الوضع الليلي
انماط الصفحة الرئيسية

النمط الأول

النمط الثاني

النمط الثالث

0
اليوم : الثلاثاء ٢٤ صفر ١٤٤٧هـ المصادف ۱۹ آب۲۰۲٥م

أقوال عامة
أقوال عامة
ظلامة الزهراء وما حصل بعدها من تغيير لسنة النبي...
تاريخ النشر : 2025-08-19
إرشاد القلوب : من مثالبهم ـ لما ـ ما تضمنه خبر وفاة الزهراء عليها‌ السلام قرة عين الرسول وأحب الناس إليه مريم الكبرى والحوراء التي أفرغت من ماء الجنة من صلب رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ، التي قال في حقها رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله : إن الله يرضى لرضاك ويغضب لغضبك. وقال عليه وآله السلام : فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني.
وروي أنه لما حضرتها الوفاة قالت لأسماء بنت عميس : إذا أنا مت فانظري إلى الدار فإذا رأيت سجفا من سندس من الجنة قد ضرب فسطاطا في جانب الدار فاحمليني وزينب وأم كلثوم فاجعلوني من وراء السجف وخلوا بيني وبين نفسي ، فلما توفيت عليها‌ السلام وظهر السجف حملناها وجعلناها وراءه ، فغسلت وكفنت وحنطت بالحنوط ، وكان كافور أنزله جبرئيل عليه ‌السلام من الجنة في ثلاث صرر ، فقال : يا رسول الله! ربك يقرئك السلام ويقول لك : هذا حنوطك وحنوط ابنتك وحنوط أخيك علي مقسوم أثلاثا ، وإن أكفانها وماءها وأوانيها من الجنة.
وروي أنها توفيت عليها‌ السلام بعد غسلها وتكفينها وحنوطها ، لأنها طاهرة لا دنس فيها ، وأنها أكرم على الله تعالى أن يتولى ذلك منها غيرها ، وأنه لم يحضرها إلا أمير المؤمنين والحسن والحسين وزينب وأم كلثوم وفضة جاريتها وأسماء بنت عميس ، وأن أمير المؤمنين عليه ‌السلام أخرجها ومعه الحسن والحسين في الليل وصلوا عليها ، ولم يعلم بها أحد ، ولا حضروا وفاتها ولا صلى عليها أحد من سائر الناس غيرهم ، لأنها عليها‌ السلام أوصت بذلك ، وقال [ قالت ] : لا تصل علي أمة نقضت عهد الله وعهد أبي رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله في أمير المؤمنين علي عليه ‌السلام ، وظلموني حقي ، وأخذوا إرثي ، وخرقوا صحيفتي التي كتبها لي أبي بملك فدك ، وكذبوا شهودي وهم ـ والله ـ جبرئيل وميكائيل وأمير المؤمنين عليه ‌السلام وأم أيمن ، وطفت عليهم في بيوتهم وأمير المؤمنين عليه ‌السلام يحملني ومعي الحسن والحسين ليلا ونهارا إلى منازلهم أذكرهم بالله وبرسوله ألا تظلمونا ولا تغصبونا حقنا الذي جعله الله لنا ، فيجيبونا ليلا ويقعدون عن نصرتنا نهارا ، ثم ينفذون إلى دارنا قنفذا ومعه عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد ليخرجوا ابن عمي عليا إلى سقيفة بني ساعدة لبيعتهم الخاسرة ، فلا يخرج إليهم متشاغلا بما أوصاه به رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله وبأزواجه وبتأليف القرآن وقضاء ثمانين ألف درهم وصاه بقضائها عنه عدات ودينا ، فجمعوا الحطب الجزل على بابنا وأتوا بالنار ليحرقوه ويحرقونا ، فوقفت بعضادة الباب وناشدتهم بالله وبأبي أن يكفوا عنا وينصرونا ، فأخذ عمر السوط من يد قنفذ ـ مولى أبي بكر ـ فضرب به عضدي فالتوى السوط على عضدي حتى صار كالدملج ، وركل الباب برجله فرده علي وأنا حامل فسقطت لوجهي والنار تسعر وتسفع وجهي ، فضربني بيده حتى انتثر قرطي من أذني ، وجاءني المخاض فأسقطت محسنا قتيلا بغير جرم ، فهذه أمة تصلي علي؟! وقد تبرأ الله ورسوله منهم ، وتبرأت منهم. فعمل أمير المؤمنين (عليه السلام) بوصيتها ولم يعلم أحدا بها فأصنع في البقيع ليلة دفنت فاطمة عليها‌ السلام أربعون قبرا جددا.
ثم إن المسلمين لما علموا بوفاة فاطمة ودفنها جاءوا إلى أمير المؤمنين عليه ‌السلام يعزونه بها ، فقالوا : يا أخا رسول الله (صلى الله عليه وآله)! لو أمرت بتجهيزها وحفر تربتها.
فقال عليه ‌السلام : قد وريت ولحقت بأبيها صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم.
فقالوا : ( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) ، تموت ابنة نبينا محمد صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ولم يخلف فينا ولدا غيرها ، ولا نصلي عليها! إن هذا لشيء عظيم.
فقال عليه ‌السلام : حسبكم ما جنيتم على الله وعلى رسوله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله وعلى أهل بيته ولم أكن ـ والله ـ لأعصيها في وصيتها التي أوصت بها في أن لا يصلي عليها أحد منكم ، ولا بعد العهد فأعذر ، فنفض القوم أثوابهم ، وقالوا :لا بد لنا من الصلاة على ابنة رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ، ومضوا من فورهم إلى البقيع فوجدوا فيه أربعين قبرا جددا ، فاشتبه عليهم قبرها عليها‌ السلام بين تلك القبور فصح [ فضج ] الناس ولام بعضهم بعضا ، وقالوا : لم تحضروا وفاة بنت نبيكم ولا الصلاة عليها ولا تعرفون قبرها فتزورونه؟.
فقال أبو بكر : هاتوا من ثقات المسلمين من ينبش هذه القبور حتى تجدوا قبرها فنصلي عليها ونزورها ، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليه ‌السلام ، فخرج من داره مغضبا وقد احمر وجهه وقامت عيناه ودرت أوداجه ، وعلى يده قباه الأصفر الذي لم يكن يلبسه إلا في يوم كريهة ـ يتوكأ على سيفه ذي الفقار حتى ورد البقيع ، فسبق الناس النذير ، فقال لهم : هذا علي قد أقبل كما ترون يقسم بالله لئن بحث من هذه القبور حجر واحد لأضعن السيف على غائر هذه الأمة ، فولى القوم هاربين قطعا قطعا.
ومنها : ما فعله الأول من التآمر على الأمة من غير أن أباح الله له ذلك ولا رسوله ، ومطالبة جميعهم بالبيعة له والانقياد إلى طاعته طوعا وكرها ، وكان ذلك أول ظلم ظهر في الإسلام بعد وفاة رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم ، إذ كان هو وأولياؤه جميعا مقرين بأن الله عزوجل ورسوله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم لم يولياه ذلك ولا أوجبا طاعته ولا أمرا ببيعته.
وطالب الناس بالخروج إليه مما كان يأخذه رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم من الأخماس والصدقات والحقوق الواجبات.
ثم تسمى بخلافة رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم ، وقد علم هو ومن معه من الخاص والعام أن رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم لم يستخلفه ، فقد جمع بين الظلم والمعصية والكذب على رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم ، وقد قال صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله : من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ،. ولما امتنع طائفة من الناس في دفع الزكاة إليه وقالوا : إن رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم لم يأمرنا بدفع ذلك إليك، فسماهم : أهل الردة ، وبعث إليهم خالد بن الوليد رئيس القوم في جيش ، فقتل مقاتلهم ، وسبى ذراريهم ، واستباح أموالهم ، وجعل ذلك فيئا للمسلمين ، وقتل خالد بن الوليد رئيس القوم : مالك بن نويرة ، وأخذ امرأته فوطأها من ليلته تلك واستحل الباقون فروج نسائهم من غير استبراء.
وقد روى أهل الحديث جميعا بغير خلاف عن القوم الذين كانوا مع خالد أنهم قالوا : أذن مؤذننا وأذن مؤذنهم ، وصلينا وصلوا ، وتشهدنا وتشهدوا ، فأي ردة هاهنا؟! مع ما رووه أن عمر قال لأبي بكر : كيف نقاتل قوما يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم ، وقد سمعت رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم يقول : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فإذا قالوها حقنوا دماءهم وأموالهم؟!
فقال : لو منعوني عقالا مما كانوا يدفعونه إلى رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم لقاتلتهم ـ أو قال : لجاهدتهم ـ ، وكان هذا فعلا فظيعا في الإسلام وظلما عظيما ، فكفى بذلك خزيا وكفرا وجهلا ، وإنما أخذ عليه عمر بسبب قتل مالك بن نويرة ، لأنه كان بين عمر وبين مالك خلة أوجبت المعصية له من عمر.
ثم رووا جميعا أن عمر لما ولي جمع من بقي من عشيرة مالك واسترجع ما وجد عند المسلمين من أموالهم وأولادهم ونسائهم ، ورد ذلك جميعا عليهم.
فإن كان فعل أبي بكر بهن خطأ فقد أطعم المسلمين الحرام من أموالهم وملكهم العبيد الأحرار من أبنائهم ، وأوطأهم فروجا حراما من نسائهم ، وإن كان ما فعله حقا فقد أخذ عمر نساء قوم ملكوهن بحق فانتزعهن من أيديهم غصبا وظلما وردهن إلى قوم لا يستحقونهن بوطئهن حراما من غير مباينة وقعت ولا أثمان دفعت إلى من كن عنده في تملكه ، فعلى كلا الحالين قد أخطئا جميعا أو أحدهما ، لأنهما أباحا للمسلمين فروجا حراما ، وأطعماهم طعاما حراما من أموال المقتولين على دفع الزكاة إليه ، وليس له ذلك على ما تقدم ذكره.
ومنها : تكذيبه لفاطمة عليها‌ السلام في دعواها فدك ، ورد شهادة أم أيمن ، مع أنهم رووا جميعا أن رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله قال : أم أيمن امرأة من أهل الجنة ، ورد شهادة أمير المؤمنين عليه ‌السلام وقد رووا جميعا أن رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله قال : علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار، وأخبرهم أيضا بتطهير علي وفاطمة من الرجس عن الله تعالى ، فمن توهم أن عليا وفاطمة يدخلان ـ بعد هذه الأخبار من الله عز وجل ـ في شيء من الكذب والباطل فقد كذب الله ، ومن كذب الله كفر بغير خلاف.
ومنها : قوله في الصلاة : لا يفعل خالد ما أمره ، فهذه بدعة يقارنها كفر ، وذلك أنه أمر خالد بقتل أمير المؤمنين عليه ‌السلام إذا هو سلم من صلاة الفجر ، فلما قام في الصلاة ندم على ذلك وخشي إن فعل ما أمر به من قتل أمير المؤمنين عليه ‌السلام أن تهيج عليه فتنة لا يقومون لها. فقال : لا يفعلن خالد ما أمر .. قبل أن يسلم ، والكلام في الصلاة بدعة ، والأمر بقتل علي كفر.
ومنها : أنهم رووا ـ بغير خلاف ـ أنه قال ـ وقت وفاته ـ : ثلاث فعلتها وددت أني لم أفعلها ، وثلاث لم أفعلها ووددت أني أفعلها ، وثلاث غفلت عنها ووددت أني أسأل رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم عنها ، أما الثلاث التي وددت أني لم أفعلها ، فبعث خالد بن الوليد إلى مالك بن نويرة وقومه المسمين بأهل الردة ، وكشف بيت فاطمة (عليها السلام) وإن كان أغلق على حرب .. واختلف أولياؤه في باقي الخصال فأهملنا ذكرها وذكرنا ما اجتمعوا عليه.
فقد دل قوله : أني لم أكشف بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله .. أنه أغضب فاطمة ، وقد قال رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله : إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك ، فقد أوجب بفعله هذا غضب الله عليه بغضب فاطمة. وقال صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله : فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله.، فقد لزمه أن يكون قد آذى الله ورسوله بما لحق فاطمة عليها‌ السلام من الأذى بكشف بيتها ، وقد قال الله عز وجل : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) ، وأما الثلاثة التي ود أن يسأل رسول الله عنها فهي : الكلالة ما هي؟ وعن الجد ما له من الميراث؟ وعن الأمر لمن بعده؟ ومن صاحبه؟.
وكفى بهذا الإقرار على نفسه خزيا وفضيحة ، لأنه شهر نفسه بالجهل بأحكام الشريعة ، ومن كان هذه حاله كان ظالما فيما دخل فيه من الحكومة بين المسلمين بما لا يعلمه : ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ).
وقوله : ووددت أني أسأل رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم لمن الأمر بعده؟ ومن صاحبه؟ فقد أقر وأشهد على نفسه بأن الأمر لغيره ، وأنه لا حق له فيه ، لأنه لو كان له حق لكان قد علمه من الله عز وجل ومن رسوله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم ، فلما لم يكن له فيه حق لم يعلم لمن هو بزعمه ، وإذا لم يكن فيه حق ولم يعلم لمن هو فقد دخل فيما لم يكن له ، وأخذ حقا هو لغيره ، وهذا يوجب الظلم والتعدي ، وقال الله تعالى : ( أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ).
وأما ما وافقه عليه صاحبه الثاني :
فمنها : أنه لما أمر أن يجمع ما تهيأ له من القرآن أمر مناديا ينادي في المدينة : من كان عنده شيء من القرآن فليأتنا به ، ثم قال : لا تقبل من أحد شيئا إلا بشاهدي عدل.
وهذا منه مخالف لكتاب الله عز وجل إذ يقول : ( لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ) فذلك غاية الجهل وقلة الفهم ، وهذا الوجه أحسن أحوالهما ، ومن حل هذا المحل لم يجز أن يكون حاكما بين المسلمين فضلا عن منزلة الإمامة ، وإن كانا قد علما ذلك من كتاب الله ، ولم يصدقا إخبار الله فيه ، ولم يثقا بحكمه في ذلك ، كانت هذه حالا توجب عليهما ما لا خفاء به على كل ذي فهم ، ولكن الأئمة من أهل البيت عليهم‌ السلام قالوا : إنهما قصدا بذلك عليا عليه ‌السلام فجعلا هذا سببا لترك قبول ما كان علي عليه ‌السلام جمعه وألفه من القرآن في مصحفه بتمام ما أنزل الله عز وجل على رسوله منه ، وخشيا أن يقبلا ذلك منه ، فيظهر ما يفسد عليهما عند الناس ما ارتكباه من الاستيلاء على أمورهم ، ويظهر فيه فضائح المذمومين بأسمائهم وطهارة الفاضلين المحمودين بذكرهم ، فلذلك قالا : لا نقبل القرآن من أحد إلا بشاهدي عدل ، هذا مع ما يلزم من يتولاهما أنهما لم يكونا عالمين بتنزيل القرآن ، لأنهما لو كانا يعلمانه لما احتاجا أن يطلباه من غيرهما ببينة عادلة ، وإذا لم يعلما التنزيل كان محالا أن يعلما التأويل ، ومن لم يعلم التنزيل ولا التأويل كان جاهلا بأحكام الدين وبحدود ما أنزل الله على رسوله ، ومن كان بهذه الصفة خرج عن حدود من يصلح أن يكون حاكما بين المسلمين أو إماما لهم ، ومن لم يصلح لذلك ثم دخل فيه فقد استوجب المقت من الله عز وجل ، لأن من لا يعلم حدود الله يكون حاكما بغير ما أنزل الله ، وقال سبحانه وتعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ).
ومنها : أن الأمة مجتمعة على أن رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم ضمه وصاحبه مع جماعة من المهاجرين والأنصار إلى أسامة بن زيد وولاه عليهما ، وأمره بالمسير فيهم ، وأمرهم بالمسير تحت رايته ، وهو أمير عليهم إلى بلاد من الشام ، ولم يزل رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم يقول : لينفذوا جيش أسامة .. حتى توفي رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم في مرضه ذلك ، وأنهما لم ينفذا وتأخرا عن أسامة في طلب ما استوليا عليه من أمور الأمة ، فبايع الناس لأبي بكر ـ وأسامة معسكر في مكانه على حاله خارج المدينة ـ والأمة مجتمعة على أن من عصى رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم وخالفه فقد عصى الله ، ومن أطاع ( الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) ، بنص الكتاب العزيز ، والأمة أيضا مجمعة على أن معصية الرسول بعد وفاته كمعصيته في حياته ، وأن طاعته بعد وفاته كطاعته في حياته ، وأنهما لم يطيعاه في الحالتين ، وتركا أمره لهما بالخروج ، ومن ترك أمر رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم متعمدا وخالفه وجب الحكم بارتداده.
ومنها : أنه لما حضرته الوفاة جعل ما كان اغتصبه وظلم في الاستيلاء عليه لعمر من بعده ، وطالب الناس بالبيعة له والرضا به كره في ذلك من كره ورغب من رغب ، وقد أجمعوا في روايتهم أن الغالب كان من الناس يومئذ الكراهية ، فلم يفكر في ذلك وجعله الوالي عليهم على كره منهم ، وخوفوه من الله عز وجل في توليته ، فقال : أبالله تخوفوني؟! إذا أنا لقيته قلت له : استخلفت عليهم خير أهلك!. فكان هذا القول جامعا لعجائب من المنكرات القطعيات ، أرأيت لو أجابه الله تعالى ، فقال : ومن جعل إليك ذلك؟ ومن ولاك أنت حتى تستخلف عليهم غيرك؟! فقد تقلد الظلم في حياته وبعد وفاته.
ثم إن قوله : تخوفوني بالله ..! إما هو دليل على استهانته بملاقاة الله تعالى ، أو يزعم أنه زكي عند الله بريء من كل ذلة وهفوة ، وهذا مخالفة لقوله تعالى ، فإنه قال : ( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى ).
ثم إنه لم يكتف بذلك حتى شهد لعمر أنه خير القوم ، وهذا مما لا يصل إليه مثله ولا يعرفه.
ثم إنه ختم ذلك بالطامة الكبرى أنه أمر وقت وفاته بالدفن مع رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم في بيته وموضع قبره وجعل ـ أيضا ـ بذلك سبيلا لعمر عليه ، فإنه فعل كما فعله ، وصيرت العامة ذلك منقبة لهما بقولهم : ضجيعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ومن عقل وميز وفهم علم أنهما قد جنيا على أنفسهما جناية لا يستقيلانها أبدا ، وأوجبا على أنفسهما المعصية لله ولرسوله والظلم الظاهر الواضح ، لأن الله سبحانه قد نهى عن الدخول إلى بيوت النبي صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم إلا بإذنه ، حيث يقول : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ ) والحال في ذلك بعد وفاته كالحال في حياته ، إلا أن يخص الله عز وجل ذلك أو رسوله ، فإن كان البيت الذي فيه قبر رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم للرسول خاصة فقد عصيا الله بدخولهما إليه بغير إذن الرسول صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم ، وختما أعمالهما بمعصية الله تعالى في ذلك ، وإن كان البيت من جملة التركة ، فإما أن يكون كما زعموا أنه صدقة أو يكون للورثة ، فإن كان صدقة فحينئذ يكون لسائر المسلمين لا يجوز أن يختص واحد دون واحد ، ولا يجوز أيضا شراؤه من المسلمين ولا استيهابه ، وإن كان ميراثا ، فلم يكونا ممن يرث الرسول صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم. وإن ادعى جاهل ميراث ابنتهما من الرسول (صلى الله عليه وآله) فإن نصيبهما تسعا الثمن لأن الرسول صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم مات عن تسع نسوة وعن ولد للصلب ، فلكل واحدة منهما تسع الثمن ، وهذا القدر لا يبلغ مفحص قطاة.
وبالجملة ، فإنهما غصبا الموضع حتى تقع القسمة على تركة الرسول ولا قسمة مع زعمهم أن ما تركه صدقة.
وأما صاحبه الثاني فقد حذا حذوه ، وزاد عليه فيما غير من حدود الله تعالى في الوضوء ، والأذان والإقامة .. وسائر أحكام الدين.
أما الوضوء ، فقد قال عز من قائل : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) فقد جعل سبحانه للوضوء حدودا أربعة ، حدان منها غسل ، وحدان منها مسح ، فلما قدم الثاني بعد الأول جعل المسح على الرجلين غسلا وأمر الناس بذلك ، فاتبعوه إلا الفرقة المحقة ، وأفسدوا على من اتبعه وضوءه وصلاته لفساد الوضوء ، لأنه على غير ما أنزل الله به من حدود الوضوء ، وأجاز أيضا المسح على الخفين من غير أمر من الله تعالى ورسوله.
وأما الأذان والإقامة ، فأسقط منهما وزاد فيهما ، أما الأذان فإنه كان فيه على عهد النبي صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم : ( حي على خير العمل ) بإجماع العلماء وأهل المعرفة بالأثر والخبر ، فقال الثاني : ينبغي لنا أن نسقط : ( حي على خير العمل ) ، في الأذان والإقامة لئلا يتكل الناس على الصلاة فيتركوا الجهاد ، فأسقط ذلك من الأذان والإقامة جميعا لهذه العلة بزعمه ، فقبلوا ذلك منه وتابعوه عليه ، ويلزمهم أن يكون عمر قد أبصر من الرشد ما لم يعلمه الله عز وجل ولا رسوله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم ، لأن الله ورسوله قد أثبتا ذلك في الأذان والإقامة ولم يخافا على الناس ما خشيه عليهم عمر وقدره فيهم ، ومن ظن ذلك وجهله لزمه الكفر ، فأفسد عليهم الأذان بذلك أيضا ، لأنه من تعمد الزيادة والنقيصة في فريضة أو سنة فقد أفسدها.
ثم إنه بعد إسقاط ما أسقط من الأذان والإقامة من ( حي على خير العمل ) ، أثبت في بعض الأذان زيادة من عنده ، وذلك أنه زاد في أذان صلاة الفجر : الصلاة خير من النوم ، فصارت هذه البدعة ـ عند من اتبعه ـ من السنن الواجبة لا يستحلون تركها ، فبدعة الرجل عندهم معمورة متبعة معمول بها يطالب من تركها بالقهر عليها ، وسنة رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم عندهم مهجورة مطرحة [ مطروحة ] يضرب من استعملها ويقتل من أقامها.
وجعل أيضا الإقامة فرادى ، فقال : ينبغي لنا أن نجعل بين الأذان والإقامة فرقا بينا ، وكانت الإقامة على عهد رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم سبيلها كسبيل الأذان مثنى مثنى ، وكان فيها : ( حي على خير العمل ) مثنى ، وكانت أنقص من الأذان بحرف واحد ، لأن في آخر الأذان : ( لا إله إلا الله ) مرتين ، وفي آخر الإقامة مرة واحدة ، وكان هذا هو الفرق فغيره الرجل وجعل بينهما فرقا من عنده ، فقد خالف الله ورسوله ، وزعم أنه قد أبصر من الرشد في ذلك وأصاب من الحق ما لم يعلمه الله تعالى ورسوله ،و قد قال رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم : كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، ولا شك أنه كل من ابتدع بدعة كان عليه وزرها ووزر العامل بها إلى يوم القيامة.
وأما الصلاة ، فأفسد من حدودها ما فيه الفضيحة والهتك لمذهبهم ، وهو إنهم رووا أن : تحريم الصلاة التكبير وتحليلها التسليم ، وأن الصلاة المفروضة على الحاضرين الظهر أربعا ، والعصر أربعا ، والمغرب ثلاثا ، والعشاء الآخرة أربعا ، لا سلام إلا في آخر التشهد في الرابعة ، وأجمعوا على أنه من سلم قبل التشهد عامدا متعمدا فلا صلاة له ، وقد لزمه الإعادة ، وأنه من سلم في كل ركعتين من هذه الصلوات الأربع عامدا غير ناس فقد أفسد صلاته وعليه الإعادة ، فاستن الرجل لهم في التشهد الأول والثاني ما أفسد صلاتهم وأبطل عليهم تشهدهم ، فليس منهم أحد يتشهد في صلاته قط ولا يصلي من هذه الصلوات الأربع التي ذكرناها ، وذلك أنهم يصلون ركعتين ثم يقعدون للتشهد الأول فيقولون عوضا عن التشهد : التحيات لله ، الصلوات الطيبات ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، فإذا قالوا ذلك فقد سلموا أتم السلام وأكمله ، لأنه إذا سلم المصلي على النبي وعلى نفسه وعلى عباد الله الصالحين لم يبق من هؤلاء من يجوز صرف التسليم إليه ، فإن عباد الله الصالحين يدخل في جملتهم الأولون والآخرون والجن والإنس والملائكة وأهل السماوات والأرضين والأنبياء والأوصياء وجميع المرسلين من الأحياء والأموات ومن قد مضى ومن هو آت ، فحينئذ يكون المصلي منهم قد قطع صلاته الأربع ركعات بسلامه هذا ، ثم يقول بعد : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، والتشهد هو الشهادتان ، فالمصلي منهم يأتي بالشهادتين بعد التسليم الذي ذكرناه منهم ، فلزمهم أنه ليس منهم أحد يتشهد في الصلاة إذا كان التسليم موجبا للخروج من الصلاة ، ولا عبرة بالتشهد بعد الصلاة.
ثم أتبع ذلك بقوله : آمين ، عند الفراغ من قراءة سورة الحمد ، فصارت عند أوليائه سنة واجبة ، حتى أن من يتلقن القرآن من الأعاجم وغيرهم وعوامهم وجهالهم يلعنونهم من بعد قول ( وَلَا الضَّالِّينَ ) : آمين ، فقد زادوا آية في أم الكتاب ، وصار عندهم من لم يأت بها في صلاته وغير صلاته كأنه قد ترك آية في كتاب الله.
وقد أجمع أهل النقل عن الأئمة عليهم‌ السلام من أهل البيت أنهم قالوا : من قال : آمين في صلاته فقد أفسد صلاته وعليه الإعادة، لأنها عندهم كلمة سريانية معناها بالعربية : افعل ، كسبيل من يدعو بدعاء فيقول في آخره : اللهم افعل ، ثم استن أولياؤه وأنصاره رواية متخرصة عن النبي صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم أنه كان يقول ذلك بأعلى صوته في الصلاة ، فأنكر أهل البيت ذلك ، ولما رأينا أهل البيت عليهم‌ السلام مجتمعين على إنكارها صح عندنا فساد أخبارهم فيها ، لأن الرسول صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم حكم ـ بالإجماع ـ أن لا نضل ما تمسكنا بأهل بيته عليهم‌ السلام ، فتعين ضلالة من تمسك بغيرهم.
وأما الدليل على خرص روايتهم أنهم مختلفون في الرواية : فمنهم من روى : إذا أمن الإمام فأمنوا.
ومنهم من يروي : إذا قال الإمام « وَلَا الضَّالِّينَ » فقولوا : آمين.
ومنهم من يروي : ندب رفع الصوت بها.
ومنهم من يروي : الإخفات بها. فكان هذا اختلافهم فيما وصفناه من هذه المعاني دليلا واضحا ـ لمن فهم ـ على تخرص روايتهم.
ثم أتبع ذلك بفعل من أفعال اليهود ، وذلك عقد اليدين في الصدر إذا قاموا في الصلاة ، لأن اليهود تفعل في صلاتها ذلك ، فلما رآهم الرجل يستعملون ذلك استعمله هو أيضا اقتداء بهم وأمر الناس بفعل ذلك ، وقال : إن هذا تأويل قوله تعالى : ( وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ ) يريد بزعمه التذلل والتواضع ،ومما روي عنه بالخلاف أنه قال للرسول صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله يوما : إنا نسمع من اليهود أشياء نستحسنها منهم ، فنكتب ذلك منهم؟. فغضب النبي صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله وقال : أمتهوّكون أنتم يا ابن الخطاب! ، لو كان موسى حيا لم يسعه إلا اتباعي.
ومن استحسن ذلك في حياة الرسول من قول اليهود فاستحسانه بعد فقد النبي أولى ، وقد أنكر أهل البيت عليهم‌ السلام ونهوا عنه نهيا مؤكدا ، وحال أهل البيت ما شرحناه من شهادة الرسول صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم لهم بإزالة الضلالة عنهم وعمن تمسك بهم ، فليس من بدعة ابتدعها هذا الرجل إلا أولياؤه متحفظون بها مواظبون عليها وعلى العمل بها ، طاعنون على تاركها ، وكل تأديب الرسول الذي قد خالفه الرجل ببدعة فهو عندهم مطروح متروك مهجور ويطعن على من استعمله ، وينسب عندهم إلى الأمور المنكرات ،و لقد رووا جميعا أن الرسول قال : لا تبركوا في الصلاة كبرك البعير ، ولا تنقروا كنقر الديك ، ولا تقعوا كإقعاء الكلب ، ولا تلتفتوا كالتفات القرود ، فهم لأكثر ذلك فاعلون ، ولقول الرسول مخالفون ، فإذا أرادوا السجود بدؤوا بركبهم فيطرحونها إلى الأرض قبل أيديهم ، وذلك منهم كبرك البعير على ركبتيه ، ويعلمون ذلك جهّالهم خلافا على تأديب الرسول صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم ، وهذا شأنهم في سائر أحكام الدين فلا نطول الكلام بذكرها الكتاب.
ولما أمر الله سبحانه نبيه صلوات الله عليه وآله بسد أبواب الناس من مسجد رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله شريفا [ تشريفا ] له وصونا له عن النجاسة سوى باب النبي صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله وباب علي بن أبي طالب عليه ‌السلام ، وأمره أن ينادي في الناس بذلك ، فمن أطاعه فاز وغنم ومن عصاه هلك وندم ، فأمر النبي صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله المنادي فنادى في الناس : الصلاة جامعة ، فأقبل الناس يهرعون ، فلما تكاملوا صعد النبي المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس! إن الله سبحانه وتعالى قد أمرني بسد أبوابكم المفتوحة إلى المسجد بعد يومي ، وأن لا يدخله جنب ولا نجس ، بذلك أمرني ربي جل جلاله ، فلا يكون في نفس أحد منكم أمر ، ولا تقولوا : لم؟ وكيف؟ وأنى ذلك؟ فتحبط أعمالكم وتكونوا من الخاسرين ، وإياكم والمخالفة والشقاق فإن الله تعالى أوحى إلي أن أجاهد من عصاني ، وأنه لا ذمة له في الإسلام ، وقد جعلت مسجدي طاهرا من كل دنس ، محرما على كل من يدخل إليه مع هذه الصفة التي ذكرتها غيري وأخي علي بن أبي طالب عليه ‌السلام وابنتي فاطمة وولدي الحسن والحسين كما كان مسجد هارون وموسى ، فإن الله أوحى إليهما أن اجعلا بيوتكما قبلة لقومكما ، وإني قد أبلغتكم ما أمرني به ربي وأمرتكم بذلك ، ألا فاحذروا الحسد والنفاق وأطيعوا الله يوافق بينكم سركم علانيتكم ، فـ( اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )، فقال الناس بأجمعهم : سمعنا وأطعنا الله ورسوله ولا نخالف ما أمرنا به ، ثم خرجوا أبوابهم جميعا غير باب النبي صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله وعلي عليه ‌السلام ، فأظهر الناس الحسد والكلام ، فقال عمر : ما بال رسول الله (صلى الله عليه وآله) يؤثر ابن عمه علي بن أبي طالب ويقول على الله الكذب ، ويخبر عن الله بما لم يقل في علي؟! وإنما سأل محمد صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله لعلي بن أبي طالب وأجابه إلى ما يريد ، فلو سأل الله ذلك لنا لأجابه ، وأراد عمر أن يكون له باب مفتوح إلى المسجد ، ولما بلغ رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله قول عمر وخوض الناس والقوم في الكلام ، أمر المنادي بالنداء إلى : الصلاة جامعة ، فلما اجتمعوا قال لهم النبي صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله : معاشر الناس! قد بلغني ما خضتم فيه وما قال قائلكم ، وإني أقسم بالله العظيم أني لم أقل على الله الكذب ولا كذبت فيما قلت ، ولا أنا سددت أبوابكم ، ولا أنا فتحت باب علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، ولا أمرني في ذلك إلا الله عز وجل الذي خلقني وخلقكم أجمعين ، فلا تحاسدوا فتهلكوا ، ولا تحسدوا ( النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) ، فإنه يقول في محكم كتابه : ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ) فاتقوا الله وكونوا من الصابرين ، ثم صدق الله رسوله بنزول الكوكب من السماء على دار علي بن أبي طالب عليه ‌السلام ، وأنزل الله سبحانه قرآنا ، وأقسم بالنجم تصديقا لرسوله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ، فقال : ( وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى ) ... الآيات كلها ، وتلاها النبي صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله فلم يزدادوا إلا غضبا وحسدا ونفاقا وعتوا واستكبارا ، ثم تفرقوا وفي قلوبهم من الحسد والنفاق ما لا يعلمه إلا الله سبحانه.
فلما كان بعد أيام دخل عليه عمه العباس وقال : يا رسول الله! قد علمت ما بيني وبينك من القرابة والرحم الماسة ، وأنا ممن يدين الله بطاعتك ، فاسأل الله تعالى أن يجعل لي بابا إلى المسجد أتشرف بها على من سواي؟. فقال له عليه وآله السلام : يا عم! ليس إلى ذلك سبيل. فقال : فميزابا يكون من داري إلى المسجد أتشرف به على القريب والبعيد. فسكت النبي صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ـ وكان كثير الحياء ـ لا يدري ما يعيد من الجواب خوفا من الله تعالى وحياء من عمه العباس ، فهبط جبرئيل عليه ‌السلام في الحال على النبي صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ـ وقد علم الله سبحانه ما في نفسه صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله من ذلك ـ ، فقال : يا محمد (صلى الله عليه وآله)! إن الله يأمرك أن تجيب سؤال عمك ، وأمرك أن تنصب له ميزابا إلى المسجد كما أراد ، فقد علمت ما في نفسك وقد أجبتك إلى ذلك كرامة لك ونعمة مني عليك وعلى عمك العباس ، فكبر النبي صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله وقال : أبى الله إلا إكرامكم يا بني هاشم وتفضيلكم على الخلق أجمعين ، ثم قام ومعه جماعة من الصحابة والعباس بين يديه حتى صار على سطح العباس ، فنصب له ميزابا إلى المسجد وقال : معاشر المسلمين! إن الله قد شرف عمي العباس بهذا الميزاب فلا تؤذوني في عمي ، فإنه بقية الآباء والأجداد ، فلعن الله من آذاني في عمي وبخسه حقه أو أعان عليه.
ولم يزل الميزاب على حاله مدة أيام النبي صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله وخلافة أبي بكر وثلاث سنين من خلافة عمر بن الخطاب ، فلما كان في بعض الأيام وعك العباس ومرض مرضا شديدا وصعدت الجارية تغسل قميصه فجرى الماء من الميزاب إلى صحن المسجد ، فنال بعض الماء ثوب الرجل ، فغضب غضبا شديدا وقال لغلامه : اصعد واقلع الميزاب ، فصعد الغلام فقلعه ورمى به إلى سطح العباس ، وقال : والله لئن رده أحد إلى مكانه لأضربن عنقه ، فشق ذلك على العباس ودعا بولديه عبد الله وعبيد الله ونهض يمشي متوكئا عليهما ـ وهو يرتعد من شدة المرض ـ وسار حتى دخل على أمير المؤمنين عليه ‌السلام ، فلما نظر إليه أمير المؤمنين عليه ‌السلام انزعج لذلك ، وقال : يا عم! ما جاء بك وأنت على هذه الحالة؟!. فقص عليه القصة وما فعل معه عمر من قلع الميزاب وتهدده من يعيده إلى مكانه ، وقال له : يا ابن أخي! إنه كان لي عينان أنظر بهما ، فمضت إحداهما وهي رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله وبقيت الأخرى وهي أنت يا علي ، وما أظن أن أظلم ويزول ما شرفني به رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله وأنت لي ، فانظر في أمري ، فقال له : يا عم! ارجع إلى بيتك ، فسترى مني ما يسرك إن شاء الله تعالى.
ثم نادى : يا قنبر! علي بذي الفقار ، فتقلده ثم خرج إلى المسجد والناس حوله وقال : يا قنبر! اصعد فرد الميزاب إلى مكانه ، فصعد قنبر فرده إلى موضعه ، وقال علي عليه ‌السلام : وحق صاحب هذا القبر والمنبر لئن قلعه قالع لأضربن عنقه وعنق الآمر له بذلك ، ولأصلبنهما في الشمس حتى يتقددا ، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب ، فنهض ودخل المسجد ونظر إلى الميزاب ، فقال : لا يغضب أحدا [ أحد ] أبا الحسن فيما فعله ، ونكفر عن اليمين ، فلما كان من الغداة مضى أمير المؤمنين إلى عمه العباس ، فقال له : كيف أصبحت يا عم؟. قال : بأفضل النعم ما دمت لي يا ابن أخي. فقال له : يا عم! طب نفسا وقر عينا ، فوالله لو خاصمني أهل الأرض في الميزاب لخصمتهم ، ثم لقتلتهم بحول الله وقوته ، ولا ينالك ضيم يا عم ، فقام العباس فقبل ما بين عينيه ، وقال : يا ابن أخي! ما خاب من أنت ناصره.
فكان هذا فعل عمر بالعباس عم رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم. وقد قال في غير موطن وصية منه في عمه العباس : إن عمي العباس بقية الآباء والأجداد فاحفظوني فيه ، كل في كنفي ، وأنا في كنف عمي العباس ، فمن آذاه فقد آذاني ، ومن عاداه فقد عاداني ، سلمه سلمي ، وحربه حربي.
وقد آذاه عمر في ثلاثة مواطن ظاهرة غير خفية :
منها : قصة الميزاب ، ولولا خوفه من علي (عليه السلام) لم يتركه على حاله.
ومنها : أن النبي صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله قبل الهجرة خرج يوما إلى خارج مكة ورجع طالبا منزله فاجتاز بمناد ينادي من بني تميم ـ وكان لهم سيد يسمى عبد الله بن جذعان ، وكان يعد من سادات قريش وأشياخهم ، وكان له منادية ينادون في شعاب مكة وأوديتها : من أراد الضيافة والقرى فليأت مائدة عبد الله بن جذعان ، وكان مناديه : أبو قحافة ، وأجرته أربعة دوانيق ، وله مناد آخر فوق سطح داره ، فأخبر عبد الله بن جذعان بجواز النبي صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله على بابه ، فخرج يسعى حتى لحق به وقال : يا محمد! بالبيت الحرام إلا ما شرفتني بدخولك إلى منزلي وتحرمك بزادي ، وأقسم عليه برب البيت والبطحاء وبشيبة بن عبد المطلب ، فأجابه النبي صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله إلى ذلك ودخل منزله وتحرم بزاده ، فلما خرج النبي صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله خرج معه ابن جذعان مشيعا له ، فلما أراد الرجوع عنه قال له النبي صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله : إني أحب أن تكون غدا في ضيافتي أنت وتيم وأتباعها وحلفاؤها عند طلوع الغزالة ، ثم افترقا ومضى النبي إلى دار عمه أبي طالب وجلس متفكرا فيما وعده لعبد الله بن جذعان ، إذ دخلت عليه فاطمة بنت أسد صلوات الله عليها زوجة عمه أبي طالب ـ وكانت هي مربيته ، وكان يسميها الأم فلما رأته مهموما قالت : فداك أبي وأمي ، ما لي أراك مهموما؟ أعارضك أحد من أهل مكة؟. فقال : لا. قالت : فبحقي عليك إلا ما أخبرتني بحالك .. فقص عليها قصته مع ابن جذعان وما قاله وما وعده من الضيافة ، فقالت : يا ولدي! لا تضيقن صدرك ، معي مشار عسل يقوم لك بكل ما تريد ، فبينما هما في الحديث إذ دخل أبو طالب رضي‌ الله‌ عنه ، فقال لزوجته : فيما أنتما؟. فأعلمته بذلك كله ، وبما قال النبي صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله لابن جذعان ، فضمه إلى صدره وقبل ما بين عينيه ، وقال : يا ولدي! بالله عليك لا تضيقن صدرك من ذلك ، وفي نهار غد أقوم لك بجميع ما تحتاج إليه إن شاء الله تعالى ، وأصنع وليمة تتحدث بها الركبان في سائر البلدان ، وعزم على وليمة تعم سائر القبائل ، وقصد نحو أخيه العباس ليقترض من ماله شيئا يضمه إلى ماله ، فوجد بني عبد المطلب في الطريق فأقرضوه من الجمال والذهب ما يكفيه ، فرجع عن القصد إلى أخيه العباس ، وآثر التخفيف عنه ، فبلغ أخاه العباس ذلك فعظم عليه رجوعه ، فأقبل إلى أخيه أبي طالب وهو مغموم كئيب حزين ـ فسلم عليه ، فقال له أبو طالب : ما لي أراك حزينا كئيبا؟. قال : بلغني أنك قصدتني في حاجة ثم بدا لك عنها فرجعت من الطريق ، فما هذه الحال؟. فقص عليه القصة .. إلى آخرها ، فقال له العباس : الأمر إليك ، وإنك لم تزل أهلا لكل مكرمة وموئلا لكل نائبة ، ثم جلس عنده ساعة وقد أخذ أبو طالب فيما يحتاج إليه من آلة الطبخ وغير ذلك ، فقال له العباس : يا أخي! لي إليك حاجة؟. فقال له أبو طالب : هي مقضية ، فاذكرها ، فقال العباس : أقسمت عليك بحق البيت وشيبة الحمد إلا ما قضيتها ، فقال : لك ذلك ولو سألت في النفس والولد ، فقال : تهب لي هذه المكرمة تشرفني بها. فقال : قد أجبتك إلى ذلك مع ما أصنعه أنا .. فنحر العباس الجزر ونصب القدور ، وعقد الحلاوات ، وشوى المشوي ، وأكثر من الزاد فوق ما يراد ، ونادى سائر الناس ، فاجتمع أهل مكة وبطون قريش وسائر العرب على اختلاف طبقاتها يهرعون من كل مكان حتى كأنه عيد الله الأكبر ، ونصب للنبي صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله منصبا عاليا ، وزينه بالدر والياقوت والثياب الفاخرة ، وبقي الناس من حسن النبي صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ووقاره وعقله وكماله متحيرين ، وضوؤه يعلو نور الشمس ، وتفرق الناس مسرورين وقد أخذوا في الخطب والأشعار ومدح النبي صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله وعشيرته على حسن ضيافتهم.
فلما بلغ النبي صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله أشده وتزوج خديجة وأوحى الله إليه ونبأه وأرسله إلى سائر العرب والعجم ، وأظهره على المشركين ، وفتح مكة ودخلها مؤيدا منصورا ، وقتل من قتل ، وبغى من بغى ، أوحى الله إليه : يا محمد! إن عمك العباس له عليك يد سابقة وجميل متقدم ، وهو ما أنفق عليك في وليمة عبد الله بن جذعان ، وهو ستون ألف دينار مع ما له عليك في سائر الأزمان ، وفي نفسه شهوة من سوق عكاظ ، فامنحه إياه في مدة حياته ولولده بعد وفاته ، فأعطاه ذلك ، ثم قال صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله : ألا لعنة الله على من عارض عمي في سوق عكاظ ونازعه فيه ، ومن أخذه منه فأنا بريء منه وعليه ( لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) ، فلم يكترث عمر بذلك وحسد العباس على دخل سوق عكاظ ، وغصبه منه ، ولم يزل العباس متظلما إلى حين وفاته.
ومنها : أن النبي صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله كان جالسا في مسجده يوما ـ وحوله جماعة من الصحابة ـ إذ دخل عليه عمه العباس ـ وكان رجلا صبيحا حسنا حلو الشمائل ـ فلما رآه النبي صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله قام إليه واستقبله وقبل ما بين عينيه ورحب به وأجلسه إلى جانبه ، فأنشد العباس أبياتا في مدحه (صلى الله عليه وآله) ، فقال النبي صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله : جزاك الله ـ يا عم ـ خيرا ومكافأتك على الله تعالى.
ثم قال : معاشر الناس! احفظوني في عمي العباس وانصروه ولا تخذلوه.
ثم قال : يا عم! اطلب مني شيئا أتحفك به على سبيل الهدية. فقال : يا ابن أخي! أريد من الشام الملعب ، ومن العراق الحيرة ، ومن هجر الخط ، وكانت هذه المواضع كثيرة العمارة ، فقال له النبي صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله : حبا وكرامة ، ثم دعا عليا عليه ‌السلام ، فقال : اكتب لعمك العباس هذه المواضع ، فكتب له أمير المؤمنين كتابا بذلك ، وأملى رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله وأشهد الجماعة الحاضرين ، وختم النبي صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله بخاتمه وقال : يا عم! إن يفتح الله تعالى هذه المواضع فهي لك هبة من الله تعالى ورسوله ، وإن فتحت بعد موتي فإني أوصي الذي ينظر بعدي في الأمة بتسليم هذه المواضع إليك.
ثم قال : معاشر المسلمين! إن هذه المواضع المذكورة لعمي العباس ، فعلى من يغير عليه أو يبدله أو يمنعه أو يظلمه لعنة الله ولعنة اللاعنين ، ثم ناوله الكتاب ، فلما ولي عمر وفتح هذه المواضع المذكورة أقبل عليه العباس بالكتاب ، فلما نظر فيه دعا رجلا من أهل الشام وسأله عن الملعب ، فقال : يزيد ارتفاعه على عشرين ألف درهم ، ثم سأل عن الآخرين ، فذكر له أن ارتفاعهما تقوم بمال كثير. فقال : يا أبا الفضل! إن هذا المال كثير لا يجوز لك أخذه من دون المسلمين. فقال العباس : هذا كتاب رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله يشهد لي بذلك قليلا كان أو كثيرا ، فقال عمر : والله إن كنت تساوي المسلمين في ذلك وإلا فارجع من حيث أتيت ، فجرى بينهما كلام كثير غليظ ، فغضب عمر ـ وكان سريع الغضب ـ فأخذ الكتاب من العباس ومزقه وتفل فيه ورمى به في وجه العباس ، وقال : والله! لو طلبت منه حبة واحدة ما أعطيتك ، فأخذ العباس بقية الكتاب وعاد إلى منزله حزينا باكيا شاكيا إلى الله تعالى وإلى رسوله ، فصاح العباس بالمهاجرين والأنصار ، فغضبوا لذلك وقالوا : يا عمر! تخرق كتاب رسول الله وتلقي به في الأرض ، هذا شيء لا نصبر عليه. فخاف عمر أن ينخرم عليه الأمر ، فقال : قوموا بنا إلى العباس نسترضيه ونفعل معه ما يصلحه ، فنهضوا بأجمعهم إلى دار العباس فوجدوه موعوكا لشدة ما لحقه من الفتن والألم والظلم ، فقال : نحن في الغداة عائدوه إن شاء الله تعالى ومعتذرون إليه من فعلنا ، فمضى غد وبعد غد ولم يعد إليه ولا اعتذر منه ، ثم فرق الأموال على المهاجرين والأنصار وبقي كذلك إلى أن مات.
ولو أخذنا في ذكر أفعاله لطال الكتاب ، وهذا القدر فيه عبرة لأولي الألباب.
وأما صاحبهما الثالث ، فقد استبد بأخذ الأموال ظلما على ما تقدم به الشرح في صاحبيه ، واختص بها مع أهل بيته من بني أمية دون المسلمين ، فهل يستحق هذا أو يستجيزه مسلم؟.
ثم إنه ابتدع أشياء أخر :
منها : منع المراعي من الجبال والأودية وحماها حتى أخذ عليها مالا باعها به من المسلمين.
ومنها : أن رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله نفى الحكم بن العاص ـ عم عثمان عن المدينة ، وطرده عن جواره فلم يزل طريدا من المدينة ومعه ابنه مروان أيام رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله وأيام أبي بكر وأيام عمر يسمى : طريد رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ، حتى استولى عثمان فرده إلى المدينة وآواه ، وجعل ابنه مروان كاتبه وصاحب تدبيره في داره ، فهل هذا منه إلا خلافا على رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم ومضادة لفعله؟ وهل يستجيز هذا الخلاف على رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم والمضادة لأفعاله إلا خارج عن الدين بريء من المسلمين؟ وهل يظن ذو فهم أن رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم طرد الحكم ولعنه وهو مؤمن؟ وإذا لم يكن مؤمنا فما الحال التي دعت عثمان إلى رده والإحسان إليه ـ وهو رجل كافر ـ لو لا أنه تعصب لرحمه ولم يفكر في دينه ، فحقت عليه الآية ، قوله تعالى : ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ).
ومنها : أنه جمع ما كان عند المسلمين من صحف القرآن وطبخها بالماء على النار وغسلها ورمى بها إلا ما كان عند ابن مسعود ، فإنه امتنع من الدفع إليه ، فأتى إليه فضربه حتى كسر له ضلعين وحمل من موضعه ذلك فبقي عليلا حتى مات ، وهذه بدعة عظيمة ، لأن تلك الصحف إن كان فيها زيادة عما في أيدي الناس ، وقصد لذهابه ومنع الناس منه ، فقد حق عليه قوله تعالى : ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ).
هذا ، مع ما يلزم أنه لم يترك ذلك ويطرحه تعمدا إلا وفيه ما قد كرهه ، ومن كره ما أنزل الله في كتابه حبط جميع عمله ، كما قال الله تعالى : ( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ ) ، وإن لم تكن في تلك الصحف زيادة عما في أيدي الناس فلا معنى لما فعله.
ومنها : أن عمار بن ياسر قام يوما في مسجد رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ـ وعثمان يخطب على المنبر ـ فوبخ عثمان بشيء من أفعاله ، فنزل عثمان فركله برجله وألقاه على قفاه ، وجعل يدوس في بطنه ويأمر أعوانه بذلك حتى غشي على عمار ، وهو يفتري على عمار ويشتمه ، وقد رووا جميعا أن النبي صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله قال : الحق مع عمار يدور معه حيثما دار.
وقال صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله : إذا افترق الناس يمينا وشمالا فانظروا الفرقة التي فيها عمار فاتبعوه ، فإنه يدور الحق معه حيثما دار. فلا يخلو حال ضربه لعمار من أمرين : أحدهما ، أنه يزعم أن ما قال عمار وما فعله باطل ، وفيه تكذيب لقول النبي صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله حيث يقول : الحق مع عمار. فثبت أن يكون ما قاله عمار حقا كرهه عثمان فضربه عليه.
ومنها : ما فعل بأبي ذر حين نفاه عن المدينة إلى الربذة ، مع إجماع الأمة في الرواية أن رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله قال : : ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر.، ورووا أنه قال : : إن الله عز وجل أوحى إلي أنه يحب أربعة من أصحابي وأمرني بحبهم ، فقيل : من هم يا رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال : علي سيدهم ، وسلمان ، والمقداد ، وأبو ذر.
فحينئذ ثبت أن أبا ذر حبه الله وحبه رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم ، ومحال عند ذوي الفهم أن يكون الله ورسوله يحبان رجلا وهو يجوز أن يفعل فعلا يستوجب به النفي عن حرم الله ورسوله ، ومحال أيضا أن يشهد رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم لرجل أنه ما على وجه الأرض ولا تحت السماء أصدق منه ، ثم يقول باطلا ، فتعين أن يكون ما فعله وما قاله حقا كرهه عثمان فنفاه عن الحرمين ، ومن كره الحق ولم يحب الصدق فقد كره ما أنزل الله في كتابه ، لأنه أمر بالكون مع الصادقين ، فقال : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ).
ومنها : أن عبيد الله بن عمر بن الخطاب لما ضرب أبو لؤلؤة عمر الضربة التي مات فيها سمع ابن عمر قوما يقولون : قتل العلج أمير المؤمنين ، فقدر أنهم يعنون الهرمزان ـ رئيس فارس ـ وكان قد أسلم على يد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه ‌السلام ثم أعتقه من قسمته من الفيء ، فبادر إليه عبيد الله بن عمر فقتله قبل أن يموت أبوه ، فقيل لعمر : إن عبيد الله بن عمر قد قتل الهرمزان ، فقال : أخطأ ، فإن الذي ضربني أبو لؤلؤة ، وما كان للهرمزان في أمري صنع ، وإن عشت احتجت أن أقيده به ، فإن علي بن أبي طالب لا يقبل منا الدية ، وهو مولاه ، فمات عمر واستولى عثمان على الناس بعده ، فقال علي عليه ‌السلام لعثمان : إن عبيد الله بن عمر قتل مولاي الهرمزان بغير حق ، وأنا وليه والطالب بدمه ، سلمه إلي لأقيده به؟. فقال عثمان : بالأمس قتل عمر وأنا أقتل ابنه أورد على آل عمر ما لا قوام لهم به ، فامتنع من تسليمه إلى علي عليه ‌السلام شفقة منه ـ بزعمه ـ على آل عمر ، فلما رجع الأمر إلى علي عليه ‌السلام هرب منه عبيد الله بن عمر إلى الشام فصار مع معاوية ، وحضر يوم صفين مع معاوية محاربا لأمير المؤمنين فقتل في معركة الحرب ووجد متقلد السيفين يومئذ.
فانظروا ـ يا أهل الفهم ـ في أمر عثمان كيف عطل حدا من حدود الله تعالى لا شبهة فيه شفقة منه ـ بزعمه ـ على آل عمر ولم يشفق على نفسه من عقوبة تعطيل حدود الله تعالى ومخالفته ، وأشفق على آل عمر في قتل من أوجب الله قتله وأمر به رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم.
ومنها : أنه عمد إلى صلاة الفجر فنقلها من أول وقتها حين طلوع الفجر فجعلها بعد الإسفار وظهور ضياء النهار ، واتبعه أكثر الناس إلى يومنا هذا ، وزعم أنه إنما فعل ذلك إشفاقا منه على نفسه في خروجه إلى المسجد خوفا أن يقتل في غلس الفجر كما قتل عمر ، وذلك أن عمر قد جعل لنفسه سربا تحت الأرض من بيته إلى المسجد ، فقعد أبو لؤلؤة في السرب فضربه بخنجر في بطنه ، فلما ولي عثمان أخر صلاة الفجر إلى الإسفار ، فعطل وقت فريضة الله وحمل الناس على صلاتها في غير وقتها ، لأن الله سبحانه قال : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) يعني ظلمته ، ثم قال : ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ) ، والفجر هو أول ما يبدو من المشرق في الظلمة ، وعنده تجب الصلاة ، فإذا علا في الأفق وانبسط الضياء وزالت الظلمة صار صبحا ، وزال عن أن يكون فجرا ، ودرج على هذه البدعة أولياؤه ، ثم تخرص بنو أمية بعده أحاديث أن النبي صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله ‌وسلم غلس بالفجر وأسفر بها ، وقال للناس : أسفروا بها أعظم لأجركم ، فصار المصلي للفجر في وقتها من طلوع الفجر عند كثير من أوليائهم مبتدعا ، ومن اتبع بدعة عثمان فهو على السنة.
فما أعجب أحوالهم وأشنعها!.
ثم ختم بدعه بأن أهل مصر شكوا من عامله وسألوه أن يصرفه عنهم ، أو يبعث رجلا ناظرا بينهم وبينه ، فوقع الاختيار على محمد بن أبي بكر ناظرا ـ وكان محمد ممن يشير بالحق وينهى عن مخالفته ـ فثقل أمره على عثمان وكادوه ، وبقي حريصا على قتله بحيلة ، فلما وقع الاختيار عليه أن يكون ناظرا بين أهل مصر وبين عامله خرج معهم ، وكتب عثمان بعد خروجه إلى عامله بمصر يأمره بقتل محمد بن أبي بكر إذا صار إليه ، ودفع الكتاب إلى عبد من عبيده ، فركب العبد راحلته وسار نحو مصر بالكتاب مسرعا ليدخل مصر قبل دخول محمد بن أبي بكر ، فقيل إن العبد مر يركض فنظر إليه القوم الذين مع محمد فأخبروا محمدا بذلك ، فبعث خلفه خيلا فأخذوه وارتاب به محمد ، فلما ردوه إليه وجد الكتاب معه ، فقرأه وانصرف راجعا مع القوم والعبد والراحلة معهم ، فثاروا على عثمان في ذلك ، فقال : أما العبد فعبدي والراحلة راحلتي وختم الكتاب ختمي ، وليس الكتاب كتابي ولا أمرت به ، وكان الكتاب بخط مروان ، فقيل له : إن كنت صادقا فادفع إلينا مروان فهذا خطه وهو كاتبك ، فامتنع عليهم ، فحاصروه وكان ذلك سبب قتله ، فسحقاً وبعداً لهم جميعاً فأنهم كانوا كافرين.
المصدر : بحار الأنوار 
المؤلف : العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي
الجزء والصفحة : جزء 30 / صفحة [ 348 ]
تاريخ النشر : 2025-08-19


Untitled Document
دعاء يوم الثلاثاء
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، الحَمْدُ للهِ وَالحَمْدُ حَقُّهُ كَما يَسْتِحِقُّهُ حَمْداً كَثِيراً، وَأَعُوذُ بِهِ مِنْ شَرِّ نَفْسِي؛ إِنَّ النَّفْسَ لأَمّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلّا ما رَحِمَ رَبِّي، وَأَعُوذُ بِهِ مِنْ شَرِّ الشَّيْطانِ الَّذِي يَزِيدُنِي ذَنْباً إِلى ذَنْبِي، وَأحْتَرِزُ بِهِ مِنْ كُلِّ جَبّارٍ فاجِرٍ، وَسُلْطانٍ جائِرٍ، وَعَدُوٍّ قاهِرٍ. اللّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ جُنْدِكَ فَإِنَّ جُنْدَكَ هُمُ الغالِبُونَ، وَاجْعَلْنِي مِنْ حِزْبِكَ فَإِنَّ حِزْبَكَ هُمُ المُفْلِحُونَ، وَاجْعَلْنِي مِنْ أوْلِيائِكَ فَإِنَّ أَوْلِياَءَكَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاهُمْ يَحْزَنُون. اللّهُمَّ أصْلِحْ لِي دِينِي فَإِنَّهُ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأصْلِحْ لِي آخِرَتِي فَإِنَّها دارُ مَقَرِّي، وَإِلَيْها مِن مُجاوَرَةِ اللِّئامِ مَفَرِّي، وَاجْعَلِ الحَياةَ زِيادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَالوَفاةَ راحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍ، اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ خاتَمِ النَّبِيِّينَ وَتَمامِ عِدَّةِ المُرْسَلِينَ، وَعَلى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ وَأَصْحابِهِ المُنْتَجَبِينَ، وَهَبْ لِي فِي الثُّلاثاءِ ثَلاثًا: لاتَدَعْ لِي ذَنْباً إِلّا غَفَرْتَهُ، اَلا غَمّاً إِلّا أَذْهَبْتَهُ، وَلا عَدُوّاً إِلّا دَفَعْتَهُ. بِبِسْمِ الله خَيْرِ الأَسْماء، بِسْمِ الله رَبِّ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، أسْتَدْفِعُ كُلَّ مَكْرُوهٍ أَوَّلُهُ سَخَطُهُ، وَأَسْتَجْلِبُ كُلَّ مَحْبُوبٍ أَوَّلُهُ رِضاهُ، فَاخْتِمْ لِي مِنْكَ بِالغُفْرانِ يا وَلِيَّ الإِحْسانِ.

زيارات الأيام
زيارة الإمام السجاد والباقر والصادق (عليهم السلام) يوم الثلاثاء
اَلسَّلامُ عَلَيْكُمْ يا خُزّانَ عِلْمِ اللهِ اَلسَّلامُ عَلَيْكُمْ يا تَراجِمَةَ وَحْيِ اللهِ اَلسَّلامُ عَلَيْكُمْ يا اَئِمَّةَ الْهُدى اَلسَّلامُ عَلَيْكُمْ يا اَعْلامَ التُّقى اَلسَّلامُ عَلَيْكُمْ يا اَوْلادَ رَسُولِ اللهِ اَنَا عارِفٌ بِحَقِّكُمْ مُسْتَبْصِرٌ بِشَأْنِكُمْ مُعاد لِاَعْدائِكُمْ مُوال لِاَوْلِيائِكُمْ بِاَبى اَنْتُمْ وَاُمّى صَلَواتُ اللهِ عَلَيْكُمْ. اَللّهُمَّ اِنّى اَتَوالى آخِرَهُمْ كَما تَوالَيْتُ اَوَّلَهُمْ وَاَبْرَأُ مِنْ كُلِّ وَليجَة دُونَهُمْ وَاَكْفُرُ بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ وَاللاتِ وَالْعُزّى صَلَواتُ اللهِ عَلَيْكُمْ يا مَوالِيَّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا سَيِّدَ الْعابِدينَ وَسُلالَةَ الْوَصِيّينَ اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا باقِرَ عِلْمِ النَّبِيّينَ اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا صادِقاً مُصَدِّقاً فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ يا مَوالِيَّ هذا يَوْمُكُمْ وَهُوَ يَوْمُ الثلاثاء وَاَنَا فيهِ ضَيْفٌ لَكُمْ وَمُسْتَجيرٌ بِكُمْ فَاَضيفُوني وَاَجيرُوني بِمَنْزِلَةِ اللهِ عِنْدَكُمْ وَآلِ بَيْتِكُمُ الطَّيِّبينَ الطّاهِرينَ.