لقد اتفق المسلمون على أن النبي ( ص ) أسري به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، ومنه عرج إلى السماء ليرى من مظاهر قدرة اللّه وعجائب مخلوقاته ما خفي على أهل الأرض وعجزت عنه عقولهم ومداركهم ، ونص القرآن الكريم على المرحلة الأولى من مراحل تلك الرحلة في الآية من سورة الإسراء :
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ .
واختلف المؤرخون والمحدثون في تاريخهما ، فقيل انهما كانا قبل موت أبي طالب ، وانه افتقده في الليلة التي أسري به فلم يجده فظن أن قريشا تمكنت منه وأخفت اثره ، فأوعز إلى بني هاشم ان يأخذ كل واحد منهم سيفه ويهاجم قريشا ليثأر له منهم . وقبل تنفيذ الخطة مر بباب ابنته هند المعروفة بأم هانئ فوجده على بابها كما جاء في رواية اليعقوبي . وجاء فيها انه جمع سبعين رجلا من بني عبد المطلب ومعهم الشفار وامرهم ان يجلس كل واحد منهم إلى رجل من قريش ، فإذا لم يجد محمدا فليقتل كل واحد رجلا منهم ، فلما وجده اخبره بما جرى له فأتى به إلى قريش وأخبرهم بما كان من أمره .
وقيل إنهما كانا في السنة الثانية عشرة من مبعثه بعد موت أبي طالب ، وقيل إنهما كانا ليلة السبت لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان في السنة الثالثة عشرة من نبوته وقيل غير ذلك كما جاء في تاريخ أبي الفداء وغيره من كتب السيرة والتاريخ . وكما اختلفوا في تاريخ وقوعهما اختلفوا في أنهما كانا بالروح والجسد ، أو بالروح فقط ، أو انهما رؤيا صادقة ، وذهب فريق إلى أن الإسراء كان بالجسد ، والمعراج كان بالروح لا غير .
واعتمد القائلون بأنهما كانا بالروح لا بالجسد فيما اعتمدوا عليه على رواية عائشة حيث جاء عنها انها قالت ما فقدت جسد رسول اللّه ليلة الإسراء ، كما رووه عن معاوية بن أبي سفيان أيضا ، في حين ان أكثر الروايات تنص على أنه كان ليلة الإسراء في بيت أم هانئ ، هذا بالإضافة إلى أنه من المتفق عليه تقريبا ان الإسراء والمعراج كانا قبل هجرته إلى المدينة ، ومن المتفق عليه ان عائشة لم تنتقل إلى بيته قبل السنة الثانية من هجرته ، لأنها لم تكن قبل ذاك قد بلغت تسعا من عمرها .
ولقد تحدث الفلاسفة والعلماء وأكثروا حول الاسراء والمعراج ، وذهب جماعة منهم إلى أنهما كانا بالروح والجسد كما ذكرنا بحجة ان ذلك امر لا يحليه العقل ولم يخرج عن حدود الامكان ، وقد ثبت ان الرياح كانت تنقل سليمان إلى الأماكن البعيدة في ساعات قليلة ، وكانت عندما تشتد تنتقل به إلى حيث يريد في لحظات معدودات .
وقد نص القرآن الكريم على أن الذي عنده علم من الكتاب قد احضر عرش بلقيس من أقصى اليمن إلى بلاد الشام بأقل من لمح البصر قال تعالى :
قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي .
وأضاف إلى ذلك الرازي في تفسيره انه كما يستبعد العقل صعود الجسم الكثيف من مركزه إلى ما فوق العرش ، فكذلك يستبعد نزول الجسم اللطيف الروحاني من فوق العرش إلى مركز العالم ، فإن كان القول بمعراج محمد ( ص ) في الليلة الواحدة ممتنعا في العقول ، كان القول بنزول جبريل ( ع ) من العرش إلى مكة في اللحظة الواحدة ممتنعا ، ولو حكمنا بهذا الامتناع كان ذلك طعنا في نبوة محمد وجميع النبوات ، والمعراج متفرع على نبوته .
فإذا كان الاسراء والمعراج ممكنين ولا يحيلهما العقل ، كما لا يحيل أن تكون سرعة البراق الذي امتطاه النبي ( ص ) بالغة حدود سرعة الضوء التي يقدرها العلماء بثلاثمائة الف كيلومتر في الثانية .
فإذا ثبت الامكان فمرحلة الوقوع لا تثبت بمجرد ذلك ، بل لا بد لها من دليل آخر ، وقد دل القرآن الكريم على وقوع ذلك في الآية السابقة وأكدته النصوص المتواترة عن النبي والأئمة ( ع ) وظاهر الآية والنصوص التي تعرضت لذلك انهما كانا بالجسد لا بالروح وحدها ، ولا بنحو الرؤيا ، كما يبدو من الذين اعتمدوا على رواية السيدة عائشة ومعاوية بن أبي سفيان ، ذلك لأن كلمة عبده التي وردت في آية الاسراء ، تعني بظاهرها الانسان بروحه وجسده .
وجميع الآيات التي وردت فيها هذه الكلمة أريد منها الانسان بمادته وصورته ، قال سبحانه في سورة العلق :
أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى ، وفي الآية من سورة الجن :
وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً إلى غير ذلك مما ورد فيه هذا اللفظ . ومن القواعد المقررة ان كل ما دل عليه ظاهر اللفظ قرآنا كان أم حديثا أم غيرهما ولم يتعارض مع دليل آخر أقوى منه ظهورا ، أو مع حكم العقل وجب الأخذ به ولا يجوز التصرف فيه لمجرد كونه غير مألوف ، أو غير داخل في حدود مقدرة الانسان .
على أن الاسراء والمعراج بالروح فقط ليس فيه ما يدعو إلى الدهشة والاستغراب ، ذلك لأنه بمعنى اشراق الروح في حالة النوم على غير عالمها ليس باعجاز فريد من نوعه ليخبر به على أنه آية من آيات نبوته لجواز ان يحدث ذلك مع كل انسان ، وان كان أصحاب هذا الرأي يعنون بأن الروح قد انفصلت عن الجسد وبقي جثة هامدة لا حياة فيها ، ثم عادت إليه الروح بعد رحلتها إلى اعماق الفضاء تخترق الحجب والسماوات السبع ، إذا كانوا يعنون ذلك فالعقل لا يرى ذلك أقرب إلى الوقوع من القول بأنها كانت بهما معا ، وان كان أصحاب هذا القول يردون ذلك إلى القدرة الإلهية فالقدرة الإلهية كما تتسع للاسراء والمعراج بهذا المعنى تتسع لهما بالروح والجسد .
ومن أدلة القائلين بأنها كانت رؤيا رآها النبي ( ص ) في منامه قوله تعالى :
وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ، وأجاب أنصار الرأي الأول وغيرهم ان الرؤيا التي رآها النبي ( ص ) لا صلة لها بالمقام فقد رأى في نومه ان بني أميّة ينزون على منبره كالقردة فانتبه متألما ، فأنزل اللّه عليه وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ، كما يرى ذلك أكثر المفسرين والمؤرخين ، ورواه عمر بن الخطاب عن النبي ( ص ) ، وجاء في حديث عمر بن الخطاب أنه قال : واللّه لقد سمعت رسول اللّه يقول :
ليصعدن بنو أمية على منبري ، ولقد رأيتهم في منامي ، ينزون عليه نزو القردة ، وفيهم انزل اللّه : وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ .
وروى الزبير بن بكار عن المغيرة بن شعبة أنه قال : قال لي عمر يوما يا مغيرة هل أبصرت بعينك العوراء هذه منذ أصيبت . قلت : لا . قال اما واللّه ليعورن بنو أميّة الاسلام كما اعورت عينك هذه ثم ليعمينه حتى لا يدري اين يذهب ولا أين يجيء[1].
هذا بالإضافة إلى أن كلمة الرؤيا ليست ظاهرة في الرؤيا في النوم ذلك انها كما تستعمل في هذا المعنى تستعمل في الرؤيا الحسية ولعل هذا المعنى أظهر منها وعليه تحمل إذا لم يكن في الكلام ما يوجب صرفها إلى الثاني ، فالآية لو قطعنا النظر عن مورد نزولها يمكن استعمال كلمة الرؤيا فيها بكل من المعنيين كل على انفراده .
وعلى اي الأحوال فقد جاء في الكاشف عند الحديث عن الاسراء والمعراج ان محمد فتحي احمد نشر مقالا في جريدة الجمهورية بعنوان المضمون العلمي للاسراء والمعراج جاء فيه :
لقد امتطى رسول اللّه راحلة يقال لها البراق ، وهي على ما جاء في الحديث دابة أكبر من الحمار وأصغر من البغل ، وفي ذلك تلقين إلهي لنا بوجوب التعلق بالأسباب ، فلم يكن عزيزا على ربنا ان ينقل رسوله من مكة إلى القدس دون وسيلة من وسائل النقل بحيث يجد الرسول نفسه فجأة على أبواب المسجد الأقصى ، ولكنه جلت حكمته قضى بأن يجري كل شيء على قوانين لا تتغير ولا تتبدل ، وفي استخدام تلك الدابة في هذه الرحلة التي قطعت فيها المسافات البعيدة في سرعة مذهلة تحريض للعقول على النظر في ابتداع وسائل جديدة تقطع المسافات البعيدة في مدة وجيزة .
ومضى يقول : ثم نسأل الذين يعلمون ما هو أقصى حد لسرعة تجري في فضاء اللّه طبقا لما انتهى إليه العلم ويأتينا الجواب بلا تردد بأنها سرعة الضوء وهي ثلاثمائة الف كيلومتر في الثانية الواحدة ، والبراق الذي امتطاه الرسول كان ينطلق بسرعة ضوئية ، لأن كلمة البراق مشتقة من البرق .
واستطرد يقول : من خلال المحاولات العلمية في دراسة الفضاء توصل الانسان إلى معرفة كثير من الأسرار واستطاع سلطان العلم ان ينفذ من أقطار الأرض إلى عجائب الملكوت ، ولكن العلم المادي وحده ينسي الانسان خالق الكون ، وحادث الاسراء والمعراج يعطينا درسا بأن المادة والروح متلازمتان ، فقد كان الرسول بعروجه إلى الملأ الأعلى على هيئته بشرا من مادة الكون وقبسا من روح الخالق العظيم وكان جبريل يمثل الدليل الأمين[2].
ومجمل القول إن الاسراء والمعراج آية من آيات اللّه على نبوة محمد ( ص ) التي حدثت بقدرة اللّه سبحانه ، وقدرته لا تحيط بها العقول ولا تحيط بها الأفهام والمعجز لا بد وان يكون فوق مستوى العلم والعقل .
وإذا أمكن ادراك حقيقته وكان بامكان العلم ان يتوصل إلى اسراره يصبح داخلا في امكانيات الانسان ، ومع ذلك لا يكون معجزا ولا من دلائل النبوة ، وخلاصة البحث انه بعد ان نص القرآن على الإسراء ونص الحديث الصحيح عليهما معا فالبحث في كيفيتهما وامكانهما وعدمه لا مبرر له .
وقد اشتملت كتب الحديث والسيرة التي تعرضت لوصف تلك الرحلة على أمور لا تخلو من الحشو والمبالغة ولا يجب التصديق بكل ما جاء فيها ما لم يثبت بالنص الصحيح الصادر عن النبي ( ص ) أو أحد الأئمة الأطهار ( ع ) .
وجاء في كتب السيرة ان أم هانئ بنت أبي طالب قالت إن النبي ( ص ) صلى العشاء في بيتي ، ثم نام ونمنا ، فلما كان قبيل الفجر أيقظنا ، فلما صلى الصبح وصلينا معه قال يا أم هانئ : لقد صليت معكم العشاء الآخرة ، ثم جئت إلى بيت المقدس فصليت فيه ، ثم قام ليخرج ، فأخذت بطرف ردائه فتكشف عن بطنه ، فقلت له : يا نبي اللّه لا تحدث بها الناس فيكذبوك ويؤذوك ، فقال واللّه لأحدثنهم ، فقلت لجارية لي حبشية : ويحك اتبعي محمدا حتى تسمعي ما يقول للناس وما يقولون له .
فلما خرج رسول اللّه إلى الناس تعجبوا وقالوا ما آية ذلك يا محمد ، فانا لم نسمع بمثل هذا قط ، قال آية ذلك اني مررت بعير بني فلان بوادي كذا وكذا فأنفرهم حس الدابة وندلهم بعير فدللتهم عليه وأنا متوجه إلى الشام ، ثم أقبلت حتى إذا كنت بصجنان وهو جبل على بريد من مكة مررت بعير بني فلان فوجدت القوم نياما ولهم اناء فيه ماء قد غطوا عليه بشيء ، فكشفت غطاءه وشربت ما فيه ، ثم غطيته كما كان ، وآية ذلك ان عيرهم ينزل من البيضاء ثنية التنعيم يقدمها جمل اورق عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى بلقاء ، قالت فابتدر القوم الثنية فأول ما لفتهم الجمل كما وصفه لهم وسألوهم عن الاناء فأخبروهم انهم وضعوه مملوءا ماء ثم غطوه ، وانهم وجدوه مغطى ولا ماء فيه ، وسألوهم عن البعير الذي ند لهم فأخبروهم انهم فقدوا بعيرا وسمعوا صوت رجل يدعوهم إليه حتى اخذوه .
وقد روى البخاري في صحيحه حديث النبي مع قريش وما شاهده في ذهابه وإيابه بهذا النص الذي رويناه عن أم هانئ وجاريتها كما جاء في كتب السيرة ، كما رواه جماعة من محدثي الشيعة عن الامامين الباقر والصادق ( ع ) ، كما روى محدثو الشيعة عن الأئمة اخبار رحلته إلى السماء وما شاهده فيها وحديث فرض الصلاة وتخفيفها إلى أن استقرت على ما هي عليه وغير ذلك من المشاهدات ، ولكن جميع تلك المرويات التي وردت حول هذا الموضوع سواء كانت من طريق الشيعة أم السنة هي من نوع الآحاد التي لا يجب التدين بها ما لم تقترن بما يوجب الاطمئنان لصدورها .
اما المعراج والإسراء فهما حقيقتان واقعتان والتشكيك فيهما أو انكارهما يوجب الخروج عن الإسلام عند أكثر المسلمين ، لأن انكارهما تكذيب للقرآن فيما يعود إلى الإسراء ، وتكذيب للحديث المتواتر المعلوم الصدور عن النبي والأئمة بالنسبة إلى المعراج .
قال المجلسي في المجلد السادس من بحار الأنوار : واعلم أن عروجه إلى بيت المقدس ثم منه إلى السماء في ليلة واحدة بجسده الشريف مما دلت عليه الآيات والأخبار المتواترة على طريق الخاصة والعامة ، وانكار أمثال ذلك أو تأويلهما بالعروج الروحاني ، أو كونهما رؤيا رآها في النوم ينشأ اما من قلة التتبع في آثار الأئمة الأطهار أو من قلة التدين وضعف اليقين أو من تشكيكات المتفلسفين ، وأضاف إلى ذلك ان الأخبار الواردة في هذا المطلب لا أظن أن مثلها ورد في شيء من أصول المذهب .
وقد أورد المجلسي عشرات الأحاديث عن الأئمة وغيرهم من كبار الصحابة والتابعين على وقوعهما ، والتشكيك بعد تواتر الحديث والنص القرآني لا مبرر له كما ذكرنا لأنه لم يدع أحد من المسلمين وقوعهما من النبي ( ص ) بامكانياته العلمية ، أو بطاقاته البشرية ، بل كان منه ذلك بقدرة اللّه سبحانه التي لا تحدها العقول ولا تحيط بها الأفهام والمقاييس العلمية والفلسفية ، وإذا أردنا ان نستعمل هذا الأسلوب ونطبق المقاييس العلمية على الخوارق التي وقعت على أيدي الأنبياء كعصا موسى التي صيرها اللّه أفعى تلتهم السحرة والمشعوذين وانشقاق البحر ووقوف الماء بشكل عمودي حتى أصبح كل فرق كالطود العظيم ، وما صنعه عيسى من إحياء الموتى وغير ذلك مما نص عليه القرآن الكريم وبقية الكتب السماوية مما لا يستطيعه الانسان مهما بلغ من العلم ، فيجب ان لا نقر منها شيئا ، وبالتالي فإن ذلك يؤدي إلى التشكيك في جميع النبوات والرسالات .
 
[1] انظر شرح النهج للمعتزلي ج 3 ص 115 .
 
[2] انظر الكاشف ج 5 ص 9 وانظر تفسير الرازي الجزء 19 ص 49 وما بعدها .
 
 
				
				
					
					 الاكثر قراءة في   معجزاته
					 الاكثر قراءة في   معجزاته					
					
				 
				
				
					
					 اخر الاخبار
						اخر الاخبار
					
					
						
							  اخبار العتبة العباسية المقدسة