بناء الذات الواعية قرانياً
قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) الانفال 24.
لا يوجد كتاب في الوجود انصف الانسان و قرأ شخصيته وعرَف قيمته كالقران الكريم، والمشتغلون بالعلوم الانسانية طرا لا ينكرون هذه الحقيقة، ففي القران يسمع صوت الانصاف صادحا، وتعلوا من منائره انسانية الانسان وكرامته، ومن ثم ثقته بنفسه، وفي كل اية من آياته عالم من الوجود له اصوله وفروعه واركانه وشرائطه، ولا غرابة في ذلك فهذا الكتاب الكريم خطاب للإنسان اصلا بلغة تتكثف فيها المعاني، وتتفاقم نحو حركة هادفة، من مستوى النص الى مستوى الخطاب، وذلك لا يتم الا اذا كان النص متحركا، لان النص ما لم يتجه نحو اثارة الجدل مع الواقع والثقافات القائمة، يظل راكدا، وبالتالي لا يمكن ان يؤسس لأي بنية معرفية، ولاتؤدى هذه الوظيفة الا من قبل ناطق بالنص قادر على ان يرتفع بأمواجه الى مستوى الخطاب فيحلل المفردات ثم يجمعها في نتائج ترتقي بالإنسان فكرا ووعيا وعاطفة وسلوكا، بمعنى اخر لابد من وجود انسان قد اوتي مرتبة تعبيرية متفوقة تمكنه من بيان مرامي النص واتساع ابعاده وتفكيكه وتبسيطه، فكان النبي المصطفى صلى الله عليه واله لقوله تعالى: (كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ )، الرعد، 30. وتتركز هذه التلاوة في تحريك مفاهيم القران في ربوع المجتمع حتى يهتدي طريق الحرية من الخرافة والشعوذة والمقولات الفلسفية الانحرافية المستوردة من الشرق او من الغرب، ولا يتحرر الانسان مالم ينبذ عنه احماله القديمة، من عادات وتقاليد ومفاهيم معيقة لحركته في البناء والاعمار، ولذا قال تعالى في وصف رائع لبعض وظائف النبي صلى الله عليه واله: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، الاعراف، 157.
ومن هذه الاية المباركة ننفتح على معاني جد عالية اذ اشارت الى ثلاث وظائف انيطت به صلى الله عليه واله:
اولا: وظيفة تربوية اخلاقية، (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ)
ثانيا: وظيفة قانونية تشريعية، (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ).
ثالثا: الغاء القوانين السابقة وتعطيلها، (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) ولما كانت المهمة الاخيرة شاقة جدا فلابد من التمهيد لها بتشريعات تتجاوب مع مستويات التقبل النفسي والعقلي للانسان، وهو ما يفسر التدرج في بعض الاحكام.
وما ان اتم مهمته الرسالية المباركة جاءه امر في اخر ايامه الشريفة بالتبليغ بخلافة امير المؤمنين عليه السلام والاعلان عن كفائته القيادية والفكرية وقدرته على تحمل عهدة الرسالة من بعده، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) المائدة، 67. فاعلن صراحة عن اهلية امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام في موقف مهيب حضاره الالاف من الصحابة، على حمل معاني القران الكريم وبيانها الى الناس، فلما اتم التبليغ نزل قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)، المائدة، 3.
وقد شهد له النبي صلى الله عليه واله بقوله: ( علي مع القران والقران مع علي). مستدرك الحاكم : كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم : 4628، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد، و لم يخرجاه .
والمعنى ان بيان القران ومعانيه واشاراته ولطائفه ومقاصده ومفاهيمه مع علي عليه السلام فقط، ولا تؤخذ الا منه، لا من غيره، فهو وذريته الائمة الهداة المنصوص عليهم، مفسروا القران على التنزيل، ومعنى على التنزيل: اي كما اريد لهذه النصوص الرسالية ان تتحرك في ضمائر الناس، بعيدا عن التمحلات والاقاويل والاجتهادات التي ادت الى تشرذم الناس وتفرق امرهم طوائف ومذاهب.
ويتلخص المقصد من هذه البحوث في الاشارة الى هذا التفسير المغفول عنه، بلغة عصرية، تساهم في بناء ثقافة قرانية على وفق الرؤية التفسيرية لال محمد عليهم السلام، وبالتالي تحريك الوعي الفردي والجمعي نحو البناء والاعمار، وقد اشرنا في بعض بحوثنا الى بعض التفاسير التي توقفت عند الرواية او شرح بعض المفردات او تلك التي اهتمت بالبحوث الفقهية او اللغوية او الفلسفية، وهي على اهميتها الا انها احجمت عن تقديم رؤى فكرية مستنبطة من الاية والرواية تواكب تغير الازمان، مما خلق حالة تقرب من تعويم الفكرة، واهمال مواكبة لغة العصر، فلم يجد المؤمن الموالي شيئا جديدا ومختلفا في تفاسير القران الكريم، هذا فضلا عن انغلاق بعضها لانغلاق اللغة التي كتب فيها، ولهذا تداعيات كثيرة اقلها الاتجاه نحو الاطاريح الغربية المنحطة التي تغزوا مجتمعاتنا الان، ولذا ارتأينا ان نركز في بحوثنا على ما به الامتياز الى حد ما مساهمة في الحفاظ على الهوية والانتماء..
وكيف كان فانه يمكن اجمال كيفية بناء الذات في القران الكريم بجملة من النقاط:
اولا: اكد القران الكريم على ضرورة التغيير بدأ من النفس الى المجتمع والحياة على طبق موازين وسنن تشريعية محكمة تتناسب والسنن الكونية، - لا تسع هذه العجالة للاستفاضة في هذا المطلب الشيق - قال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )، الرعد، 11.
ثانيا: يبدأ التغيير من القراءة والقراءة تعني فيما تعني التامل والتحليل واكتساب المهارات التي تؤتي الانسان المكنة على التغيير، قال تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ )، العلق، 1 5. أي اقرأ عليهم مبتدأ باسم الله تبارك وتعالى مفاهيم الرسالة الالهية الخاتمة التي جاءت لتحرر الانسان من سطوة الجهالات والضلالات التي لفها على رقبته وتكريما له من خلال التعليم والتربية على المفاهيم المحررة الجديدة..
وتكرار الفعل اقرا فيه مداليل عميقة لا يصل اغوارها الا المطهرون..
ثالثا: قرر القران الكريم ان الانسان رجلا كان او امرأة كريم، مكرم، مفضل، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)، الاسراء، 70.
وهذا التكريم يؤهله لأداء رسالته التغييرية، لأنه يهيئ له ارضية الثقة بالنفس والتصالح مع الذات.
ذلك لان النفس الانسانية اشرف النفوس في الموجودات كلها ولذا حباها الله جل شانه بالقوة العاقلة المدركة لحقائق الأشياء كما هي، حيث يتجلى فيها نور المعرفة الالهية وتشرق فيها معاني الجمال والجلال ليصل الى اسرار عالم الخلق ويحيط بعالم الوجود والموجود فلا مثيل لهذه القوة في الشرف والفضل..
ويمكن الاستزادة من هذه المعاني بمراجعة تفسير قوله تعالى: (الله نُورُ السموات والأرض)، النور، 35، في تفسير الميزان..
رابعا: يؤكد القران الكريم على حتمية الابتعاد عن الظلم بكل اشكاله ومستوياته، خاصة ظلم الانسان لنفسه فانه من اسوأ الظلم وهو وان كان امرا مستغربا الا انه واقع قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)، يونس، 44.
واول مراتب الظلم مهادنة العدو مع القدرة على المقاومة، والرضا بالحد الادنى، والقبول بحالة الجهل الناشئة من حب السلامة بأي ثمن، والركود، والخمول..
خامسا: يؤكد القران على ضرورة المصارحة مع النفس وعدم مخادعتها اوالكذب عليها حتى تستقيم وتتحمل المسؤلية، قال تعالى (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ )، البقرة،9.
سادسا: ومما يؤكد عليه القران الكريم ان الانسان يتحمل لوحده نتائج افعاله واقواله في الدنيا والاخرة، وهو رهين بما يصدر عنه، قال تعالى: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ )، الطور، 21. وفي هذه الاية المباركة وقفات معرفية لا يسعها المقام، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا )، الاسراء، 7. فكل ما يصدر عن الانسان من اساءة او احسان مردود عليه خيرا كان او شرا.
سابعا: يؤكد القران الكريم انه بامكان الانسان ان يقرر مصيره بنفسه اعتمادا على خلفياته الفكرية والمعرفية، قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )، الشمس، 7 9. فالانسان هو من يحدد فلاحه ونجاحه او خيبته وخسرانه..
ثامنا: يؤكد القران الكريم على ضرورة استشعار الانسان لعدوه دائما فان الغفلة مهلكة فان( من نام لم ينم عنه) كما عن امير المؤمنين عليه السلام،قال تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ )، فاطر، 6. وتتمثل عداوة الشيطان بالمنافقين واعداء الانسانية الذين يقتلون الانسان ويتامرون على وجوده وكرامته وقيمه ليل نهار..
وبالنسبة للاية المباركة التي ابتدأنا بها تصف دعوة الرسول صلى الله عليه واله بانها تحيي النفوس والعقول والمشاعر التي استولى عليها موت الجهل، وتعيد للانسان كرامته وثقته بنفسه وتنبهه الى قابلياته الكبيرة والتي بامكانه من خلالها ان يصنع المعجزات بعد دخوله في المرحلة العلمية. والحديث يحتاج الى مقام اخر يتحمل السعة والتبسيط.
والله المؤيد لعباده الصالحين







وائل الوائلي
منذ 1 يوم
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN