أحاديث وروايات المعصومين الاربعة عشر/النبوة/قصص الأنبياء وما يتعلق بهم/قصص الانبياء في كتب التفسير/تفسير مجمع البيان
قال الطبرسي رحمه الله في قوله تعالى:
" يا مريم إن الله اصطفاك " أي اختارك وألطف لك
حتى تفرغت لعبادته واتباع مرضاته، وقيل: معناه: اصطفاك لولادة المسيح وطهرك بالإيمان
عن الكفر، وبالطاعة عن المعصية، أو طهرك عن الادناس والاقذار التي تعرض للنساء
مثل الحيض والنفاس حتى صرت صالحة لخدمة المسجد، أو طهرك عن الاخلاق الذميمة والطبائع
الرديئة " واصطفاك على نساء العالمين " أي على نساء عالمي زمانك، لان فاطمة
عليها السلام سيدة نساء العالمين. وقال أبو جعفر عليه السلام: معنى الآية: اصطفاك
من ذرية الانبياء، وطهرك من السفاح، واصطفاك لولادة عيسى من غير فحل، وخرج بهذا
من أن يكون تكرارا. أقول: يظهر مما رواه أن فيما عندنا من نسخة العياشي سقطا.
ثم قال: " يا مريم اقنتي لربك
" أي اعبديه واخلصي له العبادة، أو أديمي الطاعة له،
أو أطيلي القيام في الصلاة " واسجدي واركعي مع الراكعين " أي كما يعمل
الراكعون والساجدون، أو يكون ذلك أمرا لها بأن
تعمل السجود والركوع معهم في الجماعة، وقيل: معناه:
واسجدي لله شكرا واركعي أي وصلي مع المصلين، ثم قال: " وما كنت لديهم إذ يلقون
أقلامهم " التي يكتبون بها التوراة في الماء، وقيل: أقلامهم أقداحهم للاقتراع
جعلوا عليها علامات يعرفون بها من يكفل مريم على جهة القرعة " أيهم يكفل مريم
وما كنت لديهم إذ يختصمون " فيه دلالة على أنهم قد بلغوا في التشاح عليها إلى
حد الخصومة. وفي وقت التشاح قولان: أحدهما: حين ولادتها وحمل أمها إياها إلى الكنيسة،
فتشاحوا في الذي يحضنها ويكفل تربيتها، وقال بعضهم: كان ذلك وقت كبرها وعجز
زكريا عن تربيتها.
وقال رحمه الله في قوله تعالى: " إذ قالت
امرأة عمران " اسمها حنة جدة عيسى، وكانتا أختين:
إحداهما عند عمران بن أشهم من ولد سليمان بن داود
عليهما السلام وقيل: هو عمران بن ما ثان، عن ابن عباس ومقاتل، وليس عمران أبا موسى
وبينهما ألف وثمان مائة سنة، وكان بنو ما ثان رؤوس بني إسرائيل، والاخرى كانت عند
زكريا ايشاع واسم أبيها فاقود بن فتيل، فيحيى ومريم ابنا خالة " رب إني نذرت
لك ما في بطني محررا " أي أوجبت لك أن أجعل ما في بطني محررا، أي خادما للبيعة يخدم
في متعبداتنا، وقيل: محررا للعبادة، أي مخلصا لها، وقيل: عتيقا خالصا لطاعتك لا
أستعمله في منافعي ولا أصرفه في الحوائج، قالوا: وكان المحرر إذا حرر جعل في الكنيسة
يقوم عليها ويكنسها ويخدمها، لا يبرح حتى يبلغ الحلم، ثم يخير فإن أحب أن يقيم
فيه أقام، وإن أحب أن يذهب ذهب حيث شاء، قالوا: وكانت حنة قد أمسك عنها الولد حتى
آيست، فبينما هي تحت شجرة إذ رأت طائرا يزق
فرخا له، فتحرك نفسها للولد فدعت الله أن يرزقها
ولدا فحملت بمريم " فتقبل مني " أي نذري قبول رضى " إنك أنت السميع
" لما أقول " العليم " بما أنوي
" فلما وضعتها " خجلت واستحيت وقالت منكسة رأسها: " رب إني
وضعتها أنثى " وقيل فيه قولان: أحدهما: أن المراد به الاعتذار من العدول عن النذر
لأنها أنثى، والآخر أن المراد تقديم الذكر في السؤال لها بأنها أنثى لان سعيها
أضعف وعملها أنقص، فقدم ذكرها ليصح القصد لها في السؤال بقولها: " وإني أعيذها
بك " " والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى " لأنها لا تصلح
لما يصلح له الذكر، وإنما كان يجوز لهم التحرير في
الذكور دون الاناث، لأنها لا تصلح لما يصلح الذكر
له من التحرير لخدمة بيت المقدس لما يلحقها من الحيض والنفاس والصيانة عن التبرج
للناس، وقال قتادة: لم يكن التحرير إلا في الغلمان فيما جرت به العادة، وقيل:
أرادت أن الذكر أفضل من الانثى على العموم وأصلح للأشياء " وإني سميتها مريم "
وهي بلغتهم العابدة والخادمة فيما قيل، وروى الثعلبي بإسناده عن أبي هريرة أن رسول
الله صلى الله عليه وآله قال: حسبك من نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية
امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد " وإني أعيذها بك وذريتها من
الشيطان الرجيم " خافت عليها ما يغلب على النساء من الآفات فقالت ذلك، وقيل: إنما
استعاذتها من طعنة الشيطان في جنبها التي لها يستهل الصبي صارخا، فوقاها الله وولدها
عيسى عليه السلام منه بحجاب، وقيل: إنما استعاذت من إغواء الشيطان الرجيم إياها
" فتقبلها ربها " مع أنوثتها ورضي بها في النذر التي نذرته حنة للعبادة في
بيت المقدس، ولم يتقبل قبلها أنثى في ذلك المعنى وقيل:
معناه: تكفل بها في تربيتها والقيام بشأنها، عن الحسن. وقبوله إياها أنه ما عرتها
علة ساعة في ليل أو نهار " بقبول حسن " أصله: بتقبل حسن، وقيل: معناه:
سلك بها طريق السعداء، عن ابن عباس "
وأنبتها نباتا حسنا " أي جعل نشوءها نشوءا حسنا، وقيل:
سوى خلقها فكانت تنبت في يوم ما ينبت غيرها في عام، عن ابن عباس، وقيل: أنبتها
في رزقها وغذائها حتى تمت امرأة بالغة تامة، عن ابن جريح. وقال ابن عباس: لما
بلغت تسع سنين صامت النهار وقامت الليل وتبتلت حتى غلبت الاحبار " وكفلها
زكريا " بالتشديد أي ضمها الله عز اسمه
إلى زكريا وجعله كفيلها ليقوم بها، وبالتخفيف معناه:
ضمها زكريا إلى نفسه، وضمن القيام بأمرها، وقالوا إن أم مريم أتت بها ملفوفة في
خرقة إلى المسجد وقالت: دونكم النذيرة، فتنافس فيها الاحبار لأنها كانت بنت إمامهم
وصاحب قربانهم، فقال لهم زكريا عليه السلام: أنا أحق بها لان خالتها عندي، فقالت
له الاحبار: إنها لو تركت لاحق الناس بها لتركت لامها التي ولدتها، ولكنا نقرع
عليها فتكون عند من خرج سهمه، فانطلقوا وهم تسعة وعشرون رجلا إلى نهر جار فألقوا
أقلامهم في الماء فارتفع قلم زكريا فوق الماء و رسبت أقلامهم، عن ابن إسحاق وجماعة،
وقيل: بل تلبث قلم زكريا وقام فوق الماء كأنه في طين، وجرت أقلامهم مع جرية
الماء فذهب بها الماء، عن السدي، فسهمهم زكريا وقرعهم وكان رأس الاحبار ونبيهم فذلك
قوله تعالى: " وكفلها زكريا ". قالوا: فلما ضم زكريا مريم إلى نفسه بنى
لها بيتا واسترضع لها، وقال محمد بن إسحاق:
ضمها إلى خالتها أم يحيى حتى إذا شبت وبلغت مبلغ
النساء بنى لها محرابا في المسجد وجعل بابه في وسطها لا يرقى إليها إلا بسلم مثل
باب الكعبة، ولا يصعد إليها غيره، وكان يأتيها بطعامها وشرابها ودهنها كل يوم
" كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد
عندها رزقا " يعني وجد زكريا عندها فاكهة في غير أوانها،
فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف غضا طريا، وقيل: إنها لم ترضع
قط وإنما كان يأتيها رزقها من الجنة " قال يا مريم أنى لك هذا " يعني
قال لها زكريا: كيف لك ومن أين لك هذا ؟ كالمتعجب
منه " قالت هو من عند الله " أي من الجنة، وهذه تكرمة من الله لها وإن
كان ذلك خارقا للعادة، فإن عندنا يجوز أن
تظهر الآيات الخارقة للعادة على غير الأنبياء من
الاولياء والاصفياء، ومن منع ذلك من المعتزلة قالوا فيه قولين: أحدهما: أنه كان ذلك
تأسيسا لنبوة عيسى عليه السلام، عن البلخي، والآخر أنه كان بدعاء زكريا عليه السلام
لها بالرزق في الجملة، وكانت معجزة له، عن الجبائي " إن الله يرزق من يشاء بغير
حساب ".
المصدر : بحار الأنوار
المؤلف : العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي
الجزء والصفحة : جزء 14 / صفحة [193]
تاريخ النشر : 2024-08-14