أحاديث وروايات المعصومين الاربعة عشر/النبوة/قصص الأنبياء وما يتعلق بهم/قصص الانبياء في كتب التفسير/تفسير مجمع البيان
قال الطبرسي طيب الله رمسه: " من
آل فرعون " أي من قومه وأهل دينه " يسومونكم " أي
يكلفونكم ويذيقونكم " سوء العذاب " واختلفوا في هذا العذاب فقال
قوم: ما ذكر بعده، وقيل: ما كان يكلفونهم من الاعمال الشاقة فمنها أنهم جعلوهم أصنافا:
فصنف يخدمونهم، وصنف يحرسون لهم، ومن لا يصلح منهم للعمل ضربوا الجزية عليهم،
وكانوا مع ذلك " يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم " أي يدعونهن أحياء ليستعبدن،
وينكحن على وجه الاسترقاق، وهذا أشد من الذبح " وفي ذلكم " أي وفي سومكم العذاب
وذبح الابناء " بلاء من ربكم عظيم " أي ابتلاء عظيم من ربكم لما خلا
بينكم وبينه، وقيل: أي وفي نجاتكم نعمة عظيمة
من الله، وكان السبب في قتل الابناء أن فرعون
رأى في منامه أن نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقتها وأحرقت
القبط وتركت بني إسرائيل فهاله ذلك ودعا السحرة والكهنة والقافة فسألهم عن رؤياه
فقالوا له: إنه يولد في بني إسرائيل غلام يكون على يده هلاكك وذهاب ملكك وتبديل
دينك، فأمر فرعون بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل وجمع القوابل من أهل مملكته
فقال لهن: لا يسقط على أيديكن غلام من بني إسرائيل إلا قتل، ولا جارية إلا تركت،
ووكل بهن فكن يفعلن ذلك، فأسرع الموت في مشيخة بني إسرائيل، فدخل رؤوس القبط على
فرعون فقالوا له: إن الموت وقع على بني إسرائيل فتذبح صغارهم ويموت كبارهم، فيوشك
أن يقع العمل علينا، فأمر فرعون أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة، فولد هارون في السنة
التي لا يذبحون فيها فترك، وولد موسى في السنة التي يذبحون فيها. واذكروا " إذ
فرقنا بكم البحر " أي فرقنا بين المائين حتى مررتم فيه وكنتم فرقا بينهما
تمرون في طريق يبس، وقيل: فرقنا البحر
بدخولكم إياه فوقع بين كل فرقتين من البحر طائفة منكم يسلكون طريقا
يابسا فوقع الفرق بكم " وأغرقنا آل فرعون " لم يذكر
فرعون لظهوره وذكره في مواضع ويجوز أن يريد بآل فرعون نفسه. " وأنتم تنظرون
" أي تشاهدون أنهم يغرقون، وجملة القصة
ما ذكره ابن عباس أن الله تعالى أوحى إلى موسى:
أن أسر ببني إسرائيل من مصر، فسرى موسى ببني إسرائيل ليلا فأتبعهم فرعون في ألف
ألف حصان سوى الاناث، وكان موسى في ستمائة ألف وعشرين ألفا، فلما عاينهم فرعون قال:
" إن هؤلاء لشرذمة قليلون " إلى قوله: " حاذرون " فسرى موسى
ببني إسرائيل حتى هجموا على البحر فالتفتوا فإذا هم برهج
دواب فرعون، فقالوا: يا موسى " اوذينا من
قبل أن تأتينا ومن بعدما جئتنا " هذا البحر أمامنا، وهذا فرعون قد رهقنا بمن معه،
فقال موسى: " عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الارض فينظر كيف تعملون
" فقال له يوشع بن نون: بم امرت ؟ قال:
امرت أن أضرب بعصاي البحر، قال: اضرب، وكان الله
أوحى إلى البحر: أن أطع موسى إذا ضربك، قال: فبات البحر له أفكل أي رعدة لا
يدري في أي جوانبه يضربه، فضرب بعصاه البحر فانفلق وظهر اثنا عشر طريقا، فكان لكل
سبط منهم طريق يأخذون فيه، فقالوا: إنا لا نسلك طريقا نديا، فأرسل الله ريح الصبا
حتى جففت الطريق كما قال: " فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا " فجروا،
فلما أخذوا في الطريق قال بعضهم لبعض: مالنا
لا نرى أصحابنا ؟ فقالوا لموسى: أين أصحابنا ؟
فقال: في طريق مثل طريقكم، فقالوا: لا نرضى حتى نراهم، فقال موسى عليه السلام: اللهم
أعني على أخلاقهم السيئة، فأوحى الله إليه: أن قل بعصاك هكذا وهكذا يمينا وشمالا،
فأشار بعصاه يمينا وشمالا فظهر كالكو ينظر منها بعضهم إلى بعض، فلما انتهى
فرعون إلى ساحل البحر وكان على فرس حصان أدهم فهاب دخول الماء
تمثل له جبرئيل على فرس انثى وديق وتقحم البحر،
فلما رآها الحصان تقحم خلفها، ثم تقحم قوم فرعون وميكائيل يسوقهم، فلما خرج
آخر من كان مع موسى من البحر ودخل آخر من كان مع فرعون البحر أطبق الله عليهم الماء
فغرقوا جميعا ونجا موسى ومن معه. " وملائه " أي أشراف قومه وذوي الامر منهم
" فظلموا بها " أي ظلموا أنفسهم بجحدها، وقيل: فظلموا بها بوضعها غير
مواضعها فجعلوا بدل الايمان بها الكفر والجحود،
قال وهب: وكان اسم فرعون الوليد بن مصعب وهو فرعون
يوسف، وكان بين اليوم الذي دخل يوسف مصر واليوم الذي دخلها موسى رسولا أربعمائة
عام " حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق " أي حقيق على ترك القول على الله
إلا الحق، وقال الفراء: " على " بمعنى الباء، أي حقيق بأن لا أقول،
وقيل: أي حريص على أن لا أقول " ببينة
" أي بحجة ومعجزة " فأرسل معي بني إسرائيل " أي فأطلق بني
إسرائيل عن عقال التسخير، وخلهم يرجعوا إلى الارض المقدسة " فإذا هي ثعبان
مبين " أي حية عظيمة بين ظاهر أنه
ثعبان بحيث لا يشتبه على الناس، ولم يكن مما يخيل أنه حية
وليس بحية. وقيل: إن العصا لما صارت حية أخذت قبة فرعون بين فكيها وكان ما بينهما
ثمانون ذراعا، فتضرع فرعون إلى موسى بعد أن وثب من سريره وهرب منها وأحدث، وهرب
الناس، ودخل فرعون البيت وصاح: يا موسى خذها وأنا اومن بك، فأخذها موسى فعادت عصا،
عن ابن عباس والسدي، وقيل: كان طولها ثمانين ذراعا " ونزع يده " قيل: إن
فرعون قال له: هل معك آية اخرى ؟ قال: نعم،
فأدخل يده في جيبه - وقيل: تحت إبطه – ثم نزعها
أي أخرجها منه وأظهرها " فإذا هي بيضاء " أي لونها أبيض نوري، ولها شعاع
يغلب نور الشمس، وكان موسى آدم فيما يروى، ثم أعاد اليد إلى كمه فعادت إلى لونها
الاول، عن ابن عباس والسدي، واختلف في عصاه فقيل: أعطاه ملك حين توجه إلى مدين،
وقيل: إن عصا آدم كانت من آس الجنة حين اهبط فكانت تدور بين أولاده حتى انتهت النوبة
إلى شعيب، وكانت ميراثا مع أربعين عصا كانت لآبائه، فلما استأجر شعيب موسى أمره
بدخول بيت فيه العصي، وقال له: خذ عصا من تلك العصي، فوقع تلك العصا بيد موسى، فاسترده
شعيب وقال: خذ غيرها، حتى فعل ذلك ثلاث مرات، في كل مرة تقع يده عليها دون غيرها،
فتركها في يده في المرة الرابعة، فلما خرج من عنده متوجها إلى مصر ورأى نارا وأتى
الشجرة فناداه الله تعالى: " أن يا موسى إني أنا الله " وأمره بإلقائها فألقاها
فصارت حية فولى هاربا، فناداه الله سبحانه " خذها ولا تخف " فأدخل يده
بين لحييها فعادت عصا، فلما أتى فرعون
ألقاها بين يديه على ما تقدم بيانه، وقيل: كان الانبياء
يأخذون العصا تجنبا من الخيلاء. " قال الملا من قوم فرعون " لمن دونهم من
الحاضرين " إن هذا لساحر عليم " بالسحر " يريد أن يخرجكم من أرضكم
" أي يريد أن يستميل بقلوب بني إسرائيل إلى نفسه
ويتقوى بهم فيغلبكم بهم ويخرجوكم من بلدتكم " فماذا
تأمرون " قيل: إن هذا قول الاشراف بعضهم لبعض على سبيل المشورة، ويحتمل أن يكون
قالوا ذلك لفرعون، وإنما قالوا: " تأمرون " بلفظ الجمع على خطاب الملوك، ويحتمل
أيضا أن يكون قول فرعون لقومه فتقديره: قال فرعون لهم: فماذا تأمرون ؟ " قالوا
" أي لفرعون " أرجه وأخاه " أي أخره وأخاه هارون، ولا تعجل بالحكم
فيهما بشئ فتكون عجلتك حجة عليك، وقيل: أخره أي
احبسه، والاول أصح " وأرسل في المدائن " التي حولك
" حاشرين " أي جامعين للسحرة يحشرون من يعلمونه منهم: عن مجاهد والسدي،
وقيل: هم أصحاب الشرط أرسلهم في حشر السحرة
وكانوا اثنين وسبعين رجلا، عن ابن عباس " وجاء السحرة
فرعون " وكانوا خمسة عشر ألفا، وقيل: ثمانين ألفا، وقيل: سبعين ألفا، وقيل: بضعا
وثلاثين ألفا، وقيل: كانوا اثنين وسبعين، اثنان من القبط وهما رئيسا القوم، وسبعون
من بني إسرائيل، وقيل: كانوا سبعين " وإنكم لمن
المقربين " أي وإنكم مع حصول الاجر لكم لمن المقربين،
إلى المنازل الجليلة. " قالوا يا موسى " أي قالت السحرة لموسى: "
إما أن تلقي " ما معك من العصا أولا
" وإما أن نكون نحن الملقين " لما معنا من العصي والحبال
أولا " قال ألقوا " هذا أمر تهديد وتقريع " سحروا أعين الناس
" أي احتالوا في تحريك العصي والحبال بما جعلوا فيها
من الزيبق حتى تحركت بحرارة الشمس وغير ذلك من
الحيل وأنواع التمويه والتلبيس، وخيل إلى الناس أنها تتحرك على ما تتحرك الحية
" واسترهبوهم " أي استدعوا رهبتهم
حتى رهبهم الناس " فإذا هي تلقف ما يأفكون " أي فألقاها
فصارت ثعبانا فإذا هي تبتلع ما يكذبون فيه أنها حيات " فوقع الحق " أي
ظهر لانهم لما رأوا تلك الآيات الباهرة
علموا أنه أمر سماوي لا يقدر عليه غير الله تعالى،
فمنها قلب العصا حية، ومنها أكلها حبالهم وعصيهم مع كثرتها، ومنها فناء حبالهم
وعصيهم في بطنه إما بالتفرق وإما بالفناء عند من جوزه، ومنها عودها عصا كما كانت
من غير زيادة ولا نقصان، وكل من هذه الامور يعلم كل عاقل أنه لا يدخل تحت مقدور
البشر، فاعترفوا بالتوحيد والنبوة وصار إسلامهم حجة على فرعون وقومه " فغلبوا هنالك
" أي قهر فرعون وقومه عند ذلك المجمع، وبهت فرعون وخلى سبيل موسى ومن تبعه
" وانقلبوا صاغرين " أي انصرفوا
أذلاء مقهورين " والقي السحرة ساجدين " ألهمهم الله ذلك.
وقيل: إن موسى وهارون سجدا لله شكرا له على ظهور الحق فاقتدوا بهما فسجدوا معهما،
وإنما قال: " القي " على ما لم يسم فاعله للإشارة إلى أنه ألقاهم ما
رأوا من عظيم الآيات حيث لم يتمالكوا أنفسهم
عند ذلك أن وقعوا ساجدين " رب موسى وهارون " خصوهما
لانهما دعوا إلى الايمان ولتفضيلهما، أو لئلا يتوهم متوهم أنهم سجدوا لفرعون: لأنه
كان يدعي أنه رب العالمين " إن هذا لمكر " أراد به التلبيس على الناس
وإيهامهم أن إيمان السحرة لم يكن عن علم، ولكن
لتواطؤ منهم ليذهبوا بأموالكم وملككم " فسوف تعلمون
" عاقبة أمركم " لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف " أي من كل شق
طرفا، قال الحسن: هو أن يقطع اليد اليمنى مع
الرجل اليسرى، وقال غيره: وكذلك اليد اليسرى مع الرجل اليمنى،
قيل: أول من قطع الرجل وصلب فرعون صلبهم في جذوع
النخل على شاطئ نهر مصر " إنا إلى ربنا منقلبون " راجعون إلى ربنا
بالتوحيد والاخلاص، والانقلاب إلى الله هو
الانقلاب إلى جزائه، وغرضهم التسلي في الصبر على الشدة
لما فيه من المثوبة مع مقابلة وعيده بوعيد أشد منه وهو عقاب الله " وما تنقم منا
" أي وما تطعن علينا وما تكره منا إلا إيماننا بالله وتصديقنا بآياته التي جاءتنا
" ربنا أفرغ علينا صبرا " أي اصبب علينا الصبر عند القطع والصلب حتى لا
نرجع كفارا " وتوفنا مسلمين " أي
وفقنا للثبات على الاسلام إلى وقت الوفاة، قالوا: فصلبهم
فرعون من يومه فكانوا أول النهار كفارا سحرة، وآخر النهار شهداء بررة، وقيل أيضا:
إنه لم يصل إليهم وعصمهم الله منه. " وقال الملا من قوم فرعون " لما
أسلم السحرة " أتذر موسى وقومه "
أي أتتركهم أحياء ليظهروا خلافك ويدعوا الناس إلى مخالفتك
ليغلبوا عليك فيفسد به ملكك، وروي عن ابن عباس أنه لما آمن السحرة أسلم من بني
إسرائيل ستة مائة ألف نفس واتبعوه " قال موسى لقومه " قال ابن عباس: كان
فرعون يقتل أبناء بني إسرائيل، فلما كان من
أمر موسى ما كان أمر بإعادة القتل عليهم، فشكا ذلك
بنو إسرائيل إلى موسى فعند ذلك قال: " استعينوا بالله " في دفع بلاء
فرعون عنكم " واصبروا " على دينكم
" يورثها من يشاء " أي ينقلها إلى من يشاء نقل المواريث " والعاقبة
للمتقين " أي تمسكوا بالتقوى فإن حسن العاقبة في الدارين للمتقين "
قالوا " أي بنو إسرائيل لموسى: "
اوذينا من قبل أن تأتينا " أي عذبنا فرعون بقتل الأبناء واستخدام
النساء قبل أن تأتينا بالرسالة " ومن بعد ما جئتنا " أيضا، ويتوعدنا
ويأخذ أموالنا ويكلفنا الاعمال الشاقة فلم
ننتفع بمجيئك، وهذا يدل على أنه جرى فيهم القتل والتعذيب
مرتين. قال الحسن: كان فرعون يأخذ الجزية قبل مجيء موسى وبعده من بني إسرائيل،
وهذا كان استبطاء منهم لما وعدهم موسى من النجاة، فجدد لهم عليه السلام الوعد
" قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم " وعسى من الله موجب " ويستخلفكم في الأرض "
أي يملككم ما كانوا يملكونه في الارض من بعدهم " فينظر كيف تعملون "
شكرا لما منحكم.
" ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين
" اللام للقسم أي عاقبنا قوم فرعون بالجدوب والقحرط "
فإذا جاءتهم الحسنة " يعني الخصب والنعمة والسعة في الرزق والسلامة والعافية
" قالوا لنا هذه " أي إنا نستحق ذلك
على العادة الجارية لنا، ولم يعلموا أنه من عند الله
تعالى فيشكروه " وإن تصبهم سيئة " أي جوع وبلاء وقحط المطر وضيق الرزق
وهلاك الثمر والمواشي " يطيروا "
أي يتطيروا ويتشأموا بموسى ومن معه، وقالوا: ما رأينا شرا
حتى رأيناكم " ألا إنما طائرهم عند الله " معناه: ألا إن الشؤم الذي
يلحقهم هو الذي وعدوا به من العقاب عند الله يفعل
بهم في الآخرة، لا ما ينالهم في الدنيا، أو أن
الله هو الذي يأتي بطائر البركة وطائر الشؤم من الخير والشر والنفع والضر، فلو عقلوا
لطلبوا الخير والسلامة من الشر من قبله، وقيل: أي ما تشأموا به محفوظ عليهم حتى
يجازيهم الله به يوم القيامة " وقالوا " أي قوم فرعون لموسى: "
مهما تأتنا به من آية " أي أي شئ تأتينا به من
المعجزات " لتسحرنا بها " أي لتموه علينا بها حتى تنقلنا
عن دين فرعون ؟ " فأرسلنا عليهم الطوفان " قال ابن عباس وابن جبير
وقتادة ومحمد بن إسحاق ورواه علي بن إبراهيم
بإسناده عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام
دخل حديث بعضهم في بعض قالوا: لما آمنت السحرة ورجع فرعون مغلوبا وأبى هو وقومه
إلا الاقامة على الكفر قال هامان لفرعون: إن الناس قد آمنوا بموسى فانظر من دخل
في دينه فاحبسه، فحبس كل من آمن به من بني إسرائيل، فتابع الله عليهم بالآيات، وأخذهم
بالسنين ونقص الثمرات، ثم بعث عليهم الطوفان فخرب دورهم ومساكنهم حتى خرجوا إلى
البرية وضربوا الخيام، وامتلات بيوت القبط ماء، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل من الماء
قطرة وأقام الماء على وجه أرضيهم لا يقدرون على أن يحرثوا، فقالوا لموسى: " ادع
لنا ربك " أن يكشف عنا المطر فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه فكشف
عنهم الطوفان فلم يؤمنوا، وقال هامان لفرعون: لئن خليت بني إسرائيل غلبك موسى وأزال
ملكك، و أنبت الله لهم في تلك السنة من الكلأ والزرع والثمر ما أعشبت به بلادهم
وأخصبت، فقالوا: ما كان هذا الماء إلا نعمة علينا وخصبا، فأنزل الله عليهم في
السنة الثانية - عن علي بن إبراهيم وفي الشهر الثاني عن غيره من
المفسرين - الجراد، فجردت زروعهم وأشجارهم حتى كانت
تجرد شعورهم ولحاهم، وتأكل الابواب والثياب والامتعة، وكانت لا تدخل بيوت بني إسرائيل
ولا يصيبهم من ذلك شئ، فعجوا وضجوا وجزع فرعون من ذلك جزعا شديدا، وقال: " يا
موسى ادع لنا ربك " أن يكف عنا الجراد حتى اخلي عن بني إسرائيل، فدعا موسى
ربه فكف عنهم الجراد بعدما أقام عليهم سبعة
أيام من السبت إلى السبت. وقيل: إن موسى عليه
السلام برز إلى الفضاء فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجعت الجراد من حيث جاءت
حتى كأن لم يكن قط، ولم يدع هامان فرعون أن يخلي عن بني إسرائيل، فأنزل الله عليهم
في السنة الثالثة - في رواية على بن إبراهيم وفي الشهر الثالث عن غيره من
المفسرين - القمل وهو الجراد الصغار
الذي لا أجنحة له وهو شر ما يكون وأخبثه، فأتى على
زروعهم كلهم واجتثها من أصلها، فذهبت زروعهم و لحس الارض كلها. وقيل: امر
موسى عليه السلام أن يمشي إلى كثيب أعفر بقرية من قرى مصر تدعى عين الشمس فأتاه
فضربه بعصاه فانثال عليهم قملا، فكان يدخل بين ثوب أحدهم فيعضه وكان يأكل أحدهم
الطعام فيمتلئ قملا. قال ابن جبير: القمل: السوس الذي يخرج من الحبوب، فكان الرجل
يخرج عشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد منها ثلاثة أقفزة، فلم يصابوا ببلاء كان أشد
عليهم من القمل، وأخذت أشعارهم وأبشارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم، ولزمت جلودهم كأنها
الجدري عليهم، ومنعتهم النور والقرار فصرخوا وصاحوا، فقال فرعون لموسى: ادع
لنا ربك لئن كشف عنا القمل لأكفن عن بني إسرائيل، فدعا موسى عليه السلام حتى ذهب
القمل بعدما أقام عندهم سبعة أيام من السبت إلى السبت، فنكثوا، فأنزل الله عليهم
في السنة الرابعة - وقيل في الشهر الرابع - الضفادع، فكانت تكون في طعامهم وشرابهم
وامتلات منها بيوتهم وأبنيتهم، فلا يكشف أحدهم ثوبا ولا إناء ولا طعاما ولا
شرابا إلا وجد فيه الضفادع، وكانت تثب في قدورهم فتفسد عليهم ما فيها، وكان الرجل
يجلس إلى ذقنه من الضفادع ويهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه، ويفتح فاه لأكلته
فيسبق الضفدع اكلته إلى فيه، فلقوا منها أذى شديدا، فلما رأوا ذلك بكوا وشكوا
إلى موسى وقالوا: هذه المرة نتوب ولا نعود، فادع الله أن يذهب عنا الضفادع فإنا
نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل، فأخذ عهودهم ومواثيقهم ثم دعا ربه فكشف عنهم الضفادع
بعدما أقام عليهم سبعا من السبت إلى السبت، ثم نقضوا العهد وعادوا لكفرهم، فلما
كانت السنة الخامسة أرسل الله عليهم الدم فسال ماء النيل عليهم دما، فكان القبطي
يراه دما، والاسرائيلي يراه ماء، فإذا شربه الاسرائيلي كان ماء وإذا شربه القبطي
يراه دما، وكان القبطي يقول للإسرائيلي: خذ الماء في فيك وصبه في في، فكان إذا
صبه في فم القبطي تحول دما، وإن فرعون اعتراه العطش حتى أنه ليضطر إلى مضغ الاشجار
الرطبة، فإذا مضغها يصير ماؤها في فيه دما، فمكثوا في ذلك سبعة أيام لا يأكلون
إلا الدم ولا يشربون إلا الدم. قال زيد بن أسلم: الدم الذي سلط عليهم كان الرعاف،
فأتوا موسى فقالوا: ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل،
فلما دفع الله عنهم الدم لم يؤمنوا ولم يخلوا عن بني إسرائيل " ولما وقع عليهم
الرجز " أي العذاب وهو ما نزل بهم من الطوفان وغيره، وقيل: هو الطاعون أصابهم فمات
من القبط سبعون ألف إنسان، وهو العذاب السادس، عن ابن جبير، ومثله ما روي عن أبي
عبد الله عليه السلام أنه أصابهم ثلج أحمر فماتوا فيه وجزعوا. " قالوا "
أي فرعون وقومه: " يا موسى ادع لنا ربك
بما عهد عندك " أي بما تقدم إليك أن تدعوه به، فإنه
يجيبك كما أجابك في آياتك، أو بما عهد إليك أنا لو آمنا لرفع عنا
العذاب، أو بما عهد عندك من النبوة، فالباء للقسم " إلى أجل هم بالغوه "
يعني الاجل الذي غرقهم الله فيه " إذا
هم ينكثون " أي ينقضون العهد " فانتقمنا منهم " أي فجازيناهم
على سوء صنيعهم " في اليم " أي البحر " وكانوا عنها غافلين "
أي عن نزول العذاب بهم، أو المعنى أنا عاقبناهم
بتكذيبهم وتعرضهم لأسباب الغفلة وعملهم عمل الغافل
عنها. " وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون " يعني بني إسرائيل، فإن
القبط كانوا يستضعفونهم، فأورثهم الله بأن
مكنهم وحكم لهم بالتصرف بعد إهلاك فرعون وقومه، فكأنهم
ورثوا منهم " مشارق الارض ومغاربها " التي كانوا فيها، يعني جهات الشرق
والغرب منها، يريد به ملك فرعون من أدناه إلى أقصاه، وقيل: هي أرض الشام ومصر،
وقيل: هي أرض الشام شرقها وغربها، وقيل: أرض
مصر. قال الزجاج: كان من بني إسرائيل داود وسليمان
ملكوا الارض " التي باركنا فيها " بإخراج الزروع والثمار و سائر صنوف النبات
والاشجار والعيون والانهار وضروب المنافع " وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل
" أي صح كلام ربك بإنجاز الوعد بإهلاك عدوهم واستخلافهم في الارض، وقيل: وعد
الجنة بما صبروا على أذى فرعون وقومه " ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه
" أي أهلكنا ما كانوا يبنون من الابنية
والقصور والديار " وما كانوا يعرشون " من الأشجار والاعناب
والثمار، أو يسقفون من القصور والبيوت. " فلما جاءهم الحق من عندنا " أي
ما أتى به من المعجزات والبراهين " أتقولون للحق لما جاءكم " أي إنه
لسحر، فاستأنف إنكارا وقال: " أسحر هذا
ولا يفلح الساحرون " أي لا يظفرون بحجة " لتلفتنا "
أي لتصرفنا " وتكون لكما الكبرياء " أي الملك والعظمة والسلطان "
في الارض " أي في أرض مصر، أو الاعم " بكل ساحر
" إنما فعل ذلك للجهل بأن ما أتى به موسى عليه السلام
من عند الله وليس بسحر، وبعد ذلك علم فعاند، وقيل: علم أنه ليس سحر ولكنه ظن أن
السحر يقاربه مقاربة تشبيه " ويحق الله الحق " أي يظهره ويثبته وينصر
أهله " بكلماته " أي بمواعيده، وقيل:
بكلامه الذي يتبين به معاني الآيات التي آتاها نبيه، وقيل:
بما سبق من حكمه في اللوح المحفوظ بأن ذلك سيكون
" إلا ذرية من قومه " أي أولاد من قوم فرعون، أو من قوم موسى وهم بنو
إسرائيل الذين كانوا بمصر، واختلف من قال بالأول
فقيل: إنهم قوم كانت امهاتهم من بني إسرائيل
وآباؤهم من القبط فاتبعوا امهاتهم وأخوالهم، عن ابن عباس، وقيل: إنهم ناس يسير
من قوم فرعون منهم امرأة فرعون ومؤمن آل فرعون وجاريته وامرأة هي ماشطة امرأة
فرعون، وقيل: إنهم بعض أولاد القبط لم يستجب آباؤهم موسى عليه السلام. واختلف من
قال بالثاني فقيل: هم جماعة من بني إسرائيل أخذهم فرعون بتعلم السحر وجعلهم من أصحابه
فآمنوا بموسى، وقيل: أراد مؤمني بني إسرائيل وكانوا ستمائة ألف، وكان يعقوب دخل
مصر منهم باثنين وسبعين إنسانا فتوالدوا حتى بلغوا ستمائة ألف، وإنما سماهم ذرية
على وجه التصغير لضعفهم، عن ابن عباس في رواية اخرى. وقال مجاهد: أراد بهم أولاد
الذين ارسل إليهم موسى عليه السلام من بني إسرائيل لطول الزمان هلك الآباء وبقي
الابناء " على خوف من فرعون " يعني آمنوا وهم خائفون من معرة فرعون
" وملائهم " أي رؤسائهم " أن
يفتنهم " أي يصرفهم عن الدين بأن يمتحنهم بمحنة لا يمكنهم
الصبر عليها فينصرفون عن الدين " لعال في الارض " أي مستكبر طاغ "
وإنه لمن المسرفين " أي المجاوزين الحد في
العصيان " لا تجعلنا فتنة " أي لا تمكن الظالمين من
ظلمنا بما يحملنا على إظهار الانصراف عن ديننا، أولا تظهرهم علينا فيفتتن بنا الكفار
ويقولوا: لو كانوا على الحق لما ظهرنا عليهم. وروى زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي
جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام أن معناه: لا تسلطهم علينا فتفتنهم بنا. "
أن تبوءا لقومكما " أي اتخذا لمن آمن
بكما بمصر " بيوتا " يسكنونها ويأوون إليها " واجعلوا
بيوتكم " سيأتي تفسيره " زينة " من الحلي والثياب، وقيل: الزينة:
الجمال وصحة البدن وطول القامة وحسن الصورة،
وأموالا يتعظمون بها في الحياة الدنيا " ربنا ليضلوا
" اللام للعاقبة، وقيل: معناه: لئلا يضلوا فحذفت لا " ربنا اطمس "
المراد بالطمس على الاموال تغييرها عن جهتها
إلى جهة لا ينتفع بها. قال عامة أهل التفسير: صارت
جميع أموالهم حجارة حتى السكر والفانيذ " واشدد على قلوبهم " أي ثبتهم
على المقام ببلدهم بعد إهلاك أموالهم فيكون
ذلك أشد عليهم، وقيل: أي أمتهم وأهلكهم بعد سلب
أموالهم، وقيل: إنه عبارة عن الخذلان والطبع " فلا يؤمنوا " يحتمل النصب
والجزم فأما النصب فعلى جواب صيغة الامر
بالفاء، أو بالعطف على " ليضلوا " وما بينهما اعتراض
وأما الجزم فعلى وجه الدعاء عليهم، وقيل: إن معناه: فلا يؤمنون إيمان اختيار أصلا
" قد اجيبت دعوتكما " قال ابن جريح: مكث فرعون بعد هذا الدعاء أربعين
سنة، وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام
" فاستقيما " أي فأثبتا على ما امرتما به من دعاء
الناس إلى الايمان " بغيا وعدوا " أي ليبغوا عليهم ويظلموهم " قال
آمنت " كان ذلك إيمان إلجاء لا يستحق به الثواب
فلم ينفعه " الآن " أي قيل له: الآن آمنت حين لم
ينفع الايمان وقد عصيت بترك الايمان في حال ينفعك ؟ فهلا آمنت قبل ذلك ؟ ! " وكنت
من المفسدين " في الارض، والقائل جبرئيل أو هو الله تعالى " فاليوم
ننجيك ببدنك " قال أكثر المفسرين:
معناه: لما أغرق الله تعالى فرعون وقومه أنكر بعض بني إسرائيل
غرق فرعون وقالوا: هو أعظم شأنا من أن يغرق، فأخرجه الله حتى رأوه، فذلك قوله:
" فاليوم ننجيك " أي نلقيك على نجوة من الارض، وهي المكان المرتفع بجسدك
من غير روح، وذلك أنه طفا عريانا، وقيل:
معناه: نخلصك من البحر وأنت ميت، والبدن: الدرع،
قال ابن عباس: كانت عليه درع من ذهب يعرف بها، فالمعنى: نرفعك فوق الماء بدرعك
المشهورة ليعرفوك بها " لتكون لمن خلفك آية " أي نكالا " مبوأ صدق
" أي مكناهم مكانا محمودا وهو بيت المقدس
والشام، وقال الحسن: يريد به مصر، وذلك أن موسى عبر
ببني إسرائيل البحر ثانيا، ورجع إلى مصر وتبوأ مساكن آل فرعون " فما اختلفوا حتى
جاءهم العلم " أي اليهود ما اختلفوا في تصديق محمد صلى الله عليه وآله حتى جاءهم
العلم وهو القرآن، أو العلم بحقيته، أو ما اختلف بنو إسرائيل إلا بعدما جاءهم الحق
على يد موسى وهارون، فإنهم كانوا مطبقين على الكفر قبل مجيء موسى،
فلما جاءهم آمن به بعضهم، وثبت على الكفر بعضهم
فصاروا مختلفين. " برشيد " أي مرشد " يقدم قومه " أي يمشي بين
يدي قومه يوم القيامة على قدميه حتى يهجم بهم
إلى النار " وبئس الورد المورود " أي بئس الماء الذي
يردونه عطاشا لإحياء نفوسهم النار، وإنما أطلق سبحانه على النار اسم الورد المورود
ليطابق ما يرد عليه أهل الجنة من الانهار والعيون " بئس الرفد المرفود "
أي بئس العطاء المعطى النار واللعنة.
" تسع آيات " اختلف فيها فقيل: هي يد موسى، وعصاه،
ولسانه، والبحر، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وقيل: الطوفان،
والجراد، والقمل والضفادع، والدم، والبحر، والعصا، والطمسة، والحجر، وقيل بدل
الطمسة اليد، وقيل بدل البحر والطمسة والحجر: اليد والسنين ونقص الثمرات، وقال الحسن
مثل ذلك إلا أنه جعل الاخذ بالسنين ونقص الثمرات آية واحدة، وجعل التاسعة تلقف
العصا ما يأفكون، وقيل: إنها تسع آيات في الاحكام " فاسأل بني إسرائيل "
أمر للنبي صلى الله عليه وآله أن يسأل بني
إسرائيل لتكون الحجة عليهم أبلغ، وقيل: إن المعنى:
فاسأل أيها السامع. " مسحورا " أي معطى علم السحر أو ساحرا، فوضع
المفعول موضع الفاعل، وقيل: أي إنك سحرت فأنت
تحمل نفسك على ما تقوله للسحر الذي بك " قال موسى
لقد علمت ما أنزل هؤلاء " أي هذا الآيات " إلا رب السماوات والارض
" الذي خلقهن " بصائر " وروي أن عليا عليه
السلام قال في " علمت ": والله ما علم عدو الله ولكن موسى
هو الذي علم، فقال: لقد علمت " وإني لأظنك " أي لأعلمك " يا فرعون
مثبورا " أي هالكا، وقيل: ملعونا، وقيل: مخبولا لا
عقل لك، وقيل: بعيدا عن الخير " فأراد " أي فرعون
" أن يستفزهم " أي يزعج موسى " ومن معه من الارض " أي من أرض
مصر وفلسطين والاردن بالنفي عنها وقيل:
بأن يقتلهم " وقلنا من بعده " أي من بعد هلاك فرعون " اسكنوا الارض
" أي أرض مصر والشام " فإذا جاء وعد الآخرة
" أي يوم القيامة، أي وعد الكرة الآخرة، وقيل: أراد
نزول عيسى " جئنا بكم لفيفا " أي من في القبور إلى الموقف للحساب والجزاء مختلطين،
التف بعضكم ببعض لا تتعارفون، ولا ينحاز أحد منكم إلى قبيلته، وقيل: " لفيفا
" أي جميعا. " وهل أتاك " هذا ابتداء وإخبار من الله على وجه
التحقيق إذ لم يبلغه، فيقول: هل سمعت بخبر فلان ؟
وقيل: إنه استفهام تقرير بمعنى الخبر أي وقد أتاك
" إذ رأى نارا " قال ابن عباس، كان موسى رجلا غيورا لا يصحب الرفقة لئلا
ترى امرأته. " فلما قضى الاجل "
وفارق مدين خرج ومعه غنم له، وكان أهله على أتان وعلى ظهرها
جوالق له فيها أثاث البيت فأضل الطريق في ليلة مظلمة سوداء، وتفرقت ماشيته، ولم
تنقدح زنده، وامرأته في الطلق، ورأى نارا من بعيد كانت عند الله نورا وعند موسى نارا
" فقال " عند ذلك " لأهله " وهي بنت شعيب كان تزوجها بمدين:
" امكثوا " أي ألزموا مكانكم " بقبس " أي
بشعلة أقتبسها من معظم النار تصطلون بها " أو أجد على النار
هدى " أي هاديا يدلني على الطريق، أو علامة أستدل بها عليه، لان النار لا تخلو
من أهل لها وناس عندها " فلما أتاها " قال ابن عباس: لما توجه نحو النار
فإذا النار في شجرة عناب، فوقف متعجبا من
حسن ضوء تلك النار وشدة خضرة تلك الشجرة، فسمع
النداء والشجرة " يا موسى إني أنا ربك " قال وهب: نودي من الشجرة: يا
موسى، فأجاب سريعا لا يدري من دعاه فقال: إني
أسمع صوتك ولا أرى مكانك، فقال: أنا فوقك ومعك
وأمامك وخلفك وأقرب إليك من نفسك، فعلم أن ذلك لا ينبغي إلا لربه عزوجل وأيقن به،
وإنما علم موسى عليه السلام أن هذا النداء من قبل الله سبحانه لمعجز أظهره
الله تعالى، كما قال في موضع آخر: " إني أنا الله رب العالمين * وأن ألق عصاك "
إلى آخره. وقيل: إنه لما رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها يتوقد فيها نار بيضاء،
وسمع تسبيح الملائكة ورأى نورا عظيما لم تكن الخضرة تطفئ النار ولا النار تحرق
الخضرة تحير وعلم أنه معجز خارق للعادة وأنه لأمر عظيم، فالقيت عليه السكينة، ثم
نودي: " أنا ربك فاخلع نعليك " قد مر تفسيره " إنك بالواد المقدس
" أي المبارك أو المطهر " طوى " هو اسم
الوادي، وقيل: سمي به لأنه قدس مرتين، فكأنه طوى بالبركة مرتين
" وأنا اخترتك " أي اصطفيتك بالرسالة " فاستمع لما يوحى "
إليك من كلامي وأصغ إليه " وأقم الصلوة لذكري "
أي لان تذكرني فيها بالتسبيح والتعظيم، أو لان أذكرك بالمدح
والثناء، وقيل: معناه: وصل لي ولا تصل لغيري، وقيل: أي أقم الصلاة متى ذكرت أن
عليك صلاة، كنت في وقتها أو لم تكن، عن أكثر المفسرين، وهو المروي عن أبي جعفر عليه
السلام " إن الساعة آتية " يعني إن القيامة قائمة لا محالة " أكاد
اخفيها " أي اريد أن اخفيها عن عبادي لئلا تأتيهم
إلا بغتة، وروي عن ابن عباس " أكاد اخفيها من
نفسي " وهي كذلك في قراءة ابي، وروي ذلك عن الصادق عليه السلام، والتقدير:
إذا كدت اخفيها من نفسي فكيف أظهرها لك ؟
وهذا شائع بين العرب، وقال أبو عبيدة: معنى اخفيها:
اظهرها، ودخلت " أكاد " تأكيدا، أي أوشك أن اقيمها " بما تسعى
" أي بما تعمل من خير وشر " فلا يصدنك عنها
من لا يؤمن بها " أي لا يصرفنك عن الصلاة من لا يؤمن
بالساعة، أو لا يمنعنك عن الايمان بالساعة من لا يؤمن بها، وقيل: عن العبادة ودعاء
الناس إليها، وقيل: عن هذه الخصال " واتبع هواه " الهوى: ميل النفس إلى الشيء "
فتردى " أي فتهلك. " وما تلك بيمينك " سأله عما في يده من العصا
" أتوكأ عليها " أي أعتمد عليها إذا مشيت
" وأهش بها على غنمي " أي وأخبط بها ورق الشجر لترعاه
غنمي " ولي فيها مآرب اخرى " أي حاجات اخر، قال ابن عباس: كان يحمل
عليها زاده، ويركزها فيخرج منها الماء، ويضرب
بها الارض فيخرج ما يأكل، وكان يطرد بها السباع،
وإذا ظهر عدو حاربت، وإذا أراد الاستقاء من بئر طالت وصارت شعبتاها كالدلو، وكان
يظهر عليها كالشمعة فيضئ له الليل، وكانت تحرسه وتؤنسه، وإذا طالت شجرة حناها
بمحجنها " فإذا هي حية تسعى " أي تمشي بسرعة، وقيل: صارت حية صفراء لها
عرف كعرف الفرس، وجعلت تتورم حتى صارت
ثعبانا وهي أكبر الحيات، عن ابن عباس، وقيل: إنه ألقاها
فحانت منه نظرة فإذا هي بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون، يمر بالصخرة مثل الخلفة
من الابل فيلقمها، ويطعن أنيابه في أصل الشجرة العظيمة فيجتثها، وعيناه تتوقدان
نارا، وقد عاد المحجن عنقا فيه شعر مثل النيازك، فلما عاين ذلك ولى مدبرا ولم
يعقب ثم ذكر ربه فوقف استحياء منه ثم نودي: " يا موسى " ارجع إلى حيث
كنت، فرجع وهو شديد الخوف " قال خذها "
بيمينك " ولا تخف سنعيدها سيرتها الاولى " أي إلى الحالة
الاولى عصا، وعلى موسى يومئذ مدرعة من صوف قد خلها بخلال، فلما أمره سبحانه بأخذها
أدلى طرف المدرعة على يده فقال: مالك يا موسى ؟ أرأيت لو أذن الله بما تحاذر أكانت
المدرعة تغني عنك شيئا ؟ قال: لا ولكني ضعيف ومن ضعف خلقت، وكشف عن يده
ثم وضعها في فم الحية وإذا يده في الموضع الذي كان يضعها إذا توكأ عليها بين الشعبتين،
عن وهب، قال: وكانت العصا من عوسج، وكان طولها عشرة أذرع على مقدار قامة موسى
" واضمم يدك إلى جناحك " أي إلى ما تحت عضدك أو إلى جنبك، وقيل: أدخلها
في جيبك كني عن الجيب بالجناح " تخرج
بيضاء " لها نور ساطع يضئ بالليل والنهار كضوء الشمس
والقمر وأشد ضوءا. " آية اخرى " قال البيضاوي: أي معجزة ثانية، وهي حال من
ضمير " تخرج " كبيضاء، أو من ضميرها، أو مفعول بإضمار خذ أو دونك "
لنريك من آياتنا الكبرى " متعلق بهذا
المضمر، أو بما دل عليه آية أو القصة، أي دللنا بها أو فعلنا
ذلك لنريك، والكبرى صفة آياتنا، أو مفعول نريك، و " من آياتنا " حال
منها. " رب اشرح لي صدري " قال الطبرسي: أي أوسع لي صدري حتى لا أضجر
ولا أخاف ولا أغتم " ويسر لي أمري " أي
سهل علي أداء ما كلفتني من الرسالة " واحلل عقدة من لساني "
أي أطلق عن لساني العقدة التي فيه حتى يفهموا كلامي، وكان في لسانه رتة لا يفصح
معها بالحروف تشبه التمتمة، وقيل: إن سببها جمرة طرحها في فيه لما أخذ بلحية
فرعون فأراد قتله، فامتحن بإحضار الدرة والجمرة فأراد موسى أخذ الدرة فضرب جبرئيل
يده إلى الجمرة فوضعها في فيه فاحترق لسانه، وقيل: إنه انحل أكثر ما كان بلسانه
إلا بقية منه بدلالة قوله: " ولا يكاد يبين " وقيل: استجاب الله دعاءه
فأحل العقدة عن لسانه، وقوله: " ولا
يكاد يبين " أي لا يأتي ببيان وحجة، وإنما قالوا ذلك تمويها
ليصرفوا الوجوه عنه " واجعل لي وزيرا " يؤازرني على المضي إلى فرعون ويعاضدني
عليه " من أهلي " ليكون أفصح " هارون أخي " فكان أخاه لأبيه وأمه
وكان بمصر " اشدد به أزري " أي قو
به ظهري " وأشركه في أمري " في النبوة ليكون أحرس عن مؤازرتي
" كي نسبحك كثيرا " أي ننزهك عما لا يليق بك " ونذكرك كثيرا "
أي نحمدك ونثني عليك
بما أوليتنا من نعمك " إنك كنت بنا بصيرا " أي بأحوالنا وامورنا عالما
" قد اوتيت سؤلك " قال الصادق عليه
السلام: حدثني أبي، عن جدي، عن أمير المؤمنين عليه السلام
قال: كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو، فإن موسى بن عمران خرج يقتبس لأهله نارا
فكلمه الله تعالى فرجع نبيا، وخرجت ملكة سبأ كافرة فأسلمت مع سليمان، وخرج سحرة
فرعون يطلبون العزة لفرعون فرجعوا مؤمنين. " إذ أوحينا إلى امك " قال البيضاوي:
بالإلهام، أوفي المنام، أو على لسان نبي في وقتها، أو ملك لا على وجه النبوة،
كما أوحى إلى مريم عليه السلام " ما يوحى " مالا يعلم إلا بالوحي، أو
مما ينبغي أن يوحى ولا يخل به لفرط
الاهتمام به " أن اقذفيه " بأن اقذفيه، أو أي اقذفيه،
لان الوحي بمعنى القول، والقذف يقال للإلقاء وللوضع " فليلقه اليم بالساحل "
لما كان إلقاء البحر إياه إلى الساحل أمرا واجب الحصول لتعلق. الارادات به جعل
البحر كأنه ذو تميز مطيع أمره بذلك، وأخرج الجواب مخرج الامر، والاولى أن يجعل الضمائر
كلها لموسى. " ولتصنع على عيني " قال الطبرسي: أي لتربى ولتقضي بمرأى
مني أن يجري أمرك على ما اريد بك من الرفاهية في غذائك، وقيل: لتربى ويطلب لك الرضاع
على علم مني ومعرفة لتصل إلى امك، وقيل: لتربى بحياطتي وحفظي، كما يقال في الدعاء
بالحفظ: عين الله عليك " إذ تمشي " ظرف لألقيت أو لتصنع، وذلك أن ام
موسى اتخذت تابوتا وجعلت فيه قطنا ووضعته
فيه وألقته في النيل، فكان يشرع من النيل نهر كبير
في باغ فرعون، فبينا هو جالس على رأس البركة مع امرأته آسية إذا التابوت يجئ على
رأس الماء، فأمر بإخراجه فلما فتح رأسه إذا صبي من أحسن الناس وجها، فأحبه فرعون
بحيث لم يتمالك، وجعل موسى يبكي ويطلب اللبن، فأمر فرعون حتى أتته النساء اللواتي
كن حول داره، فلم يأخذ موسى من لبن واحدة منهن، وكانت اخت موسى واقفة هناك
إذ أمرتها امها أن تتبع التابوت، فقالت: إني آتي بامرأة ترضعه، وذلك قوله تعالى:
" هل أدلكم على من يكفله " فقالوا: نعم، فجاءت بالأم، فقبل ثديها فذلك
قوله تعالى: " فرجعناك إلى امك كي تقر
عينها " برؤيتك " ولا تحزن " من خوف قتلك أو غرقك، وذلك
أنها حملته إلى بيتها آمنة مطمئنة، قد جعل لها فرعون أجرة على الرضاع " وقتلت نفسا
" أي القبطي الكافر الذي استغاثه عليه الاسرائيلي " فنجيناك من الغم
" أي من غم القتل وكربه، لأنه خاف أن يقتصوا
منه بالقبطي " وفتناك فتونا " أي اختبرناك اختبارا
حتى خلصت للاصطفاء بالرسالة، أو خلصناك من محنة بعد محنة " فلبثت سنين في أهل
مدين " أي حين كنت راعيا لشعيب " على قدر " أي في الوقت الذي قدر لإرسالك
نبيا " واصطنعتك لنفسي " أي لوحيي
ورسالتي، أي اخترتك واتخذتك صنيعتي، وأخلصتك لتنصرف على
إرادتي ومحبتي " بآياتي " أي بحججي ودلالاتي، وقيل: بالآيات التسع
" ولا تنيا في ذكري " أي ولا تضعفا ولا تفترا في
رسالتي " فقولا له قولا لينا " أي ارفقا به في الدعاء
والقول ولا تغلظا له، أو كنياه، وكنيته أبو الوليد، وقيل: أبو العباس، وقيل أبو
مرة. وقيل: القول اللين هو " هل لك إلى أن تزكى * وأهديك إلى ربك فتخشى
" وقيل: هو أن موسى أتاه فقال له: تسلم وتؤمن
برب العالمين على أن لك شبابك ولا تهرم، وتكون ملكا
لا ينزع الملك منك حتى تموت، ولا تنزع منك لذة الطعام والشراب والجماع حتى تموت،
فإذا مت دخلت الجنة، فأعجبه ذلك، وكان لا يقطع أمرا دون هامان، وكان غائبا، فلما
قدم هامان أخبره بالذي دعاه إليه وأنه يريد أن يقبل منه، فقال هامان: قد كنت أرى
أن لك عقلا ورأيا، بينا أنت رب تريد أن تكون مربوبا ؟ ! وبينا أنت تعبد تريد أن تعبد
؟ ! فقلبه عن رأيه " لعله يتذكر أو يخشى " أي ادعواه على الرجاء والطمع
لا على اليأس من فلاحه " أن يفرط علينا
" أن يتقدم فينا بعذاب ويعجل علينا ويبادر إلى قتلنا
قبل أن يتأمل حجتنا " أو أن يطغى " أي يتجاوز الحد في الاساءة بنا
" إنني معكما " بالنصرة والحفظ "
أسمع " ما يسأله منكما فالهمكما جوابه " وأرى " ما يقصدكما
به فأدفعه عنكما. " فأرسل معنا بني إسرائيل " أي أطلقهم وأعتقهم من الاستعباد
" ولا تعذبهم " بالاستعمال في الاعمال الشاقة "
والسلام على من اتبع الهدى " لم يرد به التحية، بل معناه:
من اتبع الهدى سلم من عذاب الله " فمن ربكما " أي من أي جنس من الاجناس
هو ؟ فبين موسى عليه السلام أنه تعالى ليس
له جنس، وإنما يعرف بأفعاله " أعطى كل شئ خلقه "
أي صورته التي قدرها له، ثم هداه إلى مطعمه ومشربه ومنكحه وغير ذلك، أو مثل خلقه. أي
زوجه من جنسه ثم هداه لنكاحه، أو أعطى خلقه كل شئ من النعم في الدنيا مما يأكلون ويشربون
وينتفعون به، ثم هداهم إلى طرق معايشهم وإلى امور دينهم ليتوصلوا بها إلى نعم
الآخرة " فما بال القرون الاولى " أي فما حال الامم الماضية، فإنها لم
تقر بالله وما تدعو إليه بل عبدت الاوثان ؟
وقيل: لما دعاه موسى إلى البعث قال: فما بالهم
لم يبعثوا ؟ قال موسى عليه السلام: " علمها عند ربي " أي أعمالهم محفوظة
عند الله يجازيهم بها " في كتاب
" يعني اللوح، أو ما يكتبه الملائكة " لا يضل ربي " أي لا
يذهب عليه شئ " ولا ينسى " ما كان من أمرهم بل يجازيهم بأعمالهم "
مهدا " أي فرشا " وسلك لكم فيها " أي
أدخل لأجلكم في الارض طرقا تسلكونها " أزواجا " أي أصنافا
" ولقد أريناه " أي فرعون " آياتنا كلها " أي الآيات التسع
" فكذب " بجميعها " وأبى " أن يؤمن "
مكانا سوى " أي تستوي مسافته على الفريقين. " قال " موسى: " موعدكم
يوم الزينة " وكان يوم عيد يتزينون فيه ويزينون فيه الاسواق " وأن يحشر الناس
ضحى " أي ضحى ذلك اليوم " فتولى فرعون " أي انصرف على ذلك الوعد
" فجمع كيده " وذلك جمعه السحرة " ثم أتى
" أي حضر الموعد " قال لهم " أي للسحرة موسى فوعظهم فقال:
" ويلكم " هي كلمة وعيد وتهديد، أي ألزمكم الله الويل والعذاب " لا
تفتروا على الله كذبا " بأن تنسبوا
معجزتي إلى السحر، وسحركم إلى أنه حق، وفرعون إلى أنه معبود
" فيسحتكم " أي يستأصلكم " فتنازعوا أمرهم بينهم " أي تشاور
القوم وتفاوضوا في حديث موسى وفرعون وجعل كل منهم
ينازع الكلام صاحبه، وقيل: تشاورت السحرة فيما هيؤوه
من الحبال والعصي وفيمن يبتدئ بالإلقاء " وأسروا النجوى " أي أخفوا
كلامهم سرا من فرعون، فقالوا: إن غلبنا موسى
اتبعناه، وقيل: إن موسى لما قال لهم: " ويلكم لا
تفتروا على الله كذبا " قال بعضهم لبعض: ما هذا بقول ساحر، وأسر بعضهم إلى
بعض يتناجون، وقيل:
تناجوا مع فرعون وأسروا عن موسى وهارون. قولهم: " إن هذان لساحران "
قاله فرعون وجنوده للسحرة " ويذهبا
بطريقتكم المثلى " هي تأنيث الامثل، وهو الافضل، والمعنى:
يريدان أن يصرفا وجوه الناس إليهما، عن علي عليه السلام. وقيل: إن طريقتهم المثلى
بنو إسرائيل كانوا أكثر القوم عددا وأموالا، وقيل: يذهبا بطريقتكم التي أنتم
عليها في السيرة والدين " فأجمعوا كيدكم " أي لا تدعوا من كيدكم شيئا
إلا جئتم به " ثم ائتوا صفا " أي
مصطفين مجتمعين " وقد أفلح اليوم من استعلى " أي قد سعد اليوم
من غلب وعلا، قال بعضهم: إن هذا من قول فرعون للسحرة، وقال آخرون: بل هو من قول
بعض السحرة لبعض " يخيل إليه " أي إلى موسى أو إلى فرعون " أنها
تسعى " أي تسير وتعدو مثل سير الحيات، وإنما قال:
" يخيل إليه " لأنها لم تكن تسعى حقيقة وإنما تحركت
لأنهم جعلوا داخلها الزيبق، فلما حميت الشمس طلب الزيبق الصعود فحركت الشمس ذلك
فظن أنها تسعى. " فأوجس في نفسه " أي وجد في نفسه ما يجده الخائف، يقال:
أوجس القلب فزعا أي أضمر، والسبب في ذلك أنه
خاف أن يلتبس على الناس أمرهم فيتوهموا أنهم فعلوا
مثل ما فعله، ويظنوا المساواة فيشكوا، وقيل: إنه خوف الطباع إذا رأى الاسنان أمرا
فظيعا فإنه يحذره ويخافه في أول وهلة، وقيل: إنه خاف أن يتفرق الناس قبل إلقائه
العصا وقبل أن يعلموا بطلان السحر فيبقوا في شبهة، وقيل: إنه خاف لأنه لم يدر
أن العصا إذا انقلبت حية هل يظهر المزية ؟ لأنه لم يعلم أنها تتلقفها، وكان ذلك موضع
خوف، لأنها لو انقلبت حية ولم تتلقف ما يأفكون ربما ادعوا المساواة، لاسيما والاهواء
معهم والدولة لهم، فلما تلقفت زالت الشبهة " إنك أنت الاعلى " عليهم بالظفر
والغلبة " وألق ما في يمينك " قالوا: لما ألقى عصاه صارت حية وطافت حول الصفوف
حتى رآها الناس كلهم، ثم قصدت الحبال والعصي فابتلعتها كلها على كثرتها، ثم أخذها
موسى فعادت عصا كما كانت " حيث أتى " أي حيث كان وأين أقبل " إنه
لكبيركم " اي استادكم، وقد يعجز التلميذ عما
يفعله الاستاد، أو رئيسكم ما عجزتم عن معارضته ولكنكم تركتم معارضته
احتشاما واحتراما، وإنما قال ذلك لإيهام العوام.
" في جذوع النخل " أي عليها " أينا أشد عذابا " أنا على
إيمانكم أم رب موسى على ترككم الايمان به " لن نؤثرك
" أي لن نختارك على ما جاءنا من البينات، أي المعجزات
والادلة " والذي فطرنا " أي وعلى الذي فطرنا، أو الواو للقسم "
فاقض ما أنت قاض " أي فاصنع ما أنت صانعه،
أو فاحكم ما أنت حاكم فإنا لا نرجع عن الايمان " إنما
تقضي هذه الحياة الدنيا " أي إنما تصنع بسلطانك وتحكم في هذه الحياة الدنيا دون
الآخرة فلا سلطان لك فيها، وقيل: معناه: إنما تفنى وتذهب الحياة الدنيا " خطايانا
" من الشرك والمعاصي " وما أكرهتنا عليه من السحر " إنما قالوا ذلك
لان الملوك كانوا يجبرونهم على تعليم السحر
كيلا يخرج من أيديهم، وقيل: إن السحرة قالوا لفرعون:
أرنا موسى إذا نام، فأراهم إياه، فإذا هو نائم وعصاه تحرسه، فقالوا: ليس هذا
بسحر إن الساحر إذا نام بطل سحره، فأبى عليهم إلا أن يعملوا، فذلك إكراههم " والله
خير " لنا منك وثوابه أبقى لنا من ثوابك، أو خير ثوابا للمؤمنين، وأبقى عقابا للعاصين
منك، وههنا انتهى الاخبار عن السحرة. ثم قال تعالى: " إنه من يأت ربه مجرما "
وقيل: إنه من قول السحرة. " فاضرب لهم " قال البيضاوي: فاجعل لهم، من
قولهم: ضرب له في ماله سهما، أو فاتخذ، من ضرب
اللبن: إذا عمله " يبسا " أي يابسا مصدر وصف به
" لا تخاف دركا " أي أمنا من أن يدرككم العدو " فأتبعهم فرعون
بجنوده " أي فأتبعهم نفسه ومعه جنوده، فحذف المفعول
الثاني، وقيل: " فأتبعهم " بمعنى فاتبعهم، ويؤيده
القراءة، والباء للتعدية، وقيل: الباء مزيدة " فغشيهم " الضمير لجنوده
أوله ولهم وفيه مبالغة ووجازة أي غشيهم ما
سمعت قصته، ولا يعرف كنهه إلا الله " وأضل فرعون
قومه وما هدى " أي أضلهم في الدين وما هداهم وهو تهكم به في قوله: " وما أهديكم
إلا سبيل الرشاد " أو أضلهم في البحر وما نجا.
" بآياتنا " بالآيات التسع
" وسلطان مبين " وحجة واضحة، ويجوز أن يراد به العصا، وإفرادها
لأنها أولى المعجزات " قوما عالين " أي متكبرين " وقومهما "
يعني بني إسرائيل " لنا عابدون "
خادمون منقادون كالعباد. " ألا يتقون " استيناف أتبعه إرساله
للإنذار تعجيبا له من إفراطهم في الظلم واجترائهم عليه " قال رب إني أخاف
" إلى قوله: " إلى هارون " رتب
استدعاء ضم أخيه إليه و اشتراكه له في الامر على الامور
الثلاثة: خوف التكذيب، وضيق القلب انفعالا عنه، وازدياد الحبسة في اللسان بانقباض
الروح إلى باطن القلب عند ضيقه بحيث لا ينطلق، فإنها إذا اجتمعت مست الحاجة إلى
معين يقوي قلبه وينوب منابه متى تعتريه حبسة حتى لا تختل دعوته، وليس ذلك تعللا منه
وتوقفا في تلقي الامر بل طلب لما يكون معونة على امتثاله وتمهيد عذره " ولهم علي
ذنب " أي تبعة ذنب، والمراد قتل القبطي، وإنما سمي ذنبا على زعمهم " فأخاف
أن يقتلون " به قبل أداء الرسالة،
وهو أيضا ليس تعللا وإنما هو استدفاع للبلية المتوقعة.
وقوله: " كلا فاذهبا بآياتنا " إجابة له إلى الطلبتين بوعده للدفع
اللازم ردعه عن الخوف، وضم أخيه إليه في
الارسال " إنا معكم " يعني موسى وهارون وفرعون " مستمعون
" سامعون لما يجري بينكما وبينه فاظهر كما عليه " إنا رسول رب العالمين
" أفرد الرسول لأنه مصدر وصف به، أو
لاتحادهما للأخوة، أو لوحدة المرسل والمرسل به، أو لأنه
أراد أن كل واحد منا " أن أرسل معنا بني إسرائيل " أي خلهم يذهبوا معنا
إلى الشام " قال " أي فرعون لموسى
بعدما أتياه فقالا له ذلك: " ألم نربك فينا " أي في منازلنا
" وليدا " طفلا سمي به لقربه من الولادة " ولبثت فينا من عمرك سنين
" قيل: لبث فيهم ثلاثين سنة، ثم خرج إلى مدين
عشر سنين، ثم عاد إليهم يدعوهم إلى الله ثلاثين،
ثم بقي بعد الغرق خمسين.
وقال الطبرسي: أي أقمت سنين كثيرة
عندنا، وهي ثماني عشرة سنة، عن ابن عباس، وقيل:
ثلاثين سنة، وقيل: أربعين سنة " وفعلت فعلتك التي
فعلت " يعني قتل القبطي " وأنت من الكافرين "
لنعمتنا وحق تربيتنا، وقيل: معناه: وأنت من الكافرين بإلهك إذ كنت
معنا على ديننا الذي تعيبه وتقول: إنه كفر " قال " موسى: " فعلتها
إذا وأنا من الضالين " أي من الجاهلين لم أعلم
أنها تبلغ القتل، وقيل: من الناسين، وقيل: من الضالين
عن طريق الصواب لأني ما تعمدته وإنما وقع مني خطأ، وقيل: من الضالين عن النبوة،
أي لم يوح إلي تحريم قتله " حكما " أي نبوة، وقيل: هو العلم بما تدعو
إليه الحكمة من التوراة والعلم بالحلال
والحرام والاحكام " وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني
إسرائيل " يقال: عبده وأعبده: إذا اتخذه عبدا، وفيه أقوال: أحدها: أن فيه اعترافا
بأن تربيته له كانت نعمة منه على موسى وإنكارا للنعمة في ترك استعباده ويكون
ألف التوبيخ مضمرا فيه، فكأنه قال: أتقول: وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل
ولم تعبدني ؟ ! وثانيها: أنه إنكار للمنة أصلا، ومعناه: أتمن بأن ربيتني مع استعبادك
قومي ؟ هذه ليست بنعمة، يريد أن اتخاذك بني إسرائيل الذين هم قومي عبدا أحبط
نعمتك التي تمن بها علي. وثالثها: أن معناه إنك لو كنت لا تستعبد بني إسرائيل ولا
تقتل أبناءهم لكانت امي مستغنية عن قذفي في اليم، فكأنك تمتن علي بما كان بلاؤك سببا
له. ورابعها: أن فيه بيان أنه ليس لفرعون عليه نعمة، لان الذي تولى تربيته امه وغيرها
من بني إسرائيل بأمر فرعون لما استعبدهم، فمعناه أنك تمن علي بأن استعبدت بني
إسرائيل حتى ربوني وحفظوني. " قالوا أرجه وأخاه " قال البيضاوي: أي أخر أمرهما،
وقيل: احبسهما " وابعث في المدائن حاشرين " شرطا يحشرون السحرة من ساعات يوم
معين وهو وقت الضحى من يوم الزينة " لميقات يوم معلوم " لما وقت به من
ساعات يوم معين " وقيل للناس هل أنتم
مجتمعون * لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين " لعلنا
نتبعهم في دينهم، والترجي لاعتبار الغلبة المقتضية للاتباع، ومقصودهم أن لا يتبعوا
موسى لا أن يتبعوا السحرة " وقالوا بعزة
فرعون " أقسموا بعزته على أن الغلبة لهم لفرط اعتقادهم في
أنفسهم وإتيانهم بأقصى ما يكون أن يؤتى به من السحر " ما يأفكون " ما
يقلبونه عن وجهه بتمويههم وتزويرهم فيخيلون حبالهم
وعصيهم أنها حيات تسعى، أو إفكهم تسمية للمأفوك
به مبالغة " إنكم متبعون " يتبعكم فرعون وجنوده، وهو علة الامر بالأسراء
أي أسر بهم حتى إذا اتبعكم مصبحين كان لكم
تقدم عليهم بحيث لا يدركونكم قبل وصولكم إلى البحر
" فأرسل فرعون " حين اخبر بسراهم " في المدائن حاشرين "
العساكر ليتبعونهم " إن هؤلاء لشرذمة قليلون " على
إرادة القول، وإنما استقلهم وكانوا ستمائة وسبعين ألفا
بالإضافة إلى جنوده، إذ روي أنه خرج فكانت مقدمته سبعمائة ألف، والشرذمة: الطائفة
القليلة، وقليلون باعتبار أنهم أسباط، كل سبط منهم قليل " لغائظون " لفاعلون
ما يغيظنا " وإنا لجميع حاذرون " وإنا لجمع من عادتنا الحذر، وقيل:
الحاذر: المؤدي للسلاح " ومقام كريم
" يعني المنازل الحسنة والمجالس السنية " كذلك " مثل ذلك
الاخراج أخرجنا، فهو مصدر، أو مثل ذلك المقام الذي كان لهم، على أنه صفة مقام، أو
الامر كذلك فيكون خبر المحذوف " فلما تراء الجمعان " أي تقاربا بحيث يرى
كل منهما الآخر " إنا لمدركون "
لملحقون " قال كلا " لن يدركوكم فإن الله وعدكم الخلاص منهم
" إن معي ربي " بالحفظ والنصرة " سيهدين " طريق النجاة منهم
" بعصاك البحر " القلزم أو النيل " فانفلق "
أي فضرب فانفلق وصار اثني عشر فرقا بينها مسالك " كالطود
العظيم " كالجبل المنيف الثابت في مقره " وأزلفنا " وقربنا "
ثم الآخرين " فرعون وقومه حتى دخلوا على أثرهم
مداخلهم. " إذ قال موسى " قال الطبرسي: أي اذكر
قصة موسى " إذ قال لأهله " وهي بنت شعيب: " إني آنست " أي
أبصرت نارا " بشهاب قبس " أي بشعلة نار،
والشهاب: نور كالعمود من النار، وكل نور يمتد مثل العمود يسمى
شهابا، وإنما قال لامرأته: " آتيكم " على لفظ خطاب
الجمع لأنه أقامها مقام الجماعة في الانس بها في الأمكنة الموحشة
" لعلكم تصطلون " أي لكي تستدفئوا بها، وذلك لانهم كانوا قد أصابهم
البرد وكانوا شاتين " فلما جاءهم "
أي جاء موسى إلى النار يعني التي ظنها نارا وهي نور " أن
بورك من في النار ومن حولها " قال وهب: لما رأى موسى النار وقف قريبا منها
فرآها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الخضرة،
لا تزداد النار إلا اشتغالا، ولا تزداد الشجرة
إلا خضرة وحسنا، فلم تكن النار بحرارتها تحرق الشجرة، ولا الشجرة برطوبتها تطفئ
النار، فعجب منها وأهوى إليها بضغث في يده ليقتبس منها، فمالت إليه فخافها، فتأخر
عنها، لم تزل تطمعه ويطمع فيها إلى أن نودي، والمراد به نداء الوحي " أن بورك من
في النار ومن حولها " أي بورك فيمن في النار وهم الملائكة، وفيمن حولها يعني موسى
عليه السلام، وذلك أن النور الذي رأى موسى كان فيه ملائكة لهم زجل بالتقديس
والتسبيح، ومن حولها هو موسى، لأنه كان بالقرب منها ولم يكن فيها، فكأنه قال:
بارك الله على من في النار وعليك يا موسى، ومخرجه الدعاء والمراد الخبر، وقيل: من
في النار سلطانه وقدرته وبرهانه فالبركة ترجع إلى اسم الله تعالى، وتأويله: تبارك
من نور هذا النور ومن حولها، يعني موسى والملائكة، وقيل: أي بورك من في طلب النار
وهو موسى عليه السلام ومن حولها الملائكة " وسبحان الله رب العالمين "
أي تنزيها له عما لا يليق بصفاته من أن
يكون جسما يحتاج إلى جهة، أو عرضا يحتاج إلى محل،
أو يكون ممن يتكلم بآلة " إن الله " أي إن الذي يكلمك هو الله "
العزيز " أي القادر الذي لا يغالب " الحكيم
" في أفعاله، المحكم لتدابيره. " كأنها جان " الجان الحية
التي ليست بعظيمة، وإنما شبهها بالجان في خفة حركتها واهتزارها مع أنها ثعبان عظيم،
وقيل: الحالتان مختلفتان فصارت جانا في أول ما بعثه، وثعبانا حين لقي بها فرعون
" إلا من ظلم " الاستثناء منقطع " في تسع آيات " أي مع تسع
آيات اخر أنت مرسل بها " إلى فرعون وقومه "
وقيل: أي من تسع آيات ، "
فاسقين " أي خارجين عن طاعة الله إلى أقبح وجوه الكفر " مبصرة " أي
واضحة بينة " واستيقنتها أنفسهم "
أي عرفوها وعلموها يقينا بقلوبهم " ظلما " على بني إسرائيل،
أو على أنفسهم " وعلوا " أي طلبا للعلو والرفعة، وتكبرا عن أن يؤمنوا
بما جاء به موسى. " إلا سحر مفترى
" أي مختلق لم يبن على أصل صحيح " وما سمعنا بهذا في
آبائنا الاولين " إنما قالوا ذلك مع اشتهار قصة نوح وهود وصالح وغيرهم ممن
دعوا إلى توحيد الله إما للفترة والزمان
الطويل أو لان آباءهم ما صدقوا بشئ من ذلك " ربي أعلم
" أي ربي يعلم أني جئت بهذه الآيات الدالة على الهدى من عنده فهو شاهد لي على ذلك
إن كذبتموني ويعلم أن العاقبة الحميدة لنا ولأهل الحق " فأوقد لي يا هامان
" أي فأجج النار على الطين واتخذ الآجر،
وقيل: إنه أول من اتخذ الآجر وبنى به " فاجعل لي صرحا
" أي قصرا وبناءا عاليا " لعلي أطلع إلى إله موسى " أي أصعد إليه
وأشرف عليه، وأقف على حاله، وهذا تلبيس منه وإيهام
على العوام أن الذي يدعو إليه موسى يجري مجراه
في الحاجة إلى المكان والجهة " وإني لأظنه من الكاذبين " في ادعائه إلها
غيري وأنه رسول " إلينا لا يرجعون
" أي أنكروا البعث " في اليم " أي النيل أو بحر من وراء
مصر يقال له إساف " وجعلناهم أئمة " أي حكمنا بأنهم كذلك "
وأتبعناهم " أي أردفناهم لعنة بعد لعنة، وهي البعد عن
الرحمة والخيرات، أو ألزمناهم اللعنة بأن أمرنا
المؤمنين بلعنهم " من المقبوحين " أي من المهلكين، أو من المشوهين في
الخلقة بسواد الوجوه وزرقة الاعين. "
قالوا سحران " قال البيضاوي: يعنون موسى وهارون، أو
موسى ومحمد صلى الله عليه وآله بتقدير مضاف، أو جعلهما سحرين مبالغة " تظاهرا
" تعاونا بإظهار تلك الخوارق أو بتوافق
الكتابين. " وفرعون ذو الاوتاد " قال الطبرسي: فيه أقوال: أحدها: أنه كانت
له ملاعب من أوتاد يلعب له عليها. والثاني: أنه كان يعذب الناس بالأوتاد. والثالث:
أن معناه ذو البنيان، والبنيان: أوتاد. الرابع: أن المعنى ذو الجنود والجموع
الكثيرة، بمعنى أنهم يشدون ملكه ويقوون أمره كما يقوي الوتد الشيء، والعرب تقول:
هو في عز ثابت الاوتاد، والاصل فيه أن بيوتهم إنما تثبت بالأوتاد. الخامس: أنه
إنما سمي ذا الاوتاد لكثرة جيوشه السائرة في الارض، وكثرة أوتاد خيامهم، فعبر بكثرة
الاوتاد عن كثرة الاجناد. " ابن لي صرحا " أي قصرا مشيدا بالآجر، وقيل: مجلسا
عاليا " لعلي أبلغ الاسباب أسباب السماوات " أي لعلي أبلغ الطرق من سماء
إلى سماء، وقيل: أبلغ أبواب طرق السماوات،
وقيل: منازل السماوات، وقيل: أتسبب وأتوصل به إلى
مرادي وإلى علم ما غاب عني، ثم بين مراده فقال: " فأطلع إلى إله موسى " فأنظر
إليه فأراه، أراد به التلبيس على الضعفة مع علمه باستحالة ذلك، وقيل: أراد فأصل
إلى إله موسى، فغلبه الجهل واعتقد أن الله سبحانه في السماء، وأنه يقدر على بلوغ
السماء " وكذلك " أي ومثل ما زين لهؤلاء الكفار سوء أعمالهم " زين
لفرعون سوء عمله " أي قبيح عمله، زينه له
أصحابه أو الشيطان " إلا في تباب " أي هلاك وخسار. " إذا هم منها
يضحكون " استهزاء واستخفافا " وما نريهم من آية " المراد بذلك ما ترادف
عليهم من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس، وكان كل آية من تلك الآيات
أكبر من التي قبلها وهي العذاب المذكور في قوله: " وأخذناهم بالعذاب " فكانت
عذابا لهم ومعجزات لموسى " وقالوا يا أيها الساحر " يعنون بذلك: يا أيها العالم،
وكان الساحر عندهم عظيما يعظمونه ولم يكن صفة ذم، وقيل: إنما قالوا استهزاء به،
وقيل: معناه: يا أيها الذي غلبنا بسحره، يقال: ساحرته فسحرته أي غلبته بالسحر
" إنا لمهتدون " أي راجعون إلى ما
تدعونا إليه متى كشف عنا العذاب " تجري من تحتي " أي
من تحت أمري، وقيل: إنها كانت تجري تحت قصره وهو مشرف عليها " أفلا تبصرون
" هذا الملك العظيم وقوتي وضعف موسى "
مهين " أي ضعيف حقير يعني به موسى، قال سيبويه والخليل:
عطف أنا بأم على قوله: " أفلا تبصرون " لان معنى أم أنا خير أم تبصرون، لأنهم
إذا قالوا: أنت خير منه فقد صاروا بصراء عنده " ولا يكاد يبين " أي ولا يكاد
يفصح بكلامه وحججه للعقدة التي في لسانه. وقال الحسن: كانت العقدة زالت عن لسانه
حين أرسله الله كما قال: " واحلل عقدة " وقال تعالى: " قد اوتيت
سؤلك " وإنما عيره بما كان في لسانه قبل، وقيل: كان
في لسانه لثغة فرفعه الله تعالى وبقي فيه ثقل
" فلو لا القي عليه أسورة من ذهب " كانوا إذا سودوا رجلا سوروه بسوار من
ذهب، وطوقوه بطوق من ذهب " مقترنين
" أي متتابعين يعينونه على أمره الذي بعث له، ويشهدون له
بصدقه، وقيل: متعاضدين متناصرين " فاستخف قومه " أي استخف عقولهم
فأطاعوه فيما دعاهم إليه لأنه احتج عليهم بما ليس
بدليل، وهو قوله: " أليس لي ملك مصر " وأمثاله "
فلما آسفونا " أي أغضبونا، وغضب الله على العصاة إرادة عقابهم، وقيل: أي
آسفوا رسلنا انتقمنا لأوليائنا منهم "
فجعلناهم سلفا " أي متقدمين إلى النار " ومثلا " أي عبرة
وموعظة " للآخرين " أي لمن جاء بعدهم يتعظون بهم. " ولقد فتنا
" أي اختبرنا وشددنا عليهم التكليف "
رسول كريم " أي كريم الافعال والاخلاق، أو عند الله،
أو شريف في قومه " أن أدوا إلي عباد الله " أي أطلقوا بني إسرائيل "
وأن لا تعلوا " أي لا تتجبروا " أن ترجمون " أي من أن ترموني
بالحجارة، وقيل: أراد به الشتم كقولهم: ساحر كذاب
" وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون " أي إن لم تصدقوني فاتركوني
لامعي ولا علي، وقيل: معناه: فاعتزلوا أذاي " فأسر " أي فقال الله مجيبا له:
أسر " إنكم متبعون " أي سيتبعكم فرعون بجنوده " رهوا " أي
ساكنا على ما هو به إذا قطعته وعبرته ليغرق فرعون، وقيل:
" رهوا " أي منفتحا منكشفا حتى يطمع فرعون في دخوله،
وقيل أي كما هو طريقا يابسا " مغرقون " سيغرقهم الله " ونعمة
" أي تنعم وسعة في العيش " كانوا فيها فاكهين
" أي بها ناعمين متمتعين " كذلك " قال الطبرسي: أي
كذلك أفعل بمن عصاني " وأورثناها قوما آخرين " أي بني إسرائيل "
فما بكت عليهم السماء والارض " أي لم يبك عليهم
أهل السماء والارض، أو المراد به المبالغة في وصف
القوم بصغر القدر، فإن العرب إذا أخبرت عن عظيم المصاب بالهالك قالت: بكاه السماء
والارض، أو كناية عن أنه لم يكن لهم في الارض عمل صالح يرفع منها إلى السماء.
وقد روي عن ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية فقيل: وهل يبكيان على أحد ؟ قال: نعم
مصلاه في الارض، ومصعد عمله في السماء.
وروى زرارة بن أعين عن أبي عبد الله عليه
السلام قال: بكت السماء على يحيى بن زكريا وعلى
الحسين بن علي عليهما السلام أربعين صباحا ولم تبك إلا عليهما. قلت: فما بكاؤها
؟ قال: كانت تطلع حمراء وتغيب حمراء. " وما كانوا منظرين " أي عوجلوا بالعقوبة
ولم يمهلوا من العذاب. " المهين " قال البيضاوي: من استعباد فرعون وقتله
أبناءهم " من فرعون " بدل من العذاب على حذف المضاف، أو جعله عذابا لإفراطه في
التعذيب، أو حال من المهين، بمعنى واقعا من جهته " إنه كان عاليا "
متكبرا " من المسرفين " في العتو والشرارة
" ولقد اخترناهم " أي بني إسرائيل " على علم " عالمين بأنهم
أحقاء بذلك، أو مع علم منا بأنهم يزيغون في بعض الاحوال " على العالمين
" لكثرة الانبياء فيهم، أو على عالمي
زمانهم " ما فيه بلاء مبين " نعمة جلية واختبار ظاهر.
" فتولى بركنه " أي فأعرض عن الايمان به كقوله: " ونأى بجانبه
" أو فتولى بما كان يتقوى به من جنوده " وهو
مليم " آت بما يلام عليه من الكفر والعناد، وهو حال
عن الضمير في أخذناه. " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم " قال الطبرسي: أي فلما
مالوا عن الحق والاستقامة خلاهم وسوء اختيارهم، ومنعهم الالطاف التي بها يهدى قلوب
المؤمنين، وقيل: أزاغ الله قلوبهم عما يحبون إلى ما يكرهون. " وبيلا "
أي ثقيلا. " هل لك إلى أن تزكى
" قال البيضاوي: أي هل لك ميل إلى أن تتطهر من الكفر
والطغيان ؟ " وأهديك إلى ربك " وارشدك إلى معرفته " فتخشى "
بأداء الواجبات وترك المحرمات " ثم أدبر "
عن الطاعة " يسعى " ساعيا في إبطال أمره، أو أدبر بعدما رأى
الثعبان مرعوبا مسرعا في مشية " فحشر " فجمع السحرة أو جنوده "
فنادى " في المجمع بنفسه أو بمناد.
المصدر : بحار الأنوار
المؤلف : العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي
الجزء والصفحة : جزء 13 / صفحة [75]
تاريخ النشر : 2024-08-14