأوطانهم وآلهم".
وأسلوب أديب أسلوبٌ قويٌّ متينٌ، افْتَنَّ في تدبيجه وانتقاء ألفاظه، وحلَّاه بالسجع على عادة كتاب ذلك الوقت، ولكنه ليس بالسجع السخيف المتعمد، ولكنه سجعٌ قريبٌ من سجع ابن العميد، والصاحب بن عباد، والصابي، لا من سجع الحريريّ والقاضي الفاضل.
(1/94)

إنه حقًّا حفل بالأسلوب كما حفل بالمعنى، وأحيا الكتابة العربية المنمقة القوية أيام كانت في القرن الرابع الهجريّ، ونقول مع "مارون عبود"(13): "أما الذي يتراءى لي من آثاره الكتابية ومن أسلوبه، فهو أنه ناريّ الشعور، ومتَّقِدُ الخاطر، ثوريٌّ من الطراز الأول، كأنه كان في رفقة الحَجَّاج يوم دخل الكوفة وقد انتشر النهار, يرسل عباراته فتئز أزيز السهم, وقد فأرق الوتر جمل كأنها مقطوعة على نمط واحد، لا هي بالطويلة ولا هي بالقصيرة، يشد بعضها بعضًا فتؤلف مقالته كتيبةً جامحةً، إذا راعيتها منفردة لا تحس لها مفعولًا عظيمًا، ولكنها تؤلف كلًّا تخرج منه النفس، وقد ملاها هذا الكلام اندفاعًا واستبسالًا".
ويقول: "نثرٌ كأنه الشعر يرصِّعُه بأبياتٍ, إما من الشعر القديم، وإما من نظمه هو, فيأتي مقاله عجاجًا زاخرًا حين يحتد ويشتد كقوله: هو الظلم حتى تمطر السماء بلاءً، فتنبت الأرض عناءً، فلا تجد على سطحها إلّا جسومها ضاوية، في ديار خاوية، وقلوبا تحترق في بلاد تحت رق".
وهو يراعي الموسيقى في نثره أكثر من شعره؛ فيتعمد ما كانت تتعمده مدرسة ابن العميد من أفعالٍ مختلفةٍ, تتحرك لها الجملة فتحرك قارئها توًّا، وإن ذهب أثرها من عقله بعد حين كقوله:
"
هو الجهل حتى تضيع الأخطار، وتفنى الأقدار، وتبطل الهمم، ويعفو القلم، ويدرس الفهم، ويستعلي الخامل، ويستولي الجاهل، وتنخفض الرءوس، وتنقض النفوس، وحتى ترمي:
بكل أرض وطئتها أمم ... ترعى بعبد كأنها غنم
يستخشن الخز حين يلبسه ... وكان يبري بظفره القلم
ومن شعره الذي جرى مجرى الأمثال، وإن لم يكن من الشعراء المجلين، وإن اشتهر بنثره أكثر مما اشتهر بشعره قوله:
(1/95)

قتل أمريء في غابة ... جريمة لا تغتفر
وقتل شعب آمن ... مسالة فيها نظر
والحق للقوة لا ... يعطاه إلّا مَنْ ظفر
ومن ذلك قوله:
حسب المرأة قوم آفةً ... من يدانيها من الناس هلك
ورآها غيرهم أمنية ... ملك النعمة فيها من ملك
فتمنى معشر لو نبذت ... وظلام الليل مشتد الحلك
وتمنى غيرهم لو جعلت ... في جبين الليث أو قلب الفلك
وصواب القول لا يجهله ... حاكم في مسلك الحق سلك
إنما المرأة مرآة بها ... كل ما تنظهر منك ولك
فهي شيطان إذا أفسدتها ... وإذا أصلحتها فهي ملك
إذا كان الشدياق قد وضع أسس المقالة الحديثة في الجوائب، وهجر الأسلوب المرصَّعَ المسجوع في الكتابة الصحفية، واقتفى أثره كثيرون شغلوا بالصحافة، ورأوا ذلك أدنى لأن يفهموا من جمهرة القراء، وأسرع في الإبانة عن المعاني الكثيرة التي يريدون الإفضاء بها واستقصاءها، فإن فضل أديب إسحق على الأسلوب الأدبيّ لا ينكر، وقد قلده كثيرون ممن كتبوا المقالة، وكانوا من أنصار الشدياق بادي الأمر، وعلى نهجه جرى جبران، ونجيب حداد, وغيرهما من أفاضل السوريين، ولكن الصحافة لم تحتمل هذا الأسلوب، ورجعت إلى البساطة في التعبير، وإن ظلَّ أسلوب أديب الذي أحيا به كتابة القرن الرابع نموذجًا للأدباء في أواخر القرن الماضي، وأوائل القرن الحاضر.
ومن السوريين الصحفيين سليم الحموي, صاحب جريدة "الكوكب الشرقيّ" سنة 1783، ولكنها كانت قصيرة العمر, ومنهم سليم وبشارة تقلا، وقد أصدرا "الأهرام" بالإسكندرية سنة 1875, وقد لاقت أول أمرها عقبات جمة،

