بقلم : حسن اللامي
قالَ الإمامُ الحسينُ عليهِ السَّلامُ مُخاطباً أعداءَهُ:(انْظُرُوا مَنْ أَنَا، ثُمَّ ارْجِعُوا إِلَى أَنْفُسِكُمْ وعَاتِبُوهَا فَانْظُرُوا هَلْ يَصْلُحُ لَكُمْ قَتْلِي وانْتِهَاكُ حُرْمَتِي)
إنَّ مِنْ أَولَويّاتِ تهذيبِ النّفسِ وتزكيَتِها في مِنهاجِ الإسلامِ الأصيلِ المُتَمَثِّلِ بتعاليمِ النَّبيِّ الأكرَمِ وعِترَتهِ الأطهارِ هُوَ (مُحاسَبةُ النّفسِ) وَهُوَ بمنزِلَةِ الأركانِ في الصَّلاةِ، فإنَّها تَبطُلُ في حالِ نِسيانِ رُكنٍ واحِدٍ مِنها سهواً أو عَمداً، فكذلكَ المُحاسَبَةُ رُكنٌ يتَّكئُ عليهِ تَصفِيَةُ النَّفسِ وبناؤها لتكونَ مؤهَّلَةً الى التَّرَقِّي في مَدارجِ الكمالِ ومُستَعِدَّةً لنزولِ الفُيوضاتِ الإلهيّةِ الخاصَّةِ، وَتصيرُ مِنَ النفوسِ المُطمَئِنّةِ الموعودَةِ بالسَّعادَةِ الأبديّةِ.
وإذا أهملَ الإنسانُ مُحاسَبَةَ نفسِهِ فإنَّهُ سيُصبِحُ أسيرَها وعبداً لغرائزهِ فإنَّ (مَنْ حاسَبَ نفسَهُ رَبِحَ، ومن غفل عنها خَسِر) و(لاَ يَكُونُ اَلرَّجُلُ مِنَ اَلمتَّقِينَ حَتَّى يُحَاسِبَ نَفْسَهُ أَشَدَّ مِنْ مُحَاسَبَةِ اَلشَّرِيكِ شَرِيكَهُ) كما وردَ في أحاديثِ النَّبيِّ الأكرَمِ والعِترَةِ الطّاهِرَةِ.
لَقَدْ وَظَّفَ معاويةُ بنُ أبي سُفيانَ وَمِنْ بَعدِهِ ابنُهُ يزيدُ وعُمَّالُهُم كُلَّ الوسائلِ المُتنَوِّعَةِ لاستباحَةِ وَعيِ الجماهيرِ في الكُوفَةِ: مَرّةً بالترغيبِ؛ ومَرّةً بالترهيبِ . وكانَ عامِلُهُم ابنُ زيادٍ يُحَقِّقُ أطماعَهُم ويُسَوّي لَهُم الأمورَ عِبرَ سُلطَةِ السّيفِ، وإشاعَةِ رُوحِ الوَلاءِ لِبَنِي أُميّةَ، وإقصاءِ الوَلاءِ لآلِ البَيتِ، وإبرازِهِم للنّاسِ على أنَّهُم أفرادٌ خارجونَ على الخِلافَةِ، وهَدَفُهُم شَقُّ عَصا المسلمينَ وإحداثُ الفَوضى وكانَتِ السُّلطاتُ الأمويّةُ تُرَكِّزُ على مُصطَلَحِ (الخارجِيِّ) وما يَقرُبُ منهُ مِنَ الألفاظِ كالمارِقَةِ عَنِ الدّينِ وغَيرِها، وكشاهِدٍ على هذا ما ذَكَرَهُ ابنُ كَثيرٍ في البدايةِ والنِّهايَةِ: (وكانَ عَمرو بنُ الحَجَّاجِ -وَهُوَ مِن القُوَّادِ في المُعسكَرِ الأُمويِّ الذي قاتَلَ الحُسينَ (عَليهِ السَّلامُ)- جَعَلَ يَقُولُ: قَاتِلُوا مَنْ مَرَقَ مِنَ الدِّينِ وفارَقَ الجماعَةَ ، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: وَيْحَكَ يَا حَجَّاجُ أَعَلَيَّ تُحَرِّضُ النّاسَ؟ أنَحنُ مَرَقنَا مِنَ الدِّينِ وأنتَ تُقِيمُ عَليهِ؟ سَتَعلمونَ إذا فارَقَتْ أرواحُنا أجسادَنا مَنْ أَوْلَى بِصِلِيِّ النَّارِ)
ولهذا نَجِدُ في خِطابِ الإمامِ الحُسينِ يومَ عاشوراءَ تركيزاً على إبرازِ هَوِيّتهِ ومَنزِلَتِهِ ومكانَتِهِ بينَ المُسلمينَ لإيقاظِ وَعي الجماهيرِ -المُستباحِ- الذينَ حَشَّدُوهُم لمُقاتَلتِهِ، وتَجَلّى هذا في خِطبَتِهِ الأولى، فاستعمَلَ كُلَّ أساليبِ البيانِ والإيضاحِ في خِطابِهِ ما بينَ استفهامٍ واستنكارٍ وحِجاجٍ ... ليُحطِّمَ الحواجزَ التي زرعَها بنو أُميّةَ في واهمةِ العَقلِ الجَّمعِيِّ عِبرَ إعلامِهِمُ الزائفِ بِما يُسَمّى مؤخّراً بالإعلامِ الأصفرِ!
ومِنْ طرائقِ إيقاظِ وَعيِهِم هُوَ سَحبُهُم الى دائرةِ المُحاسَبَةِ والمُراجَعَةِ لعَلَّهُم يعودوا الى رُشدِهِم ويهتَدُوا الى الحَقِّ؛ فَمِنْ جُملَةِ ما جاءَ في كلامِهِ -صَلواتُ اللهِ عليهِ- في خِطبَتِهِ الأولى:
(انْظُرُوا مَنْ أَنَا، ثُمَّ ارْجِعُوا إِلَى أَنْفُسِكُمْ وعَاتِبُوهَا فَانْظُرُوا هَلْ يَصْلُحُ لَكُمْ قَتْلي وانْتِهَاكُ حُرْمَتِي)
فَهُوَ ليسَ بِمارِقٍ ولا بِخارِجِيٍّ وكيفَ يصفونَهُ بهذا وَهُوَ إمامُ المؤمنينَ والمُتَّقِينَ؟
وكيفَ يَصلُحُ لَهُم قَتلُ ابنُ بنتِ نَبيِّهِم وانتهاكُ حُرمَتُهُ؟ فإنَّهُ محمودُ الصفاتِ وسليلُ أطيَبِ وأكرَمِ نَسَبٍ؟!
فإنَّ التفكيرَ بهذهِ المُعطياتِ تكفي الإنسانَ ليَثُوبَ الى رُشدِهِ، ويُراجِعَ آثارَهُ، ويُعاتِبَ نفسَهُ على ما آلتْ إليهِ الأمورُ بسبَبِ موقِفِهِ مِنَ الأحداثِ والوَقائعِ.