أحاديث وروايات المعصومين الاربعة عشر/النبوة/قصص الأنبياء وما يتعلق بهم/قصص الانبياء في كتب التفسير/تفسير مجمع البيان
قال الطبرسي رحمه الله
في قوله تعالى: " لقد أرسلنا نوحا " هو نوح بن ملك ابن متوشلخ بن اخنوخ وهو
إدريس عليه السلام وهو أول نبي بعد إدريس عليه السلام. وقيل: إنه كان نجارا " وولد
في العام الذي مات فيه آدم عليه السلام قبل موت آدم في الألف الاولى وبعث في الألف
الثانية وهو ابن أربعمائة، وقيل: بعث وهو ابن خمسين سنة ولبث في قومه ألف سنة
إلا خمسين عاما "، وكان في تلك الألف ثلاثة قرون عايشهم وعمر فيهم وكان
يدعوهم ليلا " ونهارا " فلا يزيدهم
دعاؤه إلا فرارا "، وكان يضربه قومه حتى يغشى عليه فإذا أفاق
قال: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، ثم شكاهم إلى الله تعالى فغرقت له الدنيا
وعاش بعده تسعين سنة، وروي أكثر من ذلك أيضا " إني أخاف " إنما لم يقطع لأنه
جوز أن يؤمنوا " قال الملأ " أي الجماعة " من قومه " أو
الأشراف والرؤساء منهم " إنا لنريك " أي بالقلب أو
البصر، أو من الرأي بمعنى الظن " وأعلم من الله " أي من صفاته
وتوحيده وعدله وحكمته، أو من دينه أو من قدرته سلطانه وشدة
عقابه " إن جاءكم ذكر " أي بيان أو نبوة رسالة "
إنهم كانوا قوما " عمين " عن الحق، أي ذاهبين عنه جاهلين به يقال: رجل
عم: إذا كان أعمى القلب ورجل أعمى في البصر. في
حديث وهب بن منبه أن نوحا " عليه السلام
كان أول نبي نبأه الله بعد إدريس، وكان إلى الادمة ما هو، دقيق الوجه في رأسه
طول، عظيم العينين، دقيق الساقين، طويلا " جسيما "، دعا قومه إلى الله
حتى انقرضت ثلاثة قرون منهم كل قرن ثلاث
مائة سنة يدعوهم سرا " وجهرا " فلا يزدادون إلا طغيانا،
ولا يأتي منهم قرن إلا كان أعتى على الله من الذين قبلهم، وكان الرجل منهم يأتي
بابنه وهو صغير فيقيمه على رأس نوح فيقول: يا بني إن بقيت بعدي فلا تطيعن هذا المجنون،
وكانوا يثورون إلى نوح فيضربونه حتى يسيل مسامعه دما وحتى لا يعقل شيئا مما
يصنع به فيحمل فيرمى في بيت أو على باب داره مغشيا " عليه، فأوحى الله تعالى إليه
" أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن " فعندها أقبل على الدعاء عليهم
ولم يكن دعا عليهم قبل ذلك، فقال: " رب لا
تذر على الأرض " إلى آخر السورة، فأعقم الله أصلاب
الرجال وأرحام النساء فلبثوا أربعين سنة لا يولد لهم ولد، وقحطوا في تلك الأربعين
سنة حتى هلكت أموالهم وأصابهم الجهد والبلاء، ثم قال لهم نوح: " استغفروا ربكم
إنه كان غفارا " " الآيات، فأعذر إليهم وأنذر فلم يزدادوا إلا كفرا
"، فلما يئس منهم أقصر عن كلامهم ودعائهم فلم
يؤمنوا وقالوا: " لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا "
الآية يعنون آلهتهم، حتى غرقهم الله وآلهتهم التي كان يعبدونها، فلما كان بعد خروج
نوح من السفينة وعبد الناس الأصنام سموا أصنامهم بأسماء أصنام قوم نوح، فاتخذ أهل
اليمن يغوث ويعوق، وأهل دومة الجندل صنما سموه ودا، واتخذت حمير صنما " سمته نسرا
". وهذيل صنما سموه سواعا "، فلم يزل يعبدنها حتى جاء الإسلام. إن
كان كبر عليكم مقامي " أي شق وعظم عليكم إقامتي بين أظهركم " وتذكيري
بآيات الله " أي بحججه وبيناته على صحة
التوحيد والعدل وبطلان ما تدينون به، وفي الكلام حذف هو قوله:
وعزمتم على قتلي وطردي من بين أظهركم " فأجمعوا أمركم وشركاءكم " أي
فأعزموا على أمركم مع شركائكم، واتفقوا على أمر
واحد من قتلي وطردي، وهذا تهديد في صورة الأمر،
وقيل: معناه: اعزموا على أمركم وادعوا شركاءكم فبين عليه السلام أنه لا يرتدع
عن دعائهم وعيب آلهتهم مستعينا " بالله عليهم، واثقا " بأنه سبحانه
يعصمه منهم، وقيل: أراد بالشركاء الأوثان،
وقيل: من شاركهم في دينهم " ثم لا يكن أمركم عليكم
غمة " أي غما " وحزنا " بأن تترددوا فيه، وقيل: معناه، ليكن أمركم
ظاهرا " مكشوفا "، ولا يكون مغطى مبهما،
من غممت الشيء إذا سترتة، وقيل: أي لا تأتوه من غير أن
تشاوروا، ومن غير أن يجتمع رأيكم عليه لأن من حاول أمرا من غير أن يعلم كيف يتأتى
ذلك كان أمره غمة عليه " ثم اقضوا إلي ولا تنظرون " أي انهضوا إلى
فاقتلوني إن وجدتم إليه سبيلا " ولا
تمهلوني، وقيل: " اقضوا إلي " افعلوا ما تريدون وادخلوا إلي
لأنه بمعنى افرغوا من جميع حيلكم، كما يقال: خرجت إليه من العهدة، وقيل: معناه: توجهوا
إلي، وهذا كان من معجزات نوح عليه السلام لأنه كان وحيدا " مع نفر يسير وقد
أخبر بأنهم لا يقدرون على قتله وعلى أن ينزلوا به سوءا لأن الله ناصره. " فإن توليتم
" أي ذهبتم عن الحق ولم تقبلوه " فما سألتكم من أجر " أي لا أطلب
منكم أجرا " على ما اؤديه إليكم من الله
فيثقل ذلك عليكم، أو لم يضرني لأني لم أطمع في مالكم فيفوتني
ذلك بتوليكم عني وإنما يعود الضرر عليكم " وجعلناهم خلائف " أي خلفا
" لمن هلك بالغرق، وقيل: إنهم كانوا ثمانين،
وقيل: أي جعلناهم رؤساء في الأرض " فانظر " أيها
السامع " كيف كان عاقبة المنذرين " أي المخوفين بالله وعذابه. " ما
نريك إلا بشرا " مثلنا " ظنا
" منهم أن الرسول إنما يكون من غير جنس المرسل إليه، ولم يعلموا
أن البعثة من الجنس قد يكون أصلح ومن الشبهة أبعد " بادي الرأي" أي
في ظاهر الأمر والرأي لم يتدبروا ما قلت ولم يتفكروا فيه، وقيل: أي اتبعوك في الظاهر
وباطنهم على خلاف ذلك " وما نرى لكم علينا من فضل " لتوهمهم أن الفضل
إنما يكون بكثرة المال والشرف في النسب
" على بينة من ربي " أي على برهان وحجة تشهد بصحة النبوة
وهي المعجزة، أو على يقين وبصيرة من ربوبية ربي وعظمته " وآتاني رحمة "
وهي هنا النبوة " فعميت عليكم "
أي خفيت عليكم لقلة تدبركم فيها " أنلزمكموها " أي أتريدون
أن اكرهكم على المعرفة والجئكم إليها على كره منكم، هذا غير مقدور لي " وما أنا
بطارد الذين آمنوا " قيل: إنهم كانوا سألوه طردهم ليؤمنوا له أنفة من أن
يكونوا معهم على سواء " إنهم ملاقوا ربهم
" فيجازى من ظلمهم وطردهم، أو ملاقوا ثوابه فكيف يكونون
أراذل ؟ وكيف يجوز طردهم " من ينصرني من الله " أي يمنعني من عذابه.
" ولا أقول لكم عندي خزائن الله " قال
البيضاوي: أي خزائن رزقه وفضله حتى جحدتم فضلي "
ولا أعلم الغيب " أي ولا أقول: أنا أعلم الغيب حتى تكذبوني استبعادا وحتى
أعلم أن هؤلاء اتبعوني بادي الرأي من غير بصيرة
وعقد قلب " ولا أقول إني ملك " حتى تقولوا: ما
أنت إلا بشر مثلنا " ولا أقول للذين تزدري أعينكم " ولا أقول في شأن من استرذلتموهم
لفقرهم " لن يؤتيهم الله خيرا " " فإن ما أعد الله لهم في الآخرة
خير مما آتاكم في الدنيا " إني إذا
لمن الظالمين " إن قلت شيئا " من ذلك، والإزدراء افتعال
من زرأه: إذا عابه، وإسناده إلى الأعين للمبالغة والتنبيه على أنهم استرذلوهم
بما عاينوا من رثاثة حالهم دون تأمل في كمالاتهم " قد جادلتنا " خاصمتنا "
فأكثرت جدالنا " فأطلته أو أتيت بأنواعه " فأتنا بما تعدنا " من
العذاب " إن كنت من الصادقين " في الدعوى والوعيد
فإن مناظرتك لا تؤثر فينا " إنما يأتيكم به الله إن
شاء " عاجلا " وآجلا " " وما أنتم بمعجزين " بدفع العذاب
أو الهرب منه " ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم
" شرط ودليل جواب والجملة دليل جواب قوله: " إن كان
الله يريد أن يغويكم " وتقرير الكلام: إن كان الله يريد أن يغويكم فإن أردت
أن أنصح لكم ينفعكم نصحي.
وقال الطبرسي قدس سره: ذكر في تأويله
وجوه: أحدها: إن أراد الله أن يخيبكم من رحمته بأن
يحرمكم من ثوابه ويعاقبكم لكفركم به فلا ينفعكم نصحي، وقد سمى الله العقاب غيا "
بقوله: " فسوف يلقون غيا " " ولما خيب الله قوم نوح من رحمته وأعلم
نوحا بذلك في قوله: " لن يؤمن من قومك
" قال لهم: " لا ينفعكم نصحي " مع إيثاركم ما يوجب خيبتكم
والعذاب الذي جره إليكم قبيح أفعالكم. وثانيها: أن المعنى: إن كان الله يرد عقوبة
إغوائكم الخلق، ومن عادة العرب أن يسمي العقوبة باسم الشيء المعاقب عليه كما في
قوله سبحانه: " وجزاء سيئة سيئة مثلها " وأمثاله. وثالثها: أن معناه: إن
كان الله يريد يهلككم فلا ينفعكم نصحي عند
نزول العذاب بكم وإن قبلتم قولي وآمنتم لأن الله
حكم بأن لا يقبل الإيمان عند نزول العذاب، وقد حكي عن العرب أنهم قالوا: أغويت فلانا
" بمعنى أهلكته. ورابعها: أن قوم نوح كانوا يعتقدون أن الله يضل عباده، فقال لهم
نوح على وجه. التعجب والإنكار: " أم يقولون افتريه " قيل: يعني بذلك
محمدا " صلى الله عليه وآله يقول الكفار: افترى
محمد (صلى الله عليه وآله) ما أخبر به من نبأ
نوح " فعلي إجرامي " أي عقوبة جرمي " وأنا برئ مما تجرمون "
أي لا اؤاخذ بجرمكم. وقيل: يعني به نوحا "
عليه السلام. " فلا تبتئس " أي لا تغتم ولا تحزن "
بأعيننا " أي بمرأى منا، والتأويل: بحفظنا إياك حفظ الرائي لغيره إذا كان
يدفع الضرر عنه، وقيل: بأعين الملائكة الموكلين، وإنما أضاف إلى نفسه إكراما
" لهم " ووحينا " أي وعلى ما أوحينا إليك
من صفتها وحالها " ولا تخاطبني " أي لا تسألني العفو
عن هؤلاء ولا تشفع لهم فإنهم مغرقون عن قريب، وقيل: إنه عنى به امرأته وابنه "
ويصنع الفلك " أي وجعل نوح يصنع الفلك كما أمره الله، وقيل: أخذ نوح في صنعة السفينة
بيده فجعل ينحتها ويسويها وأعرض عن قومه " كلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه
" أي كلما اجتاز به جماعة من أشراف قومه يهزءوا من فعله، قيل: إنهم
كانوا يقولون له: يا نوح صرت نجارا " بعد النبوة على طريق الاستهزاء، وقيل: إنما
كانوا يسخرون من عمل السفينة لأنه كان يعملها في البر على صفة من الطول والعرض ولا
ماء هناك يحمل مثلها فكانوا يتضاحكون ويتعجبون من عملة " إن تسخروا منا
" أي إن تستجهلونا في هذا الفعل فإنا نستجهلكم
عند نزول العذاب بكم كما تستجهلونا، أو نجازيكم
على سخريتكم عند الغرق، وأراد به تعذيب الله إياهم " فسوف تعلمون " أينا أحق
بالسخرية، أو عاقبة سخريتكم " من يأتيه عذاب يخزيه " ابتداء كلام،
والأظهر أنه متصل بما قبله، أي فسوف تعلمون أينا
يأتيه عذاب يهينه ويفضحه في الدنيا " ويحل عليه عذاب
مقيم " أي دائم في الآخرة، قال الحسن: كان طول السفينة ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها
ستمائة ذراع، وقال قتادة: كان طولها ثلاث مائة ذراع وعرضها خمسين ذراعا "، وارتفاعها
ثلاثين ذراعا "، وبابها في عرضها، وقال ابن عباس: كانت ثلاث طبقات: طبقة للناس،
وطبقة للإنعام، وطبقة للهوام والوحش، وجعل أسفلها الوحوش والسباع والهوام، وأوسطها
للدواب والأنعام، وركب هو ومن معه في الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد، وكانت
من خشب الساج.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه
قال: لما فار التنور وكثر الماء في السكك خشيت ام صبي عليه
وكانت تحبه حبا " شديدا " فخرجت إلى الجبل حتى
بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء عرجت به حتى بلغت ثلثيه، فلما بلغها الماء عرجت به حتى
استوت على الجبل فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بيديها حتى ذهب بها الماء، فلو رحم
الله منهم أحدا " لرحم ام الصبي. وروى علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن صفوان، عن أبي
بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما أراد الله هلاك قوم نوح عليه السلام
عقم أرحام النساء أربعين سنة فلم يولد لهم مولود، فلما فرغ نوح من اتخاذ السفينة
أمره الله تعالى أن ينادي بالسريانية أن يجتمع إليه جميع الحيوان، فلم يبق حيوان
إلا وقد حضر فأدخل من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين ما خلا الفأرة والسنور، وإنهم
لما شكوا إليه سرقين الدواب والقذر دعا بالخنزير فمسح جبينه فعطس فسقط من أنفه
زوج فأرة فتناسل، فلما كثروا وشكوا إليه منهم دعا
عليه السلام بالأسد فمسح جبينه فعطس فسقط من أنفه زوج سنور. وكان الذين آمنوا به
من جميع الدنيا ثمانين رجلا ". وفي حديث آخر: إنهم شكوا إليه العذرة فأمر
الفيل فعطس فسقط الخنزير. " حتى إذا أمرنا
" أي فذلك حاله وحالهم حتى إذا جاء قضاؤنا بنزول
العذاب " وفار التنور " بالماء أي ارتفع الماء بشدة اندفاع " قلنا
احمل فيها من كل زوجين اثنين " أي من كل جنس
من الحيوان زوجين أي ذكر وانثى " وأهلك " أي واحمل
أهلك وولدك " إلا من سبق عليه القول " أي من سبق الوعد بإهلاكه والأخبار
بأنه لا يؤمن وهي امرأته الخائنة، واسمها
واغلة، وابنه كنعان " ومن آمن " أي واحمل فيها من
آمن بالله من غير أهلك " وما آمن معه إلا قليل " أي إلا نفر قليل، وكان
فيمن أدخل السفينة بنوه الثلاثة سام وحام
ويافث، وثلاث كنائن له، فالعرب والروم وفارس
وأصناف العجم ولد سام، والسودان من الحبش والزنج وغيرهم ولد حام، والترك والصين
والصقالبة ويأجوج ومأجوج ولد يافث " بسم الله مجراها ومرساها " أي
متبركين باسم الله، أو قائلين: بسم الله وقت
إجرائها وإرسائها، أي إثباتها وحبسها، وقيل: بسم
الله إجراؤها وإرساؤها. وقال الضحاك: كانوا إذا أرادوا أن تجري السفينة قالوا: "
بسم الله مجراها " فجرت وإذا أرادوا أن تقف السفينة قالوا: " بسم الله
مرساها " فوقفت " في موج كالجبال " دل
تشبيهها بالجبال على أن ذلك لم يكن موجا " واحدا " بل كان
كثيرا "، وروي عن الحسن أن الماء ارتفع فوق كل شئ وفوق كل جبل ثلاثين ذراعا
"، وقال غيره: وخمس عشر ذراعا "،
وروى أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام أن نوحا " ركب
السفينة في أول يوم من رجب فصام، وأمر من معه أن يصوموا ذلك اليوم " ونادى
نوح ابنه " واسمه كنعان، وقيل: يام
" وكان في معزل " أي في قطعة من الأرض غير القطعة التي
كان نوح فيها حين ناداه، أو كان في ناحية من دين أبيه، وكان نوح عليه السلام يظن
أنه مسلم فلذلك دعاه، وقيل: كان في معزل من السفينة " يا بني اركب معنا
" قال الحسن: كان ينافق أباه فلذلك دعاه،
وقال مسلم: دعاه بشرط الإيمان " لا عاصم اليوم
من أمر الله " أي من عذابه " إلا من رحم " أي رحمه
الله بإيمانه، فآمن بالله يرحمك الله " فكان من المغرقين " أي فصار
منهم. " وقيل يا أرض ابلعي ماءك "
أي قال الله للأرض انشفي ماءك الذي نبعت به العيون واشربي
ماءك حتى لا يبقى على وجهك شئ منه، وهذا إخبار عن ذهاب الماء عن وجه الأرض بأوجز
مدة فجرى مجرى أن قيل لها فبلعت " ويا سماء أقلعي " أي أمسكي عن المطر
" وغيض الماء " أي ذهب عن وجه الأرض إلى
باطنه، ويقال: إن الأرض ابتلعت جميع مائها وماء السماء
لقوله: " وغيض الماء " ويقال: لم تبتلع ماء السماء لقوله: " أبلعي
ماءك " وإن ماء السماء صار بخارا وأنهارا وهو
المروي عن أئمتنا عليهم السلام " وقضي الأمر "
أي وقع هلاك الكفار على التمام، أو الأمر بنجاة نوح ومن معه " واستوت "
أي استقرت السفينة " على الجودي " قيل:
رست السفينة على الجودي شهرا " " وقيل بعدا " " أي قال الله
تعالى ذلك، ومعناه: أبعد الله الظالمين. " إنه ليس من أهلك " روي عن علي بن
مهزيار، عن الوشاء، عن الرضا عليه السلام قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إن الله
قال لنوح: " إنه ليس من أهلك " لأنه كان مخالفا " له وجعل من اتبعه
من أهله " إنه عمل غير صالح " قال المرتضى
قدس الله روحه: التقدير أنه ذو عمل غير صالح كما في قول
الخنساء: فإنما هي إقبال وإدبار، قال: ومن قال: إن المعنى أن سؤالك إياي ما ليس لك
به علم غير صالح فإن من امتنع من أن يقع على الأنبياء شئ من القبائح يدفع ذلك، فإذا
قيل له: فلم قال: " فلا تسألن ما ليس لك به علم " وكيف قال نوح: "
رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم " ؟
قال: لا يمتنع أن يكون نهي عن سؤال ما ليس له به علم
وإن لم يقع منه، وأن يعوذ من ذلك وإن لم يوقعه، كما
نهى الله سبحانه نبيه عن الشرك وإن لم يجز وقوع ذلك منه، وإنما سأل نوح عليه السلام
نجاة ابنه بشرط المصلحة لا على سبيل القطع، فلما بين سبحانه له أن المصلحة في
غير نجاته لم يكن ذلك خارجا عما تضمنه السؤال، وقوله: " إني أعظك " أي
احذرك، والوعظ: الدعاء إلى الحسن والزجر عن
القبيح على وجه الترغيب والترهيب " أن تكون من الجاهلين
معناه: لا تكن منهم، وقال الجبائي: يعني أعظك لئلا تكون من الجاهلين، ولا شك
أن وعظه سبحانه يصرف عن الجهل وينزه عن القبيح " قال رب إني أعوذ بك "
معنى العياذ بالله الاعتصام طلبا "
للنجاة ومعناه ههنا الخضوع والتذلل لله سبحانه ليوفقه ولا
يكله إلى نفسه " وإن لا تغفر لي " إنما قال على سبيل التخشع والاستكانة
لله تعالى وإن لم يسبق منه ذنب " قيل
" أي قال الله: " يا نوح اهبط " أي انزل من الجبل أو
من السفينة " بسلام منا " أي بسلامة منا ونجاة، وقيل: بتحية وتسليم منا
عليك " وبركات عليك " أي ونعم دائمة
وخيرات نامية ثابتة حالا " بعد حال عليك " وعلى أمم ممن
معك " أي المؤمنين الذين كانوا معه في السفينة، وقيل: معناه: وعلى امم من
ذرية من معك، وقيل: يعني بالأمم سائر
الحيوان الذين كانوا معه لأن الله تعالى جعل فيها البركة
" وامم سنمتعهم " أي يكون من نسلهم امم سنمتعهم في الدنيا بضروب من
النعم فيكفرون فنهلكهم " ثم يمسهم بعد
ذلك " الهلاك " عذاب " مولم. " إذ نادى من قبل "
أي من قبل إبراهيم ولوط " من الكرب العظيم " أي من الغم الذي يصل حره
إلى القلب، وهو ما كان يلقاه من الأذى طول تلك
المدة " ونصرناه من القوم " أي منعناه منهم بالنصرة،
وقيل: " من " بمعنى " على ". " ولقد أرسلنا نوحا "
" قيل: إنه سمي نوحا لكثرة نوحه على نفسه، عن ابن
عباس، وقيل في سبب نوحه: إنه كان يدعو على قومه بالهلاك،
وقيل: هو مراجعته ربه في شأن ابنه " أن يتفضل عليكم " بأن يصير متبوعا
" وأنتم له تبع " ولو شاء الله
" أن لا يعبد سواه لأنزل ملائكة ولم ينزل بشرا " آدميا "
ما سمعنا بهذا " الذي يدعونا إليه نوح من التوحيد " فتربصوا به "
أي انتظروا موته فتستريحوا منه، وقيل
فانتظروا إفاقته من جنونه فيرجع عما هو عليه، وقيل:
احسبوه مدة ليرجع عن قوله " بما كذبون " أي بتكذيبهم إياي " منزلا
مباركا " " أي إنزالا " مباركا " بعد
الخروج من السفينة، وقيل: أي مكانا " مباركا " بالماء والشجر،
وقيل: المنزل المبارك هو السفينة " وإن كنا لمبتلين " أي وإن كنا
مختبرين إياهم بإرسال نوح ووعظه وتذكيره،
ومتعبدين عبادنا بالاستدلال بتلك الآيات على قدرتنا
ومعرفتنا. " المرسلين " لأن من كذب رسولا " واحدا " فقد كذب
الجماعة، لأن كل رسول يأمر بتصديق جميع الرسل،
وقال أبو جعفر عليه السلام: يعني بالمرسلين نوحا
" والأنبياء الذين كانوا بينه وبين آدم " أخوهم " أي في النسب
" إن أجري " أي ما ثوابي وجرائي " إلا على رب
العالمين " ولا أسألكم عليه أجرا " فتخافوا تلف أموالكم
" واتبعك الأرذلون " أي السفلة، أو المساكين، وقيل: يعنون الحاكة
والأساكفة " لتكونن من المرجومين "
بالحجارة، أو بالشتم " فافتح " أي فاقض بيني وبينهم قضاء بالعذاب
" في الفلك المشحون " أي في السفينة المملوءة من الناس وغيرهم من الحيوانات.
" فلنعم المجيبون " نحن لنوح في دعائه، أو لكل من دعانا " وجعلنا ذريته
هم الباقين " بعد الغرق والناس كلهم بعد نوح من ولد نوح، قال الكلبي: لما خرج نوح
من السفينة مات من كان من الرجال والنساء إلا ولده ونساءهم " وتركنا عليه في الآخرين
" أي تركنا عليه ذكرا " جميلا " وأثنينا عليه في امة محمد صلى الله
عليه وآله وذلك الذكر قوله: " سلام على
نوح في العالمين ". " وازدجر " أي وزجر بالشتم
والرمي بالقبيح أو بالوعيد " فانتصر " أي فانتقم لي منهم. " ففتحنا أبواب
السماء " أي أجرينا الماء من السماء كجريانه إذا فتح عنه بابا كان مانعا
" له " بماء منهمر " أي منصب انصبابا " شديدا " لا ينقطع
" وفجرنا الأرض عيونا " " أي شققنا الأرض
بالماء عيونا " حتى جرى الماء على وجه الأرض " فالتقى الماء
" أي ماء السماء وماء الأرض، وإنما لم يثن لأنه اسم جنس يقع على القليل والكثير
" على أمر قد قدر " فيه هلاك القوم أي قدره الله، وقيل: على أمر قدره
الله تعالى وعرف مقداره فلا زيادة فيه ولا
نقصان، وقيل: إنه كان قدر ماء السماء مثل قدر ماء
الأرض، وقيل: على أمر قدره الله عليهم في اللوح المحفوظ " وحملناه على ذات ألواح
" أي على سفينة ذات ألواح مركبة جمع بعضها إلى بعض، وألواحها أخشابها التي منها
جمعت " ودسر " أي مسامير شدت بها السفينة، وقيل: هو صدر السفينة يدسر به الماء،
وقيل: هي أضلاع السفينة، وقيل: الدسر: طرفاها وأصلها والألواح جانباها " بأعيننا
" أي بحفظنا وحراستنا " جزاء لمن كان كفر " أي فعلنا به وبهم ما
فعلنا من إنجائه وإغراقهم ثوابا لمن كان كفر
وجحد أمره وهو نوح عليه السلام والتقدير: لمن جحد
نبوته وكفر بالله فيه " ولقد تركناها " أي هذه الفعلة " آية "
أي علامة يعتبر بها، أو تركنا السفينة ونجاة من فيها
وإهلاك الباقين دلالة باهرة على وحدانيته تعالى،
وعبرة لمن اتعظ بها، وكانت السفينة باقية حتى رآها أوائل هذه الامة، وقيل في كونها
آية: إنها كانت تجري بين ماء السماء وماء الأرض وقد كان غطاها على ما أمر الله
تعالى به " فهل من مدكر " أي متذكر يعتبر " فكيف كان عذابي ونذر
" هذا استفهام ومعناه التعظيم، أي كيف رأيتم انتقامي
منهم وإنذاري إياهم ؟ " ولقد يسرنا القرآن للذكر
" أي سهلناه للحفظ والقراءة. " فخانتاهما " قال ابن عباس: كانت
امرأة نوح كافرة تقول للناس: إنه مجنون وإذا آمن
بنوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به، وكان امرأة
لوط تدل على أضيافه وكان ذلك خيانتهما لهما، وما بغت امرأة نبي قط وإنما كانت خيانتهما
في الدين، وقال السدي: كانت خيانتهما أنهما كانتا كافرتين، وقيل: كانتا منافقتين،
وقال الضحاك: خيانتهما النميمة إذا أوحى الله إليهما أفشتاه إلى المشركين "
فلم يغنيا عنهما من الله شيئا " " أي فلم يغن نوح ولوط مع نبوتهما عن
امرأتيهما من عذاب الله شيئا "، وقيل: أي
ويقال لهما يوم القيامة: " ادخلا النار مع الداخلين "
قيل: إن اسم امرأة نوح واغلة، واسم امرأة لوط واهلة، وقال
مقاتل: والغة ووالهة. " لما طغى الماء " أي جاوز الحد حتى غرقت الأرض
بمن عليها " حملناكم في الجارية
" أي حملنا آباءكم في السفينة " لنجعلها " أي تلك الفعلة.
" عذاب أليم " قال البيضاوي: " عذاب الآخرة أو الطوفان " من
ذنوبكم " بعضها وهو ما سبق " إلى أجل مسمى
" هو أقصى ما قدر لكم بشرط الإيمان والطاعة " فلم يزدهم
دعائي " إسناد الزيادة إلى الدعاء على السببية " إلا فرارا "
" عن الايمان والطاعة " جعلوا أصابعهم "
لئلا يسمعوا الدعوة " واستغشوا ثيابهم " تغطوا بها لئلا يروني
" وأصروا " أكبوا على الكفر والمعاصي " ثم إني دعوتهم " إلى
قوله: " إسرارا " " أي دعوتهم مرة بعد اخرى على أي
وجه أمكننى، و (ثم) لتفاوت الوجوه أو لتراخي بعضها عن
بعض " يرسل السماء " أي المظلة أو السحاب " عليكم مدرارا "
" أي كثير المدر " جنات " أي بساتين " ما لكم
لا ترجون لله وقارا " " لا تأملون له توقيرا "، أي تعظيما
" لمن عبده وأطاعه، أو لا تعتقدون له عظمة " وقد خلقكم أطوارا "
" أي تارات إذ خلقهم أولا " عناصر، ثم مركبات
تغذي الإنسان، ثم أخلاطا "، ثم نطفا " وهكذا، فإنه
يدل على أنه يمكنه أن يعيدهم تارة اخرى " والله أنبتكم " أي أنشأكم
" ثم يعيدكم " فيها مقبورين "
ويخرجكم إخراجا " " بالحشر " فجاجا " " واسعة "
واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا "
" أي اتبعوا رؤساءهم البطرين بأموالهم المغترين بأولادهم
بحيث صار ذلك سببا لزيادة خسارهم في الآخرة " ومكروا " عطف على لم يزده والضمير
لمن وجمعه للمعنى " مكرا " كبارا " " كبيرا " في الغاية
" ولا تذرن ودا " قيل: هي أسماء رجال صالحين كانوا بين
آدم ونوح فلما ماتوا صوروا تبركا " بهم، فلما طال
الزمان عبدوا وقد انتقلت إلى العرب " وقد أضلوا " أي الرؤساء أو الأصنام
" ولا تزد الظالمين إلا ضلالا " "
عطف على الرب " إنهم عصوني " ولعل المطلوب هو الضلال في ترويج
مكرهم ومصالح دنياهم لا في أمر دينهم أو الضياع والهلاك كقوله: " إن المجرمين في
ضلال وسعر ". " مما خطيئاتهم " من أجلها،
و (ما) مزيدة للتأكيد والتفخيم " فادخلوا نارا " " المراد عذاب
القبر أو عذاب الآخرة " ديارا " " أي أحدا " " ولوالدي
" لمك بن متوشلخ، وشمخا بنت أنوش " ولمن
دخل بيني " منزلي أو مسجدي أو سفينتي " إلا تبارا " أي
هلاكا.
المصدر : بحار الأنوار
المؤلف : العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي
الجزء والصفحة : جزء 11 / صفحة [298]
تاريخ النشر : 2024-08-14