النبي الأعظم محمد بن عبد الله
أسرة النبي (صلى الله عليه وآله)
آبائه
زوجاته واولاده
الولادة والنشأة
حاله قبل البعثة
حاله بعد البعثة
حاله بعد الهجرة
شهادة النبي وآخر الأيام
التراث النبوي الشريف
معجزاته
قضايا عامة
الإمام علي بن أبي طالب
الولادة والنشأة
مناقب أمير المؤمنين (عليه السّلام)
حياة الامام علي (عليه السّلام) و أحواله
حياته في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)
حياته في عهد الخلفاء الثلاثة
بيعته و ماجرى في حكمه
أولاد الامام علي (عليه السلام) و زوجاته
شهادة أمير المؤمنين والأيام الأخيرة
التراث العلوي الشريف
قضايا عامة
السيدة فاطمة الزهراء
الولادة والنشأة
مناقبها
شهادتها والأيام الأخيرة
التراث الفاطمي الشريف
قضايا عامة
الإمام الحسن بن علي المجتبى
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسن (عليه السّلام)
التراث الحسني الشريف
صلح الامام الحسن (عليه السّلام)
أولاد الامام الحسن (عليه السلام) و زوجاته
شهادة الإمام الحسن والأيام الأخيرة
قضايا عامة
الإمام الحسين بن علي الشهيد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسين (عليه السّلام)
الأحداث ما قبل عاشوراء
استشهاد الإمام الحسين (عليه السّلام) ويوم عاشوراء
الأحداث ما بعد عاشوراء
التراث الحسينيّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن الحسين السجّاد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام السجّاد (عليه السّلام)
شهادة الإمام السجّاد (عليه السّلام)
التراث السجّاديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن علي الباقر
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الباقر (عليه السلام)
شهادة الامام الباقر (عليه السلام)
التراث الباقريّ الشريف
قضايا عامة
الإمام جعفر بن محمد الصادق
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الصادق (عليه السلام)
شهادة الإمام الصادق (عليه السلام)
التراث الصادقيّ الشريف
قضايا عامة
الإمام موسى بن جعفر الكاظم
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الكاظم (عليه السلام)
شهادة الإمام الكاظم (عليه السلام)
التراث الكاظميّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن موسى الرّضا
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الرضا (عليه السّلام)
موقفه السياسي وولاية العهد
شهادة الإمام الرضا والأيام الأخيرة
التراث الرضوي الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن علي الجواد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)
شهادة الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)
التراث الجواديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن محمد الهادي
الولادة والنشأة
مناقب الإمام علي الهادي (عليه السّلام)
شهادة الإمام علي الهادي (عليه السّلام)
التراث الهاديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام الحسن بن علي العسكري
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)
شهادة الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)
التراث العسكري الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن الحسن المهدي
الولادة والنشأة
خصائصه ومناقبه
الغيبة الصغرى
السفراء الاربعة
الغيبة الكبرى
علامات الظهور
تكاليف المؤمنين في الغيبة الكبرى
مشاهدة الإمام المهدي (ع)
الدولة المهدوية
قضايا عامة
النبيّ الأعظم "ص" وحماية النّظام الإسلاميّ وتثبيت قواعده
المؤلف:
السيد علي الخامنئي
المصدر:
إنسان بعمر 250 سنة
الجزء والصفحة:
ص49-74
2025-07-07
18
بغية إنجاز هذه المهمّة كان هناك ثلاث مراحل هي:
المرحلة الأولى: إرساء قواعد النّظام من خلال إنجاز هذه الأعمال.
المرحلة الثّانية: صيانة هذا النّظام، فمن الطبيعيّ أن يكون هناك من يُعادي هذا الكيان المتنامي والمتعاظم الّذي لو أحسَّ به أصحاب السّلطة لشعروا بالخطر إزاءه. وإذا لم يتمكّن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من حفظ هذا الوليد الطّبيعيّ الميمون بحنكة في مقابل الأعداء، فسيزول هذا النّظام وتذهب جهوده سدًى، فلا بدّ له من صونه.
المرحلة الثالثة: إكمال البناء وإعماره، إذ لا تكفي عمليّة الإرساء وإنّما هي الخطوة الأولى.
وهذه المراحل الثلاث تسير إلى جانب بعضها بعضًا عرضيًّا. إنّ عمليّة إرساء القواعد تأتي بالدّرجة الأولى، بيد أنّه يتعيّن الحذر من العدوّ أثناءها، وهكذا تأتي مرحلة الصيانة، حيث يتمّ خلالها الاهتمام ببناء الأشخاص والكيانات الاجتماعيّة ومن ثمّ تتواصل في المراحل اللاحقة.
كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يرى خمسة أصناف من الأعداء يتربّصون بهذا المجتمع الفتيّ:
العدوّ الأول: وهو عدوٌّ ضئيل الأهميّة ومحدود، ولكن ينبغي عدم التّغافل عنه في الوقت نفسه، فلربّما يتسبّب في بروز خطرٍ داهم. فمن هو هذا العدوّ؟ إنّه القبائل شبه الهمجيّة التي تُحيط بالمدينة، فعلى بُعد عشرة أو خمسة عشر أو عشرين فرسخًا من المدينة تعيش قبائل شبه بدائيّة، جلّ حياتها عبارة عن الاقتتال وإراقة الدماء والإغارة والنّهب والسّلب. وإذا كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يصبو إلى إقامة مجتمعٍ سليمٍ آمنٍ ووادعٍ في المدينة، فما عليه إلا أن يحسب لهؤلاء حسابهم، وهكذا فعل صلى الله عليه وآله وسلم، حيث تعاهد مع مَنْ تتوفّر فيه أمارات الصّلاح والهداية، ولم يُبادرهم بالدّعوة للإسلام بادئ الرأي، بل عاهدهم مع بقائهم على كفرهم وشركهم بغية تجنّب انتهاكاتهم. لقد كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ملتزمًا أشدّ الالتزام بتعهّداته ومواثيقه، وهذا ما سأتطرّق إليه أيضًا، لكنّه لاحَقَ الأشرار ومَن لا عهد لهم وعالج مشكلتهم. وما يُذكر من بَعْثِ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم للسّرايا، حيث كان يرسل الخمسين أو العشرين من المسلمين في سرايا، لملاحقة هؤلاء الّذين تأبى طبيعتهم الوئام والهداية والصّلاح ولا يستقرّ لهم حال إلا بإراقة الدّماء والتوسّل بالقوّة، فكان أن لاحقهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقمعهم وأخمد نارهم.