(1/96)

ثم نالت حظًّا كبيرًا من الرواج، وكانت تصدر أسبوعيًّا في بدء ظهورها، ثم صدرت بجانبها جريدة يومية تسمى: "صدى الأهرام" فلما عُطِّلَتْ الجريدة اليومية, انفردت الأهرام بالظهور، ودأبت تصدر حتى اليوم، فهي أقدم الصحف المصرية السياسية، وإليها يرجع الفضل في تقدم الصحافة المصرية, وأخذها بكل جديدٍ من صحافة الغرب.
ولقد كانت المقالة أهم شيء في الصحفية، حتى خرجت الأهرام على ذلك في سنة 1912، وقدمت الأخبار على المقالة، والأهرام أول من عُنِيَ بالحوادث المصورة، ولقد ازداد حجمها أحيانًا في عهد جبرائيل تقلا, حتى بلغ عشرين صفحة، وقد عنيت عنايةً فائقةً بالأخبار الخارجية، وصارت نموذجًا لصحف الشرق العربيّ كله.
ومنهم سليم عنحوري، وقد أصدر جريدة سياسية سماها: "مرآة الشرق" ولكن تنحى عنها في سنة 1879, وتولاها إبراهيم اللقاني بإيعازٍ من السيد جمال الدين الأفغاني، وقد أنشأ الشيخ يعقوب صنوع اليهوديّ صحيفتين سياسيتين, وهما "مرآة الأحوال" صدرت في لندن سنة 1876، و"أبو نضارة" صدرت في القاهرة سنة 1877, ويعقوب صنوع إسرائيلي مصريّ, ولد سنة 1839، وكان يتقن التوراة، وقرأ الإنجيل، والقرآن، وتعلم في إيطاليا على نفقة أحمد باشا يكن، وهو أول من أنشأ مسرحًا عربيًّا في القاهرة سنة 1870, وأعجب به الخديو إسماعيل, وكان يسميه: "موليير مصر", منحه المنح، وأمده بالعون، وحضر بعض تمثيلياته تشجيعًا له، وقد ألف نحو اثنتين وثلاثين مسرحية في موضوعات جدية وهزلية، وسافر إلى أوربا سنة 1884 وبقي فيها فترة، ولما عاد إلى مصر اتصل بالسيد جمال الدين والشيخ محمد عبده، وكان يعلمهما الفرنسية.
وكانت "أبو نضارة" من الصحف المعارضة لإسماعيل، وكان صاحبها ميَّالًا للفكاهة والدعابة، وقيل: إن السيد جمال الدين هو الذي أوحى إليه بإصدار جريدته لانتقاد سياسة إسماعيل.

(1/97)

وكانت "أبو نضارة" أول جريدة هزلية سياسية صدرت بمصر، وقد نفاه إسماعيل فرحل إلى باريس، واستأنف إصدار جريدته بأسماء مختلفة, معارضًا الخديوي ومنتقدًا أعماله، ولم يخل عدد منها من صور تعرِّضُ تعريضًا شديدًا بالخديوي إسماعيل، فلقيت رواجًا، واستمرَّ الشيخ صنوع يصدر جريدته إلى ما بعد الاحتلال، وكان معاديًا للإنجليز, وتوفي سنة 1912.
وعلى العموم, فقد بلغ عدد الصحف التي ظهرت في عهد إسماعيل ما يقرب من عشرين صحيفة، ومعظمها ظهر في آواخر أيامه، وقد أطلق لها الحرية في الكتابة، وكان يميل إلى هذه الحرية في آخريات عهده حين اصطدم بالمطامع الأوربية، وكانت هذه الصحف تندد بسياسة الأوربيين وجشعهم، ونواياهم، وتشعر الناس بتدخلهم السياسيّ، وتحمل عليهم حملات شديدة اللهجة، فكان ذلك يروق إسماعيل، ولكن لم يكن يرضى أن يتعرض كاتبٌ ما لسياسته الخاصة أو لشخصه.
تعقيب:
هذا النهضة الصحفية خلصت اللغة من أسرها القديم، وأوضارها التي ورثتها من عصور الضعف، وخاضت في موضوعات شتَّى كما ذكرنا، وسلس الأسلوب، واحتذى الصحفيون أسلوب ابن خلدون في مقدمته، وذلك الأسلوب المرسل السهل، وإذا وازنَّا بين أسلوب النثر الصحفيّ في هذا العهد الذي نتحدث عنه، وأسلوب الكتابة في العصر السابق, وجدنا البَوْنَ شاسعًا، وقد مرَّت بك نماذج من هذه الكتابة الصحفية, يتجلى فيها أثر التحرر اللغويّ والفكريّ، وقوة البيان، وطرافة الموضوع، وإليك ما قال بعض قادة النهضة الصحفية في الحثِّ على العلم والاهتمام بالبيان، وطريقة الكتابة، راسمين للشادين في الصحافة الطريقة القويمة.

(1/98)

1- يقول أحمد فارس الشدياق:
"
من الناس مَنْ يتعلم، وهو مجبولٌ على صفات حميدةٍ فيزداد هدًى ورشدًا وورعاً ودماثة أخلاق، وحسن تصرف، واستقامة طبعٍ، ونزاهة نفسٍ، وصفاء عقيدةٍ، وإخلاص مودةٍ, وسلامة نيةٍ، وعفة قلبٍ ولسانٍ، وانبساط يدٍ؛ فمثله كمثل الجوهر الشفاف إذا قابله شعاع الشمس، أوكمثل إناءٍ من زجاجٍ نظيفٍ صافٍ إذا وضع فيه الماء لم يتغير من طبعه شيئًا، فتراه دائمًا مقبلًا على نفع الناس, ساعيًا في إصلاح شئونهم، وتسنية أحوالهم، باذلًا أقصى جهده في تسكين خواطرهم، ولَمِّ شعثهم، وتأليف مفرقهم، وتسلية حزينهم، وإرشاد غاويهم، وتأييد ضعيفهم، وليس من همه التردد على أبواب الأمراء والخضوع لحجابهم ... إلخ(14)".
2-
ويقول أديب إسحق:
"
الكتابة صناعةٌ يراد بها التعبير عن الخواطر والمحسوسات بوضعٍ صحيحٍ، وأسلوبٍ صريحٍ، فهي ذات ثلاثة أركان: الخاطر المراد إيضاحه وهو الإنشاء، والوضع الذي يبدو به ذلك الإيضاح وهو البيان، والكيفية التي تحصل بها ذلك وهو الأسلوب".
ويقول أديب إسحق كذلك:
"
رأيت أن أصرف العناية إلى تهذيب العبارة وتقريب الإشارة، لتقريب المعنى في الأفهام، من أقرب وأعذب وجوه الكلام، وانتقاء اللفظ الرشيق للمعنى الرقيق, متجنبًا من الكلام ما كان غريبًا وحشيًّا ومبتذلًا سوقيًّا، فإن التهافت على الغريب عجز، وفساد التركيب بالخروج عن دائرة الإنشاء داءٌ إذا سرى في القراء والمطالعين, أدى إلى فساد عام، وأغلق على الطلبة معاني كتب العلم، والتنازل إلى ألفاظ العامة, يقضي بإماتة اللغة، وإضاعة محاسنها، وإن في لغة القوم لدليلًا على حالهم".
وقد عدل أديب إسحق عن أسلوبه المنمق في أخريات حياته، ولا سيما في بعض مقالاته الصحفية, وفي ذلك يقول:
(1/99)

"قد التزمت لهذا المطلب أسلوب التقرير، وعدلت فيه عن منهج الخطابة الشعرية، لاعتقادي بأن الأسلوب الخطابيّ، وإن كان أسرع تأثيرًا في القلوب, وأحسن وقعًا في الأذهان، إلّا أنه قد يميل بالكاتب إلى جانب التخيل الوهميّ في مكان التقرير العلميّ، فيرتفع بيانه عن المدارك التي سيقت إليها الملكات الحسية، فلم يبق بها من محلٍّ لملكة الخيال المسماة شعرًا، فيفوت الغرض المقصود من البيان والبلاغة، وهو تقرير المعاني في الأفهام، من أقرب وجوه الكلام، ولهذا سأرسل فيه الكلام إرسال مقرر مبين، ولا أتكلفه تكلف منمق مزين، فإن أحكام التقرير منافية لهذا التمويه الذي يسمونه بديعًا".
ويقول: "النثر هو الكلام المطلق المرسل عفو القريحة بلا كلفة ولا صنعة, إلّا ما يكون من وضع الكلام في مواضعه، وإيثار ما يألفه السمع والطبع منه، فهو من هذا الوجه مقدَّمٌ على سائر أنواع الكلام، بل هو الأصل في الإنشاء، وما سواه فرع منه، فإنه طبيعيّ أصيلٌ، وما دونه صناعيٌّ حادثٌ، والأصل في الطبيعة لا محالة، يدل على ذلك أن هذا الكلام المقفى الذي يسمونه سجعًا لا يكاد يوجد في غير اللسان العربيّ، فلو كان طبيعيًّا لوجب أن يكون في جميع اللغات، أو في المعدودة منها أصولًا على الأقل(15)".
3-
ويقول السيد عبد الله النديم, في العدد الأول من جريدة "التنكيت والتبكيت"(16).
"
إليكم يراعي فاستخدموه في مقترحات أفكاركم العالية، وصحيفتي فاملئوها بآدابكم المألوفة، وبدائعكم الرائقة، فاليراع وطني يخاطب القوم بلغتهم, ويطيعهم فيما يأمرون به، والصحيفة عربية، لا تبخل بالعطاء، ولا ترد الهدية، وأنتم كرام اللغة وأخوان الوطنية، فشدوا عضد أخيكم بالقبول والإغضاء عن العيوب، وساعدوه بأفكار توسع دائرة التهذيب، وتفتح أبواب الكمال، وكونوا معي في المشرب الذي التزمته, والمذهب الذي انتحلته: أفكار تحليلية، وفوائد
(1/100)

تاريخية، وأمثال أدبية، وتبكيت ينادي بقبح الجهالة، وذم الخرافات، ولنتعاون بهذه الخدمة على محو ما صرنا به مثلةً في الوجود, من ركوب متن الغواية، واتباع الهوى اللذين أضلانا سواء السبيل".
وترى من هذه النماذح كيف كان القوم يجاهدون في سبيل العلم وتفتيح الأذهان المغلقة، وتحبيب الناس في الثقافة، والإشارة بفضل المتعلمين في زمنٍ كانت فيه الأمة لا تزال تحبو في طريق النور، وكيف وضعوا أسس تحرر اللغة من أسر السجع والتكلف، ورسموا قواعد الإنشاء الصحيح لمن يريد أن يتخذ الكتابة حرفةً، وكيف سخَّرُوا القلم القويَّ الجرئَ في خدمة الوطن، وجعلوا الصحف ميدانًا للأفكار الطيبة, والأدب الرفيع, والدعوات الإصلاحية الحرة, وبذلك كانت الصحافةُ منارةً من منارات النهضة العربية الأدبية, ارتفعت هذه المنارة في عهد إسماعيل، وظلَّت ترسل النور قويًّا يبدد سدفة الجهل ويهدي الضالين إلى اليوم.

 

 

__________
(1) من دلح كمنع: مشى بحمله متقبض الخطو لثقله، وسحابة دلوح: كثيرة الماء.
(2) الشونة: كما جاء في القاموس مخزن الغلال, مصرية.
(3) الهوعة: من هوعته ما أكل، إذا قيأته إياه.

(4) يشير بالهواء والنار والتراب والماء إلى العناصر الأربعة, التي كان يعتقد الفلاسفة القدماء أنها أصل المواد.
(5) الطرف العين: وطرفشت العين: أظلمت وضعفت، وفلان نظر وكسر عينيه.

(5) العدد الأول من مجلة روضة المدارس.

(6) راجع تاريخ الحركة القومية لعبد الرحمن الرافعي, ج3 ص489, ترجمة رفاعة الطهطاوي وعصر إسماعيل له كذلك, ج2 ص262, وديوان إسماعيل صبري 2-10, وأعداد مجلة روضة المدارس.
(7) توفي سنة 1878, وهو من أوائل تلاميذ رفاعة الطهطاوي، واشتغل بالتدريس بدار العلوم, واشتهر بالترجمة والكتابة في التاريخ، وصار عضوًا بمجلس الاستئناف.

(8) في هذه السنة زاد اضطهاد الأتراك لمسيحي سوريا، وقامت مذابح في جبل لبنان, ذهب ضحيتها عدد كبير من المسيحيين, واضطر كثير من سكان القرى بجبل لبنان إلى الهجرة, وذلك لأن نصارى الشام قد أظهروا ولاءهم لإبراهيم باشا,

وكرههم للحكم التركي أيام وجوده بينهم, فلما سحبت الجيوش المصرية ظلوا على ولائهم لمصر, فانتقم الأتراك منهم شر انتقام.

)9)M. Sapry: La Genese de L. Esprit National Egyption p128.

(10)جريدة مصر في 29 من يناير 1882.

(11) جريدة مصر في 29 من يناير 1882.

(12) التجارة, العدد187, في 13 من فبراير 1879.

(13)مجلة الكتاب فبراير 1948.

(14) مجالي الغرر ج2 ص177.

(15) مجالي الغرر ج2 ص6.
(16) صدرت سنة 1881, وراجع سلافة النديم ص77.

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.


العتبة العباسية تختتم فعاليات حفل التكليف الشرعي في قضاء عين التمر بكربلاء
طالبات مدارس عين التمر يرددن نشيد التكليف الشرعي
الطالبات المشاركات في حفل التكليف الشرعي يقدمن الشكر للعتبة العباسية
حفل التكليف الشرعي للطالبات يشهد عرض فيلم تعريفي بمشروع (الورود الفاطمية)