موقف المشرع العراقي من مشكلة التناقض بين الأحكام
المؤلف:
هند جبار حسين ساجت
المصدر:
اثر التناقض على صلاحية احكام القضاء المدني
الجزء والصفحة:
ص 53-57
2025-11-19
37
عددت المادة (203) من قانون المرافعات المدنية العراقي أسباب الطعن بطريق التمييز، ويلاحظ على هذه المادة أنها انفردت بالنص في الفقرة الخامسة منها على سبب غير معتمد تقليدياً بين أسباب الطعن بطريق التمييز في القوانين المقارنة هو وقوع خطاً جوهري في الحكم، وعدت الخطأ في فهم الوقائع خطاً جوهرياً في الحكم، وبالطبع أن مثل هذا السبب يعطي لمحكمة التمييز مجالاً للدخول في حقل العناصر الواقعية خلافاً لدورها المحصور بالرقابة القانونية.
واستناداً للنص المتقدم أجاز المشرع العراقي للخصوم الطعن تمييزاً لحل مشكلة التناقض ما بين الأحكام القضائية في الفقرة (4) من المادة (203) من قانون المرافعات المدنية التي نصت على انه: " للخصوم أن يطعنوا تمييزاً لدى محكمة التمييز، في الأحوال الآتية: 4. إذا صدر حكم يناقض حكماً سابقاً صدر في الدعوى نفسها بين الخصوم أنفسهم أو من قام مقامهم وحاز درجة البتات (1)
فهذا النص يعالج حالة التناقض ما بين الأحكام القضائية الصادرة عن محاكم الدرجة الأولى والثانية، ويشترط لحل مشكلة التناقض وفقاً لهذا النص ما يأتي:
1. صدور حكمين متناقضين في الدعوى نفسها من محكمة مدنية واحدة أو عن محكمتين مدنيتين بنفس الدرجة، وان يكون التناقض بين الأحكام الفاصلة في الموضوع وليس القرارات.
2 . وحدة الدعوى أي أن يتحد الخصوم والموضوع والسبب في كلا الدعويين.
3. أن يكون الحكمان متناقضين بحيث لا يمكن تنفيذهما في وقت واحد، كأن تقضي المحكمة بالمقاصة وتحكم في ذات الوقت بإلزام المدعى عليه بدفع الدين الذي طالب به المدعي كاملاً.
4. أن يقع التناقض في منطوق الحكمين، لأن التناقض في الأسباب لا تأثير له إذا لم يكن مرتبطاً بمنطوق الحكم ارتباطاً وثيقاً (2).
5. حيازة الحكم الأول لدرجة البتات، أي كونه نهائياً وغير قابل للطعن فيه ومن باب أولى حيازته لحجية الأحكام.
6. أن يكون الحكم الثاني غير مكتسب الدرجة القطعية (3).
أما عن نطاق الطعن تمييزاً استناداً إلى النص أعلاه، فينحصر من حيث السبب بمشكلة التناقض، ومن حيث المحل فإنه يرد على الحكم الثاني، كونه قد ناقض وانتهك حجية الأحكام بالنسبة للحكم الأول، إلا أن ما يجب ملاحظته هو وجوب رفع الطعن خلال مدته القانونية التي حددها المشرع في المادة (204) من قانون المرافعات المدنية العراقي بـ (30) يوم في الأحكام الصادرة عن محاكم البداءة بدرجة أولى ومحاكم الاستئناف وبـ (10) أيام في الأحكام الصادرة عن محاكم البداءة بدرجة أخيرة التي يطعن بها تمييزاً أمام محكمة الاستئناف بصفتها التمييزية، وأحكام محاكم الأحوال الشخصية التي يطعن فيها أمام محكمة التمييز.
فإذا توافرت الشروط أعلاه وتم رفع الطعن خلال مدته القانونية وثبت لمحكمة التمييز وجود التناقض فإنها تنقض الحكم وتعيده إلى محكمته لتفصل فيه بما يتوافق مع الحكم الأول وبالتالي يزول مفترض أساس من مفترضات التناقض وهو وجود حكمين متناقضين.
إلا أن ما ب يجب ملاحظته هو أن ما يؤخذ على هذه الوسيلة هو أن المشرع حدد مدة الطعن، كما هو معلوم أن مدة الطعن تعد من المدد الحتمية التي يترتب على عدم مراعاتها وتجاوزها سقوط الحق في الطعن وتقضي المحكمة من تلقاء نفسها برد عريضة الطعن إذا حصل بعد انقضاء مدته القانونية (4)، فإذا فاتت مدة الطعن سقط الحق فيه، وبالتالي تبقى حالة التناقض قائمة وتثبت لكلا الحكمين حجية الأحكام الأمر الذي يهدر فعالية الطعن تمييزاً لحل مشكلة التناقض، ولم يغب عن ذهن المشرع العراقي أن يضع وسيلة علاجية أخرى لحل مشكلة التناقض ما بين الأحكام القضائية تتمثل هذه الوسيلة بترجيح أحد الحكمين المتناقضين استناداً إلى أحكام المادة ( 217 ) من قانون المرافعات المدنية.
لكن قبل ذلك علينا أن نشير إلى أن المشرع العراقي اوجد وسيلة علاجية لمشكلة التناقض تسبق وسيلة ترجيح أحد الحكمين المتناقضين وهذه الوسيلة تتجسد في الطعن بطريق تصحيح القرار التمييزي استناداً إلى أحكام المادة (219/ أ / 3 ) التي أجازت الطعن بتصحيح القرار التمييزي لحل مشكلة التناقض على صعيد الحكم الواحد وكذلك على صعيد الحكمين في الأحكام الصادرة عن محكمة التمييز بقولها : " إذا كان القرار التمييزي يناقض بعضه بعضاً أو يناقض قراراً سابقاً لمحكمة التمييز صادراً في نفس الدعوى دون أن يتغير الخصوم فيها ذاتاً وصفة(5).
إلا أن هذه الوسيلة عاجزة أيضاً عن حل مشكلة التناقض إذا لم تراع مدة الطعن كونها من المدد الحتمية التي يترتب على عدم مراعاتها سقوط الحق في الطعن الأمر الذي يبقي مشكلة التناقض قائمة فلا يبقى أمامنا إلا اللجوء إلى الوسيلة العلاجية الأخيرة وهي ترجيح أحد الحكمين وتنفيذه دون الآخر طبقاً لأحكام المادة (217) من قانون المرافعات المدنية.
إذ تفترض هذه المادة وجود حكمين متناقضين صادرين في نفس الموضوع وبين نفس الخصوم ولنفس السبب ولم تفلح الوسائل الوقائية والعلاجية السابقة في الحيلولة دون وقوع حالة التناقض بينهما ووصلا إلى مرحلة التنفيذ إذ أن من أهم نتائج حالة التناقض ما بين الأحكام القضائية استحالة التنفيذ المتعاصر للحكمين معاً حتى ولو كانا صادرين في اتجاه واحد يستلزم ترجيح أحد هي الحكمين وتنفيذه دون الحكم الآخر.
ويشترط لحل مشكلة التناقض وفقاً لهذا النص ما يأتي:
1 - وحدة الدعوى أي أن يتحد الخصوم والموضوع والسبب في كلا الدعوتين(6).
2 - أن يكون الحكمان متناقضين بحيث لا يمكن تنفيذهما في وقت واحد (7).
3- أن يقع التناقض في منطوق الحكمين ، لأن التناقض في الأسباب لا تأثير له إذا لم يكن مرتبطاً بمنطوق الحكم ارتباطاً وثيقاً.
4- ألا يكون أحد الحكمين قد نفذ عند طلب حل النزاع الناشئ عن تنفيذ الحكمين.
5- أن يقدم طلب الترجيح من قبل الخصوم أو رؤساء دوائر التنفيذ.
وتطبيقاً لهذا الشرط قضت محكمة التمييز بما يأتي: " ليس لقضاة المحاكم أن يطلبوا ترجيح أحد الحكمين عند النظر في الدعاوى، لأن الحكم الذي تصدره المحكمة والذي يفصل في الدعوى يكون خاضعاً لطرق الطعن المقررة في القانون وان طلب الترجيح يقتصر على الخصوم ورؤساء دوائر التنفيذ طبقاً للمادة (217) من قانون المرافعات المعدل، وحيث أن طلب الترجيح جاء خلافاً لما تقدم قرر رده (8) .
كما قضت بأن: " طلب الترجيح لم يقدم من قبل الخصوم أو رئيس دائرة التنفيذ المختصة لذا قرر رده (9) .
فالمشرع العراقي توقع أن تصل حالة التناقض إلى مرحلة تنفيذ الأحكام فأوجد هذه الوسيلة. وعلى الرغم من أن المادة (217) تمثل الخط الأخير لحل مشكلة التناقض إلا أنه يؤخذ على المشرع العراقي صياغته لهذه الوسيلة بصورة تقلل من فعاليتها إذ جعل عرض النزاع على محكمة التمييز جوازياً للخصوم الذين قد يتركوا الأحكام دون تنفيذ بل يحتفظون بها للتمسك فيها في الوقت المناسب كما انه جعل المسالة جوازيه أيضاً لرؤساء دوائر التنفيذ الذين قد يغفلون عن التنبه للأمر نتيجة إهمالهم، فضلاً عن أن المشرع العراقي جعل مدة عرض النزاع وبالتالي مدة تنفيذ الحكم مفتوحة على الرغم من أن القوة التنفيذية للحكم تسقط إذا لم يراجع صاحبه بشأنه سبع سنوات اعتباراً من آخر معاملة (10).
إلا أن العمل يجري على إعادة إضفاء القوة التنفيذية على الحكم مرة أخرى بمصادقة المحكمة التي أصدرته والتي قد تتنبه لحالة التناقض إلا أن الأمر خرج من يدها استناداً إلى مبدأ استنفاذ الولاية، فضلاً عن ذلك فإن فعالية هذه الوسيلة لا تظهر إلا عند طلب تنفيذ الحكمين وبعكسه تبقى مشكلة التناقض قائمة، كما أن المشرع العراقي قد أغفل معيار الترجيح. لذا نرى ضرورة إعادة صياغة نص المادة (217) من قانون المرافعات المدنية وذلك بإلزام الخصوم ورؤساء دوائر التنفيذ في الطلب من محكمة التمييز النظر في النزاع الناشئ عن تنفيذ الحكمين المتناقضين، وان تبقى المدة مفتوحة دون تحديد رغم تعارض ذلك مع المادة (171) من قانون المرافعات، لأن مشكلة التناقض لا تظهر إلا عند طلب التنفيذ.
وان ينص المشرع العراقي على معيار يتم بموجبه ترجيح أحد الحكمين المتناقضين على أن يكون الفيصل هو تاريخ صدور الحكم إذا كان الحكمان صادرين عن محاكم متساوية في الدرجة وان يرجح الحكم الذي صدر أولاً ويؤمر بتنفيذه وذلك احترماً لحجية الأحكام التي اكتسبها الحكم الأول والغاء الحكم الثاني كونه منعدم المحل، وأن يرجح الحكم الصادر عن أعلى محكمة إذا كان الحكمان صادرين عن محاكم مختلفة احتراماً للحكم الصادر من المحكمة الأعلى درجة كون حكمها أكثر توفيقاً من حكم محكمة الدرجة الأدنى لأن قضاتها أكثر خبرة وأكثر عدداً، كما أن أحكام محاكم الأعلى درجة أكثر دقة من أحكام محاكم الأدنى درجة كونها تصدر في دعوى سبق دراستها ومناقشتها، أي بعد دراسة الدعوى أكثر من مرة.
وفي ظل عدم وجود معيار يتم بموجبه ترجيح أحد الحكمين المتناقضين على الآخر فقد استقر قضاء الهيئة العامة لمحكمة التمييز على ترجيح الحكم الأول على الثاني دون النظر إلى كون الحكمين صادرين عن محكمة مدنية واحدة أو عن محكمتين مدنيتين مختلفتين، ودون تفرقة بين الحكم الصادر عن المحكمة الأدنى درجة أو المحكمة الأعلى درجة (11).
__________
1- الفقرة (4) من المادة (203) من قانون المرافعات المدنية العراقي.
2- عباس العبودي، شرح أحكام قانون المرافعات، ط1 دار الكتب للطباعة والنشر العراق 2000 ، ص 434.
3- صادق حيدر شرح قانون المرافعات المدنية، الطبعة الأولى، مطبعة الإرشاد بغداد العراق، 2002، ص 377
4- المادة (171) من قانون المرافعات المدنية العراقي رقم (83) لعام 1969.
5- يمكن اعتبار نص المادة ( 209/3 ) من قانون المرافعات المدنية العراقي ، وسيلة علاجية أخرى لمشكلة تناقض الأحكام ، حيث نصت هذه المادة على أنه : " لا يجوز إحداث دفع جديد ولا إيراد أدلة جديدة أمام المحكمة المختصة بالنظر في الطعن تمييزاً باستثناء الدفع بالخصومة والاختصاص وسبق الحكم في الدعوى ، فالغاية من إيراد هذا الدفع هو معالجة مشكلة التناقض في الأحكام، لاسيما وأن الدعوى منظورة أمام محكمة التمييز، فالفرض هنا أن هناك حكم صادر من محكمة مختصة ومكتسب الدرجة القطعية، ثم تم نظر دعوى ثانية أمام محكمة أخرى هي ذات الدعوي الأولى من حيث محل الدعوى وسببها والخصوم فيها، وصدر فيها حكم يناقض الحكم الأول ولم إلى هذا التناقض إلا في مرحلة الطعن فيجوز لهم إيراد الدفع بسبق الحكم الدعوى أمام محكمة التمييز لحل هذا التناقض.
6- ضياء شيت خطاب الوجيز في شرح قانون المرافعات المدنية، مطبعة العاني ،بغداد ،العراق، 2005، ص 271؛ عباس العبودي، شرح أحكام قانون المرافعات، ط1 دار الكتب للطباعة والنشر العراق 2000 ، ص 358.
7- عبد الرحمن العلام، شرح قانون المرافعات المدنية العراقي، ج2، الطبعة الثانية، المكتبة القانونية، بغداد، 2008، ص 151
8- رقم القرار 295/ موسعة مدنية / 1988 في 1988/6/29 القرار منشور في مجموعة الأحكام العدلية التي يصدرها قسم الإعلام القانوني في وزارة العدل العراقية، العدد الثاني، 1988، ص 63.
9- رقم القرار 66 موسعة مدنية في 2007/3/26، (القرار غير منشور).
10- المادة (171) من قانون المرافعات المدنية العراقي رقم 83 الصادر عام 1969 وتعديلاته.
11- عبد الرحمن العلام، شرح قانون المرافعات المدنية العراقي، ج2، الطبعة الثانية، المكتبة القانونية، بغداد، 2008، ص 162.
الاكثر قراءة في القانون المدني
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة