الفساد الإداري في العراق في فترة الاحتلال العثماني
المؤلف:
صباح عبد الكاظم شبيب الساعدي
المصدر:
دور السلطات العامة في مكافحة ظاهرة الفساد الإداري في العراق
الجزء والصفحة:
ص 28-31
2025-10-27
42
احتل العثمانيون بغداد سنة 1534 ميلادية وكانوا قبل ذلك قد اخذوا الخلافة عام 1517 من المتوكل آخر الخلفاء العباسيين (1) . وقد سادت القومية التركية في أنحاء الإمبراطورية العثمانية، ويؤلف الأتراك الإقطاعيون عدداً كبيراً في الطبقة الحاكمة وقد حافظوا على سيطرتهم في كل جهات الحكم تحت قيادة السلطان الذي كان رئيس الدولة الأعلى ويتمتع بسلطة عسكرية ومدنية مطلقة وأصبح منذ القرن السادس عشر خليفة للمسلمين، ويليه في الأهمية شيخ الإسلام وهو رئيس رجال الدين المسلمين وكان التشريع والمحاكم والمدارس الملحقة بالمساجد وممتلكات الأوقاف الواسعة جميعها خاضعة له، و يطلق على الحكومة المركزية للإمبراطورية لقب (الباب العالي) ويرأسها الوزير الأول الذي صــــــار يعرف منذ عهد سليمان القانوني بالصدر الأعظم ويبت السلطان في شؤون الدولة العامة، بينما يجتمع الديوان المؤلف من الوزراء وقادة الجيش الكبار والوجهاء الآخرين لاتخاذ القرارات بشأن القضايا الأكثر أهمية، وكان الجيش يحتل مكانة بالغة الأهمية في حياة الإمبراطورية العثمانية. وكان الفساد مستشرياً في عهد الدولة العثمانية، وقد دخلت في أواخر القرن السابع عشر أزمة خطيرة جداً تردد صداها في ميادين الحياة الاجتماعية كافة، فقد تدهور الاقتصاد ودب الفساد في مفاصل الدولة، وخرجت الأقاليم عن طاعة الحكومة المركزية وفقد الجيش قدرته القتالية وانحسرت الثقافة، وقارن (كارل ماركس وفردريك أنجلس) تركيا في ذلك الحين بجثة حصان قد تعفنت ودب إليها الفساد (2).
ومن المعروف إن من أسباب انهيار الدولة العثمانية التي كانت تدعى في أيامها الأخيرة بالرجل المريض هو الفساد بكل أشكاله السياسي، والإداري والمالي، رغم محاولات الإصلاح التي قام بها بعض السلاطين بالتعاون مع الأوربيين في فترات متفرقة. فمع نهاية عهد سليمان القانوني بدأت تظهر في الداخل ملامح الضعف والتدهور داخل الإدارة، وجاءت المحاولة الأولى التي تعالج تدهور الإدارة في أواسط القرن السادس عشر، وكان لطفي باشا قد كتب في عهد سليمان القانوني رسالة بعنوان (أصاف نامة ) جمع بها الأفكار الأولى حول المسائل المتعلقة بتدهور مؤسسات الدولة، أما المحاولة الهامة فهي التي رفعها فوجي بيك إلى السلطان مراد الرابع 1630 على شكل رسالة تهدف بالدرجة الأولى إلى تثقيفه حول مسائل الحكم وتعريفه بشؤون الإدارة في أعقاب التوسع الذي عرفته الدولة مطلع القرن السابع عشر. ولم تكن رسالة فوجي بيك هي الأخيرة، فبعد سنوات قليله كتب حاجي خليفة المعروف باسم كاتب جلبي (1608 - 1657) رسالة مماثلة إلى السلطان محمد الرابع وكانت تحمل عنوان (دستور العمل الإصلاح الخلل) (3).
ومن الأمور التي كانت شائعة وجود تسعيرة للمناصب والوظائف، حيث يزداد السعر مع أهمية المنصب وما يمكن أن يجلبه من عوائد على الشخص ابتداء من الوالي وحتى أصغر موظف، وكان الولاة يتصرفون بولاياتهم كأنها ممالك خاصة وليست بصفتهم موظفين يأتمرون بأوامر السلطان ووزرائه، أما الضرائب فكانت تجبى عن طريق المزايدة (4).
وفي العراق كان يتعين على الوالي في اغلب الأحيان تجهيز حملات عسكرية لإخضاع العشائر التي كانت تعلن تمردها بشكل مستمر، وكان الموظفون الذين يأتون بعد الوالي هم (الدفتردار) المسؤول عن المالية و (الكخيا) الذي يشرف على شؤون الأمن في الولاية والقاضي الذي يحكم في المنازعات إضافة إلى الوظائف التنفيذية والكتابية الصغيرة (5).
وكانت الوظائف البيروقراطية أو البلدية العليا تؤخذ من العائلات المرموقة على مدى نصف قرن قبل مجيء الانكليز، وقد شغلوا هؤلاء المناصب العليا دون مستوى الوالي كمنصب (المتصرف، القائمقام،) وأحيانا مواقع أعلى في الإدارة المركزية في استانبول، وكان العامل الاثني أو العرقي يلعب دوراً واضحاً فأكثر هؤلاء البيروقراطيين من السلالات الحاكمة القديمة ومن أصول تركية قدموا إلى العراق في القرن السابع عشر مع جيش السلطان مراد الرابع وكذلك من أصول قوقازية (6). وكان الناس لا ينظرون إلى العائلات الإدارية والمسؤولين عموماً بتعاطف أو محبة كقاعدة عامة، وهذا يعود إلى أنهم كانوا مصدر أذى للشعب أكثر منهم مصدر فائدة وفي عهد المماليك وما قبلهم كانت الوظائف تتم عن طريق الشراء وكان الفائز يعوض ما دفعه من خلال استغلاله الوظيفة، وكان من الصعب العثور على شيء اسمه الشعور بالمسؤولية، ولم تتحسن الأمور حتى بعد الإطاحة بالمماليك عام (1831)، أو بعد إجراء الإصلاحات التي أصدرها السلطان عبد المجيد وأطلق عليها (خط الكلي خانه الشريف) وعرفت باسم التنظيمات (1839-1876)(7).
وقد كتب أحد مؤرخي بغداد حول ذلك عام 1860 حيث قال: إن التبذير الذي يظهره المسؤولون في أيامنا هذه لا يمكن أن يعود إلا إلى واحد من اثنين: (فأما أن يكونوا قد أساءوا استخدام الأموال العامة أو أنهم كدسوا هذه الثروات من خلال الفساد أو من خلال إجبار الناس على العمل بلا أجر)، وفي عام 1859 تم عزل السردار (عمر باشا) عن ولاية بغداد لسوء تصرفه وإثارته المشاكل مع العشائر العراقية، وبدلاً من أن تبادر السلطات العثمانية إلى اختيار الأفضل، تم اختيار رجل أمي لا يفهم من الادارة شيء هو ( مصطفى نوري باشا) الملقب (كاتب السر) لأنه اشتغل بهذه الوظيفة بداية حياته حينما توسط له احد أقاربه بعد وفاة والديه واستمرت ولايته 11 شهراً اهتم فيها بعدم تعيين العراقيين في الوظائف، كما سلم مقاليد الحكم إلى دفتر داره مخلص) (باشا وانصرف إلى قضايا العشائر ، فارتكب أغلاطاً كبيرة وأساء التصرف ونقض العهود السابقة المبرمة معهم من قبل الوالي السابق (محمد رشيد باشا ) وقد تفشى الفساد في عهده بشكل كبير فكان يقوم هو وموظفو الولاية باختلاس الأموال العامة تحت ذرائع كثيرة ، فقد اتخذ قراراً خاصاً لنفسه يتقاضى بموجبه من خزانة الولاية مبلغاً سنوياً من المال (ألفي كيس )بحجة تلافي مصاريف السفر والنثرية والتجوال بالإضافة إلى الراتب الشهري، وبذلك أضر بخزينة الدولة خلال مدة حكمه القصيرة بمبلغ (ثلاثين ألف كيس) وانتشرت الرشوة بشكل علني من خلال (كهيته) وصهره محمد باشا المير ميران، بحيث صار الجميع في الولاية يتحدث عنه بكونه واسطة الرشوة للباشا الوالي، وكان لا يتورع عن أخذ كل شيء يستطيع أخذه أو وضع اليد عليه من الأموال، وبذلك أصبح قدوةً سيئة للموظفين في الرشوة والاختلاس، وحينما جاء الوالي الجديد (أحمد توفيق باشا) عمد إلى حبس الكهية المختلس في غرفته مدة ثمانية أشهر لغرض التحقيق الذي ثبت من خلاله أن الوالي الأمي السابق كان على علم تام بالرشاوى والاختلاسات التي كان يقترفها صهره. والغريب في الأمر أن الجهات المسؤولة في الباب العالي مع جميع ما ثبت لديها من مخالفات وأعمال إجرامية لم تفعل شيئاً للكهية سوى طلب عزله من السلطان وإعادته إلى بلاده سالماً غائماً، أما الوالي الأمي مصطفى نوري باشا فقد ذكر عنه في السجل العثماني بعد عزله انه تقلد عدة مناصب وأنه دخل في عداد الأعيان الكرام بعد العزل وأنه كان مستقيما (8). كان العراق مقسماً إلى ثلاث ولايات هي بغداد والموصل والبصرة، ولكل منها وال يعين بقرار من السلطان حيث تقع عليه مسؤولية تطبيق القوانين والأنظمة وحفظ الأمن والنظام، وكان أغلب الموظفين في الولايات الثلاث فاسدين يستغلون وظائفهم أسوأ استغلال ويمارسون الابتزاز ضد الأفراد، ولم يكن ذلك يثير أحداً فقد كان من ضمن الظواهر المألوفة والمعروفة عن الأجهزة الإدارية العثمانية. و مما يروى عن سوء تصرف الموظفين، أنه في عام 1870 كان في صوامع الحبوب العامة في أحد المراكز الإقليمية مقياسان أحدهما أصغر من المقياس العادي الموجود في الأسواق يستخدم لتوزيع الحبوب وبيعها، والثاني أكبر منه يستخدم لشراء الحبوب، فكان المقياس الأول يوفر 10% من المشتري والثاني يوفر 16% من البائع، وهكذا يحصل الحاكم على 26% احتيالاً، ولم يستطع مدحت باشا أن يقضي على هذه الممارسات وغيرها إذ أن سكرتيره باع منصب متصرف لواء الموصل ب (800) ليرة تركية(9).
ورغم بعض الإصلاحات التي حدثت في أواخر عهد العثمانيين التي رأى الاصلاحيون في العراق وسوريا... أن ليس فيها نفع يرتجى من دولة هرمة نخر الفساد جذورها وفروعها، فأن الفساد أخذ ينتشر في الدولة (10). وكانت الإصلاحات التي أنجزت في العراق صورة متأخرة بعيدة عن الكمال وغالباً ما أعطت نتائج عكسية (11) ، ومن أهم هذه الاصلاحات هي التي قام بها الوالي مدحت باشـــــا (18711869) فقد كان نزيهاً دؤوباً على العمل محباً للإصلاح ومزوداً بشيء من الثقافة الأوربية فأسس أول مدرسة في العراق ومطبعة وجريدة رسمية، ومدارس مهنية ومدن...الخ. الا أنه لم يهتم بالمساجد والاوقاف فعارضته الكثير من القبائل، كما أن الأستانة لم تنظر الى الاعمال الإصلاحية التي قام بها بل الى قلة المال الذي يرسله من العراق، ولعله لم يرسل شيئاً لأنه انفق واردات البلاد عليها وهذا أمر لم يكن يرضيهم فأمروا بنقله من العراق حالاً(12).
لقد انتشرت المحسوبية والمحاباة وازداد الفساد وخاصةً في زمن السلطان عبد الحميد 1878 - 1908 (13)، وكما جاء على لسان شاهد محايد هو حقي بك بابان نائب بغداد بالقول إن هذه الفترة فترة مفاسد وخلافات وإهمال...)(14) .
وقد تكون صورة العائلات الإدارية التي ذكرناها أفضل من الموظفين الذين يأتون من استانبول أو غيرها وهم من النوعية المنحطة، كذلك صعوبة التعامل مع العراقيين وبعد العراق عن الامبراطوية العثمانية يؤدي إلى أن يأتيه كل (جاهل وغير كفء ) وسيء السلوك والتصرف، ويكون دافعه الحصول على المال عنوة أو ابتزازاً وقد كتب الشاهد نفسه عام 1910 بشأن هؤلاء الموظفين ما يأتي: (لقد شكلوا عصابة من اللصوص ولكثرة استغلالهم للبقرة الحلوب التي تمدهم بالحليب جعلوها تهزل وتصبح على وشك الموت ووجدت الحكومة نفسها مهانة ومنزوعة الهيبة). وعلى الرغم من التوجه نحو المركزية منذ 1831 إلى 1917، فقد حجبت منزلة الوالي عن العائلات الإدارية فلم تكن له سلطة اختيار مرؤوسيه ولا يمارس أكثر من نصف سيطرة على الهيكل البيروقراطي، وكانت العائلات الإدارية اعرف من غيرهم بالأوضاع المحلية وأقربهم إليها وزاد في بقائهم في السلطة قصر مدة بقاء الوالي في منصبه، وأدى. مجيء الانكليز إلى حصول تغيير مفاجئ وحاسم في شؤون قدامى البيروقراطيين الملاكين الذين لم يتكيفوا مع دورهم الجديد كرعايا، حيث ادمجوا بعد تأسيس الدولة العراقية عام 1921 في الآلة الإدارية التي أعيد بناؤها (15)
بقي العراق مستعمرة نائية تابعة لشركة الهند الشرقية وكان خرباً مصاباً بالتدهور الاقتصادي غير المألوف، حتى إن الآراء الليبرالية الجديدة كانت بطيئة للغاية للتغلغل في العراق ولم تبدأ بعض التغيرات إلا بعد عام 1842 عندما أخذت تعم العراق إصلاحات وتنظيمات الفكرة الأولى(16).
____________
1- للمزيد أنظر اورخان محمد علي السلطان عبد الحميد الثاني، حياته وأحداث عصره، الطبعة الأولى، مكتبة دار الانبار، الرمادي، 1987، ص 21.
2- للمزيد، أنظر لوتسكي، تاريخ الأقطار العربية الحديث، ترجمة الدكتورة عفيفة البستاني، دار التقدم، موسكو، بدون سنة طبع، ص 24 وما بعدها.
3- للمزيد، أنظر : د. خالد زيادة اكتشاف التقدم الأوربي دراسة في المؤثرات الأوربية على العثمانيين في القرن 18، ط1، بيروت، دار الطليعة ،1981، ص19 وما بعدها.
4- أنظر سليمان موسى الحركة العربية المرحلة الأولى للنهضة العربية الحديثة 1908 1924، الطبعة الثانية، بيروت، دار النهار للنشر ، 1977، ص 14.
5- د. عبد الجبار المنديل، الفساد في العراق في الماضي والحاضر، المركز الوثائقي لحقوق الإنسان في العراق، منشور على الموقع: www.iraqpaper.net 4
6- للمزيد، أنظر حنا بطاطو العراق الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية، الكتاب الأول من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية، ترجمة عفيف الرزاز، مؤسسة الأبحاث العربية، الطبعة العربية الأولى، بيروت، 1990، ص245 وما بعدها.
7- وفي عام 1856 اصدر السلطان بياناً سامياً حول مواصلة سياسة التنظيمات إلا أن هذا البيان أعتبر التزاماً دولياً بموجب معاهدة صلح باريس 1856م، أنظر لوتسكي، تاريخ الأقطار العربية الحديث، ترجمة الدكتورة عفيفة البستاني، دار التقدم، موسكو، بدون سنة طبع ، ص 148 وما بعدها.
8- للمزيد، أنظر جعفر الخياط، صور من تاريخ العراق في العصور المظلمة، بدون تاريخ، ص 340 وما بعدها.
9- أنظر حنا بطاطو العراق الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية، الكتاب الأول من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية، ترجمة عفيف الرزاز، مؤسسة الأبحاث العربية، الطبعة العربية الأولى، بيروت، 1990، ص 251
10- أنظر سليمان موسى الحركة العربية المرحلة الأولى للنهضة العربية الحديثة 1908 1924، الطبعة الثانية، بيروت، دار النهار للنشر ، 1977، ص 124.
11- عهدت الإصلاحات إلى مدحت باشا الذي عين عام 1869 والياً على بغداد وقائداً في الوقت نفسه بالفيلق السادس وهو الذي قام بجملة من الإصلاحات الإدارية والثقافية في تركيا عام 1864م للمزيد أنظر لوتسكي، مصدر سابق، ص 171، 172.
12- انظر:- د. علي الوردي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي مؤسسة السيدة معصومة ط1 1426هـ ، ص 136.135.
13- أنظر اورخان محمد علي السلطان عبد الحميد الثاني، حياته وأحداث عصره، الطبعة الأولى، مكتبة دار الانبار، الرمادي، 1987، ص 25
14- لقد اعترف القانون الأساسي العثماني 1876 - 1908 في ديباجته بوجود الفساد بالقول إن التدنيات العارضة منذ أزمان على قوة دولتنا العلية قد نشأت من الانحراف عن الطريق المستقيم في إدارة الأمور الداخلية أكثر مما نشأت من الغوائل الخارجية...).
15- أنظر حنا بطاطو ، مصدر سابق، ص252 وما بعدها.
16- أنظر لوتسكي، تاريخ الأقطار العربية الحديث، ترجمة الدكتورة عفيفة البستاني، دار التقدم، موسكو، بدون سنة طبع ص 169.
الاكثر قراءة في القانون الاداري
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة