نعتقد أنّ الإمام كالنبيّ يجب أن يكون أفضل الناس في صفات الكمال من شجاعة وكرم وعفة وصدق وعدل، ومن تدبير وعقل وحكمة وخلق. والدليل في النبيّ هو نفس الدليل في الإمام.
أمّا علمه فهو يتلقى المعارف والأحكام الإلهية وجميع المعلومات ، من طريق النبيّ ، أو الإمام من قبله.
واذا استجدّ شيء لا بدّ أن يعلمه من طريق الإلهام بالقوّة القدسيّة الّتي أودعها الله تعالى فيه ، فإن توجّه إلى شيء وشاء أن يعلمه على وجهه الحقيقي لا يخطأ فيه ولا يشتبه ، ولا يحتاج في كلّ ذلك إلى البراهين العقليّة ، ولا إلى تلقينات المعلمين وإن كان علمه قابلا للزيادة والاشتداد ولذا قال ـ صلى الله عليه وآله ـ في دعائه : (رَبِّ زِدْنِي عِلْماً).
(أقول): لقد ثبت في الأبحاث النفسيّة أنّ كلّ إنسان له ساعة أو ساعات في حياته قد يعلم فيها ببعض الأشياء من طريق الحدس ، الّذي هو فرع من الإلهام بسبب ما أودع الله تعالى فيه من قوّة على ذلك.
وهذه القوّة تختلف شدة وضعفا وزيادة ونقيصة في البشر ، باختلاف أفرادهم. فيطفر ذهن الإنسان في تلك الساعة إلى المعرفة من دون أن يحتاج إلى التفكير وترتيب المقدمات والبراهين أو تلقين المعلمين.
ويجد كلّ إنسان من نفسه ذلك في فرص كثيرة في حياته ، وإذا كان الأمر كذلك فيجوز أن يبلغ الإنسان من قوّته الالهامية أعلى الدرجات وأكملها ، وهذا أمر قرّره الفلاسفة المتقدمون والمتأخرون.
فلذلك نقول ـ وهو ممكن في حدّ ذاته ـ : إنّ قوّة الإلهام عند الإمام الّتي تسمّى بالقوّة القدسيّة تبلغ الكمال في أعلى درجاته ، فيكون في صفاء نفسه القدسيّة على استعداد لتلقّي المعلومات ، في كلّ وقت وفي كلّ حالة ، فمتى توجه إلى شيء من الأشياء وأراد معرفته استطاع علمه بتلك القوّة القدسيّة الالهامية ، بلا توقف ولا ترتيب مقدمات ، ولا تلقين معلم ، وتنجلي في نفسه المعلومات ، كما تنجلي المرئيات في المرآة الصافية لا غطش فيها ولا إبهام.
ويبدو واضحا هذا الأمر في تاريخ الأئمة ـ عليهم السلام ـ كالنبيّ محمّد ـ صلى الله عليه وآله ـ فإنّهم لم يتربوا ولم يتعلموا على يد معلم من مبدأ طفولتهم إلى سنّ الرشد ، حتى القراءة والكتابة ، ولم يثبت عن أحدهم أنّه دخل الكتاتيب أو تتلمذ على يد أستاذ في شيء من الأشياء مع ما لهم من منزلة علميّة لا تجارى.
وما سئلوا عن شيء إلّا أجابوا عليه في وقته ، ولم تمر على ألسنتهم كلمة (لا أدري) ، ولا تأجيل الجواب إلى المراجعة أو التأمل أو نحو ذلك ، في حين أنّك لا تجد شخصا مترجما له من فقهاء الإسلام ورواته وعلمائه إلّا ذكرت في ترجمته تربيته وتلمذته على غيره وأخذه الرواية والعلم على المعروفين وتوقفه في بعض المسائل أو شكّه في كثير من المعلومات كعادة البشر في كل عصر ومصر (أ).
_________________
(أ) يقع البحث في مقامات :
الأوّل : أن مقتضى كون الإمام قائما مقام النبيّ في جميع شئونه إلّا تلقّي الوحي ، هو تخلقه بأخلاقه واتصافه بصفاته ، إذ بدون ذلك لا يتم الاستخلاف والنيابة ، ومعه لا يتم اللطف ، وهو نقض للغرض ، ومخالف لمقتضى عنايته الاولى ورحيميته ، ونقض الغرض ، والمخالف لمقتضى عنايته تعالى لا يقع ولا يصدر منه أصلا كما لا يخفى.
وتوضيح ذلك أنّه قد مرّ في باب النبوّة أنّ من أغراض البعثة هو استكمال النفوس ، فاللازم هو أن يكون النبيّ في الصفات أكمل ، وأفضل من المبعوثين إليهم حتّى يتمكن له أن يهديهم ويستكملهم وينقاد الناس له للتعلم والاستكمال ، فإن كان النبيّ مبعوثا إلى قوم خاصّين فاللازم هو أن يكون أفضل منهم في ذلك الزمان ، وإن كان مبعوثا إلى جميع الناس إلى يوم القيامة ، فاللازم هو أن يكون أفضل من جميعهم إذ لو لا ذلك لما تيسّرت الهداية والاستكمال بالنسبة إلى جميعهم ، مع أنّهم مستعدون لذلك ، وهو لا يساعد عنايته الاولى وإطلاق رحيميته ونقض لغرضه ، وهو لا يصدر منه تعالى.
فإذا ثبت ذلك في النبيّ لزم أن يكون الإمام أيضا أفضل الناس في صفات الكمال من شجاعة وكرم وعفة وصدق وعدل ، ومن تدبير وعقل وحكمة وعلم وحلم وخلق ؛ لأنّه قائم مقامه ونائب عنه في جميع الامور والشئون إلّا في تلقّي الوحي ، وهذه النيابة لا تتم إلّا بالاتصاف المذكور ، ولعلّ إليه أشار المحقق اللاهيجي ـ قدس سره ـ حيث قال : لا بدّ أن يكون الإمام في غاية التفرد في استجماع أنواع الكمالات والفضائل حتّى تطيع وتنقاد له جميع الطبقات من الشرفاء والعلماء بحيث ليس لأحد منهم عار في الاتباع عنه والانقياد له (1).
هذا مضافا إلى ما في تجريد الاعتقاد وشرحه (2) من أن الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيته ؛ لأنّه إمّا أن يكون مساويا لهم ، أو أنقص منهم ، أو أفضل ، والثالث هو المطلوب والأوّل محال ؛ لأنّه مع التساوي يستحيل ترجيحه على غيره بالإمامة ، والثاني أيضا محال ؛ لأنّ المفضول يقبح عقلا تقديمه على الفاضل.
ويدلّ عليه أيضا قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (3) ولذلك قال العلّامة ـ قدس سره ـ في نهج الحق : اتفق الإمامية على أنّ الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيته ، وخالف الجمهور فجوزوا تقديم المفضول على الفاضل ، وخالفوا مقتضى العقل ونصّ الكتاب (4).
ويشهد لما ذكر ما سمعته عن علي بن موسى الرضا ـ عليهما السلام ـ في ضمن حديث من «أنّ الإمام واحد دهره ، لا يدانيه أحد ، ولا يعادله عالم ، ولا يوجد منه بدل ، ولا له مثل ولا نظير ، مخصوص بالفضل كلّه من غير طلب منه له ولا اكتساب ، بل اختصاص من المفضل الوهّاب ...» الحديث (5).
وقال أيضا : «للإمام علامات : يكون أعلم الناس ، وأحكم الناس ، وأتقى الناس ، وأحلم الناس ، وأشجع الناس ، وأسخى الناس ، وأعبد الناس ، ويولد مختونا ، ويكون مطهرا ، ويرى من خلفه كما يرى من بين يديه». الحديث (6)
الثاني: في كيفية تعلّم الإمام، ولا يخفى أنّ علمهم علم إلهي وليس بمكتسب عن الناس ، كما أنّ علم النبيّ كذلك، وتوضيح ذلك:
أنّ هذا العلم الإلهي قد يصل إلى الأئمة ـ عليهم السلام ـ من طريق النبيّ ـ صلى الله عليه وآله ـ كتعليمه ما علّم لعليّ ـ عليه السلام ـ وهو للحسن وهو للحسين وهو لعلي بن الحسين وهكذا إلى المهدي الحجة بن الحسن ـ عليهم الصلوات والسّلام ـ.
ثم إنّ هذا التعليم وقع على أنحاء منها : التعليمات العاديّة كما قال الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وآله ـ «وسمعه علي ـ عليه السلام ـ كما سمعه الناس ، وإنّما الفرق بينه وبينهم أنّه ـ عليه السلام ـ أسمعهم وأحفظهم وأفهمهم وأضبطهم».
ومنها التعليمات الغير العاديّة مثل ما انتقل إلى علي ـ عليه السلام ـ بالاشراق وتنوير الباطن ، ولعلّ من ذلك ما في كتب الفريقين كالكافي وينابيع المودّة من أنّ أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ قال : رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ علّمني ألف باب وكلّ باب منها يفتح ألف باب ، فذلك ألف ألف باب حتّى علمت ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، وعلمت علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب (7).
ولعلّ ذكر الألف من باب إفادة التكثير فلا خصوصية للألف.
أو مثل ما كتبه علي ـ عليه السلام ـ بإملاء رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وسمّي بالجامعة ، قال الصادق ـ عليه السلام ـ : فيها كلّ حلال وحرام وكلّ شيء يحتاج الناس إليه حتى الأرش في الخدش (8) أو مثل ما انتقل إليه من ميراث الأنبياء والوصيين ، وسمّي بالجفر ، قال الصادق ـ عليه السلام ـ : «هو وعاء من آدم ، فيه علم النبيّين والوصيّين ، وعلم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل (9) ، وفيه زبور داود ، وتوراة موسى ، وانجيل عيسى ، وصحف إبراهيم» (10).
وفي رواية اخرى «إن لله علما لا يعلمه أحد غيره ، وعلما قد علمه ملائكته ورسله ، فنحن نعلمه» (11).
وقد يصل العلم الإلهي إلى الإمام من طرق اخر كمصحف فاطمة وهو الّذي أخبرها به جبرئيل فأملته فاطمة ـ سلام الله عليها ـ لعلّي ـ عليه السلام ـ وكتبه بيده المباركة (12) ، قال الصادق ـ عليه السلام ـ : «مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات والله ، ما فيه من قرآنكم حرف واحد (13). قال الصادق ـ عليه السلام ـ أيضا: «ليس من ملك يملك (الأرض) إلّا وهو مكتوب فيه باسمه واسم أبيه وما وجدت لولد الحسن فيه شيئا» (14).
وكتحديث الملائكة وقد ورد في روايات متعددة أنّ الأئمة محدّثون كما قال أبو الحسن ـ عليه السلام ـ : «الأئمة علماء صادقون مفهّمون محدّثون» (15).
وكإلهامات واقعية إلهية ، قال الحارث بن المغيرة : قلت لأبي عبد الله ـ عليه السلام ـ : أخبرني عن علم عالمكم. قال : وراثة من رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ومن علي ـ عليه السلام ـ قال : قلت : إنّا نتحدث أنه يقذف في قلوبكم وينكت في آذانكم قال : أو ذاك (16).
وكجعلهم مشرفين على الامور ، كمّا ورد في الروايات المتعددة أنّ الإمام إذا شاء أن يعلم علم (17) ، أو أنّ الإمام يرى من خلفه كما يرى من بين يديه ، وغير ذلك. وكيف كان فلا يخفى عليك أنّه لا وجه لعدم ذكر النوع الأخير في كلام المصنف.
الثالث : في مقدار علم الأئمة ـ عليهم السلام ـ وأنّى لنا بهذا مع أنّ الأئمة فاقوا فيه الأوّلين والآخرين بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وبلغوا فيه إلى حدّ لا يحتاج أحد إلى شيء من امور دينه ودنياه وسعادته وآخرته إلّا كان علمه عندهم ولهم الجواب ، وهم الدعاة إلى سبيل الخير والسعادة الواقعية ، وقد أرشدوا الناس طيلة حياتهم إلى الحياة الطيبة ، ولم يعطلوا في قبال سؤال ولو لم يكن من الامور الدينيّة ، كما تشهد لذلك الأسئلة المختلفة الّتي جاءت إليهم من الموافقين والمخالفين والملحدين ، فأجابوها بأمتن الجواب وأحسنه.
ولهم الاشراف على الامور حتّى النيّات والأعمال ، وعلى ما وقع ، وعلى ما يقع ، وعلى منطق الطيور ، وعلى ما يحتاج إليه الجن وغيرهم. ولا بدّ أن أقول : كيف أقول في وصفكم وثنائكم أئمتي الأبرار ، مع ما في لساني الكالّ من اللكنة ، وما في ذهني الفاتر من القصور ، بل الأحسن أن اكتفي بما قلتم أنتم في وصفكم : (كلامكم نور وأمركم رشد ، ووصيتكم التقوى وفعلكم الخير ، وعادتكم الإحسان وسجيتكم الكرم ، وشأنكم الحقّ والصدق والرفق ، وقولكم حكم وحتم ، ورأيكم علم وحلم وحزم ، إن ذكر الخير كنتم أوّله وأصله وفرعه ومعدنه ومأواه ومنتهاه ، بأبي أنتم وامي ونفسي ، كيف أصف حسن ثنائكم ، واحصي جميل بلائكم؟ وبكم أخرجنا الله من الذلّ وفرّج عنا غمرات الكروب ، وأنقذنا من شفا جرف الهلكات ومن النار ، بأبي أنتم وامي ونفسي بموالاتكم علّمنا الله معالم ديننا ، وأصلح ما كان فسد من دنيانا ، وبموالاتكم تمت الكلمة وعظمت النعمة وائتلفت الفرقة ، وبموالاتكم تقبل الطاعة المفترضة ، ولكم المودة الواجبة والدرجات الرفيعة والمقام المحمود والمكان المعلوم عند الله ، والجاه العظيم والشأن الكبير والشفاعة المقبولة) (18).
وإليك بعض الأحاديث الدالّة على مقدار علومهم وفخامتها ، وإن كان الأمر واضحا كالنار على المنار.
عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ في حديث قال : «إنّ الله لا يجعل حجته في أرضه يسأل عن شيء فيقول لا أدري» (19).
وعن سيف التمار قال : كنا مع أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ جماعة من الشيعة في الحجر فقال : علينا عين فالتفتنا يمنة ويسرة فلم نر أحدا ، فقلنا : ليس علينا عين ، فقال : وربّ الكعبة وربّ البنيّة ثلاث مرات ، لو كنت بين موسى والخضر لأخبرتهما أني أعلم منهما ولأنبأتهما بما ليس في أيديهما ، لأنّ موسى والخضر ـ عليهما السلام ـ اعطيا علم ما كان ، ولم يعطيا علم ما يكون وما هو كائن حتّى تقوم الساعة ، وقد ورثناه من رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وراثة (20).
وعن أبي حمزة قال : سمعت أبا جعفر ـ عليه السلام ـ يقول : «لا والله ، لا يكون عالم جاهلا أبدا ، عالما بشيء جاهلا بشيء ، ثم قال : الله أجلّ وأعزّ وأكرم من أن يفرض طاعة عبد يحجب عنه علم سمائه وأرضه ، ثم قال : لا يحجب ذلك عنه» (21).
وعن الرضا ـ عليه السلام ـ في حديث : «أنّ الإمام مؤيد بروح القدس وبينه وبين الله عمود من نور يرى فيه أعمال العباد وكلّما احتاج إليه لدلالة اطلع عليها ...» الحديث (22).
وعن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال : «إني لأعلم ما في السماوات وما في الأرض ، وأعلم ما في الجنة ، وأعلم ما في النار ، وأعلم ما كان وما يكون ، قال :
ثم مكث هنيئة فرأى أنّ ذلك كبر على من سمعه منه ، فقال : علمت ذلك من كتاب الله عزوجل ان الله يقول : فيه تبيان كلّ شيء» (23).
وقد قال مولانا أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ : «أما والله لقد تقمّصها فلان ، وأنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى ، ينحدر عنّي السيل ، ولا يرقى إليّ الطير» الحديث (24).
وقال أيضا : «أيّها الناس سلوني قبل أن تفقدوني فلأنا بطرق السماء أعلم منّي بطرق الأرض» (25).
وقال أيضا : «والله لو شئت أن اخبر كلّ رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت ، ولكن أخاف أن تكفروا فيّ برسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ألا وإنّي مفضيه إلى الخاصّة ممن يؤمن ذلك منه. والّذي بعثه بالحق ، واصطفاه على الخلق ، ما أنطق إلّا صادقا ، وقد عهد إليّ بذلك كلّه ، وبمهلك من يهلك ومنجى من ينجو ، ومال هذا الأمر. وما أبقى شيئا يمر على رأسي إلّا أفرغه في أذني وأفضى به إليّ» الحديث (26). وغير ذلك من الأخبار والروايات في ذلك متواترة ، وحيث كان صدورها عن المعصومين قطعيا ، صار موجبا لحصول اليقين بمفادها كما لا يخفى.
قال العلّامة الطباطبائي ـ قدس سره ـ : «إنّ الإمام وقف على حقايق العالم ، كيف ما كان بإذنه تعالى سوء كانت محسوسة أو غير محسوسة ، كالموجودات السماويّة والحوادث الماضية والوقائع الآتية ، وتدلّ على ذلك الروايات المتواترات المضبوطة في الكافي وبصائر الدرجات وبحار الأنوار وغيرها» (27).
الرابع : أنّ ما أشار إليه المصنّف في قوله من أنّ الحدس الّذي ربّما يتفق في الإنسان غايته هو الإلهام على ما قرّره الفلاسفة المتقدمون لعلّه إشارة إلى ما قرّره صدر المتألهين في الأسفار في معنى الحدس والذكاء حيث قال : ومنها الحدس ولا شك في أنّ الفكر لا يتم إلّا بوجدان شيء متوسط بين طرفي المجهول لتصير النسبة المجهولة معلومة ، وكذا ما يجري مجراه في باب الحدود للتصور ، لما تقرّر أنّ الحدّ والبرهان متشاركان في الأطراف والحدود ، والنفس حال كونها جاهلة كأنّها واقعة في ظلمة ظلماء ، فلا بدّ من قائد يقودها أو روزنة يضيء لها موضع قدمها ، وذلك الموضع هو الحد المتوسط بين الطرفين ، وتلك الروزنة هو التحدس بذلك دفعة ، فاستعداد النفس لوجدان ذلك المتوسط بالتحدس هو الحدس ، ومنها الذكاء وهو شدة هذا الحدس وكماله وبلوغه وغايته القصوى هو القوّة القدسيّة الّتي وقع في وصفها قوله تعالى : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) وذلك لأنّ الذكاء هو الامضاء في الامور ، وسرعة القطع بالحق ، وأصله من ذكت النار وذكى الذبح وشاة مذكّاة أي يدرك ذبحها بحدة السكين (28) ، ولا يخفي عليك أنّ أنواع الإلهام لا تنحصر في الحدس والذكاء لإمكان الإفاضات بدون ذلك كما أشرنا إليه ، وكيف كان فمما ذكر يظهر أنّ علومهم لا تنحصر في العلوم العاديّة ، كما ذهب إليه الجمهور من علماء العامّة ، بل لهم ما للرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ من العلوم الإلهية بأنواعها ، كما يقتضيه قيامهم مقام النبي في الإتيان بوظائفه ؛ لأن ذلك لا يتحقق من دون العلم الإلهي كما لا يخفي.
الخامس : في الميز بين علومهم والعلوم البشريّة، ولا يخفي عليك أنّ العلوم البشريّة منقسمة إلى : البديهيات والنظريات. والإنسان من لدن وجوده أراد كشف المجهولات بالتفكير وترتيب المقدمات ، وفي هذا السبيل كثيرا ما كان يخطأ ، ولذا وضع علم الميزان ليمنعه عن ذلك ، ومعه لا يعصمه ، وإن أفاده لخطائه في تطبيق علم الميزان على محاوراته ، وعليه فالعلوم النظريّة مكتسبة من البديهيات بترتيب المقدمات ، وترتيب المقدمات يحتاج إلى التعلّم والتعليمات ، وحيث أنّ آحاد الإنسان في التفكير وترتيب المقدمات ليسوا بمتساوين يؤدي التفكير في جملة من المسائل إلى الاختلاف في النتائج في كشف الحقائق ، ولم يتمكنوا من الاتفاق فيها ، إذ ربّما يكون الترتيب بنظر واحد تماما وبنظر آخر ناقصا ، ولذا تكون النتيجة عند واحد واضحة ، وعند آخر غير واضحة ، بحيث يمكن عنده تجديد النظر ، ويحتمل خلافه كما ليسوا عند إظهار النظر على السواء ، إذ ربّما أظهر واحد نظره في مجهول بأنّ الأمر كذا أو كذا قطعا ، وأظهر ثان بأنّ الأمر كذا وكذا من دون التأكيد بالقطع ، وأظهر آخر بأنّ الظاهر أنّه كذا ، ورابع بأنّه محتمل ، وخامس بأنّه مشكل ، فيما إذا لا يؤدي نظره إلى شيء ، وعليه فيكون باب التأمل والاشكال وتجديد النظر في كثير من المعلومات منفتحا.
هذا مضافا إلى مجهولات كثيرة يكون كشفها خارجا عن حيطة قدرة علم الإنسان ، ولذا اعترف الأعاظم من العلماء بالقصور عن حلّ جميع المجهولات ، وإن ظفروا بالاصول والضوابط المتعددة الصحيحة من المقدمات البديهيّة كما لا يخفى ، وكيف كان فهذه هي العلوم الاكتسابية الّتي لا يمكن لأحد أن يرثها من أبيه أو آخر من دون تحمّل المشاق في تحصيلها.
وفي قبالها علوم إلهية أفاضها الله تعالى إلى أنبيائه وأوليائه ، وهذه العلوم الإلهية لا تحتاج إلى الاكتساب وترتيب المقدمات للوصول إلى المجهولات النظرية ، بل نور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده ومعه يرى حقيقة كلّ شيء ولا تحجب عنه ، ولا يحتاج انتقاله من نبيّ إلى نبيّ ، أو من وليّ إلى وليّ إلى مئونة ، بل ينتقل إليه بالاشراق وتنوير الباطن في لحظة ، ولذا صار بعض الأنبياء أو الأئمة ـ عليهم الصلوات والسّلام ـ نبيا وإماما في حال الصباوة من دون حاجة إلى مضي زمان.
ثم إنّ العلوم الإلهيّة لا اختلاف فيها ، بل كلّها واضحة ، ولا يكون فيها أجلى وأوضح ، ولذا لم يسمع من نبيّ ما تعارف بيننا من الأوضح والأظهر ، أو الظاهر فضلا عن لا أدري ولا أعلم ، والعلوم الإلهية كلّها حاضرة عندهم ، ولذا لم يقل أحد منهم في مقام الجواب عن مسألة ، المسألة تحتاج إلى المراجعة أو التأمل ، أو نحو ذلك ، بل كانوا داعين للناس إلى الأسئلة ، وأجابوا عنها من دون إحالة إلى المطالعة أو التأجيل.
ولا يعتري على العلوم الإلهية ما يحتاج معه إلى تجديد النظر ، بل هي على ما هي عليها من القوّة والظهور ، نعم تصير أجلى بمرور الأزمنة والدهور للسامعين.
ولا ينافي ذلك النسخ في الشرائع أو شريعتنا ، لأنّ معنى النسخ ليس إلّا ارتفاع أمد الحكم النافع ، بحيث لا اعتبار به بعد ارتفاع أمده وليس فيه ما يكشف عن عدم صحة الحكم في وقته وزمانه ، بل كلّ منسوخ حكم صحيح متين في زمانه ، ولذا يصدّق كلّ نبيّ ما نزل على النبيّ الآخر ولا يكذّبه.
ومما ذكر يظهر أن العلوم الإلهية حيث لا تحتاج إلى ترتيب المقدمات ، لا يكون فيها الاختلاف ، ولذا لا يكون الأنبياء والأئمة ـ عليهم الصلوات والسلام ـ مختلفين في أمر من الامور ، بل كلّهم مخبرون عن الحقائق الواحدة ، وإن كانت كلماتهم للناس بحسب اختلاف استعدادهم وتفاوت ظروفهم مختلفة.
______________
(1) سرمايه ايمان : 115.
(2) شرح تجريد الاعتقاد : ص 366 الطبع الجديد.
(3) يونس : 35.
(4) دلائل الصدق : ج 2 ص 15.
(5) الأصول من الكافي : ج 1 ص 201.
(6) التنبيه للشيخ الحر العاملي : ص 26 نقلا عن الفقيه.
(7) ينابيع المودة : ج 1 ص 75 ، ونحوه في الكافي : ج 1 ص 239.
(8) الاصول من الكافي : ج 1 ص 239.
(9) الاصول من الكافي : ج 1 ص 239.
(10) الاصول من الكافي : ج 1 ص 240.
(11) بصائر الدرجات : ص 110.
(12) بصائر الدرجات : ص 154.
(13) الاصول من الكافي : ج 1 ص 239.
(14) الاصول من الكافي : ج 1 ص 242.
(15) الاصول من الكافي : ج 1 ص 270 ـ 271.
(16) الاصول من الكافي : ج 1 ص 264.
(17) الاصول من الكافي : ج 1 ص 258.
(18) من لا يحضره الفقيه : ج 2 ص 609 طبع مكتبة الصدوق بطهران.
(19) التنبيه : ص 32 نقلا عن الكافي.
(20) الاصول من الكافي : ج 1 ص 260 ـ 261.
(21) الاصول من الكافي : ج 1 ص 262.
(22) التنبيه : ص 42 نقلا عن عيون الأخبار.
(23) الاصول من الكافي : ج 1 ص 261.
(24) نهج البلاغة الخطبة : 3 ص 48 لصبحي صالح.
(25) نهج البلاغة الخطبة : 189 ص 280 لصبحي صالح.
(26) نهج البلاغة الخطبة : 175 ص 250 لصبحي صالح.
(27) بحثى كوتاه درباره علم امام : ص 34.
(28) الاسفار : ج 3 ص 516.
الاكثر قراءة في صفات الأئمة وفضائلهم
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة