شرح الأبيات (299 ــ 303)
المؤلف:
شمس الدين أبو الخير محمد بن عبد الرحمن السخاوي
المصدر:
فتح المغيث بشرح ألفيّة الحديث للعراقي
الجزء والصفحة:
ج2، ص 74 ــ 80
2025-12-13
20
299 - وَلِلْحُمَيْدِيِّ وَالْإِمَامِ أَحْمَدَا ... بِأَنَّ مَنْ لِكَذِبٍ تَعَمَّدَا
300 - أَيْ فِي الْحَدِيثِ لَمْ نَعُدْ نَقْبَلُهُ ... وَإِنْ يَتُبْ، وَالصَّيْرَفِيُّ مِثْلُهُ
301 - وَأَطْلَقَ الْكِذْبَ وَزَادَ: أَنَّ مَنْ ... ضُعِّفَ نَقْلًا لَمْ يُقَوَّ بَعْدَ أَنْ
302 - وَلَيْسَ كَالشَّاهِدِ، وَالسَّمْعَانِي ... أَبُو الْمُظَفَّرِ يَرَى فِي الْجَانِي
303 - بِكَذِبٍ فِي خَبَرِ إِسْقَاطَ مَا ... لَهُ مِنَ الْحَدِيثِ قَدْ تَقَدَّمَا
التَّاسِعُ: فِي تَوْبَةِ الْكَاذِبِ
(وَلِلْحُمَيْدِيِّ)، صَاحِبِ الشَّافِعِيِّ وَشَيْخِ الْبُخَارِيِّ، أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ (وَالْإِمَامِ أَحْمَدَا بِأَنَّ مَنْ) أَيْ: أَنَّ الَّذِي (لِكَذِبٍ تَعَمَّدَا) أَيْ: فِي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ مُطْلَقًا، الْأَحْكَامِ وَالْفَضَائِلِ وَغَيْرِهِمَا، بِأَنْ وَضَعَ، أَوْ رَكَّبَ سَنَدًا صَحِيحًا لِمَتْنٍ ضَعِيفٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَبِأَنَّ الْعَمْدَ بِإِقْرَارِهِ أَوْ نَحْوِهِ، بِحَيْثُ انْتَفَى أَنْ يَكُونَ أَخْطَأَ أَوْ نَسِيَ.
(لَمْ نَعُدْ نَقْبَلُهُ) أَبَدًا فِي شَيْءٍ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ الْمَكْذُوبُ فِيهِ وَغَيْرُهُ، وَلَا نَكْتُبُ عَنْهُ شَيْئًا، وَيَتَحَتَّمُ جَرْحُهُ دَائِمًا (وَإِنْ يَتُبْ) وَتَحْسُنْ تَوْبَتُهُ تَغْلِيظًا لِمَا يَنْشَأُ عَنْ صَنِيعِهِ مِنْ مَفْسَدَةٍ عَظِيمَةٍ، وَهِيَ تَصْيِيرُ ذَلِكَ شَرْعًا. نَعَمْ، تَوْبَتُهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ.
وَيَلْتَحِقُ بِالْعَمْدِ مَنْ أَخْطَأَ وَصَمَّمَ بَعْدَ بَيَانِ ذَلِكَ لَهُ مِمَّنْ يَثِقُ بِعِلْمِهِ مُجَرَّدَ عِنَادٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ الثَّانِيَ عَشَرَ، وَأَمَّا مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ مُعْتَقِدًا أَنَّ هَذَا لَا يَضُرُّ، ثُمَّ عَرَفَ ضَرَرَهُ فَتَابَ، فَالظَّاهِرُ - كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ - قَبُولُ رِوَايَاتِهِ. وَكَذَا مَنْ كَذَبَ دَفْعًا لِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ مِنْ عَدُوٍّ، وَرَجَعَ عَنْهُ. ثُمَّ إِنَّ أَحْمَدَ وَالْحُمَيْدِيَّ لَمْ يَنْفَرِدَا بِهَذَا الْحُكْمِ، بَلْ نَقَلَهُ كُلُّ مِنَ الْخَطِيبِ فِي الْكِفَايَةِ، وَالْحَازِمِيِّ فِي شُرُوطِ السِّتَّةِ عَنْ جَمَاعَةٍ، وَالذَّهَبِيِّ عَنْ رِوَايَةِ ابْنِ مَعِينٍ وَغَيْرِهِ، وَاعْتَمَدُوهُ (وَ) كَذَا لِلْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ (الصَّيْرَفِيِّ) شَارِحِ الرِّسَالَةِ، وَأَحَدِ أَصْحَابِ الْوُجُوهِ فِي الْمَذْهَبِ (مِثْلُهُ) حَيْثُ قَالَ: كُلُّ مَنْ أَسْقَطْنَا خَبَرَهُ مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ بِكَذِبٍ وَجَدْنَاهُ عَلَيْهِ لَمْ نَعُدْ لِقَبُولِهِ بِتَوْبَةٍ تَظْهَرُ.
