كتاب سليم بن
قيس : عن أبان ، قال : قال سليم : كتب أبو المختار بن أبي الصعق إلى عمر هذه
الأبيات :
أبلغ أمير المؤمنين رسالة
فأنت أمير الله
في المال والأمر
وأنت أمين الله
فينا ومن يكن
أمينا لرب الناس
يسلم له صدري
فلا تدعن أهل
الرساتيق والقرى
يخونون مال الله
في الأدم والخمر
وأرسل إلى
النعمان وابن معقل
وأرسل إلى حزم
وأرسل إلى بشر
وأرسل إلى
الحجاج واعلم حسابه
وذاك الذي في
السوق مولى بني بدر
ولا تنسين
التابعين كليهما
وصهر بني غذوان
في القوم ذا وفر
وما عاصم فيها
بصفر عيابه
ولا ابن غلاب من
رماة بني نصر
واستل ذاك المال
دون ابن محرز
وقد كان منه في
الرساتيق ذا وفر
فأرسل إليهم
يخبروك ويصدقوا
أحاديث هذا
المال من كان ذا فكر
وقاسمهم ـ أهلي
فداؤك ـ إنهم
سيرضون إن
قاسمتهم منك بالشطر
ولا تدعوني
للشهادة إنني
أغيب ولكني أرى
عجب الدهر
ارى الخيل كالجدران والبيض كالدمى
وخطية في عدة
النمل والقطر
ومن ريطة مطوية
في قرابها
ومن طي أبراد
مضاعفة صفر
إذا التاجر
الداري جاء بفأرة
من
المسك راحت في مفارقهم تجري
فقال ابن غلاب
المصري :
ألا أبلغ أبا
المختار أني أتيته
ولم
أك ذا قربى لديه ولا صهر
وما كان عندي من
تراث ورثته
ولا
صدقات من سبي ولا غدر
ولكن دراك الركض
في كل غارة
وصبري
إذا ما لموت كان ورا السمري
بسابغة يغشى
اللبان فضولها
أكفكفها
عني بأبيض ذي وقر
قال سليم :
فأغرم عمر بن الخطاب تلك السنة جميع عماله أنصاف أموالهم لشعر أبي المختار ، ولم
يغرم قنفذ العدوي شيئا ـ وقد كان من عماله ـ ورد عليه ما أخذ منه ـ وهو عشرون ألف
درهم ـ ولم يأخذ منه عشره ولا نصف عشره ، وكان من عماله الذين أغرموا أبو هريرة
على البحرين فأحصى ماله فبلغ أربعة وعشرين ألفا ، فأغرمه اثني عشر ألفا.
فقال أبان : قال
سليم : فلقيت عليا صلوات الله عليه وآله فسألته عما صنع عمر؟ فقال : هل تدري لم كف
عن قنفذ ولم يغرمه شيئا؟!. قلت : لا. قال : لأنه هو الذي ضرب فاطمة صلوات الله
عليها بالسوط حين جاءت لتحول بيني وبينهم فماتت صلوات الله عليها ، وإن أثر السوط
لفي عضدها مثل الدملج.
قال أبان : قال
سليم : انتهيت إلى حلقة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله ليس فيها إلا
هاشمي غير سلمان وأبي ذر والمقداد ومحمد بن أبي بكر وعمر بن أبي سلمة وقيس بن سعد
بن عبادة ، فقال العباس لعلي عليه السلام : ما ترى عمر منعه من أن يغرم قنفذا كما
غرم جميع عماله؟. فنظر علي عليه السلام إلى من حوله ، ثم اغرورقت عيناه ، ثم قال
: شكر له ضربة ضربها فاطمة عليها السلام بالسوط فماتت وفي عضدها أثره كأنه
الدملج.
ثم قال (عليه
السلام) : العجب مما أشربت قلوب هذه الأمة من حب هذا الرجل وصاحبه من قبله ،
والتسليم له في كل شيء أحدثه.. لئن كان عماله خونة وكان هذا المال في أيديهم خيانة
ما كان حل له تركه؟! ، وكان له أن يأخذه كله ، فإنه فيء للمسلمين ، فما باله يأخذ
نصفه ويترك نصفه؟ ولئن كانوا غير خونة فما حل له أن يأخذ أموالهم ولا شيئا منها
قليلا ولا كثيرا وإنما أخذ أنصافها، ولو كانت في أيديهم خيانة ، ثم لم يقروا بها
ولم تقم عليهم البينة ما حل له أن يأخذ منهم قليلا ولا كثيرا.. وأعجب من ذلك
إعادته إياهم إلى أعمالهم ، لئن كانوا خونة ما حل له أن يستعملهم ، ولئن كانوا غير
خونة ما حلت له أموالهم.
ثم أقبل علي (عليه
السلام) على القوم فقال : العجب لقوم يرون سنة نبيهم تتبدل وتتغير شيئا شيئا وبابا
بابا ثم يرضون ولا ينكرون ، بل يغضبون له ويعتبون على من عاب عليه وأنكره ، ثم
يجيء قوم بعدنا فيتبعون بدعته وجوره وأحداثه ويتخذون أحداثه سنة ودينا يتقربون
بهما إلى الله في مثل تحويله مقام إبراهيم من الموضع الذي وضعه فيه رسول الله صلى
الله عليه وآله إلى الموضع الذي كان فيه في الجاهلية الذي حوله منه رسول الله
صلى الله عليه وآله ، وفي تغييره صاع رسول الله صلى الله عليه وآله ومده ،
وفيهما فريضة وسنة ، فما كان زيادته إلا سوء ، لأن المساكين في كفارة اليمين
والظهار بهما يعطون وما يجب في الزرع ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله :
اللهم بارك لنا في مدنا وصاعنا ، لا يحولون بينه وبين ذلك ، لكنهم رضوا وقبلوا ما
صنع ، وقبضه وصاحبه فدك ـ وهي في يدي فاطمة عليها السلام مقبوضة ، قد أكلت غلتها
على عهد النبي صلى الله عليه وآله ـ فسألها البينة على ما في يدها ، ولم يصدقها
ولا صدق أم أيمن ، وهو يعلم يقينا ـ كما نعلم ـ أنها في يدها ، ولم يحل له أن
يسألها البينة على ما في يدها ، ولا أن يتهمها ، ثم استحسن الناس ذلك وحمدوه
وقالوا : إنما حمله على ذلك الورع والفضل ، ثم حسن قبح فعلهما أن عدلا عنها فقالا
بالظن ـ : إن فاطمة لن تقول إلا حقا ، وإن عليا لم يشهد إلا بحق ، ولو كانت مع أم
أيمن امرأة أخرى أمضينا لها ، فخطبا بذلك عند الجهال ، وما لهما ومن أمرهما أن
يكونا حاكمين فيعطيان أو يمنعان ، ولكن الأمة ابتلوا بهما فأدخلا نفسهما فيما لا
حق لهما فيه ولا علم لهما فيه ، وقد قالت فاطمة عليها السلام حين أراد انتزاعها
منها ، وهي في يدها ـ : أليست في يدي وفيها وكيلي ، وقد أكلت غلتها ورسول الله صلى
الله عليه وآله حي؟!. قالا : بلى. قالت : فلم تسألاني البينة على ما في يدي؟.
قالا : لأنها فيء للمسلمين ، فإن قامت بينة وإلا لم نمضها. فقالت لهما ـ والناس
حولهما يسمعون ـ : أفتريدان أن تردا ما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وتحكما فينا خاصة بما لم تحكما في سائر المسلمين؟! أيها الناس! اسمعوا ما ركباها.
قلت : أرأيتما
إن ادعيت ما في أيدي المسلمين من أموالهم تسألوني البينة أم تسألونهم؟. قالا : لا
، بل نسألك. قلت : فإن ادعى جميع المسلمين ما في يدي تسألونهم البينة أم تسألوني؟.
فغضب عمر ، وقال
: إن هذا فيء للمسلمين وأرضهم وهي في يدي فاطمة (عليها السلام) تأكل غلتها ، فإن
أقامت بينة على ما ادعت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وهبها لها من بين
المسلمين وهي فيئهم وحقهم نظرنا في ذلك.
فقال : أنشدكم
بالله أما سمعتم رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : إن ابنتي سيدة نساء أهل
الجنة؟. قالوا : اللهم نعم ، قد سمعناها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قالت : أفسيّدة
نساء أهل الجنة تدعي الباطل وتأخذ ما ليس لها؟! أرأيتم لو أن أربعة شهدوا علي
بفاحشة أو رجلان بسرقة أكنتم مصدقين علي؟!.
فأما أبو بكر
فسكت ، وأما عمر فقال : ونوقع عليك الحد. فقالت : كذبت ولؤمت ، إلا أن تقر أنك لست
على دين محمد صلى الله عليه وآله ، إن الذي يجيز على سيدة نساء أهل الجنة شهادة
أو يقيم عليها حدا لملعون كافر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وآله ، إن
من أذهب الله عنهم الرجس أهل البيت وطهرهم تطهيرا ، لا يجوز عليهم شهادة ، لأنهم
معصومون من كل سوء ، مطهرون من كل فاحشة ، حدثني عن أهل هذه الآية ، لو أن قوما
شهدوا عليهم أو على أحد منهم بشرك أو كفر أو فاحشة كان المسلمون يتبرؤون منهم
ويحدونهم؟. قال : نعم ، وما هم وسائر الناس في ذلك إلا سواء. قالت : كذبت وكفرت ،
لأن الله عصمهم وأنزل عصمتهم وتطهيرهم وأذهب عنهم الرجس ، فمن صدق عليهم يكذب الله
ورسوله.
فقال أبو بكر :
أقسمت عليك ـ يا عمر ـ لما سكت ، فلما أن كان الليل أرسل إلى خالد بن الوليد ، فقال إنا نريد أن نسر
إليك أمرا ونحملك عليه. فقال : احملاني على ما شئتما فإني طوع أيديكما. فقالا له :
إنه لا ينفعنا ما نحن فيه من الملك والسلطان ما دام علي حيا ، أما سمعت ما قال لنا
وما استقبلنا به ، ونحن لا نأمنه أن يدعو في السر فيستجيب له قوم فيناهضنا فإنه
أشجع العرب ، وقد ارتكبنا منهم ما رأيت وغلبناه على ملك ابن عمه ولا حق لنا فيه ،
وانتزعنا فدك من امرأته ، فإذا صليت بالناس الغداة ، فقم إلى جانبه وليكن سيفك معك
، فإذا صليت وسلمت فاضرب عنقه.
فقال : صلى خالد
بن الوليد بجنبي متقلد السيف ، فقام أبو بكر في الصلاة فجعل يؤامر نفسه وندم وأسقط
في يده حتى كادت الشمس أن تطلع ، ثم قال : ـ قبل أن يسلم ـ لا تفعل يا خالد ما
أمرتك ، ثم سلم ، فقلت لخالد :ما ذاك؟. قال : قد كان أمرني إذا سلم أضرب عنقك. قلت
: أوكنت فاعلا؟!. قال : إي وربي إذا لفعلت.
قال سليم : ثم
أقبل (عليه السلام) على العباس ومن حوله ثم قال : ألا تعجبون من حبسه وحبس صاحبه
عنا سهم ذي القربى الذي فرضه الله لنا في القرآن ، وقد علم الله أنهم سيظلمونا
وينتزعونه منا ، فقال : ( إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى
عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ )؟!.
والعجب لهدمه
منزل أخي جعفر وإلحاقه في المسجد ، ولم يعط بنيه من ثمنه قليلا ولا كثيرا ، ثم لم
يعب ذلك عليه الناس ولم يغيروه ، فكأنما أخذ منزل رجل من الديلم ـ وفي رواية أخرى
: دار رجل من ترك كابل ـ.
والعجب لجهله
وجهل الأمة أنه كتب إلى جميع عماله : أن الجنب إذا لم يجد الماء فليس له أن يصلي
وليس له أن يتيمم بالصعيد حتى يجد الماء ، وإن لم يجده حتى يلقى الله ـ وفي رواية
أخرى : وإن لم يجده سنة ـ ثم قبل الناس منه ورضوا به ، وقد علم وعلم الناس أن رسول
الله صلى الله عليه وآله قد أمر عمارا وأمر أبا ذر أن يتيمما من الجنابة ويصليا
وشهدا به عنده وغيرهما فلم يقبل ذلك ولم يرفع به رأسا.
والعجب لما قد
خلط قضايا مختلفة في الجد بغير علم تعسفا وجهلا ، وادعائهما ما لم يعلما جرأة على
الله وقلة ورع ، ادعيا أن رسول الله صلى الله عليه وآله مات ولم يقض في الجد
شيئا منه ، ولم يدع أحدا يعلم ما للجد من الميراث ، ثم تابعوهما على ذلك وصدقوهما.
وعتقه أمهات
الأولاد ، فأخذ الناس بقوله وتركوا أمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه
وآله.
وما صنع بنصر بن
حجاج وبجعد بن سليم وبابن وتره [ وبرة ].
وأعجب من ذلك أن
أبا كيف العبدي أتاه ، فقال : إني طلقت امرأتي وأنا غائب ـ فوصل إليها الطلاق ثم
راجعتها وهي في عدتها ، وكتبت إليها فلم يصل الكتاب إليها حتى تزوجت ، فكتب له :
إن كان هذا الذي تزوجها دخل بها فهي امرأته وإن كان لم يدخل بها فهي امرأتك ، وكتب
له ذلك وأنا شاهد ، ولم يشاورني ولم يسألني ، يرى استغناءه بعلمه عني ، فأردت أن
أنهاه ثم قلت : ما أبالي أن يفضحه الله ثم لم تعبه الناس بل استحسنوه واتخذوه سنة
وقبلوه عنه ، ورأوه صوابا ، وذلك قضاء ولا يقضي به مجنون.
ثم تركه من
الأذان ( حي على خير العمل ) فاتخذوه سنة وتابعوه على ذلك.
وقضيته في
المفقود أن أجل امرأته أربع سنين ثم تتزوج فإن جاء زوجها خير بين امرأته وبين
الصداق ، فاستحسنه الناس واتخذوه سنة وقبلوه عنه جهلا وقلة علم بكتاب الله عز وجل
وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.
وإخراجه من
المدينة كل أعمى ، وإرساله إلى عماله بالبصرة بحبل خمسة أشبار ، وقوله من أخذتموه
من الأعاجم فبلغ طول هذا الحبل فاضربوا عنقه!.
ورده سبايا تستر
، وهن حبالى.
وإرساله بحبل من
صبيان سرقوا بالبصرة ، وقوله من بلغ طول هذا الحبل فاقطعوه.
وأعجب من ذلك أن
كذابا رجم بكذابة فقبلها وقبلها الجهال ، فزعموا أن الملك ينطق على لسانه ويلقنه.
وإعتاقه سبايا
أهل اليمن.
وتخلفه وصاحبه
عن جيش أسامة بن زيد مع تسليمهما عليه بالإمرة.
ثم أعجب من ذلك
أنه قد علم وعلمه الناس أنه الذي صد رسول الله صلى الله عليه وآله عن الكتف
الذي دعا به ثم لم يضره ذلك عندهم ولم ينقصه.
وأنه صاحب صفية
حين قال لها ما قال ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى قال ما قال.
وأنه الذي مررت
به يوما فقال : ما مثل محمد في أهل بيته إلا كنخلة نبتت في كناسة! ، فبلغ ذلك رسول
الله صلى الله عليه وآله فغضب وخرج فأتى المنبر ، وفزعت الأنصار فجاءت شائكة في
السلاح لما رأت من غضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال عليه السلام
: ما بال أقوام يعيروني بقرابتي ، وقد سمعوا مني ما قلت في فضلهم وتفضيل الله
إياهم ، وما خصهم به من إذهاب الرجس عنهم وتطهير الله إياهم ، وقد سمعتم ما قلت في
أفضل أهل بيتي وخيرهم مما خصه الله به وأكرمه وفضله على من سبقه إلى الإسلام
وتدينه فيه وقرابته مني ، وأنه مني بمنزلة هارون من موسى ، ثم تزعمون أن مثلي في
أهل بيتي كمثل نخلة في كناسة! ، ألا إن الله خلق خلقه ففرقه فرقتين فجعلني في خير
الفرقتين ، ثم فرق الفرقة ثلاث فرق ، شعوبا ، وقبائل ، وبيوتا ، فجعلني في خيرها
شعبا وخيرها قبيلة ، ثم جعلهم بيوتا ، فجعلني في خيرها بيتا ، فذلك قوله : (
إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ، فحصلت في أهل بيتي وعترتي ، وأنا وأخي علي بن أبي
طالب (عليه السلام) ، ألا وإن الله نظر إلى أهل الأرض نظرة فاختارني منهم ، ثم نظر
نظرة فاختار عليا أخي ووزيري ووارثي ووصيي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن بعدي ،
فبعثني رسولا ونبيا ودليلا ، وأوحى إلي أن أتخذ عليا أخا ووليا ووصيا وخليفة في
أمتي بعدي ، ألا وإنه ولي كل مؤمن بعدي ، من والاه والاه الله ، ومن عاداه عاداه
الله ، ومن أحبه أحبه الله ، ومن أبغضه أبغضه الله ، لا يحبه إلا مؤمن ، ولا يبغضه
إلا كافر ، هو رب الأرض بعدي وسكنها ـ وفي نسخة : هو زر الأرض بعدي وسكنها ـ وهو
كلمة التقوى ، وعروة الله الوثقى أتريدون أن تطفئوا نور الله بأفواهكم ( وَاللهُ
مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ )؟! ـ وفي رواية أخرى : ( وَلَوْ
كَرِهَ الْكافِرُونَ ) ـ ويريد أعداء الله أن يطفئوا نور أخي ( وَيَأْبَى اللهُ
إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ) يا أيها الناس!
ليبلغ مقالتي شاهدكم غائبكم ، اللهم اشهد عليهم.
أيها الناس! إن
الله نظر نظرة ثالثة فاختار منهم بعدي اثنا عشر وصيا من أهل بيتي ، وهم خيار أمتي
ـ وفي نسخة أخرى : فجعلهم خيار أمتي ـ منهم أحد عشر إماما بعد أخي ، واحدا بعد
واحد ، كلما هلك واحد قام واحد به ، مثلهم كمثل النجوم في السماء كلما غاب نجم طلع
نجم ، لأنهم أئمة هداة مهتدون ، لا يضرهم كيد من كادهم ولا خذلان من خذلهم ، بل
يضر الله بذلك من كادهم وخذلهم ، فهم حجة الله في أرضه وشهداؤه على خلقه ، من
أطاعهم أطاع الله ومن عصاهم عصى الله ، هم مع القرآن والقرآن معهم لا يفارقونه ولا
يفارقهم حتى يردوا علي حوضي ، أول الأئمة علي خيرهم ، ثم ابني الحسن ثم ابني
الحسين ثم تسعة من ولد الحسين ، وأمهم ابنتي فاطمة صلوات الله عليهم. ثم من بعدهم
جعفر بن أبي طالب ابن عمي وأخو أخي ، وعمي حمزة بن عبد المطلب.
أنا خير
المرسلين والنبيين ، وفاطمة ابنتي سيدة نساء أهل الجنة ، وعلي وبنوه الأوصياء خير
الوصيين ، وأهل بيتي خير أهل بيوتات النبيين ، وابناي سيدي شباب أهل الجنة.
أيها الناس! إن
شفاعتي تنال علوجكم ، أفتعجز عنها أهل بيتي ، ما أحد ولده جدي عبد المطلب يلقى
الله موحدا لا يشرك به شيئا إلا أدخله الجنة ، ولو كان فيه من الذنوب عدد الحصى
وزبد البحر.
أيها الناس!
عظموا أهل بيتي في حياتي ومن بعدي وأكرموهم وفضلوهم ، فإنه لا يحل لأحد أن يقوم من
مجلسه لأحد إلا لأهل بيتي ـ وفي نسخة أخرى : أيها الناس! عظموا أهل بيتي في حياتي
وبعد موتي ـ ، إني لو قد أخذت بحلقة باب الجنة ثم تجلى لي ربي فسجدت وأذن لي
بالشفاعة لم أوثر على أهل بيتي أحدا.
أيها الناس!
انسبوني من أنا؟. فقام رجل من الأنصار ، فقال ـ وفي رواية أخرى : فقامت الأنصار ،
فقالت ـ : نعوذ بالله من غضب الله ومن غضب رسوله ، أخبرنا ـ يا رسول الله ـ من
الذي آذاك في أهل بيتك حتى نضرب عنقه؟ ـ وفي رواية أخرى : حتى نقتله ونبير عترته
ـ.
فقال : انسبوني!
أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم .. ـ حتى انتسب إلى نزار ، ثم مضى في
نسبه إلى إسماعيل بن إبراهيم خليل الله ـ.
ثم قال : إني
وأهل بيتي لطينة من تحت العرش ، إلى آدم نكاح غير سفاح لم يخالطنا نكاح الجاهلية ،
فاسألوني ، فوالله لا يسألني رجل عن أبيه وعن أمه وعن نسبه إلا أخبرته به.
فقام رجل ، فقال
: من أبي؟. فقال : أبوك فلان الذي تدعى إليه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :
والله لو نسبتني إلى غيره لرضيت وسلمت. ثم قام رجل آخر ، فقال : من أبي؟. فقال :
أبوك فلان ـ لغير أبيه الذي يدعى إليه ـ فارتد عن الإسلام ، ثم قام رجل آخر ، فقال
: أمن أهل الجنة أنا أم من أهل النار؟.
فقال : من أهل
الجنة ، ثم قام رجل آخر ، فقال : أمن أهل الجنة أنا أم من أهل النار؟. فقال : من
أهل النار.
ثم قال رسول
الله صلى الله عليه وآله ـ وهو مغضب ـ : ما يمنع الذي عير أهل بيتي وأخي ووزيري
ووصيي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن بعدي أن يقوم فيسألني من أبوه ، وأين هو في
الجنة أم في النار؟.
فقام عمر بن
الخطاب ، فقال : أعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله ، أعف عنا يا رسول الله عفا
الله عنك ، أقلنا أقالك الله ، استرنا سترك الله ، اصفح عنا صلى الله عليك ..
فاستحى رسول الله صلى الله عليه وآله وكف.
وهو صاحب العباس
الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله ساعيا فرجع وقال : إن العباس قد منع
صدقة ماله ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقال : الحمد لله الذي عافانا
أهل البيت من شر ما يلطخونا به ، إن العباس لم يمنع صدقة ماله ولكنك عجلت عليه ،
وقد عجل زكاة سنين ثم أتاني بعد يطلب أن أمشي معه إلى رسول الله صلى الله عليه
وآله ليرضى عنه ، ففعلت.
وهو صاحب عبد
الله بن أبي سلول حين تقدم رسول الله صلى الله عليه وآله ليصلي عليه فأخذ بثوبه
من ورائه ، وقال : لقد نهاك الله أن تصلي عليه ولا يحل لك أن تصلي عليه ، فقال له
رسول الله صلى الله عليه وآله : إنما صليت عليه كرامة لابنه ، وإني لأرجو أن
يسلم به سبعون رجلا من بني أبيه وأهل بيته ، وما يدريك ما قلت ، إنما دعوت الله
عليه.
وهو صاحب رسول
الله صلى الله عليه وآله يوم الحديبية حين كتب القضية إذ قال : أنعطي الدنية في
ديننا .. ثم جعل يطوف في عسكر رسول الله صلى الله عليه وآله يحرضهم ويقول : أنعطي
الدنية في ديننا؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : أفرجوا عني ، أتريدون
أن أغدر بذمتي؟! ـ وفي رواية أخرى : أخرجوه عني ، أتريد أن أخفر ذمتي ولا أفي لهم
بما كتبت لهم ـ ، خذ ـ يا سهيل! ـ ابنك جندلا ، فأخذه فشده وثاقا في الحديد ، ثم
جعل الله عاقبة رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الخير والرشد والهدى والعزة
والفضل.
وهو صاحب يوم
غدير خم إذ قال هو وصاحبه حين نصبني رسول الله صلى الله عليه وآله لولايتي ،
فقال : ما يألو أن ترفع خسيسته ، وقال الآخر : ما يألو رفعا بضبع ابن عمه ، وقال
لصاحبه ـ وأنا منصوب ـ : إن هذه لهي الكرامة ، فقطب صاحبه في وجهه ، وقال : لا
والله ، ما أسمع ولا أطيع أبدا ، ثم اتكأ عليه ثم تمطى وانصرفا ، فأنزل الله فيه :
( فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلى
أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ) وعيدا من الله له.
وهو الذي دخل
عليَّ مع رسول الله صلى الله عليه وآله يعودني في رهط من أصحابه حين غمزه صاحبه
، فقال : يا رسول الله إنك قد كنت عهدت إلينا في علي عهدا وإني لأراه لما به ، فإن
هلك فإلى من؟. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : اجلس ... فأعادها ثلاث مرات
، فأقبل عليهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : إنه لا يموت في
مرضه هذا ، ولا يموت حتى تملياه غيظا وتوسعاه غدرا وظلما ، ثم تجداه صابرا قواما ،
ولا يموت حتى يلقى منكما هنات وهنات ، ولا يموت إلا شهيدا مقتولا.
وأعظم من ذلك
كله أن رسول الله صلى الله عليه وآله جمع ثمانين رجلا ، أربعين من العرب
وأربعين من العجم ـ وهما فيهم ـ فسلموا علي بإمرة المؤمنين ، ثم قال : أشهدكم أن
عليا أخي ووزيري ووارثي وخليفتي في أمتي ووصيي وولي كل مؤمن من بعدي ، فاسمعوا له
وأطيعوا ، وفيهم أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وابن عوف وأبو عبيدة
وسالم ومعاذ بن جبل ورهط من الأنصار ، ثم قال : إني أشهد الله عليكم.
ثم أقبل على
القوم ، فقال : سبحان الله! ما أشربت قلوب هذه الأمة من بليتها وفتنتها من عجلها
وسامريها ، إنهم أقروا وادعوا أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : لا يجمع
الله لنا أهل البيت النبوة والخلافة ، وقد قال لأولئك الثمانين رجلا : سلموا على
علي بإمرة المؤمنين ، وأشهدكم على ما أشهدهم عليه أنهم أقروا أن رسول الله صلى
الله عليه وآله لم يستخلف أحدا ، وأنهم أقروا بالشورى ، ثم أقروا أنهم لم
يشاوروا وأن بيعته كانت فلتة ، وأي ذنب أعظم من الفلتة ، ثم استخلف أبو بكر عمر
ولم يقتد برسول الله صلى الله عليه وآله فيدعهم بغير استخلاف ، طعنا منه على
رسول الله صلى الله عليه وآله ورغبة عن رأيه ، ثم صنع عمر شيئا ثالثا لم يدعهم
على ما ادعى أن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يستخلف ، ولم يستخلف كما
استخلف أبو بكر ، وجاء بشيء ثالث جعلها شورى بين ستة نفر ، وأخرج منها جميع العرب
، ثم حطني بذلك عند العامة فجعلهم مع ما أشربت قلوبهم من الفتنة والضلالة أقراني ،
ثم بايع ابن عوف عثمان فبايعوه ، وقد سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
في عثمان ما سمعوا من لعنه إياه في غير موطن ، فعثمان ـ على ما كان عليه ـ خير
منهما ، ولقد قال منذ أيام قولا رققت له وأعجبتني مقالته ، بينما أنا قاعد عنده في
بيته إذ أتته عائشة وحفصة تطلبان ميراثهما من ضياع أموال رسول الله صلى الله عليه
وآله التي في يديه ، فقال : ولا كرامة ، لكن أجيز شهادتكما على أنفسكما ، فإنكما
شهدتما عند أبويكما أنكما سمعتما من رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : إن
النبي (ص) لا يورث ما ترك فهو صدقة ، ثم لقنتما أعرابيا جلفا يبول على عقبيه يتطهر
ببوله ـ مالك بن الحرث بن الحدثان ـ فشهد معكما ، لا من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وآله ولا من الأنصار أحد شهد بذلك غير أعرابي ، أما والله ما أشك في أنه قد
كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وكذبتما عليه معه ، فانصرفتا من عنده
تبكيان وتشتمانه ، فقال : ارجعا ، ثم قال : أشهدتما بذلك عند أبي بكر؟!. قالتا :
نعم. قال : فإن شهدتما بحق فلا حق لكما ، وإن كنتما شهدتما بباطل فعليكما وعلى من
أجاز شهادتكما على أهل هذا البيت ( لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ ) قال : ثم نظر إلي فتبسم وقال : يا أبا الحسن! شفيتك منهما؟. قلت :
نعم والله وأبلغت ، وقلت حقا ، فلا يرغم الله إلا بأنفيهما ، فرققت لعثمان وعلمت
أنه أراد بذلك رضاي ، وأنه أقرب منهما رحما وإن كان لا عذر له ولا حجة بتآمره
علينا وادعائه حقنا.
المصدر : بحار الأنوار
المؤلف : العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي
الجزء والصفحة : جزء 30 / صفحة [ 301 ]
تاريخ النشر : 2025-08-18