1

المرجع الالكتروني للمعلوماتية

التاريخ والحضارة

التاريخ

الحضارة

ابرز المؤرخين

اقوام وادي الرافدين

السومريون

الساميون

اقوام مجهولة

العصور الحجرية

عصر ماقبل التاريخ

العصور الحجرية في العراق

العصور القديمة في مصر

العصور القديمة في الشام

العصور القديمة في العالم

العصر الشبيه بالكتابي

العصر الحجري المعدني

العصر البابلي القديم

عصر فجر السلالات

الامبراطوريات والدول القديمة في العراق

الاراميون

الاشوريون

الاكديون

بابل

لكش

سلالة اور

العهود الاجنبية القديمة في العراق

الاخمينيون

المقدونيون

السلوقيون

الفرثيون

الساسانيون

احوال العرب قبل الاسلام

عرب قبل الاسلام

ايام العرب قبل الاسلام

مدن عربية قديمة

الحضر

الحميريون

الغساسنة

المعينيون

المناذرة

اليمن

بطرا والانباط

تدمر

حضرموت

سبأ

قتبان

كندة

مكة

التاريخ الاسلامي

السيرة النبوية

سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) قبل الاسلام

سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) بعد الاسلام

الخلفاء الاربعة

ابو بكر بن ابي قحافة

عمربن الخطاب

عثمان بن عفان

علي ابن ابي طالب (عليه السلام)

الامام علي (عليه السلام)

اصحاب الامام علي (عليه السلام)

الدولة الاموية

الدولة الاموية *

الدولة الاموية في الشام

معاوية بن ابي سفيان

يزيد بن معاوية

معاوية بن يزيد بن ابي سفيان

مروان بن الحكم

عبد الملك بن مروان

الوليد بن عبد الملك

سليمان بن عبد الملك

عمر بن عبد العزيز

يزيد بن عبد الملك بن مروان

هشام بن عبد الملك

الوليد بن يزيد بن عبد الملك

يزيد بن الوليد بن عبد الملك

ابراهيم بن الوليد بن عبد الملك

مروان بن محمد

الدولة الاموية في الاندلس

احوال الاندلس في الدولة الاموية

امراء الاندلس في الدولة الاموية

الدولة العباسية

الدولة العباسية *

خلفاء الدولة العباسية في المرحلة الاولى

ابو العباس السفاح

ابو جعفر المنصور

المهدي

الهادي

هارون الرشيد

الامين

المأمون

المعتصم

الواثق

المتوكل

خلفاء بني العباس المرحلة الثانية

عصر سيطرة العسكريين الترك

المنتصر بالله

المستعين بالله

المعتزبالله

المهتدي بالله

المعتمد بالله

المعتضد بالله

المكتفي بالله

المقتدر بالله

القاهر بالله

الراضي بالله

المتقي بالله

المستكفي بالله

عصر السيطرة البويهية العسكرية

المطيع لله

الطائع لله

القادر بالله

القائم بامرالله

عصر سيطرة السلاجقة

المقتدي بالله

المستظهر بالله

المسترشد بالله

الراشد بالله

المقتفي لامر الله

المستنجد بالله

المستضيء بامر الله

الناصر لدين الله

الظاهر لدين الله

المستنصر بامر الله

المستعصم بالله

تاريخ اهل البيت (الاثنى عشر) عليهم السلام

شخصيات تاريخية مهمة

تاريخ الأندلس

طرف ونوادر تاريخية

التاريخ الحديث والمعاصر

التاريخ الحديث والمعاصر للعراق

تاريخ العراق أثناء الأحتلال المغولي

تاريخ العراق اثناء الاحتلال العثماني الاول و الثاني

تاريخ الاحتلال الصفوي للعراق

تاريخ العراق اثناء الاحتلال البريطاني والحرب العالمية الاولى

العهد الملكي للعراق

الحرب العالمية الثانية وعودة الاحتلال البريطاني للعراق

قيام الجهورية العراقية

الاحتلال المغولي للبلاد العربية

الاحتلال العثماني للوطن العربي

الاحتلال البريطاني والفرنسي للبلاد العربية

الثورة الصناعية في اوربا

تاريخ الحضارة الأوربية

التاريخ الأوربي القديم و الوسيط

التاريخ الأوربي الحديث والمعاصر

التاريخ : العصور الحجرية : العصور القديمة في مصر :

أهمية حملة الملك بسمتيك الثاني

المؤلف:  سليم حسن

المصدر:  موسوعة مصر القديمة

الجزء والصفحة:  ج12 ص 417 ــ 431

2025-05-06

52

تدل شواهد الأحوال على أن السبب الذي حدا بمعظم المؤرخين، ألا ينظروا إلى هذه الحملة إلا أنها حركة استراتيجية، وأن أهميتها السياسية محدودة جدًّا، هو الموقع الجغرافي للنقوش الصخرية التي خلفها لنا كثير من جنود «بسمتيك الثاني» المرتزقة في «أبو سمبل». فعلى ساقي تمثالي «رعمسيس الثاني» الضخمين، نجد أن جنودًا كاريين قد نقشوا ستة متون سيكشف النقاب في البحوث الأناضولية عن معناها في القريب العاجل على ما نعتقد. ولا بد أن نذكر هنا وجود نقوش كارية في مقبرة «منتومحات». وبجانب هذه النقوش توجد أسماء كثيرين من الفنيقيين كانوا قد جندوا من مستعمرة مؤسسة منذ زمن معين في مصر. وأخيرًا يوجد نقش صغير إغريقي مؤلف من خمسة أسطر، يذكر لنا كيف يميز عدد كبير من الأجناد من أصل «أيوني» و«دوري». وقد كتبت إمضاءاتهم حول النقش التالي: الملك «بسمتيك» قد أتى حتى «الفنتين»، وهؤلاء الذين ساحوا مع «بساما بسمتيكوس» بن «تيوكليس»، وصعدوا منحدرين إلى «كركيس» بقدر ما يسمح النهر قد كتبوا هنا وكان «بوتاسمتو» يقود الفرقة الأجنبية «وأحمس» يقود المصريين … وتدل الترجمة التقليدية على أن العلاقات الإغريقية الدالة على أقصى نقطة وصل إليها أصحاب الإمضاءات لهذا المتن، لا يمكن أن تشير إلا إلى الشلال الثاني. وهذه الترجمة أصبح لهذا من الصعب الأخذ بها؛ لأن وصول الجنود الساويين إلى إقليم «بنوبس» يدل على أنهم قد اجتازوا الشلال الثالث. ويستحسن إذن أن يبحث في الجنوب عن هذه البلدة الأخيرة في المنطقة الصعبة، التي عاقت رجال «بسمتيكوس» (= بسمتيك) أي: على الأرجح عند الشلال الرابع.
وهذا يحتم على ما يظهر أن الجنود الذين أرسلوا إلى بلاد «شاس» السالفة الذكر قد وصلوا فعلًا إلى إقليم «نباتا»، وعلى ذلك تكون «كركيس» واقعة بعد هذه العاصمة على ما يظن، وهي المكان الذي فاخر بعض الإغريق أنهم تعدوه خلال الحملة. واسم هذا المكان على أية حال ليس معروفًا لنا بالإغريقية في هذه الصورة، ولكنه يمكن أن يكون مقابلًا صوتيًّا لاسم من الأسماء العدة القديمة أو الحديثة في السودان، فقد يمكن تقريبه من جبل كولكيلي، وهو محطة صخرية تشرف على النهر عند مدخل سهل «دنقلة»، وكذلك من الجائز أن تكون في موقع المكان القديم «كوركوس» Korkos، حيث كانت توجد قلعة تحمي المرور في عهد الدولة الحديثة بعد الشلال الرابع، وإذا أخذنا بالنظرية الأخيرة، فلا بد أن نعترف أن جيش «بسمتيك الثاني» قد أوغل حتى الشلال الخامس، وعلى أية حال فإنه ليس لدينا حجج يمكن أن نبرهن بها على أن «كركيس»، يجب أن توحد ببلدة «كولكيلي» أو «كوركوس» (= حجر المروا). وعلى أية حال فإن البلاد المركبة أسماؤها مع كلمة «كرك» أو «كلك» تقع جنوبي الشلال الثالث بعد بلدة «بنوبس»؛ ولذلك فإنه يجوز تمامًا الأخذ بالنظرية القائلة: إن حملة عام 591ق.م قد وصلت خلالها الجيوش المصرية حتى مرتفع «دنقلة». وعلى أية حال فإنه مما يمكن تصوره أن الجود المصريين بعد احتلال إقليم العواصم (شاس)، قد تابعوا سيرهم في اقتفاء العدو حتى الشلال الرابع، وأن جماعة منهم قاموا بالاستطلاع شاقين طريقهم حتى شلالات «السليمانية».
وإذا أردنا أن نستخلص نتيجة قصوى من الإيضاحات والتفسيرات، التي أوردناها هنا من متون الكرنك و«تانيس» و«أبو سمبل»، فقد يجوز لنا أن نكيف الحوادث التي وقعت في السنة الثالثة من عهد «بسمتيك الثاني» في الصورة التالية، ولكن مع كل تحفظ ممكن، إذ إن ذلك لا يخرج عن نطاق النظريات البحتة:
تدل شواهد الأحوال على أن ملك «كوش» كان يتأهب لمهاجمة «بسمتيك الثاني»، وأن الأخير قد بادره مباشرة بجيش لمهاجمته، وصاحبه بنفسه حتى «الفنتين». وقد تعدت الفرق الحربية التي كان يتألف منها جيش «بسمتيك»، وهي التي كانت تحت إشراف عظماء بلاطه الفنتين، ثم اجتازت الشلال الثاني ثم تابعت السير حتى وصلت إلى إقليم «أرجو»، وذلك إما بعد أن قام الجيش بالسير الشاق إلى بطن الحجر، أو اخترقوا على الأقدام الإقليم المقفر الذي يحاذي النهر في هذا الجزء من مجراه. والظاهر أنه كان قد نال نصرًا مبينًا على ملك كوش في سهل «دنقلة»، ثم واصل سيره نحو «نباتا». ومن المحتمل أن هذا الجيش قد اجتاز هذه العاصمة بمسافة، وخرب بلاد العدو ثم عاد إلى مصر حاملًا الغنائم الكثيرة وسائقًا أمامه الأسرى. ومن المحتمل أن بعض الجنود الإغريق قد أوغلوا في سيرهم إلى أعالي النهر حتى الشلال الخامس، وعند عودتهم تركوا في طريقهم ذكرياتهم على آثار «أبو سمبل».
وعلى الرغم من المقارنات التي أمكننا أن نقررها هنا في موضوع الأماكن «شاس» و«تادهن» و«كركبس»، تظهر لنا أنها تتفق كتابة مع فكرة حملة قام بها المصريون على السودان، ولكن لا يمكن أن نخفي أن تحديدنا لمواقع هذه الأماكن لا يزال غير مؤكد، وعلى ذلك يجب أن نكون على حذر من الصورة التي اقترحناها هنا. ولكن على أية حال يمكن قبول هذه النظرية بوصفها مادة للعمل بها وحسب. ومهما يكن من أمر فإنه بقدر ما تسمح به نقوش لوحة الكرنك، نرى أن قراءة اسم «بنوبس» وموقعها يظهر مؤكدًا، وعلى ذلك يمكننا على ما يظهر أن نعترف أن جنود «بسمتيك الثاني» قد وصلوا على أقل تقدير إلى «دنقلة». وعلى أية حال فإن التاريخ الذي اتخذ لبداية تهشيم أسماء ملوك الأسرة الخامسة والعشرين، وكذلك استعمال لفظة «كور» للدلالة على زعيم الأعداء في متن «تانيس»، وأخيرًا ذكر المدينتين التابعتين لمملكة كوش في لوحتي النصر (وهما «بنوبس» و«تادهن»)، يحتم علينا تقريبًا قبول النتيجة التالية: كانت حملة عام 591ق.م عملًا حربيًّا على مملكة «نباتا» التي غزت ممتلكاتها الجيش المصري.
وتدل الأحوال في مصر نفسها على أن المظاهر التي صحبت هذه الأعمال الحربية، أو جاءت بعدها كانت تنطبق مع خطورة مثل هذا الحادث، ومع الانتصارات التي أحرزها الجيش المصري بالنسبة لملوك كوش وعلاقتهم مع مصر، فنجد:
• أولًا: أن ملوك «نباتا» الذين حكموا مصر سابقًا، أخذوا يعملون على استرجاع ما فقدوه من اسم. والواقع أن ملوك الأسرة الخامسة والعشرين الذين كانوا يعدون أنفسهم ملوكًا شرعيين كانوا يعتبرون في مصر مغتصبين، وأنهم أفراد ارتكبوا جريمة التعدي على سلطان البلاد المصرية، وعلى ذلك فإن ملوك الأسرة الساوية قد محوا ذكرياتهم — وهذا أمر كان لا بد منه لبقائهم في عالم الآخرة — وقد أنكروا في الوقت نفسه حقوق أمراء كوش في شرعيتهم، التي اكتسبوها على عرش مصر، هذا بالإضافة إلى أن المصريين قد هشموا المظاهر الخارجية، التي يمكن أن تذكر أتباعهم في مصر بهذه الحقوق. فهشمت طغراءات «بيعنخي» وأخلافه على آثارهم وآثار المتعبدات الإلهية. ومن ثم نجد في المعابد أن أسماء ملوك كوش كانت لا تحترم قط، وتهشم كلها إلا أسماء الآلهة، ولم تفلت من يد المهشمين إلا في حالات شاذة. وقد كانت الآثار الجنازية والآثار الخاصة، وكذلك الآثار الصغيرة وبصفة عامة كل الآثار التي كانت لا تقع تحت نظر المهشم، مثل النقوش الصخرية وشواهد قبور الحيوان المقدس ولوحات الهبات، كانت كلها في العادة لا تمسها يد المضطهدين، وذلك بسبب أنها كانت محجوبة عن الأنظار بتماثيل قريبة منها أو موضوعة تجاه الجدار، وبذلك فإن الطغراءات التي كانت عليها لا ترى. هذا ونجد أن ألقاب «بسمتيك الثاني»، كانت في كثير من الأحوال تحل محل اسم مهشم من ملوك كوش اللهم إلا في سلالات النسب كما هو مفهوم.
• ثانيًا: لوحظ أن على جدران عدة مباني «طيبية» من التي يكون عليها اسم ملوك النوبة مهشمًا أن الصل المزدوج، الذي كان يعد الميزة الخاصة بلباس الرأس عند ملوك كوش كان يكشط أو يصلح ليصير صلًّا واحدًا؛ وذلك ليتحول بهذه الكيفية من صورة ملك كوشى إلى صورة ملك مصري تقليدي، إذ كان ملك مصر لا يلبس إلا صلًّا واحدًا. وهذا التغيير لم ينحصر فقط في الصور التي في المناظر، بل قد شوهد كذلك في لباس رأس تمثال اللك «شبكا» الضخم. وأفظع من ذلك ما نجده في كثير من تماثيل الملوك، وعلى بعض المناظر إذ نشاهد أن الصلين قد محيا محوًا تامًّا. وكل هذه الحالات تدل تمامًا على ما كان يرغب فيه «بسمتيك الثاني» من القضاء نهائيًّا على الصفة النوبية لهذه الصور، وكذلك شغفه بأن يمحو في الوقت نفسه أي رمز ظاهر لادعاءات الكوشيين بالملكية المزدوجة؛ أي على مصر والسودان.
• ثالثًا: نجد في الوقت نفسه أنه قد نشأت التقاليد الشعبية التي جعلت من «الكور» (أي: الملك) العدو الأول لمصر ومن كوش شيئًا مستهجنًا، كما كان الإله «ست» إله الشر يوحد بكلمة نوبي.
وهذه الظواهر السلبية كانت قد تضاعفت بدعاية إيجابية تميل إلى إبراز عظمة الانتصار الذي أحرزه «بسمتيك الثاني». وهذا النوع من المظاهر بوساطة النقوش الدالة على الانتصارات والنقوش الخاصة بالمديح، واغتصاب انتصارات أحرزها السلف، وغيرها لم تكن تشاهد إلا قليلًا في عهود الملوك الساويين السالفين؛ ولذلك فإنه يصعب علينا ألا ينسب كثرتها وتنوعها إلى شيء هام. ولا نزاع في أن حربًا على ورثة الأسرة الخامسة والعشرين قد أثارت أمورًا سياسية داخلية بقدر ما أثارت أمورًا سياسية خارجية؛ فقد كان فرعون «سايس» يريد أن يكسب أمام شعبه مكانة من النفوذ الخلقي، الذي نتج عن هذه الانتصارات.
ومن أجل ذلك نجده قد أقام لوحات مبينًا فيها العلاقات المختلفة للحملة، فمنها لوحتا «تانيس» والكرنك، ويحتمل كذلك لوحة الشلال، التي بقي جزؤها الأعلى محفوظًا، وتشبه في توزيع نقوشها توزيع نقوش الآثار الطيبية، فنجد على لوحة الكرنك أن الملك يلقب «محبوب آمون» سيد عروش الأرضين و«مين منتو» سيد «طيبة»، وعلى لوحة «تانيس» نجد أن الإله الأخير يصحب ثالوث «طيبة» في المنظر كما في المتن. ويمكن الإنسان أن يتساءل فيما إذا لم يكن المقصود في هذين الأثرين هو أن يربط «بسمتيك» المظفر بإله «طيبة» الحربي؟
ونجد مواجهًا لبلاد النوبة على الصخور المحيطة بالشلال الأول، وفي «الفنتين» و«كونوسو» و«بيجه» عددًا عظيمًا من الطغراءات وأسماء الأعلام منقوشة باسم الملك «بسمتيك الثاني» مما يشهد — مع عدم وجود طغراءات مماثلة لأسلافه — على أنها كانت قد نقشت في أثناء إقامة هذا الملك في «الفنتين»، أو في أثناء عودة جيشه مظفرًا، وعلى أن عزيمة فاتح بلاد كوش كانت ترمي إلى توطيد سلطانه على الحدود الجنوبية لمصر.
هذا وقد بالغ «بسمتيك الثاني» في تأكيد انتصاره على بلاد النوبة بأنه اغتصب آثار ملك آخر، ممن قهروا بلاد كوش، فنجد في منظر بالكرنك يمثل «شيشنق الأول» أمام الإله «آمون» أن «بسمتيك الثاني» قد وضع أسماءه مكان أسماء الملك «شيشنق» العظيم مع أنه لم يكن بينهما عداوة. والمتن الذي يتبع المنظر بانتصارات «شيشنق» وبوجه خاص إخضاعه لبلاد النوبة. وعلى ذلك فإننا في حل من أن نتساءل فيما إذا كان هذا الاغتصاب الشاذ كان سببه الرغبة الشديدة من جانب «بسمتيك» في أن يكون فاتحًا لبلاد كوش بطريقة اقتصادية لا تكلفه حفر نقوش جديدة، بل اقتصرت على وضع اسمه بدل اسم ملك عظيم آخر فتح فيما مضى بلاد النوبة؟
ويلحظ أنه قد أدخل عرضًا في طغراء «بسمتيك الثاني» النعت «نب بحتي» (= رب القوة)، وهذا اللقب كان يحمله إله الحرب والفاتحون العظام مثل «أحمس الأول». ولدينا نقش «لبسمتيك الثاني» على قاعدة تمثال بولهول يلقب فيه هذا الفرعون أنه: «الإله الكامل» الذي يضرب آسيا … والنوبيين والذي خوفه يقضي على الشخصيات الشريرة. ومن المحتمل جدًّا أن هذه العبارة ليست إلا مثالًا من ألقاب المدائح، التي كانت يمكن أن تظهره بمناسبة انتصاره على الكوشيين.
ويظهر لنا الاسمان الجميلان «نفر اب رع قوي» و«نفر اب رع» رب الشجاعة اللذان يحملهما كل من «أحمس» و«بوتاسمتو» قائدي «بسمتيك الثاني»، على أنهما كانا قد أعطيا إياهما مكافأة على شجاعتهما في هذه الحرب.
ومن المحتمل جدًّا أن القائد «حور» المسمى «نفر اب رع أم ابت»؛ أي «نفر اب رع في الأقصر» قد سمى نفسه بهذه التسمية؛ لأجل أن يذكر الناس باشتراكه في الحملة الوحيدة الباهرة، التي أرسلها «بسمتيك الثاني» على بلاد كوش. ولا نزاع في أنه كان معاصرًا لهذا الملك، وقد أدخل في ألقابه النعوت التالية: رجل ثقة لسيد الأرضين والذي نشر خوف جلالته في بلاد الأعداء، وألقى الرعب بين أولئك الذين كانوا عقبة في طريقه. ولدينا شخصية معاصرة «لبسمتيك الثاني» يدعى «بزا»، وقد مثل نفسه مقدمًا صورة ملك في هيئة تقليدية لملك طفل يدوس الأقواس التسعة.
وأخيرًا قد لا يكون من المستحيل أن السياحة التي قام بها «بسمتيك الثاني» إلى فلسطين مصحوبًا بكهنة كانوا يحملون له طاقة الأزهار الرمزية، التي قدمتها الآلهة اعترافًا بالجميل، كان الغرض منها أن يعقدوا في بلدة فلسطينية مجلس انتصار لأجل أن يؤكدوا لآسيا قوة بطش المملكة المصرية.
وعلى الرغم من أن حرب السنة الثالثة من حكم «بسمتيك الثاني» كانت بلا نزاع أول حملة مظفرة كسبتها الأسرة الساوية منذ زمن بعيد جدًّا، فإن الاضطهاد الغشوم الذي وقع وقتئذ على ملوك النوبة القدامى، هذا بالإضافة إلى المظاهر التي قدست هذا الانتصار، كل ذلك يفسر بوضوح أن هذه الحرب قد انطلقت من عقالها لا عن رغبة مصرية، بل بسبب طموح الفاتحين الكوشيين: إذ لا نزاع في أن لوحة «تانيس» تدل تمامًا على أن التعدي من الوجهة المصرية كان قد أتى من قبل الكوشيين، والواقع أنه حوالي عام 594 ق.م وهو تاريخ تتويج «بسمتيك الثاني» كانت آسيا بوجه خاص لا بلاد النوبة هي التي كان يجب أن تسترعي انتباه ملك «سايس» بصورة مقلقة. فمنذ هزيمة «نيكاو الثاني» في «كركميش» كان ازدياد قوة «بابل» في فلسطين يعد تهديدًا خطيرًا لمصر.
ويصعب على الإنسان أن يتصور أنه حوالي هذا العهد كان في مقدور مصر أن ترسل جيشًا على السودان متحدية مناوشة جارتها الجنوبية عن قصد. والواقع أن الحرب التي شنها «بسمتيك الثاني» في أفريقيا كانت حرب دفاع لا حرب فخار. وعلى ذلك فقد كان من باب أولى أن «كور» (ملك) بلاد كوش رأى أن يفيد من الأحوال الجارية؛ لأجل أن يعيد السياسة الإمبراطورية التي كان يتمتع بها ملوك «نباتا» الأول على مصر. ولا بد أن تجهيزاته الحربية كانت قد أقضت مضجع حكومة «سايس». وقد كان غرض حكومة «سايس» أن تعمل على اختفاء ذكرى الأسرة، التي كانت ذكراها يمكن أن تجد لها مبررًا في أعين الذين كان رأيهم يميل مع فراعنة الجنوب ذوي المطامح الطاغية على مصر. ولم يكن على ما يظهر لدى ملك كوش الوقت ليخطو مسافة بعيدة في مشروعه. فقد كان الجواب المصري عندما أحس استعدادات كوش غاية في السرعة، ولم يلبث أن انتهى بنصر باهر لم يتطلب أكثر من حملة واحدة على ما يظهر. ولم يتجاوز «بسمتيك الثاني» نفسه حدود «الفنتين»، وكان سبب ذلك بلا شك ألا يفقد حلقة الاتصال برسله الذين كانوا يحملون له الأخبار من آسيا. ومنذ أن بدأت الحرب في كوش، أخذ يظهر في فلسطين درءًا للخطر الذي كان يتهدد مصر.
وعلى ذلك فإن الحملة التي قام بها «بسمتيك الثاني» على مملكة «نباتا»، كانت قد حدثت في زمن أزمة سياسية خارجية للأسرة السادسة والعشرين، وهذه السياسة كانت بطبيعة الحال موجهة نحو آسيا بمقتضيات الحوادث. وهذا التحول كان سببه مظهرًا جديدًا يرجع إلى الادعاء بالسيطرة على مصر من قبل ملوك كوش منذ منتصف القرن الثامن ق.م، وقد كان هذا الادعاء لا يزال حيًّا كما يثبت ذلك الصل المزدوج الذي كان يلبسه أخلافهم، حتى بعد أن تقهقروا إلى بلاد النوبة، فقد كانوا لا يزالون يحملونه على جباههم في لباس رأسهم؛ أي إنهم كانوا يعتبرون أنفسهم ملوك مصر والسودان. والصلان يرمزان للبلدين مصر والسودان.
