من محامد الأوصاف والأفعال / ترك ما زاد عن قدر الضرورة من الدّنيا
المؤلف:
الشيخ عبد الله المامقاني
المصدر:
مرآة الكمال
الجزء والصفحة:
ج2، ص 315 ــ 318
2025-07-29
289
ومنها:
ترك ما زاد عن قدر الضرورة من الدّنيا:
فإنّه محمود العاقبة، حسن النتيجة، ضرورة انّ كثرة المذامّ الواردة في حقّ الدنيا تقضي بحسن الاعراض عمّا زاد عن مقدار الضرورة منها، كيف لا؟ وقد ورد انّ: الدنيا سجن المؤمن، وجنّة الكافر [1]، وانّها لو عدلت عند اللّه جناح بعوضة لما سقي الكافر منها شربة ماء [2]، وانّه: ما من أحد من الأوّلين والآخرين الّا وهو يتمنّى يوم القيامة أنّه لم يُعطَ من الدّنيا إلّا قوتًا [3]، وانّ مثل الدّنيا كمثل الحية ما ألين مسّها وفي جوفها السمّ الناقع، يحذرها الرجل العاقل ويهوي إليها الصبيّ الجاهل [4]، وقال أمير المؤمنين عليه السّلام - في وصيّته لمحمّد بن الحنفيّة -: لا مال أذهب للفاقة من الرضا بالقوت، ومن اقتصر على بلغة الكفاف فقد انتظم الراحة [5]، وقال الحسن بن علي عليهما السّلام - في حديث - : اعلم أنّك لا تكسب من المال شيئًا فوق قوتك الّا كنت فيه خازنا لغيرك، واعلم انّ في حلالها حسابًا، وفي حرامها عقابًا، وفي الشبهات عتابًا، فأنزل الدّنيا منزلة الميتة، خذ منها ما يكفيك [6]، فإن كان ذلك حلالا كنت قد زهدت فيها، وإن كان حراما لم يكن فيه وزر، فأخذت كما أخذت من الميتة، وإن كان العتاب فإنّ العتاب سهل يسير [7]، وفي كلام لأمير المؤمنين عليه السّلام - في ذكر بعض حالات الأنبياء عليهم السّلام -: انّهم ألزموا أنفسهم الصبر، وأنزلوا الدّنيا من أنفسهم كالميتة التي لا يحلّ لأحد أن يشبع منها إلّا في حال الضرورة إليها، وأكلوا منها بقدر ما أبقى لهم النفس، وأمسك الروح، وجعلوها بمنزلة الجيفة التي اشتدّ نتنها، فكلّ من مرّ بها أمسك على فيها [8]، فهم يتبلّغون بأدنى البلاغ، ولا ينتهون إلى الشبع من النتن، ويتعجّبون من الممتلئ منها شبعًا والرّاضي بها نصيبًا. الخبر [9].
مضافًا إلى أنّ الدّنيا والآخرة ضرّتان لا تجتمعان، فترك الدنيا الفانية أولى من ترك الآخرة الباقية، كما نبّه على ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم بقوله: في طلب الدنيا إضرار بالآخرة، وفي طلب الآخرة إضرار بالدنيا، فأضّروا بالدنيا فانّها أحقّ بالإضرار [10]، وإلى أنّها تدبر على من أقبل إليها، وتقبل على من أدبر اليها، كما نطقت بذلك الأخبار، حتّى ورد انّ اللّه أوحى الى الدّنيا أن اخدمي من خدمني، وأتعبي من خدمك [11]، فالعاقل البصير يدبر عنها حتّى تقبل إليه، ويعرض عنها حتّى تخدمه بأمر اللّه سبحانه. وإلى ذلك أرشد مولانا الصادق عليه السّلام بقوله: لا تحرص على شيء لو تركته لوصل إليك، وكنت عند اللّه مستريحًا محمودًا بتركه، ومذمومًا باستعجالك في طلبه، وترك التوكّل عليه تعالى والرضا بالقسم، فإنّ الدنيا خلقها اللّه بمنزلة ظلّك، إن طلبته اتّبعك ولا تلحقه أبدًا، وان تركته تبعك وأنت مستريح [12].
وبالجملة فما رود في ذمّ الدّنيا لا يسع الكتاب جمعه، ومن شاء راجع مظانّه، وإن كان فيما سطّرناه كفاية لمن كان له أدنى دراية، ومن لا دراية له فلا تفيه ألف حكاية.
ولا بأس بالتذييل بخبر ورد في حقّ ما يشبه زماننا، فعن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) أنّه قال: لا تقوم الساعة حتّى يبغض النّاس من أطاع اللّه، ويحبّون من عصى اللّه، فقيل: يا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) والنّاس يومئذ على الإسلام؟! قال: وأين الاسلام يومئذ؟ المسلم يومئذ كالغريب الشريد، ذلك الزمان يذهب فيه الإسلام، ولا يبقى إلّا اسمه، ويندرس فيه القرآن، ولا يبقى إلا رسمه. فقيل: وفيما يكذّبون من أطاع اللّه ويطردونهم ويعذّبونهم؟! فقال: تركوا القوم الطريق، وركنوا إلى الدنيا، ورفضوا الآخرة، وأكلوا الطيّبات، ولبسوا الثياب المزيّنات، وخدمهم أبناء فارس والروم، فهم يعبدون في طيب الطعام، ولذيذ الشراب، وذكيّ الريح، ومشيد البنيان، ومزخرف البيوت، ومنجدة المجالس، ويتبرّج الرجل منهم كما تبرّج المرأة لزوجها، وتتبرّج النساء بالحلي والحلل [المزيّنة]، زيّهم يومئذ زيّ الملوك الجبابرة، يتباهون بالجاه واللباس، وأولياء اللّه عليهم العباء، سحبة ألوانهم من السهر، ومنحنية أصلابهم من القيام، قد لصقت بطونهم بظهورهم من طول الصيام...إلى أن قال صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: فإذا تكلّم منهم متكلّم بحقّ أو تفوّه بصدق قيل له: اسكت فأنت قرين الشيطان، ورأس الضّلالة، يتأوّلون كتاب اللّه على غير تأويله، ويقولون: {مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللَّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ اَلرِّزْقِ} [13] الخبر [14].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الفقيه: 4/262 باب 176 النوادر من وصايا النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لأمير المؤمنين عليه السّلام.
[2] الفقيه: 4/263 باب 176 النوادر.
[3] الحديث المتقدم.
[4] أصول الكافي: 2/136 باب ذم الدنيا والزهد فيها حديث 22.
[5] الفقيه: 4/276 باب النوادر حديث 10 في وصية أمير المؤمنين عليه السّلام لمحمد بن الحنفية.
[6] خ. ل: يقيك.
[7] مستدرك وسائل الشيعة: 2/333 باب 63 حديث 1، عن كفاية الأثر.
[8] كذا، والظاهر: فيه، كما جاء على الطبعة الحجريّة.
[9] مستدرك وسائل الشيعة: 2/334 باب 63 حديث 6.
[10] أصول الكافي: 2/131 باب ذمّ الدنيا والزهد فيها حديث 12.
[11] الفقيه: 4/262 باب 176 النوادر وصايا النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لأمير المؤمنين عليه السّلام.
[12] مستدرك وسائل الشيعة: 2/335 باب 64 حديث 9، عن مصباح الشريعة.
[13] سورة الأعراف: 32.
[14] مستدرك وسائل الشيعة: 2/335 باب 63 حديث 12.
الاكثر قراءة في الزهد والتواضع و الرضا والقناعة وقصر الامل
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة