أحاديث وروايات المعصومين الاربعة عشر/سيرة وتاريخ/الإمام علي (عليه السلام)
قال عبد الحميد بن أبي الحديد : إن قوما بصنعاء كانوا من شيعة عثمان ،
يعظمون قتله ، لم يكن لهم نظام ولا رأس ، فبايعوا لعلي عليه السلام على ما في
أنفسهم ، وعامل علي عليه السلام على صنعاء يومئذ عبيد الله بن العباس ، وعامله على
الجند سعيد بن نمران فلما اختلف الناس على علي بالعراق ، وقتل محمد بن أبي بكر
بمصر ، وكثرت غارات أهل الشام ، تكلموا ودعوا إلى الطلب بدم عثمان ، ومنعوا الصدقات ، وأظهروا الخلاف .
فكتب عبيد الله وسعيد ذلك إلى أمير المؤمنين ، فلما وصل كتابهما ساء عليا عليه
السلام وأغضبه وكتب إليهما : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبيد الله بن
العباس وسعيد بن نمران : سلام الله عليكما ، فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله
إلا هو .
أما بعد : فإنه أتاني كتابكما تذكران فيه خروج هذه الخارجة ، وتعظمان من
شأنها صغيرا ، وتكثران من عددها قليلا ، وقد علمت أن [ نخب . خ ] أفئدتكما ، وصغر
أنفسكما ، وتباب رأيكما ، وسوء تدبيركما ، هو الذي أفسد عليكما من لم يكن عليكما
فاسدا ، وجرأ عليكما من كان عن لقائكما جبانا ، فإذا قدم رسولي عليكما ، فامضيا
إلى القوم حتى تقرءا عليهم كتابي إليهم ،
وتدعواهم إلى حظهم وتقوى ربهم ، فإن
أجابوا حمدنا الله وقبلناهم ، وإن حاربوا استعنا بالله عليهم ونابذناهم على سواء ،
إن الله لا يحب الخائنين .
فكتب عليه السلام إليهم : من عبد الله علي أمير المؤمنين ، إلى من شاق وغدر
من أهل الجند وصنعاء : أما بعد فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ، الذي لا
يعقب له حكم ، ولا يرد له قضاء ، ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين . [ أما بعد :
فقد . خ ] بلغني تحزبكم وشقاقكم وإعراضكم عن دينكم ، بعد الطاعة وإعطاء البيعة
والألفة ، فسألت أهل الدين الخالص ، والورع الصادق ، واللب الراجح ، عن بدء مخرجكم
، وما نويتم به وما أحمشكم له ، فحدثت عن ذلك بما لم أر لكم في شيء منه عذرا مبينا
، ولا مقالا جميلا ، ولا حجة ظاهرة ، فإذا أتاكم رسولي فتفرقوا وانصرفوا إلى
رحالكم أعف عنكم ، واتقوا الله وارجعوا إلى الطاعة ، وأصفح عن جاهلكم ، وأحفظ عن
قاصيكم ، وأقوم فيكم بالقسط ، وأعمل فيكم بحكم الكتاب .
فإن لم تفعلوا ، فاستعدوا لقدوم جيش جم الفرسان ، عظيم الأركان ، يقصد لمن
طغى وعصى فتطحنوا كطحن الرحى فمن أحسن فلنفسه ، ومن أساء فعليها ( وما ربك بظلام
للعبيد ) . وإلا فلا يحمد حامد إلا ربه ، ولا يلم لائم إلا نفسه ، والسلام عليكم
ورحمة الله .
ووجه الكتاب مع رجل من همدان : فقدم عليهم الكتاب فلم يجيبوه إلى خير ،
فرجع فأخبره عليه السلام .
وكتبت تلك العصابة إلى معاوية يخبرونه بما جرى ، وبطاعتهم [ له ] . فلما قدم
كتابهم ، دعا معاوية بسر بن أرطاة العامري - ويقال : ابن أبي أرطاة – وكان قاسي
القلب ، فظا ، سفاكا للدماء ، لا رأفة عنده ولا رحمة ، وأمره أن يأخذ طريق الحجاز
والمدينة ومكة حتى ينتهي إلى اليمن ، وقال له : لا تنزل على بلد أهله على طاعة علي
، إلا بسطت عليهم لسانك ، حتى يروا أنهم لا نجاء لهم وأنك محيط بهم ، ثم اكفف عنهم
، وادعهم إلى البيعة لي ، فمن أبى فاقتله ، واقتل شيعة علي حيث كانوا .
وفي رواية أخرى ، بعث بسرا في ثلاثة آلاف وقال : سر حتى تمر بالمدينة ، فاطرد
الناس ، وأخف من مررت به ، وانهب أموال كل من أصبت له مالا ممن لم يكن في طاعتنا ،
فإذا دخلت المدينة فأرهم أنك تريد أنفسهم ، وأخبرهم أنه لا براءة لهم عندك ولا عذر
، حتى إذا ظنوا أنك موقع بهم ، فاكفف عنهم ، ثم سر حتى تدخل مكة ، ولا تعرض فيها
لأحد ، وأرهب الناس عنك فيما بين مكة والمدينة ، واجعلها شردات ، حتى تأتي صنعاء
والجند ، فإن لنا بهما شيعة ، وقد جاءني كتابهم .
فسار بسر حتى أتى المدينة ، وصعد المنبر وهددهم وأوعدهم ، وبعد الشفاعة أخذ
منهم البيعة لمعاوية ، وجعل عليها أبا هريرة ، وأحرق دورا كثيرة .
وخرج إلى مكة ، فلما قرب منها هرب قثم بن العباس عامل علي عليه السلام
عليها ، ودخلها بسر فشتم أهل مكة وأنبهم ، ثم خرج عنها واستعمل عليها شيبة بن
عثمان ، وأخذ فيها سليمان وداود ابني عبيد الله بن العباس فذبحهما ، وقتل فيما بين
مكة والمدينة رجالا وأخذ أموالا .
ثم خرج من مكة وكان يسير ويفسد في البلاد ، حتى أتى صنعاء ، وهرب منها عبيد
الله وسعيد ، فدخلها وقتل فيها ناسا كثيرا ، وكان هكذا يفسد في البلاد .
فندب علي عليه السلام أصحابه لبعث سرية في أثر بسر فتثاقلوا ، وأجابه جارية
بن قدامة ، فبعثه في ألفين ، فشخص إلى البصرة ، ثم أخذ طريق الحجاز حتى قدم يمن ،
وسأل عن بسر فقيل : أخذ على بلاد بني تميم ، فقال : أخذ في ديار قوم يمنعون أنفسهم
.
وبلغ بسرا مسير جارية فانحدر إلى اليمامة ، وأغذ جارية السير ، ما يلتفت
إلى مدينة مر بها ، ولا أهل حصن ، ولا يعرج على شئ ، إلا أن يرمل بعض أصحابه من
الزاد ، فيأمر أصحابه بمواساته .
أو يسقط بعير رجل ، أو تحفى دابته ، فيأمر أصحابه بأن يعقبوه ، حتى انتهى
إلى أرض اليمن ، فهربت شيعة عثمان ، حتى لحقوا بالجبال ، وأتبعهم شيعة علي عليه
السلام ، وتداعت عليهم من كل جانب ، وأصابوا منهم .
ومر [ جارية ] نحو بسر ، وبسر يفر من جهة إلى جهة ، حتى أخرجه من أعمال علي
عليه السلام كلها . فلما فعل ذلك به ، أقام جارية بحرس نحوا من شهر ، حتى استراح
وأراح أصحابه.
ووثب الناس ببسر في طريقه لما انصرف من بين يدي جارية ، لسوء سيرته وفظاظته
وظلمه وغشمه . وأصاب بنو تميم ثقلا من ثقله في بلادهم .
فلما رجع بسر إلى معاوية قال : أحمد الله يا أمير المؤمنين ، أني سرت في هذا
الجيش أقتل عدوك ذاهبا وجائيا ، لم ينكب رجل منهم نكبة . فقال معاوية : الله فعل
ذلك لا أنت . وكان الذي قتل بسر في وجهه ذلك ، ثلاثين ألفا ، وحرق قوما بالنار .
قال ودعا علي عليه السلام على بسر فقال : اللهم إن بسرا باع دينه بالدنيا ،
وانتهك محارمك ، وكانت طاعة مخلوق فاجر ، آثر عنده من طاعتك ، اللهم فلا تمته حتى
تسلبه عقله ، ولا توجب له رحمتك ، ولا ساعة من النهار .
اللهم العن بسرا وعمرا ومعاوية ، وليحل عليهم غضبك ، ولتنزل بهم نقمتك ،
وليصبهم بأسك ورجزك الذي لا ترده عن القوم المجرمين .
فلم يلبث بسر بعد ذلك إلا يسيرا ، حتى وسوس وذهب عقله .
وكان يهذي بالسيف ويقول : أعطوني سيفا أقتل به . لا يزال يردد ذلك حتى اتخذ
له سيفا من خشب ، وكانوا يدنون منه المرفقة ، فلا يزال يضربها حتى يغشى عليه ، فلبث
كذلك إلى أن مات .
المصدر : بحار الأنوار
المؤلف : العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي
الجزء والصفحة : جزء 34 / صفحة [ 7 ]
تاريخ النشر : 2025-10-23