(وَأَطْلَقَ الْكِذْبَ) [بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ عَنْ إِحْدَى اللُّغَتَيْنِ] كَمَا تَرَى، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِتَقْيِيدِهِ بِالْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ. وَنَحْوُهُ حِكَايَةُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ عَنْهُ ; فَإِنَّهُ قَالَ: إِذَا رَوَى الْمُحَدِّثُ خَبَرًا ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، وَقَالَ: كُنْتُ أَخْطَأْتُ فِيهِ، وَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهِ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْعَدْلِ الثِّقَةِ الصِّدْقُ فِي خَبَرِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْبَلَ رُجُوعُهُ عَنْهُ كَمَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ، وَإِنْ قَالَ: كُنْتُ تَعَمَّدْتُ الْكَذِبَ فِيهِ فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِ (الْأُصُولِ) : إِنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِذَلِكَ الْخَبَرِ، وَلَا بِغَيْرِهِ مِنْ رِوَايَتِهِ.
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: إِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الصَّيْرَفِيَّ إِنَّمَا أَرَادَ الْكَذِبَ فِي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ خَاصَّةً، يَعْنِي فَلَا يَشْمَلُ الْكَذِبَ فِي غَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ سَائِرِ النَّاسِ ; فَإِنَّ ذَلِكَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمُفَسِّقَاتِ تُقْبَلُ رِوَايَةُ التَّائِبِ مِنْهُ، لَا سِيَّمَا وَقَوْلُهُ كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ: " مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ " قَرِينَةٌ فِي التَّقْيِيدِ.
بَلْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَلَيْسَ يَطْعَنُ عَلَى الْمُحَدِّثِ إِلَّا أَنْ يَقُولَ: تَعَمَّدْتُ الْكَذِبَ، فَهُوَ كَاذِبٌ فِي الْأَوَّلِ ; أَيْ: فِي الْخَبَرِ الَّذِي رَوَاهُ وَاعْتَرَفَ بِالْكَذِبِ فِيهِ، وَلَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ; أَيْ: مُؤَاخَذَةً لَهُ بِإِقْرَارِهِ، عَلَى مَا قُرِّرَ فِي الْمَوْضُوعِ (وَزَادَ) أَيِ: الصَّيْرَفِيُّ، عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالْحُمَيْدِيِّ (أَنَّ مَنْ ضُعِّفَ نَقْلًا) أَيْ: مِنْ جِهَةِ نَقْلِهِ، يَعْنِي لِوَهْمٍ وَقِلَّةِ إِتْقَانٍ وَنَحْوِهِمَا، وَحَكَمْنَا بِضَعْفِهِ وَإِسْقَاطِ خَبَرِهِ (لَمْ يُقَوَّ) أَبَدًا (بَعْدَ أَنْ) حُكِمَ بِضَعْفِهِ، هَكَذَا أَطْلَقَ. وَوِزَانُ مَا تَقَدَّمَ عَدَمُ قَبُولِهِ، وَلَوْ رَجَعَ إِلَى التَّحَرِّي وَالْإِتْقَانِ، وَلَكِنْ قَدْ حَمَلَهُ الذَّهَبِيُّ عَلَى مَنْ يَمُوتُ عَلَى ضَعْفِهِ، فَكَأَنَّهُ لِيَكُونَ مُوافِقًا لِغَيْرِهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ.
ثُمَّ إِنَّ فِي تَوْجِيهِ إِرَادَةِ التَّقْيِيدِ بِمَا تَقَدَّمَ نَظَرًا ; إِذْ أَهْلُ النَّقْلِ هُمْ أَهْلُ الرِّوَايَاتِ وَالْأَخْبَارِ كَيْفَمَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصٍ، وَكَذَا الْوَصْفُ بِالْمُحَدِّثِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ يُخْبِرُ عَنْهُ ـ صلى الله عليه [وآله] وسلم ـ أَوْ عَنْ غَيْرِهِ، بَلْ يَدُلُّ لِإِرَادَةِ التَّعْمِيمِ تَنْكِيرُهُ الْكَذِبَ. وَكَذَا يُسْتَأْنَسُ لَهُ بِقَوْلِ ابْنِ حَزْمٍ فِي إِحْكَامِهِ: مَنْ أَسْقَطْنَا حَدِيثَهُ لَمْ نَعُدْ لِقَبُولِهِ أَبَدًا، وَمَنِ احْتَجَجْنَا بِهِ لَمْ نُسْقِطْ رِوَايَتَهُ أَبَدًا ; فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي التَّعْمِيمِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ حِبَّانَ فِي آخَرِينَ، بَلْ كَلَامُ الْحُمَيْدِيِّ الْمَقْرُونِ مَعَ أَحْمَدَ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ قَدْ يُشِيرُ لِذَلِكَ ; فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا الَّذِي لَا يُقْبَلُ بِهِ حَدِيثُ الرَّجُلِ أَبَدًا؟ قُلْتُ: هُوَ أَنْ يُحَدِّثَ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ سَمِعَهُ وَلَمْ يُدْرِكْهُ، أَوْ عَنْ رَجُلٍ أَدْرَكَهُ ثُمَّ وُجِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، أَوْ بِأَمْرٍ يَتَبَيَّنُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كَذِبٌ، فَلَا يَجُوزُ حَدِيثُهُ أَبَدًا لِمَا أُدْرِكَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَذِبِ فِيمَا حَدَّثَ بِهِ.
وَبِذَلِكَ جَزَمَ ابْنُ كَثِيرٍ فَقَالَ: التَّائِبُ مِنَ الْكَذِبِ فِي حَدِيثِ النَّاسِ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ خِلَافًا لِلصَّيْرَفِيِّ، قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: (وَلَيْسَ) الرَّاوِي فِي ذَلِكَ (كَالشَّاهِدِ)، يَعْنِي فَإِنَّ الشَّاهِدَ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ بِشَرْطِهَا، وَأَيْضًا فَالشَّاهِدُ إِذَا حَدَثَ فِسْقُهُ بِالْكَذِبِ أَوْ غَيْرِهِ لَا تَسْقُطُ شَهَادَاتُهُ السَّالِفَةُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ بِهَا.
(وَ) الْإِمَامُ (السَّمْعَانِيُّ أَبُو الْمُظَفَّرِ يَرَى فِي) الرَّاوِي (الْجَانِي بِكَذِبٍ فِي خَبَرٍ) نَبَوِيٍّ (إِسْقَاطَ مَا لَهُ مِنَ الْحَدِيثِ قَدْ تَقَدَّمَا) ، وَكَذَا وُجُوبَ نَقْضِ مَا عُمِلَ بِهِ مِنْهَا، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، وَقَالَا: فَإِنَّ الْحَدِيثَ حُجَّةٌ لَازِمَةٌ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ، فَكَانَ حُكْمُهُ أَغْلَظَ، يَعْنِي: وَتَغْلِيظُ الْعُقُوبَةِ فِيهِ أَشَدُّ، مُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ عَنْهُ ; عَمَلًا بِقَوْلِهِ ـ صلى الله عليه [وآله] وسلم ـ: «إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ» .
وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنَا مَعْمَرٌ عَنْ رَجُلٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، «أَنَّ رَجُلًا كَذَبَ عَلَى النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه [وآله] وسلم ـ، فَبَعَثَ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ فَقَالَ: اذْهَبَا، فَإِنْ أَدْرَكْتُمَاهُ فَاقْتُلَاهُ». وَلِهَذَا حَكَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ مَنْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ عَلَى النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه [وآله] وسلم ـ يَكْفُرُ، وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْهُ وَلَدُهُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ عَلَى ذَلِكَ.
وَالْحَقُّ أَنَّهُ فَاحِشَةٌ عَظِيمَةٌ، وَمُوبِقَةٌ كَبِيرَةٌ، وَلَكِنْ لَا يُكَفَّرُ بِهَا إِلَّا إِنِ اسْتَحَلَّهُ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ يُضَاهِي مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مَا قَالَهُ ابْنُ الصَّيْرَفِيِّ، يَعْنِي لِكَوْنِ رَدِّهِ لِحَدِيثِهِ الْمُسْتَقْبَلِ إِنَّمَا هُوَ لِاحْتِمَالِ كَذِبِهِ، وَذَلِكَ جَارٍ فِي حَدِيثِهِ الْمَاضِي بَعْدَ الْعِلْمِ بِكَذِبِهِ، وَقَدِ افْتَرَقَتِ الرِّوَايَةُ وَالشَّهَادَةُ فِي أَشْيَاءَ، فَتَكُونُ مَسْأَلَتُنَا مِنْهَا، عَلَى أَنَّهُ قَدْ حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي شَاهِدِ الزُّورِ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ لَهُ شَهَادَةٌ بَعْدَهَا.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَاذِفِ الْمُحْصَنِ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا، فَاسْتَوَيَا فِي الرَّدِّ لِمَا بَعْدُ، لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي الشَّهَادَةِ عِنْدَنَا مَا تَقَدَّمَ. نَعَمْ، سَوَّى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ بْنِ بَكْرَانَ الْحَمَوِيُّ الشَّامِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا، بَيْنَهُمَا، حَيْثُ قَالَ فِي الرَّاوِي: إِنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِي الْمَرْدُودِ خَاصَّةً، وَيُقْبَلُ فِي غَيْرِهِ. بَلْ نُسِبَ إِلَى الدَّامَغَانِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ قَبُولُهُ فِي الْمَرْدُودِ وَغَيْرِهِ، [يَعْنِي: إِذَا رَوَاهُ بَعْدَ تَوْبَتِهِ]، وَهُوَ عَجِيبٌ، وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ، لَكِنْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُقَدِّمَةِ مُسْلِمٍ: لَمْ أَرَ لَهُ ; أَيْ: لِلْقَوْلِ، فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ دَلِيلًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُوَجَّهَ بِأَنَّ ذَلِكَ جُعِلَ تَغْلِيظًا وَزَجْرًا بَلِيغًا عَنِ الْكَذِبِ عَلَيْهِ ـ صلى الله عليه [وآله] وسلم ـ ; لِعِظَمِ مَفْسَدَتِهِ ; فَإِنَّهُ يَصِيرُ شَرْعًا مُسْتَمِرًّا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، بِخِلَافِ الْكَذِبِ عَلَى غَيْرِهِ، وَالشَّهَادَةِ فَإِنَّ مَفْسَدَتَهُمَا قَاصِرَةٌ لَيْسَتْ عَامَّةً.
ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِلْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْمُخْتَارُ الْقَطْعُ بِصِحَّةِ تَوْبَتِهِ فِي هَذَا، أَيِ: الْكَذِبُ عَلَيْهِ ـ صلى الله عليه [وآله] وسلم ـ، وَقَبُولُ رِوَايَاتِهِ بَعْدَهَا إِذَا صَحَّتْ تَوْبَتُهُ بِشُرُوطِهَا الْمَعْرُوفَةِ.
قَالَ: فَهَذَا هُوَ الْجَارِي عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى صِحَّةِ رِوَايَةِ مَنْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ، قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ فِي هَذَا.
وَكَذَا قَالَ فِي الْإِرْشَادِ: هَذَا مُخَالِفٌ لِقَاعِدَةِ مَذْهَبِنَا وَمَذْهَبِ غَيْرِنَا - انْتَهَى.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِيمَا إِذَا كَانَ كَذِبُهُ فِي وَضْعِ حَدِيثٍ، وَحُمِلَ عَنْهُ وَدُوِّنَ: إِنَّ الْإِثْمَ غَيْرُ مُنْفَكٍّ عَنْهُ، بَلْ هُوَ لَاحِقٌ لَهُ أَبَدًا، فَإِنَّ مَنْ سَنَّ سَيِّئَةً عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالتَّوْبَةُ حِينَئِذٍ مُتَعَذِّرَةٌ ظَاهِرًا، وَإِنْ وُجِدَ مُجَرَّدُ اسْمِهَا، وَلَا يُسْتَشْكَلُ بِقَبُولِهَا مِمَّنْ لَمْ يُمْكِنْهُ التَّدَارُكَ بِرَدٍّ أَوْ مَحَالَةٍ، فَالْأَمْوَالُ الضَّائِعَةُ لَهَا مَرَدٌّ، وَهُوَ بَيْتُ الْمَالِ، وَالْأَعْرَاضُ قَدِ انْقَطَعَ تَجَدُّدُ الْإِثْمِ بِسَبَبِهَا فَافْتَرَقَا.
وَأَيْضًا فَعَدَمُ قَبُولِ تَوْبَةِ الظَّالِمِ رُبَّمَا يَكُونُ بَاعِثًا لَهُ عَلَى الِاسْتِرْسَالِ وَالتَّمَادِي فِي غَيِّهِ، فَيَزْدَادُ الضَّرَرُ بِهِ، بِخِلَافِ الرَّاوِي ; فَإِنَّهُ لَوِ اتَّفَقَ اسْتِرْسَالُهُ أَيْضًا وَوَسْمُهُ بِالْكَذِبِ مَانِعٌ مِنْ قَبُولِ مُتَجَدِّدَاتِهِ، بَلْ قَالَ الذَّهَبِيُّ: إِنَّ مَنْ عُرِفَ بِالْكَذِبِ عَلَى الرَّسُولِ ـ صلى الله عليه [وآله] وسلم ـ لَا يَحْصُلُ لَنَا ثِقَةٌ بِقَوْلِهِ: إِنِّي تُبْتُ، يَعْنِي كَمَا قِيلَ بِمِثْلِهِ فِي الْمُعْتَرِفِ بِالْوَضْعِ.
الاكثر قراءة في علوم الحديث عند العامّة (أهل السنّة والجماعة)
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة