مبدأ عدم مسؤولية رئيس الدولة
المؤلف:
محمد عبد الكاظم عوفي
المصدر:
مسؤولية الحكومة السياسية في دستور جمهورية العراق لسنة 2005
الجزء والصفحة:
ص26-29
2025-12-08
33
يتميز النظام البرلماني بثنائية السلطة التنفيذية ، أي ان السلطة التنفيذية في الدولة مقسمة بين رئيس الدولة والحكومة ، وبما ان رئيس الدولة ملكاً كان أو رئيس جمهورية غير مسؤول من الناحية السياسية عن أمور الحكم ، فإن ذلك أدى إلى انتقال السلطة الفعلية عن إدارة شؤون الحكم إلى الحكومة(1). ويقصد بمبدأ عدم مسؤولية رئيس الدولة سياسيا في النظام البرلماني عدم جواز مساءلته عن شؤون الحكم أمام البرلمان ، فلا يكون للبرلمان حق سؤاله أو استجوابه أو الاقتراع بعدم الثقة به لإرغامه على الاستقالة قبل انتهاء مدة حكمه أو رئاسته(2). وقاعدة عدم مسؤولية رئيس الدولة في هذا النظام قد نشأت في بريطانيا تطبيقا للمبدأ المشهور " الملك لا يخطئ " "The King can do no wrong " ومادام الملك لا يخطئ فلا يمكن ان تلحقه المسؤولية(3). وعدم مسؤولية رئيس الدولة في الأنظمة البرلمانية الملكية قاعدة مطلقة ، فالملك لا يسأل سياسيا ولا مدنيا ولا جنائيا(4)، وذلك استنادا للمبدأ المعروف " ذات الملك مصونة لا تمس "(5). وأما بالنسبة للأنظمة البرلمانية الجمهورية فإن هذه القاعدة نسبية ، تقتصر على عدم مسؤولية رئيس الجمهورية سياسيا( شأنه في ذلك شأن الملك) ، ويبقى مسؤول مدنيا ومسؤول جنائيا عن الجرائم التي يرتكبها خارج حدود وظيفته امام القضاء العادي شأنه في ذلك شأن الأفراد العاديين وبالإجراءات نفسها ، وأما الجرائم المتعلقة بوظيفته فيسأل عنها أيضا في بعض الحالات أمام قضاء خاص ووفقا لإجراءات خاصة وفق التنظيم الدستوري لكل دولة(6). ويترتب على هذا المبدأ نتيجتان هما(7):-
الأولى :- انتقال السلطات الفعلية للوزارة :- النتيجة الأولى لعدم مسؤولية رئيس الدولة في النظم البرلمانية ، هي ضرورة وجود البديل الذي يتحمل المسؤولية في مجال إدارة شؤون الحكم في الدولة ، وبما أن الوزارة هي صاحبة السلطة الفعلية فكان لابد وإن تخضع للمسؤولية السياسية أمام البرلمان كنتيجة للتلازم الحتمي بين السلطة والمسؤولية ، فحيث توجد السلطة توجد المسؤولية (8).
الثانية :- رئيس الدولة لا يستطيع العمل منفرداً :- النتيجة الثانية لعدم مسؤولية رئيس الدولة في النظم البرلمانية هي عدم جواز ممارسته لأي مظهر من مظاهر الحكم بشكل منفرد ، وهو ما عبر عنه الفقه الدستوري الانكليزي بالقول المشهور " الملك لا ينفرد وحده بالتصرف " "The King cannot act alone " فجميع اختصاصاته المسندة إليه كرئيس دولة يجب إن يمارسها عن طريق وزرائه ، أي لا يعتد بتصرفاته إلا في حالة توقيع رئيس الحكومة بجواره إذا كان الأمر يتعلق بالسياسة العامة للحكومة ، أو توقيع الوزير المختص إذا كان الأمر يتعلق بالسياسة الخاصة لوزارته ، وهذا ما يعبر عنه " بقاعدة التوقيع الوزاري المجاور "(9). وقد نشأت هذه القاعدة في بريطانيا بشكل تدريجي فقد كانت أختام الملك مُسلمة إلى كبار موظفيه ، فإذا أراد التوقيع على امر من الامور استدعى الموظف الذي بيده الختم الخاص بالأمر المعروض عليه ، ولما كان الملك غير مسؤول فقد تقررت مسؤولية هذا الموظف ، لأنه وافق ضمنا على التوقيع ، ووقع بإمضائه الخاص إلى جانب ختم الملك ، ومن ذلك استقرت هذه القاعدة التي توجب توقيع الوزير الاول أو الوزراء إلى جانب الملك ، ومن بريطانيا انتقلت إلى الدول البرلمانية الاخرى(10).
نخلص مما تقدم : الى أن عدم مسؤولية رئيس الدولة وهيمنة الحكومة على ممارسة اختصاصات السلطة التنفيذية من الناحية الفعلية في ظل النظام البرلماني هي الأساس الثاني لمسؤوليتها السياسية أمام البرلمان ، هذا وقد تبنت الدساتير المقارنة هذا المبدأ والنتائج المترتبة عليه ، فالنظام الدستوري البريطاني الذي يعتبر أساس هذا المبدأ يقرر عدم مسؤولية الملك ، ويأخذ بقاعدة التوقيع الوزاري المجاور ، فضلا عن انتقال السلطة الفعلية إلى الحكومة ممثلة بالوزير الأول والوزراء باعتبارها تملك صلاحيات واسعة في رسم السياسة العامة البريطانية داخليا وخارجيا ، وتكون مسؤولة عن تلك السياسة أمام مجلس العموم(11). إذ يرى رجال الفقه الانكليز أن وجود الملك على رأس الحكومة وعدم وجوده لا يؤثر في النظام الدستوري البريطاني ، لان الحكومة أصبحت هي التي تدير شؤون البلاد ، أما الملك – خلافا لرئيس الجمهورية المنتخب - فإنه يكون غير مقيد برباط حزبي ، ولا يدين بالولاء لأي حزب ويبقى له ميزة كحكم محايد بين البرلمان والحكومة(12).
وكذلك الحال بالنسبة للمشرع الدستوري الكويتي الذي أخذ بثنائية السلطة التنفيذية (الامير والحكومة) (13). وهذا ما نصت عليه المادة (52) من الدستور بقولها " السلطة التنفيذية يتولاها الامير ومجلس الوزراء والوزراء ... " . وكذلك اخذ بمبدأ عدم مسؤولية رئيس الدولة ، إذ تنص المادة (54) من الدستور والمادة (2) من قانون توارث الإمارة رقم (4) لسنة 1964 على إن " الأمير رئيس الدولة وذاته مصونة لا تمس " ، فالأمير كرئيس دولة غير مسؤول وذاته مصونة لا تمس . أذ تنص المادة (5) من القانون المذكور على عدم جواز مخاصمة الأمير باسمه أمام المحاكم وانما يعين الأمير بأمر أميري وكيلا أو أكثر يتولون في حدود الأمر الصادر بتعينهم إجراءات التقاضي وتوجه إليهم الأوراق القضائية(14). واخيرا تبنى قاعدة التوقيع الوزاري المجاور وفقا للمادة (55) من الدستور التي تنص على إن " يتولى الأمير سلطاته بواسطة وزرائه " والمادة (128) في فقرتها الأخيرة التي تنص على إن " ...... ترفع قرارات المجلس – مجلس الوزراء – إلى الأمير للتصديق عليها في الأحوال التي تقتضي صدور مرسوم في شأنها "(15).
أما بالنسبة لموقف المشرع الدستوري العراقي وفقا لدستور جمهورية العراق لسنة 2005 فيلاحظ عليه الملاحظات الاتية :-
1- انه تبنى مبدأ ثنائية السلطة التنفيذية وفقا للمادة (66) من هذا الدستور ، ولكنه خلافا للأنظمة البرلمانية المقارنة قد جعل اتهام رئيس الجمهورية من قبل مجلس النواب(16). بناء على طلب مسبب بالأغلبية المطلقة لعدد أعضاء المجلس ، مما يترتب عليه إعفائه من منصبه بعد أدانته من المحكمة الاتحادية العليا بالحنث باليمين الدستورية أو انتهاك الدستور أو الخيانة العظمى(17).
2- انه خلافا للأنظمة البرلمانية المقارنة لم يأخذ بقاعدة التوقيع الوزاري المجاور رغم اهمية هذه القاعدة كأساس لمسؤولية الحكومة السياسية الفردية والتضامنية ، لذا (يؤيد الباحث الرأي) الذي يذهب الى ضرورة تبني هذه القاعدة(18). وذلك لتمييز الاختصاصات الشخصية التي يمارسها رئيس الجمهورية بصورة منفردة والتي (يقترح الباحث) إن تصدر " بقرار جمهوري " كقرار تكليف مرشح بتشكيل الحكومة أو قرار قبول استقالة الحكومة أو اقالتها ، وأما الاختصاصات التي يمارسها بالاشتراك مع رئيس مجلس الوزراء أو الوزراء فيجب إن تصدر " بمرسوم جمهوري " يوقع منه ومن رئيس مجلس الوزراء أو الوزير المختص ، كمرسوم حل البرلمان أو قبول استقالة أو اقالة احد الوزراء وغيرها .
3- منح هذا الدستور رئيس الجمهورية مجموعة من الاختصاصات التي يمارسها بصورة منفردة عن الحكومة وخلافا لقاعدة التوقيع الوزاري المجاور ، من أبرزها تقديم طلب إلى مجلس النواب لسحب الثقة من رئيس مجلس الوزراء وفقا للمادة (61/ثامنا/ب) ، وكذلك إمكانية حلوله محل رئيس مجلس الوزراء عند خلو منصب الأخير لأي سبب كان وفقا للمادة (81/أولا) خلافا للأسس التي يقوم النظام البرلماني التي توجب الفصل العضوي بين المنصبين ، فضلا عن إن هذا الحلول يتعارض مع مبدأ عدم مسؤولية رئيس الدولة في هذا النظام(19).
4- أكد على دور مجلس الوزراء في إدارة شؤون الدولة من خلال الاختصاصات التي يتمتع بها والتي بينتها المادة (80) منه ، ولكنه لم يمنح رئيس مجلس الوزراء سلطة اقالة نوابه ووزرائه وفقا للمادة (78) من الدستور لانه اشترط موافقة مجلس النواب على تلك الاقالة ، لذلك يذهب رأي (ونحن نؤيده) إلى ضرورة منح رئيس مجلس الوزراء سلطة إقالة نوابه والوزراء دون الرجوع إلى مجلس النواب لان عمل الحكومة يقوم على أساس التجانس والانسجام بين الرئيس ونوابه ووزرائه(20).
______________
1- د. عبد الغني بسيوني عبد الله ، النظم السياسية (أسس التنظيم السياسي)، الدار الجامعية ، بيروت ، لبنان ، 1984، ص 273. وكذلك د. رأفت فوده ، ثنائية السلطة التنفيذية بين الشكل والموضوع في دستور 1971( دراسة مقارنة مع الدستور الكويتي والفرنسي) ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، 2001 ، ص 222 - 223.
2- د. إبراهيم عبد العزيز شيحا، النظم السياسية والقانون الدستوري ، منشأة المعــــارف ، الإسكندرية ، دون سنة نشر ، ص 405 .
3- د. احمد سلامة بدر ، الاختصاص التشريعي لرئيس الدولة في النظام البرلماني (دراسة مقارنة) ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، 2003 ، ص 28. وكذلك Henry Parris : Constitutional Bureaucracy , op.cit , p.80. .
4- صدر سنة 1947 قانون ألغى قاعدة أن " الملك لا يخطئ " وترتب على ذلك إمكانية رفع دعاوى المسؤولية المدنية (سواء كانت مسؤولية تقصيرية أم عقدية) د. محمد كامل ليلة ، مصدر سابق ، هامش رقم (1) ص 934 ، . كما ينظر القانون (Crown Proceeding Act , Chapter (44) , 1947) منشور على الموقع الالكتروني لوزارة العدل البريطانية ، تم تسجيل الدخول في 1/3/2014 ، الساعة (6) مساء: http://www.legislation.gov.uk/
5- كاظم علي الجنابي ، المسؤولية السياسية لرئيس الدولة في النظام البرلماني (دراسة مقارنة) ، أطروحة دكتوراه ، كلية القانون - جامعة بغداد ، 2000 ، ص 5 - 6 .
6- استثناء من ذلك فقد قررت بعض الدساتير مسؤولية رئيس الجمهورية سياسيا عن بعض الأفعال وأجازت عزله قبل انتهاء مدة رئاسته كدستور فايمر الألماني لسنة 1919 ودستور النمسا لسنة 1920 والدستور الاسباني لسنة 1931. د. عبد الحميد متولي ، الوجيز في النظريات والأنظمة السياسية ومبادئها الدستورية ، المكتب العربي الحديث ، الإسكندرية ، 2012 ، ص 283.