العدوّ الثاني: هو مكّة الّتي كان لها مركزيّة(بعض زعامات مكة). وبالرغم من عدم وجود حكومة فيها بالمعنى المتعارف عليه، بيد أنّه كان هناك مجموعة من الأشراف المتكبّرين العتاة أصحاب النّفوذ يحكمون مكّة، وهم على اختلافهم، كانوا متّحدين بوجه هذا المولود اليافع الجديد. وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على علمٍ بأنّ الخطر الجسيم إنّما ينطلق منهم، وهذا ما حدث عمليًّا. أحسّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه لو قعد حتى يأتوا بحثًا عنه فإنّهم يقينًا لن يتوانوا عن ذلك وسوف يقتنصون الفرصة، لذلك ذهب في أثرهم، لكنّه لم يقصد مكّة. كان طريق قافلتهم يمرّ بقرب المدينة، فبادرهم الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم بالهجوم، وكانت معركة بدر أهمّ هذه الهجمات وفي طليعة الأعمال. لقد بادرهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالهجوم، وهم أيضًا جاؤوا لمحاربة حضرته بدافع العصبيّة والغلظة والعناد.
بحسب الوعد الإلهيّ، أُخبر المسلمون أنّهم سينتصرون على جماعة من الكافرين. وقد كان ذلك في السنة الثانية للهجرة. كانت القافلة، المحمّلة بأمتعة وبضائع قريش، قادمة من الشام إلى المدينة، لتعبر أطراف المدينة نحو مكّة. وبمجرّد أن اتّضح لكفّار قريش تهديد أبطال ومجاهدي العرب والمسلمين، حتّى أرسلت قوّات مسلّحة إلى المدينة للدّفاع عن متاعها وبضائعها. كان المسلمون يميلون أكثر لإيقاف القافلة المحمّلة بالثّروة والمتاع، والّتي لم يكن لديها أيّ دفاعٍ يُذكر. أمّا حكم الله فقد قضى بأن يذهبوا لمواجهة القوّات المسلّحة لكفّار قريش، ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ﴾[1]. كان المسلمون يعلمون أنّهم سينتصرون في هذه المواجهة ولكنّهم لم يكونوا يعلمون بأنّ ذلك سيكون على قوّات قريش المسلّحة، بل كانوا يظنّون أنّ انتصارهم سيكون على هذه القافلة التجارية العائدة من الشام. ولكنّ النبيّ بدّل طريقهم وأخذهم نحو المواجهة العسكريّة، فعبرت القافلة، لكنّ المسلمين التقوا بالكفّار في محلّةٍ تُدعى بدرًا. فماذا كانت العلّة من تبديل الله تعالى طريق المسلمين من مواجهة مع القافلة إلى مواجهة مع القوّات المسلحّة؟ السبب هو أنّ المسلمين كانوا يرون ما هو قريب وكانت إرادة الله ومشيئته تريد هدفًا بعيدًا، ﴿وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ﴾[2]. فإنّ الله تعالى أراد أن يعمّ الحقّ هذا العالم ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾[3] وأراد أن يزهق الباطل، الّذي هو بطبيعته زاهق. ألم يكن من المقرّر أن يقوم الإسلام بالقضاء على جميع القوى والسلطنات الشيطانية والطاغوتية؟ ألم يكن من المقرّر أن تصبح الأمّة الإسلاميّة ﴿لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ﴾[4]؟ ألم يكن من المقرّر أن ترتفع راية الإسلام خفّاقةً على قمم الإنسانيّة والبشريّة؟ فمتى يكون ذلك؟ وكيف؟ وعن أيّ طريقٍ؟
لقد كان المسلمون في ذلك الوقت يُفكّرون في أنفسهم أنّهم لو صادروا هذه القافلة الثرية، وحصلوا على بعض المال فإنّ الإسلام الفتيّ سوف يقوى. كانوا يُفكّرون بشكلٍ صحيح، لكن كان الفكر الأرقى والأكثر قيمةً في محلٍّ آخر. الفكر الأرقى هو أنّنا نحن المسلمون الّذين نحيط بالنبيّ اليوم، قد وصلنا إلى حدّ يُمكننا أن نُرسّخ فكرنا وطريقنا في المجتمعات المستضعفة المحرومة وفي وسط عوالم الظلام والظلمانية، ففي هذا الحوض من المياه ما يمكّنه من التدفّق لإرواء كلّ هذه الغرسات والأشجار والأراضي الميّتة واليابسة. هذه هي الفكرة الأرقى. فإذا كان من المقرّر أن يصل الإسلام إلى النصر الواقعيّ، وإذا كان من المقرّر أن تتحرّك هذه النواة الجليلة للإسلام نحو المناطق المستضعفة، وإذا كان من المقرّر أن تتساقط قصور الظلم والجور واحدًا بعد الآخر، فينبغي أن يبدأ ذلك من مكانٍ ما. لم يكن المسلم المخلص المحبّ في صدر الإسلام يعلم من أين يبدأ، فعلّمه الله تعالى ذلك وهيّأ له، أخرجه الله تعالى من أجل مصادرة بضائع قريش ليجرّه إلى معركةٍ لم يردها، فيتحقّق بذلك، مع قلةّ العتاد ولكن مع الإيمان الراسخ، تراجع العدوّ القهقريّ وفتح الطريق أمام سيلان وجريان وتقدّم ونفوذ قوّة الحقّ وثبات طريقه، فلكي يفهم العدوّ أنّ الإسلام موجودٌ يجب أن يأخذه على محمل الجدّ. ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ﴾[5]، لقد جعلناكم أيّها المسلمون في مواجهة الجيش الجرّار للعدوّ من دون أن تريدوا ذلك، وذلك من أجل أن توجّهوا قبضتكم نحوه، فتظهر قدرة الله أمام ناظريه.
بعد أن كان النّصر الإلهيّ في معركة بدر، بفضل الله ورحمته وبهمّة المسلمين، من نصيب مجاهدي الإسلام، فإنّه لم يكن متوقّعاً من العدوّ أن يُقلع عن عداوته بهذه السرعة، ولذلك بدأ بالتخطيط لمعركة أُحد.
وفي معركة أُحد كان الأمر في البداية لصالح المسلمين بسبب اتّحادهم وتوافقهم، واستطاعوا في البداية أن يهزموا المشركين، ولكن بعد أن حصلوا على النصر بسرعة، فإنّ أولئك الـ 50 رجلًا الذين أُمروا بحفظ منفذ الجبل من أيدي العدوّ، ومن أجل أن لا يتخلّفوا عن جمع الغنائم، تركوا مهمّتهم ولحقوا بالمسلمين الّذين كانوا بدورهم مشغولين بجمع الغنائم. بقي عشرة أشخاص فقط من المسلمين عند ذلك الجبل وأدّوا ما عليهم، لكنّ العدوّ اغتنم هذه الفرصة والتفّ عليهم من خلف الجبل، وهجم على المسلمين من الشقّ والمنفذ الذي لم يكن عليه ما يكفي من الحرس. وقد دفع المسلمون ثمنًا باهظًا بسبب هذا الهجوم، لم يُهزم الإسلام، ولكنّ انتصاره تأخّر بالإضافة إلى خسارة أبطالٍ جشعان وأعزّاء في هذا الطريق، كحمزة سيّد الشهداء. والله تعالى يدعو المسلمين إلى الاعتبار والتأمّل فيقول لهم إنّنا صدقنا وعدنا وقلنا إنّكم ستنتصرون على العدوّ وقد انتصرتم، ولكن بعد أن ظهرت فيكم تلك الحالات وتلك الخصال الثّلاث، تلقّيتم الضربة، وتلك الخصال الثلاث هي عبارة عن:
أوّلًا: ﴿فَشِلْتُمْ﴾، أي ضعفتم وفقدتم حماسكم وجهوزيّتكم وثباتكم وإقدامكم.
ثانيًا: ﴿وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ﴾، فشققتم وحدة الكلمة والصفّ.
ثالثًا: ﴿وَعَصَيْتُم﴾[6]، فتخلّفتم عن أوامر الرسول والقائد وأولئك الّذين كانوا مسؤولين عن إدارة أموركم.
فهذه الصفات الثلاث الّتي ظهرت فيكم أعطت العدّو الفرصة ليلتفّ عليكم ويوجّه لكم ضربة وليسقط أعزّ أبناء الإسلام مضرّجين بدمائهم، بالغين بذلك مقام الشهادة والمفاخر، وليخسر العالم الإسلاميّ بسبب هذا الأمر أمثال هذه الشّخصيّة.
كانت معركة الخندق آخر المعارك الّتي شُنّت ضدّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ــ وهي واحدة من أهمّها ــ حيث استجمع كفّار مكّة كلّ قواهم واستعانوا بالآخرين أيضًا وقالوا فلنذهب ونقتل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبضع مئات من أنصاره المقرّبين وننهب المدينة ونرجع مطمئنّين، ولن يبقى بعدها عينٌ ولا أثر للنبيّ ومن معه. وقبل أن يصلوا إلى المدينة كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد علم بالأمر فبادر إلى حفر خندق عرضه أربعون مترًا تقريبًا من الجّهة الّتي يسهل اختراقها. كان ذلك في شهر رمضان والمناخ قارس البرودة، كما تنقل الروايات، ولم يهطل المطر ذاك العام، من هنا فقد عمّ الجدب وعانى النّاس من المصاعب. كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أكثر النّاس عملًا في حفر الخندق، فحيثما وقعت عيناه على من أعياه العمل وأصابه الإرهاق ولم يعد قادرًا على مواصلة العمل، كان صلى الله عليه وآله وسلم يتناول معوله ويمارس العمل المقرّر إنجازه عنه. فلم يسجّل حضوره بإصدار الإيعازات فقط، بل كان يحضر بشخصه وسط جموع النّاس. جاء الكفّار مقابل الخندق، ولمّا أدركوا عجزهم أصيبوا بالإحباط والهزيمة وافتُضح أمرهم فأُجبروا على التّراجع. عندها نادى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأنّ الأمر قد انتهى، وهذه كانت آخر المعارك الّتي شنّها كفّار مكّة ضدّ المسلمين، وقد جاء دور المسلمين للتوجّه نحو مكّة وملاحقة الكفّار.
بعد عام من تلك الواقعة أراد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم التوجّه إلى مكّة لأداء العمرة - وأثناء ذلك وقع صلح الحديبية الغنيّ بالمعاني والأهداف - وكان مسير النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكّة في شهر محرّم الحرام - حيث كانوا يُحرّمون فيه القتال - فأصبحوا في حيرة من أمرهم ما عساهم صانعين، أيسمحون له بالتقدّم في مسيره؟ وماذا سيفعلون إزاء نجاحه هذا؟ وكيف يواجهونه؟ أيقاتلونه وهم في شهر محرّم؟ وكيف يقاتلونه؟ وأخيرًا قرّروا عدم السّماح له بالمجيء إلى مكّة، وإبادته هو وأصحابه إن وجدوا لذلك مبرّرًا. تميّز تصرّف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأسمى درجات التدبير، حيث قام بما دفعهم لأن يُبرِموا معه صلحًا يقضي بأن يعود إلى المدينة على أن يأتي في العام القادم لأداء العمرة. وتوفّرت الظّروف جميعها أمام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من أجل التّبليغ في كلّ أرجاء المنطقة وفُتحت أمامه الأبواب. كــان ذلك صلحًا، بيد أنّ الباري تعالــى يُصرّح فــي كتابه بالقول: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا﴾[7]. ومن يُراجع مصادر التاريخ الصحيحة والموثّقة يُدهشه كثيرًا ما جرى في واقعة صلح الحديبية. وفي العام التالي توجّه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لأداء العمرة ورغم أنوفهم أخذت شوكته تزداد قوّة يومًا بعد يوم. ولمّا نقض الكفّار العهد في العام اللاحق ــ أي العام الثامن للهجرة ــ تقدّم نحوهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وفتح مكّة، فكان فتحًا عظيمًا يُنبئ عن اقتدار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وتمكّنه. وتأسيسًا على ذلك فقد اتّسم تعامل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مع هذا العدوّ بالتدبير والاقتدار والتأنّي والصبر بعيدًا عن الارتباك، ولم يتراجع أمامه ولو خطوة واحدة، بل كان يتقدّم نحوه يومًا بعد يوم وآنًا بعد آن.
العدوّ الثالث: كانوا اليهود، أي الدّخلاء الّذين لا يوثق بهم والّذين أسرعوا بالتّعبير عن استعدادهم لمعايشة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة، لكنّهم لم يُقلعوا عن أعمال الإيذاء والتخريب والخيانة. بالتدقيق جيّدًا، نجد أنّ قسمًا مهمًّا في سورة البقرة وبعض السور الأخرى من القرآن الكريم، ترتبط بطريقة تعامل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وصراعه الثقافيّ مع اليهود الذين كانوا على قدرٍ من العلم والوعي والثقافة، وكانوا يؤثّرون على أفكار ضعاف الإيمان من النّاس، ويحوكون الدّسائس ويزرعون اليأس في قلوبهم ويثيرون الفتن بينهم، فكانوا يُمثّلون عدوًّا منظّمًا. وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يسلك معهم سبيل المداراة ما أمكنه، لكنّه لمّا لمس منهم عدم استجابتهم لهذه المداراة بادر إلى معاقبتهم. ولم تأتِ مباغتة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لهم من دون سبب أو مقدّمات، بل إنّ كلاًّ من هذه القبائل الثلاث ارتكبت أفعالًا فعاقبهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بما يوازي فعلتهم.
الأولى: "قبيلة بنو قينقاع": الذين خانوا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فتوجّه نحوهم وأمرهم بالجلاء وأخرجهم من ديارهم تاركين ثرواتهم للمسلمين.
الثانية: "بنو النضير": الّذين خانوا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أيضًا - وقصّة خيانتهم مهمّة - فأمرهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بحمل بعض أمتعتهم والرحيل، فاضطرّوا لذلك وارتحلوا.
الثالثة: "بنو قريظة": الذين منحهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الأمان وسمح لهم بالبقاء في المدينة ولم يُخرجهم منها، وأبرم معهم عقدًا على ألّا يسمحوا للعدوّ بالتسلّل من أحيائهم في معركة الخندق، لكنّهم غدروا وتعاقدوا مع العدوّ على الوقوف إلى جانبه لمقاتلة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، أي إنّهم لم يكتفوا بتنصّلهم من عهدهم مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، بل في الوقت الّذي بادر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حفر الخندق في الجهة الّتي يسهل اختراقها وسلّمهم الجّهة، الّتي تقع عليها أحياؤهم، ليمنعوا العدوّ من التسلّل عبرها، ذهبوا للتفاوض والتباحث مع العدوّ ليدخلوا معًا من تلك الجهة ويطعنوا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من الخلف.
وفي تلك الأثناء علم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بهذه المؤامرة، وكان قد مضى ما يُقارب الشّهر على حصار المدينة، وقد وقعت خيانة هؤلاء في منتصف هذا الشهر، فلجأ صلى الله عليه وآله وسلم إلى عملٍ في غاية الذكاء، حيث أوقع الفتنة بينهم وبين قريش، فقضى على الثّقة الّتي تربطهم بقريش، وقد تجلّت بذلك واحدة من الخطط السّياسيّة العسكريّة الرائعة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، أي أنّه صلى الله عليه وآله وسلم باغتهم حتى لا يتمكّنوا من توجيه أيّ ضربة للمسلمين. وبعد أن انهزمت فيه قريش وحلفاؤها وابتعدوا عن الخندق وعادوا إلى مكّة، رجع النبيّ إلى المدينة. وفي اليوم عينه الذي رجع فيه، صلّى صلى الله عليه وآله وسلم الظهر، ثمّ دعا إلى صلاة العصر قبالة قلاع بني قريظة، فتوجّه نحوهم، أي أنّه لم يُمهلهم ولو لليلةٍ واحدة، فحاصرهم لمدّة خمسة وعشرين يومًا تواصلت خلالها المناوشات بين الطّرفين. ثمّ إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قتل مقاتليهم لفداحة خيانتهم وعدم إمكانيّة إصلاحهم.
هكذا تميّز تعامل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مع هؤلاء، أي إنّه أزال عداوة اليهود من على طريق المسلمين - بشكل أساس في قضية بني قريظة، وقبلها مع بني النضير، وبعدها مع يهود خيبر ـ بكلّ تدبير وقوّة وإصرار مقترن بالأخلاق الإنسانيّة العالية. وفي كلّ هذه المواطن لم ينقض النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عهدًا أبدًا، وهذا ما يُذعن له حتّى أعداء الإسلام، بل أولئك هم الّذين نقضوا العهود.
العدوّ الرابع: كانوا المنافقون. كان المنافقون يعيشون بين النّاس. وكانوا من الّذين آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم. كانوا أشخاصًا منحطّين ومعاندين وضيّقي الأفق ومستعدّين للتعاون مع العدوّ، لكنّهم كانوا يفتقدون للتنظيم، وهذا ما كان يُميّزهم عن اليهود. لقد كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يتعامل مع العدوّ المنظّم المتوثّب لمهاجمة المسلمين كتعامله مع اليهود ولم يُعطهم الأمان أبدًا، لكنّه كان يتحمّل العدوّ غير المنظّم، ممّن تلوّث أفراده بالعناد والعداوات والخبائث الفردية وعدم الإيمان، فلقد كان عبد الله بن أُبيّ من ألدّ أعداء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقد عاصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتّى آخر سنة من عمره تقريبًا، إلّا أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يتعامل معه تعاملًا سيّئًا، مع علم الجميع بنفاقه، فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يُداريه ويُعامله كباقي المسلمين من حيث عطاؤه من بيت المال وصيانة أمنه وحرمته. كان ذلك منه صلى الله عليه وآله وسلم بالرغم من خبث هذه الفئة وإساءتها، وفي سورة البقرة آيات تختصّ بهؤلاء المنافقين.
ولمّا اتّخذ تجمّع بعض المنافقين طابع التنظيم قام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بملاحقتهم. ففي قضيّة مسجد ضرار، حيث اتّخذوا منه مركزًا، كما أقاموا اتّصالات مع عناصر من خارج النّظام الإسلاميّ، من قبيل الرّاهب أبي عامر من بلاد الروم، وأعدّوا مقدّمات تحشيد الجيوش لمحاربة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حتى يستعينوا بجيش الرّوم ضدّ النبيّ. من هنا بادر إليهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهدم المسجد الّذي بنوه وأحرقه، معلنًا أنّه ليس بمسجد بل هو بؤرة للتآمر على المسجد وعلى اسم الله وعلى النّاس. أو تلك الحفنة من المنافقين الّذين أعلنوا كفرهم وخرجوا من المدينة وحشدوا قواهم فقاتلهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقال: لئن دنَوا من المدينة لأخرجنّ لقتالهم. رغم أنّه كان يوجد منافقون داخل المدينة، لكنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يتعرّض لهم أبدًا. وهكذا فقد واجه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الفئة الثالثة مواجهة منظّمة صارمة، لكنّه سلك طريق المداراة مع الفئة الرابعة لافتقادهم للتنظيم، ولأنّ الخطر الصادر عنهم يُمثّل خطرًا فرديًّا. كما أنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان غالبًا ما يُخجلهم بسلوكه.
أمّا العدوّ الخامس: فكان عبارة عن العدوّ الكامن في باطن كلّ مسلم ومؤمن وهو الأخطر من بين جميع الأعداء. وهذا العدوّ معشش فينا أيضًا، إنّه الأهواء النفسية والأنانيّة والجنوح نحو الانحراف والضّلال والانزلاق الّذي يُهيّئ الإنسان بنفسه أرضيّته. وقد خاض النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مع هذا العدوّ صراعًا مريرًا. غاية الأمر أنّ آلة الصراع مع هذا العدوّ لا تتمثّل بالسّيف، بل بالتّربية والتّزكية والتّعليم والتّحذير. لهذا، عندما عاد المسلمون من الحرب مع كلّ ذلك التّعب، قال لهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : "مرحبًا بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي الجهاد الأكبر". فتعجّب المسلمون من قوله وسألوه: ما الجهاد الأكبر يا رسول الله؟! لقد خضنا غمار هذا الجهاد المرير، فهل من جهاد أكبر منه؟! قال: "جهاد النفس"[8]. فإذا ما صرّح القرآن الكريم: ﴿الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾[9] فذلك لا يعني أنّهم منافقون، بل بعض المنافقين في عداد الّذين في قلوبهم مرض. ولكن ليس كلّ "الّذين في قلوبهم مرض" هم من المنافقين، فربّما يكون المرء مؤمنًا لكن في قلبه مرض. فماذا يعني هذا المرض؟ إنّه يعني ضعف الأخلاق والشّخصيّة والشهوانيّة والجنوح نحو مختلف الأهواء الّتي إن لم يُبادر المرء للحدّ منها ومقارعتها فإنّها ستسلب منه الإيمان ويقسو باطنه. وإذا ما سُلب الإيمان من المرء، وأصبح قلبه بلا إيمان وظاهره مؤمنًا، عندئذٍ يُسمّى منافقًا.
فلو خلت قلوبنا، لا سمح الله، من الإيمان وبقي ظاهرنا متلبّسًا بالإيمان، وقطعنا أواصر الإيمان وعلائقه، بيد أنّ ألسنتنا ظلّت تلهج بالتعابير الإيمانية، فهذا هــو النّفاق وهــو من الخطورة بمكان. والقرآن الكريم يُصرّح: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون﴾[10]، وذاك هو السّوء المبين، ألا وهو التّكذيب بآيات الله. ويقول في موضعٍ آخر: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ﴾[11]. وهذا هو الخطر الكبير الّذي يتهدّد المجتمع الإسلاميّ، وحيثما شاهدتم في التّاريخ انحرافًا في المجتمع الإسلاميّ فمن هنا كانت بدايته. ربّما يشنّ العدوّ الخارجيّ هجومه ويدمّر ويخرّب لكنّه لا قدرة له على الإفناء. ففي النّهاية سيبقى الإيمان، وينبعث في مكانٍ ما ويؤتي أكله. غير أنّ جيوش العدوّ الداخليّ إن هجمت على الإنسان وأفرغت باطنه إذ ذاك سيطال الانحراف سبيله، وأينما وُجد الانحراف فإنّ منشأه يكون هو ذاك. ولقد تصدّى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لهذا العدوّ أيضًا.
امتاز سلوك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالتدبير والسّرعة في العمل فلم يدعْ الفرصة تفوته في أيّ قضيّة. كان صلى الله عليه وآله وسلم طاهرًا قانعًا لا وجود لأيّ نقطة ضعف في وجوده المبارك. كان معصومًا نقيًّا، وهذا بحدّ ذاته يُمثّل أهمّ عوامل التّأثير. إنّ التّأثير بالعمل هو أوسع وأعمق بدرجات من التّأثير باللسان. لقد كان قاطعًا وصريحًا. ولم يتحدّث النبيّ يومًا بلسانين. بالطّبع، عندما كان يواجه العدوّ كان يستخدم معه أسلوبًا سياسيًّا يوقعه في الخطأ، فلقد كان يُباغت العدوّ في الكثير من الحالات، سواء في المواقف العسكريّة أم السّياسيّة، لكنّه كان صريحًا وشفّافًا مع المؤمنين ومع قومه على الدّوام، نقيًّا واضحًا في كلامه بعيدًا عن الألاعيب السّياسيّة، يُبدي المرونة في المواطن الضّروريّة - كما في قضيّة عبد الله بن أُبيّ - ذات الأحداث المفصّلة، ولم ينكث عهدًا مع قومه أو مع الفئات الّتي عاهدها وإن كانوا أعداءً له، وخاصّةً مع كفّار مكّة، الّذين نقضوا عهودهم فردّ عليهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ردًّا قاطعًا، ولم ينقضِ صلى الله عليه وآله وسلم موثقًا أبرمه مع أحد قطّ، لذلك كان الجميع على ثقةٍ بالعهد الّذي يُبرمه معهم.
ومن ناحيةٍ أخرى، لم يفقد النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تضرّعه إلى الله سبحانه، وكان مواظبًا على توطيد أواصر علاقته بالباري جلّ وعلا يومًا بعد يوم. فلقد كان يرفع يد الضراعة إلى بارئه في تلك الأثناء الّتي ينظّم عساكره ويحثّهم ويحضّهم على القتال، وفي ساحة الوغى، عندما كان يُمسك بسيفه ويقود جيشه بحزم أو يُعلّمهم ما يصنعون، كان يجثو على ركبتيه رافعًا يديه باكيًا مناجيًا ربّه سائلًا إيّاه العون والإسناد ودفع الأعداء. لم يؤدِّ به الدّعاء إلى تعطيل قواه، ولا أنّ استثماره لقواه أغفله عن التوسّل والتضرّع والارتباط بالله سبحانه، بل كان حريصًا على كلي الجانبين، لم يعتوره التردّد أو الخوف وهو يواجه عدوًّا عنيدًا، ولقد قال أمير المؤمنين عليه السلام - وهو مظهر الشّجاعة - "كنّا كلّما اشتد الوطيس لذنا برسول الله"[12]، وكان يلوذ به كلّ من شعر بالضعف. استمرّ حكمه عشر سنوات، لكن لو أردنا إيكال العمل، الّذي قد أنجزه خلال العشر سنوات هذه، إلى مجموعة مليئة بالنشاط لتقوم بإنجازه، فإنّها لن تستطيع إنجاز كلّ تلك الأعمال والخدمات والمساعي ولو على مدى مئة عام. فلو قارنّا أعمالنا بما قام به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، عندها سنُدرك ما الذي قام به. فإدارة الحكم وبناء ذلك المجتمع وصياغة ذلك الأنموذج بحدّ ذاته هي أحد معاجز الرسول.
فعلى مدى عشر سنوات، عاشره النّاس ليلًا ونهارًا، وتردّدوا إلى داره وتردّد هو إلى دورهم، وكانوا معه في المسجد وفي الطّرقات وفي حلّه وترحاله، وتحمّلوا الجوع معًا، وتذوّقوا طعم السّرور معًا، فقد كان الوسط الّذي يعيش فيه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مفعمًا بالمسرّة، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يُلاطف الآخرين ويُقيم السّباقات ويشترك فيها. وعلى امتداد تلك السّنوات العشر تعمّقت محبّة أولئك الّذين عاشروه له وازداد إيمانهم به عمقًا ورسوخًا في قلوبهم. وعندما فتح صلى الله عليه وآله وسلم مكّة، جاء أبو سفيان متخفّيًا يلوذ بالعبّاس - عمّ النبيّ صلى الله عليحمايةه وآله وسلم - إلى معسكر النبيّ يطلب الأمان. ولما حلّ الفجر، رأى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يتوضّأ وقد أحاط به القوم ليحظى كلّ منهم بقطرات الماء الّتي تتناثر من وجهه ويديه، فقال أبو سفيان: لقد رأيت كسرى وقيصر ـ وهما من ملوك الدنيا المعروفين بجبروتهم وسطوتهم ـ لكنّني لم أرَ عليهما مثل هذه العزّة! أجل، فالعزّة المعنويّة هي العزّة الحقيقيّة ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾[13]، فالعزّة من نصيب المؤمنين أيضًا، إن هم سلكوا ذات الطريق.
إنّ واقعة غدير خم هي واقعة مصيريّة ومهمّة جدًّا في تاريخ الإسلام. ويُمكن النّظر إليها من حيثيّتين أو بعدين: الأوّل يختصّ بالشّيعة، والثاني يرتبط بجميع الفرق الإسلاميّة. وبالنظر إلى البعد الثاني لهذه الواقعة، يجب إيجاد هذه الرّوحيّة وهذا الشّعور عند جميع مسلمي العالم وهو أنّ عيد الغدير الّذي يُذكّر بهذه الواقعة الكبرى ليس مختصًّا بالشّيعة.
البعد الأوّل لهذه الواقعة، وكما ذكرنا، يختصّ بالشّيعة، لأنّ أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الواقعة قد نُصّب للخلافة من قِبَل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. وفي ذلك اليوم وفي تلك الواقعة سُئل رسول الله: يا رسول الله هل إنّ إعلانك هذا هو من نفسك أو من الله؟ فقال: "من الله ورسوله"[14]، أي إنّه أمرٌ إلهيّ وكذلك هو منّي. فالشّيعة تُعظّم هذه الواقعة من هذه الجهة، لأنّ اعتقادهم بأنّ الخلافة المباشرة هي لأمير المؤمنين عليه السلام ترتبط بهذه الواقعة أكثر من سائر الدلائل. بالطّبع، إنّ البحث في مجال الاستنباط والاستدلال على هذه الواقعة في الكتب الكثيرة والمتنوّعة على مرّ تاريخ الإسلام، قد استمرّ من اليوم الأوّل وإلى يومنا هذا. ولا أنوي هنا أن أُضيف شيئًا على ما كتبته وذكرته آلاف الألسنة والأقلام بشأن هذا المطلب.
وأمّا البعد الثاني لهذه الواقعة والّذي لا يقلّ أهمّية عن البعد الأوّل، فهو أمرٌ مشتركٌ بين الشّيعة والسنّة. وسوف أُفصّل فيه قليلاً.
ما جرى هو أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي السّنة العاشرة للهجرة، توجّه إلى الحجّ مع جمعٍ من مسلمي المدينة وسائر مناطق الجزيرة العربية الّتي أسلمت. وفي هذا السفر، استفاد النبيّ الأكرم من حجّ بيت الله في بيان المفاهيم الإسلاميّة سواء على المستوى السياسيّ أم العسكريّ أم الأخلاقيّ أم العقائديّ، استفادةً كاملة وجديرة بالذّكر، وقد نُقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطبتان إحداهما، على الظاهر، في اليوم العاشر(من ذي الحجة) أو قريبًا منه، والأخرى في نهاية أيّام التشريق[15]. وعلى ما يبدو أنّهما كانتا خطبتين لا خطبةً واحدة. في هاتين الخطبتين، بيّن رسول الله جميع المسائل الأساس الّتي ينبغي أن يلتفت إليها المسلمون بعمق وهي في الأساس قضايا سياسيّة. ويُدرك الإنسان جيّدًا كم أنّ أولئك الّذين يفصلون بين الحجّ والقضايا السّياسيّة في العالم الإسلاميّ اليوم، ويتصوّرون أنّ الحجّ ينبغي أن يكون عبادةً فقط، بالمعنى الرائج والعاديّ، وأنّ كلّ عملٍ سياسيّ هو عملٌ خارج عن نطاق الحجّ، كم أنّهم غرباء وبعيدون عن تاريخ الإسلام وعن سيرة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
ما بيّنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هاتين الخطبتين من مسائل، وقد ذُكرت في بعض كتب الشّيعة والسنّة بالإجمال، هي هذه. لقد تحدّث أوّلًا عن الجهاد، وطرح قضيّة الجهاد ضدّ المشركين والكفّار، وأعلن أنّ الجهاد سيستمرّ حتّى تنتشر كلمة لا إله إلا الله في كلّ العالم. وبشأن الوحدة الإسلاميّة بيّن رسول الله في هذه الخطب عدّة مطالب، وصرّح أنّ على المسلمين أن لا يقتتلوا فيما بينهم، وأكّد على وحدة المسلمين وانسجامهم. وفيما يتعلّق بالقيم الجاهليّة صرّح بكلامٍ واضحٍ، أنّ هذه القيم بنظر الإسلام هي لا شيء ولا قيمة لها "ألا إنّ كلّ مالٍ ومأثرةٍ ودمٍ يُدّعى تحت قدَميَّ هاتين"[16]، فقد تبرّأ من القيم الجاهليّة بالكامل. وكلّ الخلافات الماليّة الّتي كانت بين المسلمين من أيّام الجاهليّة، كأن يكون أحدهم قد أقرض أخاه وله عليه ربا، فإنّه أصبح منسوخًا، "ألا وكلّ ربا كان في الجاهليّة فهو موضوع وأول موضوع منه ربا عمّي العبّاس"[17]، الّذي كان قد أقرض في الجاهليّة كثيرين وله عليهم ربا، فقد أعلن النبيّ أنّه رفعه ونسخه. وقد أكّد على قيمة التقوى كأعلى قيمة إسلامية، وصرّح أنّه لا فضل لأحدٍ على أحد إلا بالتّقوى. وبيّن ضرورة النصيحة لأئمّة المسلمين، أي التدخّل في القضايا السّياسيّة وإبداء الرأي للحكّام والأئمّة وجعل ذلك كفريضة، حيث يجب على جميع المسلمين أن يُسْدوا للحكّام الإسلاميّين نصيحتهم وآراءهم النافعة.
لقد بيّن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في هاتين الخطبتين المسائل السّياسيّة والاجتماعيّة الأساس للعالم الإسلاميّ. وفي هاتين الخطبتين ذكر حديث الثقلين أيضًا، وهو حديث قال فيه: "إنّي قد تركتُ فيكم أمرين (نفيسين) لن تضلّوا بعدي ما إن تمسّكتم بهما كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنّ اللطيف الخبير قد عهد إليّ أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، كهاتين (السبابتين) وجمع بين مسبِّحتيه، ولا أقول كهاتين وجمع بين المسبّحة والوسطى، فتسبق إحداهما الأخرى فتمسّكوا بهما..."[18].
وقد عرض قضية العترة. وبعد إنهاء أعمال الحجّ توجّه مباشرةً إلى المدينة. وأثناء الطريق، وعلى مفترق ثلاثة طرق، حيث كان ينبغي أن تفترق القوافل اليمنيّة عن قوافل المدينة، وقف صلى الله عليه وآله وسلم في محلّةٍ يُقال لها "غدير خم"، وكما نقل الشاهد والحاضر، أنّ الحرارة كانت شديدة إلى درجة أنّه لو وضعوا قطعة لحمٍ على الأرض لشُويت، ففي مثل هذه الحال وقف صلى الله عليه وآله وسلم على مرتفعٍ ونادى في النّاس، وعندما رأى الجميع أعلن قضية الولاية، "من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه"[19] وأخذ بيد أمير المؤمنين عليه السلام ورفعها حتّى يراها الجميع. وفي رواياتٍ عديدة نُقل أنّه شوهد بياض إبطي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعليّ بن أبي طالب عليه السلام، عندما رفع يده من أجل أن يظهر الأمر للنّاس جميعًا، هذه هي الواقعة في الإجمال.
إنّ البُعد الّذي هو مورد نظري ـ البعد الدّوليّ الإسلاميّ والمتعلّق بالفرق الإسلاميّة الّتي لا تنحصر بالشّيعة ـ هو أنّه لو فرضنا أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الإعلان، الّذي حصل حتمًا وقد صدر عنه هذا الكلام، لو فرضنا أنّه لم يُرد أن يُبيّن أنّ خليفته المباشر هو أمير المؤمنين عليه السلام، فإنّه بالحدّ الأدنى أراد أن يُثبّت الولاء والرّابطة العميقة للمسلمين مع أمير المؤمنين عليه السلام وعترته. والسبب في أنّ النبيّ قرن عترته بالقرآن سواء في خطبة منى أم في حديث الثقلين ـ وعلى ما يبدو أنّ هذا الحديث قد صدر عن النبيّ عدّة مرّات ـ وأيضًا في حديث الغدير وفي هذه الواقعة ــ الّتي يُركّز فيها على أمير المؤمنين عليه السلام وشخصه ـ أنّه أراد أن يُثبّت هذه الرابطة من أجل أن يُظهر للنّاس وعلى مرّ الزمان نماذج كاملة للإنسان الّذي يريده الإسلام ويكون ذلك لجميع الأجيال الآتية. فيجعل النموذج الكامل للإنسان بصورة مجسّمة وعينية بحالاته الواضحة الّتي لا شكّ فيها أمام أعين جميع البشر، وليقول إنّ التربية الإسلاميّة ينبغي أن تكون في هذا الاتّجاه، وإنّ شخصّية الإنسان المسلم هي تلك الشّخصيّة الّتي تجعل غايتها ونموذجها هذا الإنسان الكامل.
هؤلاء الّذين كانت طهارتهم وعلومهم وتقواهم وصلاحهم وعبوديتهم لله، واطّلاعهم على القضايا الإسلاميّة، وتضحيتهم وشجاعتهم من أجل تحقّق الأهداف والقيم الإسلاميّة، وإيثارهم واضحٌ بيّنٌ للجميع. لقد تمّ تعريف أمير المؤمنين عليه السلام كأنموذج يمكن للنّاس أن يرتبطوا به سواء كان في ذلك الزّمان أم في الأزمان الآتية. وهنا، وإن لم تتحقّق الخلافة المباشرة عمليًّا إلّا بعد مرور 25 سنة، فإنّه في النّهاية صار خليفة النبيّ، وثبّت مقام إمامته، وقبل به جميع المسلمين، كفردٍ، إمامًا للمجتمع. هذه الخصوصيّة، وهذه الرّابطة الموجودة عند جميع المسلمين مع هذه الشّخصيّة، الّتي يقبل الجميع أنّها خليفة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كلّ ما هنالك أنّ بعض النّاس يقول إنّه الخليفة المباشر وبعض يعتقد بخلاف ذلك، وإنه خليفة بعد 25 سنة ـ هذه الشّخصيّة الّتي يقبل جميع المسلمين بها على أنّها خليفة يجب أن تكون لجميع المسلمين أنموذجًا خالدًا وقدوةً كاملة للإنسان الإسلاميّ. ويجب أن تبقى هذه الرابطة بينه وبين جميع المسلمين وإلى الأبد كرابطة فكريّة واعتقاديّة وعاطفيّة وعمليّة.
فمن هذه النّاحية، لا يختصّ أمير المؤمنين عليه السلام بالشّيعة، بل هو لجميع المسلمين. كما أنّ هذا الكلام لا يختصّ بأمير المؤمنين عليه السلام بل يشمل العترة الشّريفة وأئمّة الشّيعة الّذين هم من أولاده، الّذين هم أيضًا من العترة، والّذين يجب أن يبقوا دائمًا كنماذج كاملة للإنسان الإسلاميّ في أعين المسلمين. هذه قضية.
وبجعل العترة إلى جانب القرآن وبالإعلان عن ضرورة الارتباط بين المسلمين والعترة، بيّن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في الحقيقة الموقف تجاه كلّ أنواع التّحريف الّذي سيتعرّض له القرآن والانحراف عن المفاهيم القرآنيّة الأساس. فحينما تقوم الأجهزة الجائرة بتحريف المفاهيم الإسلاميّة من أجل منافعها وتُسيء إلى معاني القرآن وتُفسّر القرآن بصورةٍ خاطئة وتُضلّ المسلمين وتحرمهم من فهم الدّين الإسلاميّ، فإنّ ذاك المرجع والمحور والقطب، الّذي ينبغي أن يوعّي النّاس حول الحقيقة والمفاهيم والمعارف الصحيحة ويُنجي النّاس من الضلالة وعليهم أن يستمعوا إليه، هو العترة الطاهرة.
وهذا هو الأمر الّذي يُعدّ اليوم بالنسبة للعالم الإسلاميّ ضرورة ومطلبًا لازمًا. يحتاج جميع المسلمين اليوم أن ينهلوا المعارف الإسلاميّة عن طريق أهل بيت النبيّ، دون فرق بين أن يكونوا معتقدين بأنّ الإمامة المباشرة هي لأمير المؤمنين ولأولاده أو لا. وبالطّبع، فإنّ الشّيعة يعتبرون بأنّ العقيدة الحقّة والاستفادة القطعية من هذا الحديث هي الخلافة المباشرة، فهم يعتقدون بذلك ويتمّسكون به. والّذين لا يعتقدون بذلك ولا يتمسّكون به ــ أي الإخوان من أهل السنّة ــ لا ينبغي أن يقطعوا رابطتهم الفكريّة والعقلانيّة والاعتقاديّة والعاطفيّة بالعترة وبأمير المؤمنين عليه السلام. لهذا فإنّ قضية الغدير من هذا البعد الثاني، الّذي هو بعد إيجاد الرّابطة بين عليّ بن أبي طالب وعترة النبيّ من جهة وجميع المسلمين من جهة ثانية، هي قضيّة لجميع المسلمين.
إنّ قضيّة الغدير ليست قضيّة تاريخيّة بحتة، بل إنّها علامة على جامعيّة الإسلام. وإذا ما افترضنا أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لم يترك للأمّة منهاجاً لبناء مستقبلها، بعد عشر سنوات أمضاها في تحويل ذلك المجتمع البدائيّ، الملّوث بالعصبيّات والخُرافات، إلى مجتمعٍ إسلاميٍّ راقٍ، بفضل سعيه الدؤوب وما بذله أصحابه الأوفياء من جهود، لظلّت كلّ تلك الإنجازات مبتورة وبلا جدوى.
لقد كانت تراكمات العصبيّة الجاهليّة على قدرٍ عظيم من العمق، بحيث إنّها كانت بحاجة إلى سنوات طويلة للتغلّب عليها والتخلّص منها. لقد كان كلّ شيء على ما يرام كما يظهر، وكان إيمان النّاس جيّدًا، حتّى ولو لم يكونوا على مستوًى واحدٍ من العقيدة. فبعضهم كان قد اعتنق الإسلام قبل وفاة الرسول الأكرم بعامٍ واحد أو ستّة أشهر أو عامين، وذلك بفضل هيمنة البُنية العسكريّة الّتي أسّسها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مع ما رافقها من حلاوة الإسلام وجاذبيّته. لم يكونوا جميعًا من طراز المسلمين الأوائل من حيث العمق، ولهذا فقد كان من الضروريّ اتّخاذ ما يلزم من التدابير بغية إزالة تلك التراكمات الجاهليّة من أعماق المجتمع الجديد، والحفاظ على خطّ الهداية الإسلاميّة سليمًا ومستقيمًا بعد عشر سنوات من زمن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك لأنّ جهوده الجبّارة خلال تلك السنوات العشر ستبقى بلا ثمار فيما لم يتمّ اتّخاذ تلك التدابير. وهذا ما صرّحت به الآية المباركة من سورة المائدة، وهي قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾[20] فهذه إشارة إلى أنّ هذه النعمة هي نعمة الإسلام ونعمة الهداية ونعمة إرشاد العالمين جميعاً إلى الصراط المستقيم. وهذا ما لا يمكن أن يتمّ بلا خارطة للطريق بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا أمرٌ طبيعيّ. وهذا عين ما فعله النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في الغدير، حيث نصّب للولاية خليفةً ممتازًا لا نظير له وهو أمير المؤمنين عليه السلام، لما كان يتمتّع به من شخصيّة إيمانيّة فريدة، وأخلاق سامية حميدة، وروح ثوريّة وعسكريّة متميّزة، وسلوكٍ راقٍ مع جميع النّاس، وأمر النّاس باتّباعه.
ولم يكن هذا من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل كان هداية ربّانية وأمرًا إلهيًّا وتنصيبًا من الله تعالى، كما هو شأن كافّة أقوال وأفعال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الّتي كانت وحيًا إلهيًّا، وهو الّذي لا ينطق عن الهوى. لقد كان هذا أمرًا إلهيًّا صريحًا للرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقام بتنفيذه وإطاعته. وهذه هي قضيّة الغدير، أي بيان جامعيّة الإسلام وشموليّته، والتطلّع إلى المستقبل، وذلك الأمر الّذي لا تتمّ هداية الأمّة الإسلاميّة وزعامتها إلّا به. فما هو ذلك الأمر؟ إنّها تلك الـأمور الّتي تُجسّدها شخصيّة أمير المؤمنين، أي التّقوى والتديّن والإيمان الراسخ وعدم التوكّل إلّا على الله، وعدم السّير إلّا في سبيله، والجدّ والاجتهاد في طريق الحقّ، والاتّصاف بالعلم، والتميّز بالعقل والتدبير، والتمتّع بقدرة العزم وبالإرادة. إنّه عملٌ واقعيّ ونموذجيّ في نفس الوقت. لقد نُصّب أمير المؤمنين عليه السلام لاتّصافه بتلك الخصوصيات، الّتي باتت لازمة في كلّ زعيم للأمّة الإسلاميّة، أياً كان، مدى الدّهر، أي إنّ هذا هو النموذج الأمثل للقائد الإسلاميّ على مدى حياة الإسلام، وهو ما تجسّد في الاصطفاء الإلهيّ لأمير المؤمنين عليه السلام. والغدير هو هذه الحقيقة.
[1] سورة الأنفال، الآية 7.
[2] سورة الأنفال، الآية 7.
[3] سورة الأنفال، الآية 8.
[4] سورة البقرة، الآية 143.
[5] سورة الأنفال، الآية 8.
[6] سورة آل عمران، الآية 152.
[7] سورة الفتح، الآية 1.
[8] الكافي، ج5، ص12.
[9] سورة التوبة، الآية 125.
[10] سورة الروم، الآية 10.
[11] سورة التوبة، الآية 77.
[12] نهج البلاغة، ص368، وقول الإمام عليه السلام هو: "كنّا إذا احمرّ البأس اتقينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يكن أحد منّا أقرب إلى العدو منه".
[13] سورة المنافقون، الآية 8.
[14] الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج على أهل اللجاج، تحقيق وتصحيح محمد باقر الخرسان، نشر المرتضى، مشهد، الطبعة الأولى، 1403هـ، ج1، ص 82.
[15] يُطلق هذا الاسم على الأيّام من 11 إلى 13 من شهر ذي الحجة. ويطلق عليها في القرآن ﴿ َيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ﴾، سورة البقرة، الآية 203.
[16] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج21، ص105.
[17] م.ن، ج37، ص 113.
[18] الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص 415.
[19] م.ن، ج1، ص420.
[20] سورة المائدة، الآية 3.
الاكثر قراءة في قضايا عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة

الآخبار الصحية
