التفسير بالمأثور/الاخلاق والآداب/محاسن الاخلاق والآداب/الإمام علي (عليه السلام)
أخبرنا أبو الحسن، عن محمد بن علي بن
المفضل، عن علي ابن الحسن أبي الحسن النحوي الرازي، قال: أخبرني الحسن بن علي
الزفري، قال: حدثني العباس بن بكار الضبي، قال: حدثني أبو بكر الهذلي، عن عكرمة،
عن ابن عباس، قال:
خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال:
الحمد لله الذي لا يحويه مكان، ولا يحده زمان، علا بطوله، ودنا بحوله، سابق كل غنيمة
وفضل، وكاشف كل عظيمة وإزل ، أحمده على جود كرمه، وسبوغ نعمه، واستعينه على بلوغ
رضاه، والرضا بما قضاه، وأؤمن به إيمانا، وأتوكل عليه إيقانا.
وأشهد أن لا إله إلا الله، الذي رفع السماء
فبناها، وسطح الأرض فطحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها، والجبال أرساها، لا يؤوده
خلق، وهو العلي العظيم.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى
المشهور، والكتاب المسطور، والدين المأثور، إبلاء لعذره، وإنهاء لامره، فبلغ
الرسالة، وهدى من الضلالة، وعبد ربه حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وآله وسلم
كثيرا.
أوصيكم بتقوى الله، فإن التقوى أفضل كنز،
وأحرز حرز، وأعز عز، فيها نجاة كل هارب، ودرك كل طالب، وظفر كل غالب، وأحثكم على
طاعة الله، فإنها كهف العابدين، وفوز الفائزين، وأمان المتقين.
واعلموا - أيها الناس - أنكم سيارة، قد حدا
بكم الحادي، وحدا لخراب الدنيا حادي، وناداكم للموت منادي، فلا تغرنكم الحياة
الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور.
ألا وإن الدنيا دار غرارة خداعة، تنكح في
كل يوم بعلا، وتقتل في كل ليلة أهلا، وتفرق في كل ساعة شملا، فكم من منافس فيها،
وراكن إليها من الأمم السالفة، قد قذفتهم في الهاوية، ودمرتهم تدميرا، وتبرتهم
تتبيرا، وأصلتهم سعيرا.
أين من جمع فأوعى، وشد فأوكى، ومنع فأكدى؟
بلى أين من عسكر العساكر، ودسكر الدساكر ، وركب المنابر، أين من بنى الدور، وشرف
القصور، وجمهر الألوف؟ قد تداولتهم أيامها، ابتعلتهم أعوامها، فصاروا أمواتا، وفي
القبور رفاتا، قد نسوا ما خلفوا، ووقفوا على ما أسلفوا، ثم ردوا إلى الله مولاهم
الحق، ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين.
وكأني بها وقد أشرقت بطلائعها، وعسكرت
بفظائعها، فأصبح المرء بعد صحته مريضا، وبعد سلامته نقيضا، يعالج كربا، ويقاسي
تعبا، في حشرجة السباق، وتتابع الفواق، وتردد الأنين، والذهول على البنات والبنين،
والمرء قد اشتمل عليه شغل شاغل، وهول هائل، قد اعتقل منه اللسان، وتردد منه
البنان، فأصاب مكروها، وفارق الدنيا مسلوبا، لا يملكون له نفعا، ولا لما حل به دفعا،
يقول الله (عز وجل) في كتابه : ﴿فلولا إن كنتم غير مدينين * ترجعونها إن كنتم
صادقين﴾ .
ثم من دون ذلك أهوال القيامة، ويوم الحسرة
والندامة، يوم تنصب الموازين، وتنشر الدواوين، بإحصاء كل صغيرة، وإعلان كل كبيرة،
يقول الله في كتابه: (ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا) .
ثم قال: أيها الناس، الآن الآن من قبل
الندم، ومن قبل (أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن
الساخرين * أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين * أو تقول حين ترى العذاب لو
أن لي كرة فأكون من المحسنين)، فيرد الجليل (جل ثناؤه): ﴿بلى قد جاءتك آياتي فكذبت
بها واستكبرت وكنت من الكافرين﴾ ، فوالله ما سأل الرجوع إلا ليعمل صالحا، ولا يشرك
بعبادة ربه أحدا.
ثم قال: أيها الناس، الآن الآن، ما دام
الوثاق مطلقا، والسراج منيرا، وباب التوبة مفتوحا، ومن قبل أن يجف القلم، وتطوى
الصحيفة، فلا رزق ينزل، ولا عمل يصعد، المضمار اليوم، والسباق غدا، فإنكم لا تدرون
إلى جنة، أو إلى نار، واستغفر الله لي ولكم.
المصدر : الأمالي
المؤلف : شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي
الجزء والصفحة : ص 684
تاريخ النشر : 2024-03-28