7- د. عبد الكريم علوان ، النظم السياسية والقانون الدستوري ، دار الثقافة للنشر ، عمان ، الأردن ، 2009، ص 215 .
8- د. موريس دوفرجيه ، المؤسسات السياسية والقانون الدستوري (الأنظمة السياسية الكبرى) ، ترجمة د. جورج سعد ، الطبعة الثانية ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، بيروت ، لبنان ، 2014 ، ص 126 - 127.
9- د. عادل الطبطبائي ، قاعدة التوقيع الوزاري المجاور في النظام البرلماني (دراسة مقارنة مع الإشارة إلى الدستور الكويتي) ، بحث منشور بمجلة الحقوق ، كلية الحقوق ، جامعة الكويت ، السنة (9) ، العدد (3) ، 1985 ، ص 43 وما بعدها.
10- د. حازم صادق ، سلطة رئيس الدولة بين النظامين البرلماني والرئاسي (دراسة مقارنة) ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 2013، ص 121.
11- د. محمد طي ، القانون الدستوري والمؤسسات السياسية ، زين الحقوقية ، بيروت ، لبنان ، 2013 ، ص 363 - 364.
12- د. السيد صبري ، مركز التاج وامتيازاته في انجلترا ، بحث منشور بمجلة القانون والاقتصاد ، كلية الحقوق ، جامعة القاهرة ، السنة التاسعة عشرة ، العدد الأول والثاني ، 1949 ، ص 1 - 2.
13- د. صلاح الدين فوزي ، واقع السلطة التنفيذية في دساتير العالم (مركزية السلطة المركزية) ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، 2002 – 2003 ، ص 222 وما بعدها.
14- د. علي السيد الباز ، السلطات العامة في النظام الدستوري الكويتي ، مجلس النشر العلمي ، جامعة الكويت ، الكويت ، 2006 ، ص 17 - 18. وكذلك د. علي يوسف الشكري ، التناسب بين سلطة رئيس الدولة ومسؤوليته في الدساتير العربية ، دار ايتراك للطباعة والنشر والتوزيع ، القاهرة ، 2010 ، ص 86 وما بعدها.
15- د. عثمان عبد الملك الصالح ، السلطة اللائحية للإدارة في الكويت والفقه المقارن وأحكام القضاء ، اصدار مجلة الحقوق ، كلية الحقوق ، جامعة الكويت ، الطبعة (2) ، 1994 ، ص 15 وما بعدها ، وكذلك د. عادل الطبطبائي ، قاعدة التوقيع الوزاري المجاور في النظام البرلماني دراسة مقارنة مع الإشارة الى الدستور الكويتي ، مجلة الحقوق ، كلية الحقوق ، جامعة الكويت ، السنة التاسعة ، العدد الثالث ، 1985 ، ص 58 وما بعدها.
16- د. حيدر محمد الاسدي ، عزل رئيس الجمهورية في حالة الخيانة العظمى (دراسة مقارنة) ، دار صفاء للطباعة والنشر والتوزيع ، عمان ،الأردن ،2012، ص 143 وما بعدها .
17- ينظر نص المادة (61/ سادسا) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005.
18- د. حميد حنون خالد ، مبادئ القانون الدستوري وتطور النظام السياسي في العراق ، مكتبة نور العين ، بغداد ، 2011 ، ص 293. وكذلك د. رافع خضر صالح شبر ، مصدر سابق ، ص 206.
19- د. عامر عياش ، طبيعة النظام البرلماني في العراق في ظل دستور جمهورية العراق لعام 2005 النافذ ، بحث منشور بمجلة الحقوق ، كلية القانون ، الجامعة المستنصرية ، السنة (6) ، المجلد (4) ، العدد (13-14) ، 2011 ، ص 29.
20- د. حميد حنون خالد ، السلطات الاتحادية في دستور العراق لسنة 2005 ، بحث منشور بمجلة العلوم القانونية ، كلية القانون ، جامعة بغداد ، المجلد (24) ، العدد الأول ، 2009 ، ص 77.
الاكثر قراءة في القانون الدستوري و النظم السياسية
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة