قال : ومما يدل
أيضا على تقديمهم وتعظيمهم على البشر أن الله تعالى دلنا على أن المعرفة بهم
كالمعرفة به تعالى في أنها إيمان وإسلام ، وأن الجهل بهم والشك فيهم كالجهل به
والشك فيه في أنه كفر وخروج من الايمان ، وهذه منزلة ليس لاحد من البشر إلا لنبينا
(ص) وبعده لامير المؤمنين عليه السلام والائمة من ولده على جماعتهم السلام.
لان المعرفة
بنبوة الأنبياء المتقدمين من آدم عليه السلام إلى عيسى عليه السلام أجمعين غير
واجبة علينا ولا تعلق لها بشيء من تكاليفنا ، ولولا أن القرآن ورد بنبوة من سمي
فيه من الأنبياء المتقدمين فعرفناهم تصديقا للقرآن وإلا فلا وجه لوجوب معرفتهم
علينا ولا تعلق لها بشيء من أحوال تكليفنا ، وبقي علينا أن ندل على أن الامر على
ما ادعيناه.
والذي يدل على
أن المعرفة بإمامة من ذكرناه عليهم السلام من جملة الايمان وأن الاخلال بها كفر
ورجوع عن الايمان ، إجماع الشيعة الامامية على ذلك ، فانهم لا يختلفون فيه ،
وإجماعهم حجة بدلالة أن قول الحجة المعصوم الذي قد دلت العقول على وجوده في كل
زمان في جملتهم وفي زمرتهم ، وقد دللنا على هذه الطريقة في مواضع كثيرة من كتبنا
واستوفيناها في جواب التبانيات خاصة ، وفي كتاب نصرة ما انفردت به الشيعة الامامية
من المسائل الفقهية ، فان هذا الكتاب مبني على صحة هذا الاصل.
ويمكن أن يستدل
على وجوب المعرفة بهم عليهم السلام باجماع الامة مضافا إلى ما بيناه من إجماع
الامامية وذلك أن جميع أصحاب الشافعي يذهبون إلى أن الصلاة على نبينا صلى الله
عليه وآله في التشهد الاخير فرض واجب وركن من أركان الصلاة من أخل به فلا صلاة له
، وأكثرهم يقول : إن الصلاة في هذا التشهد على آل النبي عليهم الصلوات في الوجوب
واللزوم ووقوف إجزاء الصلاة عليها كالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله ،
والباقون منهم يذهبون إلى أن الصلاة على الآل مستحبة وليست بواجبة.
فعلى القول
الاول لابد لكل من وجبت عليه الصلاة من معرفتهم من حيث كان واجبا عليه الصلاة
عليهم ، فان الصلاة عليهم فرع على المعرفة بهم ومن ذهب إلى أن ذلك مستحب فهو من
جملة العبادة وإن كان مسنونا مستحبا والتعبد به يقتضي التعبد بما لا يتم إلا به من
المعرفة ، ومن عدا أصحاب الشافعي لا ينكرون أن الصلاة على النبي وآله في التشهد
مستحبة وأي شبهة تبقى مع هذا في أنهم عليهم السلام أفضل الناس وأجلهم وذكرهم واجب
في الصلاة. وعند أكثر الامة من الشيعة الامامية وجمهور أصحاب الشافعي أن الصلاة
تبطل بتركه وهل مثل هذه الفضيلة لمخلوق سواهم أو تتعداهم؟.
ومما يمكن
الاستدلال به على ذلك أن الله تعالى قد ألهم جميع القلوب وغرس في كل النفوس تعظيم
شأنهم وإجلال قدرهم على تباين مذاهبهم واختلاف دياناتهم ونحلهم ، وما اجتمع هؤلاء
المختلفون المتباينون مع تشتت الاهواء وتشعب الآراء على شيء كإجماعهم على تعظيم من
ذكرناه وإكبارهم إنهم يزورون قبورهم ويقصدون من شاحط البلاد وشاطئها مشاهدهم
ومدافنهم والمواضع التي وسمت بصلاتهم فيها وحلولهم بها وينفقون في ذلك الاموال
ويستنفذون الاحوال ، فقد أخبرني من لا احصيه كثرة أن أهل نيسابور ومن والاها من
تلك البلدان يخرجون في كل سنة إلى طوس لزيارة الامام أبي الحسن علي بن موسى الرضا
صلوات الله عليهما بالجمال الكثيرة والاهبة التي لا توجد مثلها إلا للحج إلى بيت
الله.
وهذا مع المعروف
من انحراف أهل خراسان عن هذه الجهة وازورارهم عن هذا الشعب ، وما تسخير هذه القلوب
القاسية ، وعطف هذه الامم البائنة إلا كالخارق للعادات والخارج عن الامور
المألوفات ، وإلا فما الحامل للمخالفين لهذه النحلة المنحازين عن هذه الجملة على
أن يراوحوا هذه المشاهد ويغادوها ويستنزلوا عندها من الله تعالى الارزاق
ويستفتحوا الاغلال ويطلبوا ببركاتها الحاجات ويستدفعوا البليات والاحوال الظاهرة
كلها لا توجب ذلك ولا تقتضيه ولا تستدعيه وإلا فعلوا ذلك فيمن يعتقدونهم ، وأكثرهم
يعتقدون إمامته وفرض طاعته ، وإنه في الديانة موافق لهم غير مخالف ومساعد غير
معاند.
ومن المحال أن
يكونوا فعلوا ذلك لداع من دواعي الدنيا ، فان الدنيا عند غير هذه الطائفة موجودة
وعندها هي مفقودة ولا لتقية واستصلاح فان التقية هي فيهم لا منهم ولا خوف من جهتهم
ولا سلطان لهم وكل خوف إنما هو عليهم ، فلم يبق إلا داعي الدين ، وذلك هو الامر
الغريب العجيب الذي لا ينفذ في مثله إلا مشية الله وقدرة القهار التي تذلل الصعاب
وتقود بأزمتها الرقاب.
وليس لمن جهل
هذه المزية أو تجاهلها وتعامى عنها وهو يبصرها أن يقول : إن العلة في تعظيم غير
فرق الشيعة لهؤلاء القوم ليست ما عظمتموه وفخمتموه وادعيتم خرقه للعادة وخروجه من
الطبيعة ، بل هي لان هؤلاء القوم من عترة النبي صلى الله عليه وآله وكل من عظم
النبي صلى الله عليه وآله فلابد من أن يكون لعترته وأهل بيته معظما مكرما وإذا
انضاف إلى القرابة الزهد وهجر الدنيا والعفة والعلم زاد الاجلال والاكرام لزيادة
أسبابهما.
والجواب عن هذه
الشبهة الضعيفة أن شارك أئمتنا عليهم السلام في حسبهم ونسبهم وقراباتهم من النبي
(ص) غيرهم ، وكانت لكثير منهم عبادات ظاهرة وزهادة في الدنيا بادية وسمات جميلة
وصفات حسنة من ولد أبيهم عليه وآله السلام ومن ولد العباس رضوان الله عليه فما
رأينا من الاجماع على تعظيمهم وزيارة مدافنهم والاستشفاع بهم في الاغراض
والاستدفاع بمكانهم للأعراض والامراض ، وما وجدنا مشاهدا معاينا في هذا الشراك.
ألا فمن ذا الذي
أجمع على فرط إعظامه وإجلاله من سائر صنوف العترة في هذه الحالة يجري مجرى الباقر
والصادق والكاظم والرضا صلوات الله عليهم أجمعين لان من عدا من ذكرناه من صلحاء
العترة وزهادها ممن يعظمه فريق من الامة ويعرض عنه فريق ومن عظمه منهم وقدمه
لاينتهي في الاجلال والاعظام إلى الغاية التي ينتهي إليها من ذكرناه.
ولولا أن تفصيل
هذه الجملة ملحوظ معلوم لفصلناها على طول ذلك ولاسمينا من كنينا عنه ونظرنا بين كل
معظم مقدم من العترة ليعلم أن الذي ذكرناه هو الحق الواضح ، وما عداه هو الباطل
الماضح.
وبعد فمعلوم
ضرورة أن الباقر والصادق ومن وليهما من الائمة صلوات الله عليهم أجمعين كانوا في
الديانة والاعتقاد وما يفتون من حلال وحرام على خلاف ما يذهب إليه مخالفوا
الامامية، وإن ظهر شك في ذلك كله فلا شك ولا شبهة على منصف في أنهم لم يكونوا على
مذهب الفرقة المختلفة المجتمعة على تعظيمهم والتقرب إلى الله تعالى بهم.
وكيف يعترض ريب
فيما ذكرناه؟ ومعلوم ضرورة أن شيوخ الامامية وسلفهم في تلك الازمان كانوا بطانة
للصادق والكاظم والباقر عليه السلام وملازمين لهم ومتمسكين بهم ومظهرين أن كل شيء
يعتقدونه وينتحلونه ويصححونه أو يبطلونه فعنهم تلقوه ومنهم أخذوه ، فلو لم يكونوا
عنه بذلك راضين وعليه مقرين لأبوا عليهم نسبة تلك المذاهب إليهم وهم منها بريئون
خليون ، ولنفوا ما بينهم من مواصلة ومجالسة وملازمة وموالاة ومصافاة ومدح وإطراء
وثناء، ولأبدلوه بالذم واللوم والبراءة والعداوة فلو لم يكونوا عليهم السلام لهذه
المذاهب معتقدين وبها راضين لبان لنا واتضح ولو لم يكن إلا هذه الدلالة لكفت
وأغنت.
وكيف يطيب قلب
عاقل أو يسوغ في الدين لاحد أن يعظم في الدين من هو على خلاف ما يعتقد أنه الحق.
وما سواه باطل ، ثم ينتهي في التعظيمات والكرامات إلى أبعد الغايات وأقصى النهايات
وهل جرت بمثل هذا عادة أو مضت عليه سنة؟
أولا يرون أن
الامامية لا تلتفت إلى من خالفها من العترة وحاد عن جادتها في الديانة ومحجتها في
الولاية ولا تسمح له بشيء من المدح والتعظيم فضلا عن غايته وأقصى نهايته ، بل
تتبرأ منه وتعاديه وتجريه في جميع الاحكام مجرى من لا نسب له ولا حسب له ولا قرابة
ولا علقة.
وهذا يوقظ على
أن الله خرق في هذه العصابة العادات وقلب الجبلات ليبين من عظيم منزلتهم وشريف
مرتبتهم ، وهذه فضيلة تزيد على الفضائل وتربي على جميع الخصائص والمناقب ، وكفى
بها برهانا لائحا وميزانا راجحا ، والحمد لله رب العالمين.
المصدر : بحار الأنوار
المؤلف : العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي
الجزء والصفحة : جزء 27 / صفحة [ 332 ]
تاريخ النشر : 2025-07-14