وإذا كانت ولاية «طيبة» في عهد الأسرة الخامسة والعشرين، وهي التي كانت محكومة بالمتعبدة الإلهية التابعة لأسرة كوشية قد ظهرت بأنها كانت في قبضة هذه المتعبدة تمامًا، فإن الكوشيين كانوا مضطرين في أحوال عدة أن يعيدوا فتح الوجه البحري، حيث كان الأمراء المحليون هناك وبوجه خاص حكام «سايس»، قد ظهر أنهم انتهزوا الفرص لنزع نيرهم عنهم. فنجد على التوالي «بيعنخي» و«شبكا»، ويحتمل كذلك «شبتاكا» وأخيرًا «تانوتآمون» كان يجب عليهم أن ينزلوا إلى الدلتا، ويسكنوها لأجل أن يشعروا القوم بسلطانهم. وبعد أن اضطرت جيوش «آشوربنيبال» الملك «تانوتآمون» أن يرتد إلى بلاد النوبة، فإن الأخير قد استولى ثانية على إمارة «طيبة»، وإذا أمكن الإنسان أن يوحده مع ملك مصر المسمى «تمنتيس»، وهو الذي على حسب قول المؤرخ «بوليين» قد نازل الملك «بسمتيك»، وهزم على يديه بالقرب من «منف»، فإنه يجب أن نعترف بأن آخر ملوك الأسرة الخامسة والعشرين كان قد حاول كرة أخرى أن يعيد فتح الوجه البحري. ويمكن أن الحالة المستديمة لإعادة الفتح الكوشي لمصر قد تركت لورثة الملك الأمل في توحيد القطرين من جديد، تحت صولجان ملك بلاد كوش ومصر معًا.
ولا نزاع في أن «بسمتيك الأول» الساوي كان قد أفلح منذ عام 556ق.م في الاستيلاء على «طيبة»، وفي أن يولي على عرشها ابنته «نيتوكريس»؛ لتكون خلفًا للمتعبدة الإلهية الكوشية، كما أفلح في وضع حامية في «الفنتين». ولدينا قطعة من متن عثر عليها في «إدفو» تكشف لنا عن أن «بسمتيك الأول» كان قد أرسل في وقت ما من حكمه حملة حربية إلى بلاد «واوات»؛ أي إلى بلاد النوبة السفلى.
هذا ويوجد في مصر نفسها ما يدل على أن الأسرة النباتية كان لها بعد خروجها من مصر أعوان. ولا نزاع في ذلك إذ نعلم أنه في خلال القرن الثامن ق.م قد توطن في إقيم «طيبة» طبقة أشراف نوبيين، كما أن الأسرة الكبيرة المحلية كانت ملتفة حول الحكم الكوشي. فمثلًا نجد أن أمراء كوشيين كانوا يشغلون وظائف كبيرة بين كهنة «آمون». وكذلك تدل أسماء عظماء رجال الإدارة الطيبية بوضوح على أنهم من أصل كوشي، مثال ذلك «كارابيسكن» و«أريجاديجان» و«كاررخي-أماني»، والظاهر أن الأسرة الخامسة والعشرين كانت خلافًا لذلك قد حابت الكهنة المحليين المختلفين، وبخاصة كهنة «منف»، وهي المدينة التي كان قد اتخذها مقرًّا له كل من «شبكا» و«تهرقا» كما تدل على ذلك النقوش. ومن جهة أخرى يلحظ أن بعض الأمراء المحليين هناك قد فضلوا بلا شك أن يكونوا تحت سلطان فراعنة الجنوب عن أن يكونوا تحت حكم ملك مصر، وذلك مقاومة لمطامع ملك «سايس». والواقع أن فراعنة الجنوب؛ أي الكوشيين كان معترفًا بهم لدرجة عظيمة حتى إن «بسمتيك» لم يكن يفكر في عدم شرعيتهم، وكان عليه أن يسلم بأنه خلفهم، ففي الأزمان الأولى من تسلطه على الوجه القبلي نلحظ أن «بسمتيك» قد احترم ظاهرًا جزءًا من المميزات الخاصة بأمراء الكوشيين أصحاب «طيبة»، فمثلًا نجد أن «منتومحات» وابنه «نسبتاح» من بعده، قد حافظ كل منهما في عهد «بسمتيك الأول» على لقبه «عمدة نو» (أي: طيبة) وحاكم الوجه القبلي. وفي «إدفو» نجد أن عمدتها «خنس-أرديس»، ظهر أنه كان يقوم على ما يظهر في العهد الساوي بدور حاكم الوجه القبلي، وهي الوظيفة التي كان والده «باثنف» يشغلها في عهد الكوشيين. ولكن على الرغم من هذه السياسة المهادنة، فإن مملكة كوش قد بقيت مركز تجمع للخارجين على مصر، إذ كان يتوجه صوبها رجال الأرستقراطية الحربية المصرية اللوبية، عندما حرموا استقلالهم على يد «بسمتيك الأول»، وأصبحوا يتوجسون خيفة من الجنود المرتزقة الأجانب الذين كان يعتمد عليهم «بسمتيك»، وأخيرًا هجروه بعد أن ضاقت بهم السبل.
وعلى أية حال فإن أسرة «نباتا» كانت قد حافظت على بعض ثرائها، على الرغم من الهزمات التي حلت بها. والواقع أن الإنسان إذا قدر الآثار العدة التي تركوها، وما دلت عليه محتويات جباناتهم من ثروة فإن أخلاف «تانوتآمون» وهم «أتلانرسا» Atlanersa و«سنكامان سكن» Senkamaniskin و«أنلاماني» Anlamani و«أمتالقا» Amtalqa و«مالناقن» Malenaqen قد ظهروا بأنهم كانوا ملوكًا أقوياء. وسنتحدث عنهم. ومما يؤسف له أننا نجهل حتى الآن من هو الملك من بين هؤلاء الذين ذكرناهم الآن كان يحارب بسمتيك الثاني، ولكن على حسب آخر تأريخ لملوك كوش اقترحه «ريزنر»، فإن حرب سنة 594 ق.م قد جدد على وجه التقريب حوالي حكم الملك «أسبلتاه»، وعلى حسبه يكون حكم «أسبلتا» هذا من عام593 لغاية 568ق.م، والواقع أنه إذا كان الجيش الكوشي قد وجد في إقليم «أبو سمبل»، كما هو المعترف به بوجه عام عند موت الملك «اللاماني»، فإنه يمكن الفرض أنه في هذا العهد كانت على وجه التقريب اللحظة التي كانت القوات الساوية تنازل فيها الجيش الكوشي.
وعلى ذلك فإنه من المحتمل جدًّا أن لوحة «سنكامان سكن» التي عثر عليها في «منف» لا بد كانت قد أتت من غنيمة الجيش المصري. وقد يكون من الأمور المغرية، وإن لم تكن من المؤكدة تمامًا أن يجد الإنسان في جبل «برقل» في تهشيم الطغراءات التي على اللوحات التي تدعى «الطرد»، وعلى لوحة تتويج «أسبلتا» وكذلك في تهشيم تماثيل «تهرقا» و«تانوتآمون» و«سنكامان سكن» و«أنلاماني» و«أسبلتا» شواهد على مرور جنود القائدين «أحمس» و«بوتاسيمتو» بهذه الجهات. ومهما يكن من أمر فإنه في بداية القرن السادس قبل الميلاد، كان بدأ عصر حرج للحوادث التي ظهرت فيها كوش بمظهر الدولة الطامحة في ملك مصر لإعادة إمبراطوريتها القديمة. والواقع أن إمارة «طيبة» التي كانت قد اختفى فيها حكم المتعبدة الإلهية الكوشية المسماة «شبنوبت»، كانت تحت حكم مملكة الشمال مدة ستين عامًا، وقد حل محل العظماء الذين كانوا في عهد السيادة النوبية آخرون من الموظفين الذين ينسبون إلى الدلتا ولو جزئيًّا، فمنذ حكم «بسمتيك الأول» نقلت حكومة «إدفو» إلى شريف من أشراف الدلتا الغربية يدعى «اسناوياو»، وكان «بابس» مدير بيت المتعبدة الإلهية «عنخنس نفر أب رع» على ما يظهر من شرقي الدلتا، وكان ابن سلفه «أيا» يدعى «بدي حور رسني»، ونفس هذا الاسم كان يحمله خلفه ومن المحتمل أن كلًّا منها كان من بلدة «سايس»، وهي التي كان يعبد فيها «حور-رسني»، وهو من أهم المعبودات؛ ومن ثم نجد أن النتيجة التي كسبتها سياسة الهضم التي استعملتها الأسرة الخامسة والعشرون كانت في طريقها إلى الزوال.
فمن الأمور البارزة أنه منذ السنة الأولى من حكم «بسمتيك الثاني» قد نصبت متعبدة إلهية، وهي ابنته «عنخنس نفر اب رع» بجوار عمتها «نيتوكريس»، التي تبنتها فقدس بذلك إرادة أسرته بضم إمارة «طيبة» إليه، ومع ذلك فإن المملكة الساوية التي كانت مهددة من قبل آسيا لم تكن قد قامت بأي عمل جدي ضد مناهضتها «نباتا»، وكانت مملكة «نباتا» في الواقع تنظر دائمًا إلى موضوع ضم البلاد المصرية إلى ملكها بعين الرضا، كما كانت ترى أن مملكة كوش كانت تعمل مستعدة على ما يظهر للحرب حوالي عام 594 ق.م، غير أن مبادرة «بسمتيك الثاني» بالهجوم عليه كانت قد صدمت الأطماع الإمبراطورية التي كانت تختلج في صدر «كور» كوش، كما أكدت أن في الكنانة جيشًا قويًّا يحمي حماها. وعلى أية حال فإن النصر الذي ناله المصريون لم يكن حلًّا نهائيًّا لهذا الموضوع.
وليس من المؤكد أن المصريين اضطروا إلى حمل السلاح لمحاربة بلاد النوبة ثانية، غير أن كثرة النقوش الصخرية في إقليم «أسوان» بأسماء «بسمتيك الثاني»، تكشف لنا فعلًا إلى حد ما عن أن الملوك الساويين كانوا مهتمين منذ ذلك الوقت بأحوال حدودهم كثيرًا جدًّا. ولكن من جهة أخرى نجد أن بعض المؤرخين يفسر وجود هذه النقوش الكثيرة التي من عهدي «بسمتيك الثاني» و«إبريز»، على أنها دليل على نشاط محاجر «أسوان» في حكميهما. ويذكر لنا «أسحور» الذي عاش في عهد «إبريز» صراحة أنه كان قد نصب حاكمًا لتخوم الجنوب؛ لأجل أن يصد غارات فعلية من جانب المتوحشين. ولدينا قصة صغيرة نقلًا عن «بلوتارك» نجد في ثناياها الأدلة التي بقيت عن موضوع إقليم «الفنتين»، وقد وقعت بين ملك كوش و«أحمس الثاني»، وتتلخص القصة في أن «أحمس» أمره ملك كوش أن يشرب البحر، ولما أراد أن يتخلص من هذه الورطة طلب (بنصيحة «بياس» أحد الحكماء السبعة) من قرنه أن يوقف مقدمًا الأنهار لأجل أن يكون المشروع ممكنًا، وعلى عكس ما يقول البعض، فإن هذه القصة لم تكن في واقع الأمر خرافة تخيلها الكاتب الإغريقي، بل من المحتمل أن الكاتب الإغريقي قد أفاد من قصة مصرية، ووضعها في قالب إغريقي. والواقع أن هناك تقليدًا مصريًّا يجعل من «أحمس» سكيرًا مدمنًا، ومن الممكن أنه قد راهن على أن يشرب مقدارًا كبيرًا من النبيذ القوي.
ولدينا تقرير كتب بالديموطيقية في السنة الواحدة والأربعين من حكم الملك «أحمس»، يشير إلى اجتياز كوكبة صغيرة من الجنود الشلال الأول متجهة نحو الجنوب. غير أن ذلك لا ينسب على ما يظهر إلى حملة بل تدل شواهد الأحوال على أن هذه الكوكبة كانت تقوم بمراقبة حربية على بلاد النوبة السفلى. وقد كانت الأحوال تحتم وجود نظام دفاعي قوي خوفًا من إغارة النوبيين.
ومن ثم نفهم أن مملكة كوش على الرغم من غزوة عام 591 ق.م كانت دائمًا مركز خطر كافٍ بوصفها ملجأ للخارجين، كما كانت تقوي العقبات التي تواجهها سياسة الأسرة الساوية في داخل البلاد؛ فقد حدث بعد انتصار «بسمتيك الثاني» على النوبيين بزمن قليل أن ثار جنود مرتزقون على «إبريز»، وحاولوا أن يجدوا لهم ملجأ في كوش. وهناك سبب أقوى في أن تكون المعارضة قوية في ولاية «طيبة»، التي لم يكن قد تم اندماجها فعلًا في النظام الإداري للدلتا على ما يظهر، إلا بعد نصف قرن تقريبًا من بعد عهد «بسمتيك الثاني»، إذ نجد أن إحلال الديموطيقية بدلًا من الخط الهيراطيقي الشاذ الذي كان يستعمل في ولاية «طيبة» لم يحدث إلا في خلال حكم «أحمس الثاني».
وعلى الرغم من الاضطهاد المتأخر الذي صوَّبه هذا الملك الأخير على الأسرة الخامسة والعشرين، فإنه كان لا يزال يوجد شارع في «منف» يذكرنا اسمه بالملك «شبكا» في عهد البطالمة، هذا ونلحظ أن طغراءات كل من «شبكا» و«تهرقا» التي كانت قد محيت أعيدت ثانية في المعابد الطيبية في العهد الهيلاني. يضاف إلى ذلك أن معظم القصص التي وضعها الكتاب الكلاسيكيون عن الكوشيين، وتسلطهم على مصر تظهر لنا ملوك كوش في صورة محببة، فمثلًا يظهر «سبكون» بأنه رجل صالح تقي، وبقدر ما كان إنسانًا كان صاحب أدب راق. وقد ظهر «تركوس» (تهرقا) بصورة مناقضة للحقيقة مساويًا للملك «سوزستريس»، هذا بالإضافة إلى فضائل الكوشيين والغنى الخيالي لبلادهم النائية، وكذلك القصص العدة التي كان مفعمًا بها العصر الفارسي، والميل الظاهر من قبل المصريين للقوم الذين وقفوا حجر عثرة في وجه الغاشم الممقوت (ملك الفرس)، هذا إلى تقاليد عدة تشهد بمقدار تعلق بعض المصريين بالأسرة الكوشية، وكيف أن هذا التعلق قد بقي حيًّا على الرغم من «بسمتيك الثاني» وانتصاره الذي احتفل به بمبالغة كبيرة، وما قام به من اضطهادات انصبت على تهشيم آثار الكوشيين ومحو أسمائهم.
ونجد في إمارة «طيبة» التي كانت خاضعة لحكومة الشمال أن العلاقات مع المملكة الجنوبية، قد بقيت ضاربة بأعراقها في تلك البقعة كما كانت الحال في عهد «بطليموس ابفان»، حيث نجد أن الإمارات الثائرة قد ارتمت في أحضان الأمراء النوبيين مجددين بذلك الحركة الساوية، إذ نجد أن الملك اللاجيدي قد أمر بتهشيم طغراءات خلفه العظيم «ارجامن» في معبد أرستوفيس في «الفيلة».

EN