وظائف الشائعات الرئيسة
المؤلف:
الدكتور بطرس خالد
المصدر:
الإعلام والحرب النفسية
الجزء والصفحة:
ص 123- 130
2025-12-03
36
وظائف الشائعات الرئيسة:
أ - إثارة الرعب في نفوس الأعداء:
تركزت أغلب الشائعات قديماً في مجال الحرب، ولا غرابة في ذلك، فحياة الإنسان وحاجته للبقاء تشكل أولوية، له خاصة عندما يتهددها الخطر، وقد وجدت الشائعات دور كبير في إثارة الرعب عند الأعداء فهناك العديد من الشائعات انتشرت عند:
الشائعات عند الآشوريين:
لدى الآشوريين رقم تشير إلى بأسهم وفتكهم بالعدو ، فقد مثلت إحدى ألواح النقوش النافرة مذبحة يظهر فيها طير كاسر يحمل أحشاء جندي مقتول من أعدائهم، ويعد تفاخر ملوكهم بحرق الأسرى وتقطيع أيديهم دليل على شدة بأسهم، وبالتالي كان على كل شعب أن يفكر ألف مرة قبل أن يواجههم، باختصار يحفل الفن المعماري للآشوريين بالعربات الحربية المهاجمة والجيوش الزاحفة والأعداء المتقهقرة والمدن المحاصرة وكلها مظاهر تثير الرعب في نفوس أعدائهم، وبالتالي يمكن اعتبارها حرباً نفسية للشعوب الأخرى، كما أنها في الوقت نفسه تعد دعاية للحكام أمام شعوبهم في الداخل.
الشائعات عند جيوش التتار:
ويروى أن جيوش التتار كانت تعتمد في انتصاراتها على الشائعات التي تسبقها عن طريق التجار إلى البلاد التي يريدون غزوها، فقد كان "جنكيز خان" ينشر شائعات مروعة عن جيشه بأن جنوده تأكل الثعالب، كما كان يبث الرعب في قلوب أعدائه بضخامة عدد قواته علماً أن قواته لم تكن بهذه الضخامة، لكن جنوده عرفوا بسرعة التنقل والحركة من مكان لآخر، مما يوحي بكثرة عددهم، وكان ينشر ذلك بواسطة جواسيسه من أعدائه أنفسهم، حيث ينتشرون بين قومهم ليتحدثوا عن جيش التتار، ويشبهونه بأسراب الجراد بالعدد ويصفونه بالضراوة والشراسة.
الشائعات عند اليونانيين:
ومن الطقوس التي كانت تستخدم لدى اليونانيين أنّ الجنود كانوا يصدرون الصرخات عند الاندفاع للقتال لبث الرعب في قلوب الجيوش المعادية، ويلاحظ استمرار هذا التقليد حتى الآن، فجميع الجيوش تطلق صرخات معينة عند التدريب على القتال والهجوم حتى في أيامنا هذه، بل إن الاعتماد على الأثر النفسي لهذه الصرخة في نفس الخصم قد تتجاوز الجيوش ليصل إلى مجال السلم، ففي بعض الألعاب الرياضية القتالية كالمصارعة والجودو والكاراتيه وغيرها، يؤدي الرياضي صرخات معينة مع الحركات التي يقوم بها، وكأنه يشيع في نفس الخصم بأنه أقوى منه، وبالتالي يشعره بالضعف، ويضعه في وضع نفسي قد يمكنه من الفوز عليه، ويبدو أن أصل هذا الطقس من اليونان، ولا غرابة في ذلك لأن اليونان مهداً للعديد من الألعاب الرياضية.
الشائعات عند الكيان الصهيوني والولايات المتحدة:
ولا تزال الشائعات التي تبث الرعب تستخدم في أيامنا هذه كشائعة الكيان الصهيوني عن جيشه بأنه "الجيش الذي لا يقهر" والتي تهدف إلى بث الرعب في نفوس العرب وإضعافهم، كذلك شائعة الولايات المتحدة في بداية حروبها في الشرق بأن الحرب ستكون خاطفة، بمعنى أنها تملك قوة هائلة ولن تحتاج لأكثر من أيام لسحق أي جيش يفكر في مواجهتها.
كل هذه الشائعات وغيرها تستخدم مؤكدة على قدرة الشائعة على بث الرعب في النفوس، وعلى استمرار تأثيرها كسلاح من أسلحة الحرب النفسية، ولولا أنها تحقق النتائج المرجوة منها في أحيان كثيرة لما استمرت الدول في استخدامها حتى الآن، بل وأكثر من ذلك لما استمرت في تطوير أساليب الشائعة لتتلاءم مع الظروف المتغيرة.
ب- تزييف الحقائق:
يهدف هذا النوع من الشائعات إلى إعطاء معلومات مغلوطة للطرف الآخر أو عنه لتحقيق هدف معين قد يصل إلى حد قلب نتيجة معركة أو هزيمة طرف كان منتصراً.
وقد أسهم هذا النوع من الشائعات الخادعة في هزيمة الفرس عام 449 ق.م أمام اليونانيين، بعد أن كانوا قد دمروا عاصمتهم أثينا عام 480 ق.م وانتصروا بشكل ساحق فيها، ولم ينقذهم سوى أعمال الخداع المنظمة وشائعات تزييف الحقائق التي قام بها "تيميستوكليس" قائد الأسطول الأثيني، وقد استند في ذلك إلى ما يلي:
كان الكثير من اليونانيين يقاتلون إلى جانب الفرس، فأشاع قائد الأسطول الأثيني المذكور لقائد الفرس "اجزركسيس" معلومات توحى له بأن اليونانيين الذي يقاتلون معه سيتمردون عليه وليسوا محل ثقة، وبذلك أحجم قائد الفرس عن إرسالهم إلى الجبهة مما أدى إلى تجنب "ثيميستوكليس" الأثيني لـ "اجزركسيس" قائد الفرس أن اليونانيين المرابطين في ميناء "سالاميس" والتابعين للأسطول الأثيني خائفون وعلى وشك الفرار، فقام "اجزركسيس" بإرسال نصف أسطوله لكي يوقع بهم ويحقق انتصاراً، وبهذه الشائعة البسيطة حقق "تيميستوكليس" هدفين: أولهما تخفيض حجم الجيش والأسطول الفارسي على الجبهة، وتوجهه إلى ميناء "سالاميس، وثانيهما أن وضع اليونانيين في الميناء المذكور كان أفضل، بكثير وبذلك تمكنوا من القتال بالشروط التي تساعدهم على النصر.
وقد حدث كل ذلك بسبب شائعة تزييف الحقائق التي بين فيها "تيميستوكليس" نفسه، وقد تخلى عن القضية اليونانية، إضافة إلى تصديق "اجزركسيس" له مما أدى إلى هزيمة الفرس بشكل ساحق بعد أن كانوا منتصرين في البداية.
وقد استخدم القائد اليوناني الشائعة بشكل ذكي جدا مستندًا إلى وقائع مكنته من وضع شائعاته موضع التصديق، فإظهاره أنه تخلى عن القضية اليونانية يمكن تصديقه، لأن هذا النوع من الانشقاقات كان مألوفاً في اليونان آنذاك.
هكذا يلاحظ أثر الشائعة القوي الذي قلب النتائج رأساً على عقب، فبعد أن كانت المعركة لصالح الفرس، انتهت بخسارتهم خسارة فادحة.
ج - وظيفة دق الإسفين:
تستند هذه الوظيفة إلى دافع الكراهية والذي يبلغ أشده بالشائعة داقة الإسفين التي تكون شديدة الأذى وتوقع فيما بين الأفراد أو الجماعات أو الدول.
يكثر هذا النوع من الشائعات في الحروب، حيث تتسم الحروب بالتحالفات فتسعى كل دولة إلى كسب حلفاء لها وفي الوقت نفسه تدق إسفيناً بين حلفائها وأعدائها لتحافظ على قوتها بكسب حلفائها إلى جانبها، ويتم ذلك بالاستناد إلى بعض الحقائق وتفسيرها بشكل مغلوط بشكل يخدم أغراضها، وهي بذلك تكمل الوظيفة السابقة وخير مثال على ذلك ما حدث في أثناء الحرب العالمية الأولى ومحاولة كل من ألمانيا وبريطانيا كسب الولايات المتحدة الأمريكية إلى جانبها في الحرب، فقد استندت بريطانيا إلى حادثة قيام غواصة ألمانية عام 1915 بنسف باخرة ركاب مدنية كانت تدعى لوزيتانيا، وهي في الواقع كانت تحمل أسلحة مهربة، وادعت أن الباخرة تنقل مدنيين، وتم تهويل الحادثة وتصويرها كعمل بربري وحشي على المدنيين الأبرياء، ثم حدث خطأ ألماني حيث قام أحد الفنانين الألمان بعد عام بصب ميدالية برونزية لإحياء ذكرى إغراق الباخرة فحصلت بريطانيا على نسخة من هذه الميدالية وصورتها وأرسلتها إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتنشر في نيويورك في الذكرى السنوية لإغراق "لوزيتانيا" فتحول العمل الذي قصد به الفنان الألماني الافتخار بقدرة غواصاتهم على نسف الأسطول الحربي البريطاني المتطور، إلى قضية تشهير بالألمان أثارت استياء البريطانيين والأمريكيين، وأكثر من ذلك قام البريطانيون بصنع أنموذج طبق الأصل عن الميدالية المذكورة، ووزعوها كهدايا مع منشور صغير شرحت فيه الحادثة كما أراد لها البريطانيون أن تفهم، حيث تم التركيز على همجية الألمان، بل تم الربط بينهم وبين شعب همجي يدعى "الهون" اشتهر بوحشيته كالتتار، رغم أنه لا علاقة للألمان بهم، لكن الدعاية الغربية بثت شائعات ربطت فيها بين الألمان وبين شعب الهون القديم الذي اندمج ضمن السلالات المختلفة في أوروبا، فنجحت بريطانيا في دق إسفين للألمان مع الأمريكان لتكسب الساحة الأمريكية والبلدان الأخرى المحايدة في تلك الحرب.
استمرت الدعاية البريطانية في إبراز وحشية الألمان حتى بعد دخول الولايات المتحدة الأمريكية، الحرب، فاستندت إلى موضوع نشرته الصحف الألمانية عن مصنع لتحويل الجثث إلى سلع حربية، فأشاعت بريطانيا أن الحكومة الألمانية تسلق الجثث الإنسانية لتصنع منها الحساء وفي هذا كل التأكيد على وحشية الألمان، وقد صرح وزير خارجية بريطانيا أنه لا يستبعد شيئًا عن الألمان بالنظر إلى وحشيتهم.
هكذا عملت الشائعات المذكورة على كسب الولايات المتحدة في الحرب إلى جانب بريطانيا، ورغم انه كان من مصلحة الولايات المتحدة الدخول في الحرب وإيقاع الهزيمة بألمانيا التي أصبحت تشكل خطراً كبيراً على الصعيد الدولي لا سيما في حال كسبها للحرب ، لكن ما كان ليتم تبرير دخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب أمام شعبها لولا هذه الشائعات التي صورت بربرية ألمانيا، وبالفعل دخلت أمريكا الحرب إلى جانب دول الحلفاء وتمكنوا من هزيمة ألمانيا.
د- رفع الروح المعنوية:
تبت هذه الشائعات لرفع الروح المعنوية للجنود الذاهبين إلى الحرب، حيث كان القادة يلقون الخطابات لرفع الروح المعنوية لجيوشهم قبل الذهاب إلى الحرب، وكانت تتم ممارسة بعض الأساليب الخادعة لذلك، فمثلاً كانت البومة تعد مصدر تفاؤل لدى اليونانيين، وظهورها في أثناء الحرب يرفع من معنويات المقاتلين، لذلك كثيراً ما كان يتم إطلاقها أثناء القتال من قبل قادة الحرب لهذا الغرض.
كذلك كان "يوليوس قيصر" يتولى القيادة عندما تبدأ الحرب ويخاطب قواته بجملة" زملائي الجنود" ليبث فيهم الثقة بالنفس ولإعطائهم دفعاً للقتال، إضافة إلى الاحتفالات بالانتصارات التي تقام بعد العودة الغائمة من الحرب والتي تعرض فيها الغنائم المستلبة من العدو مما يسهم في رفع معنويات الشعب ويشعره بالقوة.
هـ - تحطيم الروح المعنوية:
تستطيع الشائعة بنفس الدرجة التي تشحذ فيها المعنويات لفرد أو لجماعة أو لشعب أن تحطم معنويات آخرين وخاصة أثناء الحروب، فقد كانت الشائعة في جميع العصور ولازالت بين أساليب القتال والحرب النفسية التي تطلق لتحطيم الروح المعنوية ولإشاعة الخوف والقلق قبل القتال وفي أثنائه، ولعل أفضل من برع في مثل هذه الشائعات النظام النازي حيث أوجد جهازاً متخصصاً في وزارة الحرب الألمانية لخلق وإطلاق الشائعات.
و- طعم لاصطياد الحقائق:
تستخدم كوسيلة ضغط على الطرف الآخر لإظهار الحقيقة، وذلك بأن يطلق جزء من الحقيقة بعد تضخيمه والمبالغة فيه كثيراً، مما يؤدي إلى اضطرار الطرف الآخر للإعلان عن الحقيقة كلها، وهكذا يتمكن العدو من الوصول إلى الحقيقة الكاملة التي يجهلها، كما فعل اليابانيون في الحرب العالمية الثانية حيث قاموا ببث شائعات تضخم خسائر الأمريكيين البحرية التي يجهلونها، مما اضطر الأمريكيون إلى الإعلان عن حقيقة خسائرهم، التي كانت أقل بكثير مما أشاع اليابانيون، لرفع الروح المعنوية لشعبهم التي تأثرت كثيراً بهذه الشائعة.
وبالتالي تمكنت اليابان من معرفة الحجم الصحيح للخسائر الأمريكية، وأرغمت الحكومة الأمريكية على إعلان الخسائر للشعب.
ز - التشكيك وتحطيم الثقة في المصادر الإعلامية:
لقد كان الألمان خير من استخدم هذه الشائعات خلال الحرب العلمية الثانية، حيث نشرت الصحف الألمانية تقارير عن تدمير محطة السكة الحديدية في برلين، وقد سر الإنجليز بهذه الشائعة ونشروا الخبر على أنه نصر لهم، لكن الألمان أخذوا بعض الصحفيين إلى المحطة، وقاموا بتصويرها لإثبات كذب الإذاعة البريطانية، وهكذا فقدت الإذاعة البريطانية مصداقيتها لدى الشعب البريطاني عندما نشرت الحقيقة.
ح - إثارة البلبلة والفوضى:
تقوم هذه الشائعة على نشر معلومات تبدد الثقة بالنفس، وتجعل الجماعة التي تبث ضمنها تفقد هدفها، كشائعة موت القائد أو الملك أو الزعيم لاسيما في أثناء القتال، مما قد يؤدي إلى تشتت الجماعة وفقدانها للثقة بذاتها، وهناك العديد من الأمثلة التي تشير إلى دور الإشاعات في بث وإثارة الفوضى والبلبلة في نفوس جيوش الأعداء منها:
- كان للشائعة التي أطلقها أبو سفيان عن مقتل النبي (ص) في غزوة "أحد" دور كبير في إحداث البلبلة في صفوف جيش المسلمين فألقى الكثير منهم السلاح لولا صعود النبي "صلى الله عليه وسلم" إلى الجبل ليكذب الشائعة ويعيد الثقة إلى قومه.
- كذلك الشائعة تلك التي أدت إلى نجاح الفرنجة بقيادة "شارل مارتال" عندما نشر شائعة بين جيش المسلمين المتقدم بقيادة "عبد الرحمن الغافقي" عند نهر "اللوار" بفرنسا، مؤداها أن الغنائم التي جمعها المسلمون في خيامه تتعرض للسلب، فأسرع القواد إلى خيامهم تاركين المعركة التي كانت في صالح المسلمين، فأحدق بهم العدو وخسروا المعركة.
- كذلك لجأ الألمان إلى هذا النوع من الشائعات لإحداث البلبلة والفوضى في الجبهة الداخلية في فرنسا، فقد أحدثت محطات إذاعية في الدول المتاخمة لألمانيا أو حتى داخلها خلال الحرب العالمية الثانية، وكان هدفها المعلن هو معارضة "هتلر"، بينما هدفها الحقيقي هو خداع أعداء "هتلر" كالمحطة الإذاعية التي وجدت في فرنسا والتي أدارها شخص يدعى "فردونيت" يزعم أنه فرنسي مخلص لوطنه يحث الناس على إنقاذ فرنسا، وفي الوقت نفسه يبث شائعات تشكك في الحكومة الفرنسية، ويصور المفارقات بين الأوضاع السيئة للجيش الفرنسي والتقشف والأجور القليلة وبين أوضاع الترف والبذخ والتمتع بالملذات التي تعيشها الحكومة الفرنسية، وقد قدم ذلك بأسلوب جذاب شدّ الفرنسيين لهذه الإذاعة، وقد كان لها أثر كبير في بلبلة أفكارهم وبقي الكثيرون يتابعون هذه المحطة رغم اكتشاف أمرها كمحطة معادية في ثياب وطنية.
ط- وظيفة التسلية:
إذا كانت الشائعة تستخدم لأغراض على درجة عالية من الأهمية، فإنها في الوقت نفسه تستخدم للتسلية في الحياة اليومية، وهو ما يدعى بالثرثرة إن كانت تطلق المجرد ملء الوقت ودون هدف معين، إلا أنها تخرج عن نطاق الثرثرة إذا تضمنت أهدافاً، فمن يطلق شائعة في جلسة تسلية تحقق له ظهوراً أمام الآخرين وتشعره بأهميته لامتلاكه معلومات لا يمتلكها غيره تصبح شائعة ذات هدف وترضي دافع حب الظهور لديه.
إذا الشائعة موجودة في حياتنا اليومية وقديمة قدم الإنسان، وكانت الشغل الشاغل عبر التاريخ للمجتمعات والحكومات لارتباطها بكل ما هو مهم ويحيط به الغموض، سواء في أوقات السلم أم الحرب، وقد تنوعت الموضوعات التي تناولتها، وتعددت وظائفها، وسواء أكانت إيجابية أم سلبية، إلا أنها شغلت دوراً في حياة الإنسان وهذا ما يفسر استمراريتها حتى اليوم، بل وتوظيفها من قبل الأفراد أو الدول لتحقيق أهداف معينة في السلم أو الحرب.
الاكثر قراءة في الدعاية والحرب النفسية
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة