أحاديث وروايات المعصومين الاربعة عشر/الامامة/تكليف ومهام وعمل الامام/الامام الباقر عليه السلام
علي بن الحسن
المؤدب عن البرقي ، وأحمد بن محمد عن علي بن الحسن التيمي ، جميعا عن إسماعيل بن
مهران عن عبد الله بن الحارث عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال : خطب أمير
المؤمنين عليه السلام الناس بصفين ، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد صلى الله
عليه وآله ثم قال : أما بعد ، فقد جعل الله تعالى لي عليكم حقا بولاية أمركم
ومنزلتي التي أنزلني الله عز ذكره بها منكم ، ولكم علي من الحق مثل الذي لي عليكم
، والحق أجمل الأشياء في التواصف ، وأوسعها في التناصف ، لا يجري لأحد إلا جرى عليه
، ولا يجري عليه إلا جرى له ، ولو كان لأحد أن يجري ذلك له ولا يجري عليه لكان ذلك
لله عز وجل خالصا دون خلقه ، لقدرته على عباده ، ولعدله في كل ما جرت عليه ضروب [
صروف " خ " ] قضائه ، ولكن جعل حقه على العباد أن يطيعوه ، وجعل كفارتهم
عليه بحسن الثواب تفضلا منه [ وتطولا بكرمه ] وتوسعا بما هو من المزيد له أهلا .
ثم جعل من حقوقه
حقوقا فرضها لبعض الناس على بعض ، فجعلها تتكافى في وجوهها ، ويوجب بعضها بعضا ،
ولا يستوجب بعضها إلا ببعض .
فأعظم مما افترض
الله تبارك وتعالى من تلك الحقوق ، حق لوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي ،
فريضة فرضها الله عز وجل لكل على كل ، فجعلها نظام ألفتهم ، وعزا لدينهم ، وقواما
لسير الحق فيهم ، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة ، ولا تصلح الولاة إلا
باستقامة الرعية .
فإذا أدت الرعية
إلى الوالي حقه وأدى إليها الوالي كذلك ، عز الحق بينهم ، فقامت مناهج الدين ،
واعتدلت معالم العدل ، وجرت على أذلالها السنن ، وصلح بذلك الزمان وطاب بها العيش
، وطمع في بقاء الدولة ، ويئست مطامع الأعداء .
وإذا غلبت
الرعية على واليهم ، وعلا الوالي الرعية اختلفت هنالك الكلمة ، وظهرت مطالع الجور
، وكثر الإدغال في الدين ، وتركت معالم السنن ، فعمل بالهوى ، وعطلت الآثار وأكثر
علل النفوس ، ولا يستوحش لجسيم حد عطل ، ولا لعظيم باطل أثل ، فهنالك تذل الأبرار
وتعز الأشرار وتخرب البلاد وتعظم تبعات الله عز وجل عند العباد .
فهلم أيها الناس
! إلى التعاون على طاعة الله عز وجل ، والقيام بعدله والوفاء بعهده ، والإنصاف له
في جميع حقه ، فإنه ليس العباد إلى شئ أحوج منهم إلى التناصح في ذلك وحسن التعاون
عليه ، وليس أحد وإن اشتدت على رضاء الله حرصه وطال في العمل اجتهاده ، ببالغ
حقيقة ما أعطى الله من الحق أهله ، ولكن من واجب حقوق الله عز وجل على العباد
النصيحة له بمبلغ جهدهم ، والتعاون على إقامة الحق بينهم .
وليس امرؤ - وإن
عظمت في الحق منزلته وجسمت في الحق فضيلته - بمستغن عن أن يعاون على ما حمله الله
عز وجل من حقه ، ولا امرئ مع ذلك خسأت به الأمور واقتحمته العيون بدون ما أن يعين
على ذلك ويعان عليه ، وأهل الفضيلة في الحال وأهل النعم العظام أكثر من ذلك حاجة ،
وكل في الحاجة إلى الله عز وجل شرع سواء .
فأجابه رجل من
عسكره لا يدرى من هو ، ويقال : إنه لم ير في عسكره قبل ذلك اليوم ولا بعده ، فقام
وأحسن الثناء على الله عز وجل بما أبلاهم وأعطاهم من واجب حقه عليهم ، والإقرار [
له ] بما ذكر من تصرف الحالات به وبهم .
ثم قال : أنت
أميرنا ونحن رعيتك ، بك أخرجنا الله عز وجل من الذل ، وبإعزازك أطلق عباده من الغل
، فاختر علينا فأمض اختيارك ، وائتمر فأمض ائتمارك ، فإنك القائد المصدق ، والحاكم
الموفق ، والملك المخول ، لا نستحل في شيء معصيتك ، ولا نقيس علما بعلمك ، يعظم
عندنا في ذلك خطرك ، ويجل عنه في أنفسنا فضلك .
فأجابه أمير
المؤمنين [ عليه السلام فقال : ] إن من حق من عظم جلال الله في نفسه ، وجل موضعه
من قلبه ، أن يصغر عنده - لعظم ذلك - كل ما سواه ، وإن أحق من كان كذلك لمن عظمت
نعم الله عليه ولطف إحسانه إليه ، فإنه لم تعظم نعم الله على أحد إلا زاد حق الله
عليه عظما .
وإن من أسخف
حالات الولاة عند صالح الناس أن يظن بهم حب الفخر ، ويوضع أمرهم على الكبر . وقد
كرهت أن يكون جال في ظنكم أني أحب الإطراء واستماع الثناء ، ولست بحمد الله كذلك ،
ولو كنت أحب أن يقال ذلك [ لي ] لتركته انحطاطا لله سبحانه عن تناول ما هو أحق به
من العظمة والكبرياء ، وربما استحلى الثناء بعد البلاء ، فلا تثنوا علي بجميل ثناء
، لاخراجي نفسي إلى الله وإليكم من البقية في حقوق لم أفرغ من أدائها ، وفرائض لا
بد من إمضائها ، فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة ، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به
عند أهل البادرة ، ولا تخالطوني بالمصانعة ، ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي ،
ولا التماس إعظام لنفسي ، فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه ،
كان العمل بهما أثقل عليه .
فلا تكفوا عن
مقالة بحق أو مشورة بعدل ، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ ، ولا آمن ذلك من فعلي ،
إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني ، فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب
لا رب غيره ، يملك منا ما لا نملك من أنفسنا ، وأخرجنا مما كنا فيه إلى ما صلحنا
عليه ، فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى وأعطانا البصيرة بعد العمى .
فأجابه الرجل
الذي أجابه من قبل ، فقال : أنت أهل ما قلت ، والله فوق ما قلته ، فبلاؤه عندنا ما
لا يكفر ، وقد حملك الله تبارك وتعالى رعايتنا ، وولاك سياسة أمورنا ، فأصبحت
علمنا الذي نهتدي به ، وإمامنا الذي نقتدي به ، وأمرك كله رشد ، وقولك كله أدب .
قد قرت بك في الحياة أعيننا ، وامتلأت من سرور بك قلوبنا ، وتحيرت من صفة ما فيك
من بارع الفضل عقولنا ، ولسنا نقول لك : أيها الإمام الصالح تزكية لك ، ولا تجاوز
القصد في الثناء عليك ، ولن يكن في أنفسنا طعن على يقينك ، أو غش في دينك فنتخوف
أن تكون أحدثت بنعمة الله تبارك وتعالى تجبرا ، أو دخلك كبر ، ولكنا نقول لك ما
قلنا تقربا إلى الله عز وجل بتوقيرك ، وتوسعا بتفضيلك ، وشكرا بإعظام أمرك ، فانظر
لنفسك ولنا وآثر أمر الله على نفسك وعلينا ، فنحن طوع فيما أمرتنا ، ننقاد من
الأمور مع ذلك فيما ينفعنا .
فأجابه أمير
المؤمنين عليه السلام فقال : وأنا أستشهدكم عند الله على نفسي لعلمكم فيما وليت به
من أموركم ، وعما قليل يجمعني وإياكم الموقف بين يديه ، والسؤال عما كنا فيه ، ثم
يشهد بعضنا على بعض ، فلا تشهدوا اليوم بخلاف ما أنتم شاهدون غدا ، فإن الله عز
وجل لا يخفى عليه خافية ، ولا يجوز عنده إلا مناصحة الصدور في جميع الأمور .
فأجابه الرجل
ويقال : لم ير الرجل بعد كلامه هذا لأمير المؤمنين عليه السلام فأجابه ، وقد عال
الذي في صدره فقال والبكاء يقطع منطقه ، وغصص الشجى تكسر صوته إعظاما لخطر مرزئته
ووحشته من كون فجيعته فحمد الله وأثنى عليه ، ثم شكى إليه هول ما أشفى عليه من
الخطر العظيم والذل الطويل في فساد زمانه وانقلاب حده وانقطاع ما كان من دولته ،
ثم نصب المسألة إلى الله عز وجل بالامتنان عليه والمدافعة عنه بالتفجع وحسن الثناء
فقال : يا رباني العباد ويا سكن البلاد ! أين يقع قولنا من فضلك ! وأين يبلغ وصفنا
من فعلك ! وأنى نبلغ حقيقة حسن ثنائك أو نحصي جميل بلائك ! وكيف وبك جرت نعم الله
علينا ، وعلى يدك اتصلت أسباب الخير إلينا ؟ ألم تكن لذل الذليل ملاذا وللعصاة
الكفار إخوانا ؟ فبمن إلا بأهل بيتك وبك أخرجنا الله عز وجل من فظاعة تلك الخطرات
، أو بمن فرج عنا غمرات الكربات ! أو بمن إلا بكم أظهر الله معالم ديننا واستصلح
ما كان فسد من دنيانا ، حتى استبان بعد الجور ذكرنا ، وقرت من رخاء العيش أعيننا
لما وليتنا بالإحسان جهدك ، ووفيت لنا بجميع عهدك ، فكنت شاهد من غاب منا وخلف أهل
البيت لنا ، وكنت عز ضعائفنا وثمال فقرائنا وعماد عظمائنا ، يجمعنا من الأمور عدلك
، ويتسع لنا في الحق تأنيك ، فكنت لنا أنسا إذا رأيناك ، وسكنا إذا ذكرناك . فأي
الخيرات لم تفعل ! وأي الصالحات لم تعمل !
ولو أن الأمر
الذي نخاف عليك منه يبلغ تحريكه جهدنا وتقوى لمدافعته طاقتنا ، أو يجوز الفداء عنك
عنه بأنفسنا وبمن نفديه النفوس من أبنائنا ، لقدمنا أنفسنا وأبناءنا قبلك ،
ولأخطرناها وقل خطرها دونك ، ولقمنا بجهدنا في محاولة من حاولك ، وفي مدافعة من
ناواك ، ولكنه سلطان لا يحاول ، وعز لا يزاول ، ورب لا يغالب ، فإن يمنن علينا
بعافيتك ، ويترحم علينا ببقائك ، ويتحنن علينا بتفريج هذا من حالك إلى سلامة منك
لنا وبقاء منك بين أظهرنا ، نحدث الله عز وجل بذلك شكرا نعظمه ، وذكرا نديمه ،
ونقسم أنصاف أموالنا صدقات ، وأنصاف رقيقنا عتقاء ، ونحدث له تواضعا في أنفسنا ،
ونخشع في جميع أمورنا .
وإن يمض بك إلى
الجنان ، ويجري عليك حتم سبيله ، فغير متهم فيك قضاؤه ، ولا مدفوع عنك بلاؤه ، ولا
مختلفة مع ذلك قلوبنا بأن اختياره لك ما عنده على ما كنت فيه ، ولكنا نبكي من غير
إثم لعز هذا السلطان أن يعود ذليلا ، وللدين والدنيا أكيلا ، فلا نرى لك خلفا نشكو
إليه ، ولا نظيرا نأمله ولا نقيمه .
المصدر : بحار الأنوار
المؤلف : العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي
الجزء والصفحة : جزء 34 / صفحة [ 183 ]
تاريخ النشر : 2025-10-27