المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 16330 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
الحث على المشاورة والتواضع
2024-04-24
معنى ضرب في الأرض
2024-04-24
معنى الاصعاد
2024-04-24
معنى سلطان
2024-04-24
معنى ربيون
2024-04-24
الإمام علي (علي السلام) وحديث المنزلة
2024-04-24

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


قصة يوسف  
  
6628   02:03 صباحاً   التاريخ: 2-06-2015
المؤلف : د. محمود البُستانِي
الكتاب أو المصدر : دراسات فنية في قصص القران
الجزء والصفحة : ص 190-24
القسم : القرآن الكريم وعلومه / قصص قرآنية / قصص الأنبياء / قصة النبي إسحاق ويعقوب ويوسف /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 19-11-2014 1280
التاريخ: 11-10-2014 964
التاريخ: 11-10-2014 941
التاريخ: 1-12-2020 5193

لعل سورة يوسف هي السورة الوحيدة من السور الطوال في القرآن ، تتمحض لسرد قصة واحدة تستغرق السورة بأكملها ، دون ان يتخللها نثر غير قصصي : عدا الآيات التسع التي تنتهي السورة بها : وهي ـ في الواقع ـ تعقيب على القصة ذاتها.

ومن الواضح ، ان تخصيص سورة بأكملها لقصة واحدة : يتحرك من خلالها بطل رئيسي واحد ، ثم أبطال ثانويون يتحركون ضمن ذلك البطل... أقول : ان تخصيص سورة بأكملها لقصة واحدة ، انما يكشف عن أهمية هذه القصة وما تنطوي عليه من دلالات خطيرة ينبغي أن نضعها في الاعتبار ـ ونحن نتناول بالدارسة مثل هذه القصة.

والآن : ما هي الخطورة التي تنطوي عليها القصة أولا ؟ وما هي خطوط الشكل الفني الذي اعتمدت القصة عليه ، ثانيا؟

إن أهمية قصة يوسف تتمثل في تضمنها أحداثا ومواقف في غاية الإثارة. وهذه الاثارة ناجمة عن كونها تتصل بأهم الدوافع لدى الانسان وأشدها ألحاحا ، وفي مقدمتها : الدافع الجنسي.

يلي ذلك : دافع (الحسد) أو (الغيرة) ، وهو دافع ملح بدوره لا يكاد يتحرر الانسان منه إلا بالتدريب الشاق : من خلال الوعي الإسلامي بجذور هذا الدافع وطرائق تهذيبه أو التصعيد به ، أو التخلص منه.

هناك أيضا دافع ثالث ملح بدوره ، تكشف القصة عنه ، ألا وهو دافع السيطرة أو التفوق.

وفضلا عن ذلك كله : ثمة دوافع وحاجات وميول ومواقف تكشف القصة عنها ، مبينة لنا طرائق التعامل معها ، واشباعها بالطريقة السوية أو الشاذة.

هذه الحاجات والمواقف ستتبلور أمامنا بصورة واضحة ، حين نقف على تفصيلات هذه القصة ، وما تحفل به من أحداث وأبطال وبيئات ومواقف : وبخاصة أنها جميعا صيغت في شكل قصصي حافل بأنواع الاثارة الفنية.

الشكل الفني للقصة

لقد بدأت قصة يوسف على النحو التالي :

{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف : 4]

هنا ، أجابه أبوه ، قائلا :

{قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف : 5]

إذن : القصة تعتمد على مادة حلمية منذ البداية.

والحلم ـ كما هو واضح ـ يشكل في القصة المعاصرة بخاصة مادة فنية غنية في التقنية القصصية.

وأهمية الحلم تنبثق من كون الحلم ، واحدا من أهم فعاليات السلوك البشري : في الجانب اللاشعوري من الشخصية. ولذلك ، فإن استخدام مادة الحلم ـ في أعمال قصصية يكتبها البشر ـ إنما تعد ذات أهمية كبيرة ، نظرا لأهمية الجانب اللاشعوري من نشاط الانسان.

ونحن الآن لا يعنينا أن نتحدث عن اللاشعور بمعناه الارضي وافتراقه عن التفسير الإسلامي لللاشعور ، وصلة الأحلام بذلك, بل لهذا البحث مكان آخر تحدثنا عنه مفصلا في دراساتنا عن علم النفس الإسلامي ،... وإنما يهمنا الآن أن نشير فحسب إلى أهمية المادة الحلمية في العمل القصصي بصفتها واحدة من أهم فعاليات السلوك : في نطاقه خارج اليقظة ، أو ما يسميه البحث الأرضي : خارج (الوعي).

على أية حال... حين ننقل هذه الظاهرة الى نطاقها الإسلامي ، نجد ان الحلم وهو نمطان : صادق وكاذب ، إنما يعد الصادق منه جزء من الإلهام تدفعه السماء الى الشخصية : خارج يقظتها ، بغية الافادة منه في تصحيح السلوك : في نطاق الحالم نفسه ، أو نطاق الآخرين ، بحيث تتحقق الافادة إما بنحو خاص متصل بالحالم وبمن يعنيه أمره ، او بنحو عام متصل بالجماعات الانسانية كلها أو بعضها.

وحين نعود الى قصة يوسف نجد ان المادة الحلمية في هذه القصة قد شملت هذه الانواع الثلاثة من الأحلام ، أي :

1 ـ الحلم الخاص بشخصية الحالم نفسه.

2 ـ الحلم الخاص بمن يعنيه أمره.

3 ـ الحلم المتصل بالجماعات الانسانية.

اما الحلم الخاص بشخصية الحالم ، فقد تمثل في ثلاثة أحلام :

أ ـ حلم يوسف في رؤيته لأحد عشر كوكبا.

ب ـ ج ـ حلمي صاحبيه في السجن : في رؤية أحدهما يعصر خمرا ، ورؤية الآخر حاملا فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه :

{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ}.

وهذا كله فيما يتصل بشخصية الحالم.

أما فيما يتصل بمن يعنيه أمره ، فهو حلم يوسف بما يتصل بسلوك إخوته. ثم حلما صاحبيه من حيث صلتهما بالملك الذي يخدمه الاول ، ويصلب الآخر.

وأما النوع الثالث من الأحلام التي تتصل بالجماعة الانسانية ـ في هذه القصةـ فهو : حلم الملك الذي رواه على النحو التالي :

{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} [يوسف : 43]

وهذا الحلم يتصل ـ ليس بالحالم نفسه ـ بل برعيته أجمع من حيث خصب الأرض وجدبها.

اذن : الانواع الثلاثة من الأحلام ، وجدت طريقها في هذه القصة الحافلة بالأسرار الفنية المثيرة :

ليس هذا فحسب... فالمادة الحلمية لم تقتصر ـ في هذه القصة ـ على استقطابها للأنواع الثلاثة من الاحلام ـ بل تجاوزته أيضا ، إلى مهمة فنية أخرى هي : مهمة تفسير الأحلام الثلاثة.

إن تفسير الحلم يشكل بدوره جزء خطيرا من السلوك البشري.

فإذا كان الحلم فعالية لا شعورية أو فعالية غيبية ، فان تفسيره هو الذي يمنح المعنى او الدلالة التي ينطوي السلوك عليها.

من هنا ، فإن المادة الحلمية في قصة يوسف قد استكملت فنيا حينما أتبعت الحلم بتفسيره ، وتوضيح دلالاته.

فالأنواع الثلاثة من الأحلام ، لم يتركها النص القرآني بلا جواب ، بل أتبع كلا منها بالتفسير الذي ينطوي الحلم عليه.

ونقصد بالأحلام الثلاثة : أنواع الحلم من حيث صلته بالحالم ، أو بمن يعنيه من الخاصة ، أو بالجماعات الانسانية على نحو ما فصلنا الحديث عنه.

أما عدد الأحلام الذي وجد طريقه في قصة يوسف فهو أربعة احلام ، ذكرت في القصة ، يضاف إليها : حلمان ليوسف وابيه وذكرتهما نصوص التفسير ، فيكون المجموع ستة أحلام. أما ما نتناوله الآن ، فهو : أربعة احلام. وفي حينه نذكر الحلمين الآخرين.

1 ـ حلم يوسف في رؤيته أحد عشر كوكبا.

2 ـ حلم احد صاحبيه في السجن في رؤيته يعصر خمرا.

3 ـ حلم احد صاحبيه في رؤيته حاملا فوق راسه خبزا تأكل الطير منه.

4 ـ حلم الملك في رؤيته البقرات السمان والعجاف ورؤيته السنبلات الخضر واليابسات.

هذه الأحلام الأربعة ، قد أتبعت في قصة يوسف بتفسير كل واحد منها.

واليك : تفسيرات هذه الأحلام الأربعة :

1 ـ حلم يوسف : وقد فسره ابوه يعقوب على النحو التالي :

{لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا } [يوسف : 5]

2 ، 3 ـ حلم صاحبي يوسف في السجن : وقد فسرهما يوسف على النحو التالي :

{ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} [يوسف : 41]

{وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ} [يوسف : 41]

4 ـ حلم الملك : وقد فسره يوسف ايضا ، على النحو التالي :

{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف : 47 - 49]

هذه هي التفسيرات التي قدمها يعقوب ويوسف للأحلام الأربعة في القصة.

ومنها نستخلص : ان المادة الحلمية في قصة يوسف قد استكملت بإضافة العنصر التفسيري لها.

وبهذه الإضافة تكون المادة الحلمية قد تشكلت ـ فنياـ على النحو التالي :

1 ـ القصة أساسا قد اعتمدت على مادة الحلم من حيث دوران احداثها ومواقفها على حلم بطلها الرئيسي يوسف.

2 ـ القصة قد اعتمدت على اكثر من حلم يوسف وصاحبيه والملك : وهذا يعني ان عنصر الاحلام هو العصب الفني الذي قام عليه شكل القصة.

3 ـ القصة ـ في مادتها ـ الحلمية ـ قد استقطبت الانواع الثلاثة التي ينحصر الحلم الصادق فيها ، وهي : علاقة الحلم بصاحبه ، أو بمن يعنيه أمره ، أو بالجماعات الانسانية.

4 ـ القصة لم تقتصر في مادتها الحلمية على فعالية الأحلام فحسب ، بل تجاوزنه إلى فعالية تفسير الأحلام أيضا.

إن هذه العناصر الأربعة ، في مادة الحلم الذي قام شكل القصة عليه ، انما تكشف عن الخطورة الفنية التي انطوت عليها قصة يوسف ، من حيث جمالية البناء القصصي وخطوطه الهندسية التي تناسقت فيما بينها : حيث تلاقت على حلم رئيسي وأحلام ثانوية تتواكب معها : ومن حيث تلاقت على احلام فردية تخص حالما بعينه ، واحلام تخص شخصيات عادية واخرى غير عادية ، واحلام تخص جماعة صغيرة ، واحلام تخص جماهير الشعب بأكمله : ومن حيث انها اتبعت بتفسير الأحلام أيضا : ومن حيث انحصار التفسير في يوسف وابيه.

كل هذه الخطوط الهندسية المتناسقة من حيث اعتمادها على مادة الحلم ومستوياته المتقدمة أنما تفصح عن شكل فني له خطورته في نطاق البناء القصصي ، وانعكاس ذلك على الدلالات الفكرية في القصة.

ولآن : حين نتجاوز هذا البناء الفني القائم على مادة الحلم وتفسيره... اقول ، حين نتجاوز هذا البناء إلى أشكاله الفنية الأخرى ، فماذا سنجد حينئذ ؟؟

بناء الحدث

من حيث البناء الذي تتحرك الأحداث والمواقف من خلاله ، فان الحدث يأخذ تسلسله في الزمن الموضوعي : أي تسير القصة حادثا بحادث دون ان تقطع الأحداث وفقا لزمنها النفسي ، الا نادرا نتحدث عنه في حينه.

فالقصة تبدأ بحلم يوسف الذي فسره أبوه بأن إخوته في صدد ان يكيدوا له لو قص عليهم رؤياه.

ثم تأخذ الاحداث تسلسلها الزمني : بدء من إلقاءه في الجب ، مرورا بقضيته مع امرأة العزيز ، فإيداعه السجن ، فولايته على مصر ، فقضيته مع أخوته في حادثة الكيل ، وانتهاء بعودة ابويه واخوته إليه.

وأما البناء الداخلي ، للحدث ، فإن القصة تسير وفق معمارية بالغة الجمال : من حيث تداخل الاحداث وصلة بعضها بالآخر. ثم نموها عبر خطوط تتوازى وتفترق حتى تصب في نهر واحد في نهاية المطاف.

ولكن نتبين معالم هذا البناء ، يحسن بنا أن نقسمها الى عناصرها من أحداث وشخصيات ومواقف وبيئات وأفكار : نظرا لما ينطوي عليه كل عنصر من قيمة جمالية وفكرية لا غنى للمتلقي من الوقوف عليها ، حتى يتعرف على الأسرار الفنية لهذه القصة : ثم ما تنطوي عليه من أفكار تتصل بأهم دوافع السلوك البشري ، والافادة منها في تصحيح سلوكنا وتعدليه في ضوء مبادئ السماء التي تصوغ لنا أمثال هذه القصص حتى تكون عبرة لأولي الالباب : حيث ختمت القصة بهذه الحقيقة. وهي قوله تعالى :

{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف : 111]

ونقف أولا مع ابطال القصة ، بادئين بأبطالها الثانويين الذين ما رسوا مهمات محددة ثم ببطلها الرئيسي يوسف عليه السلام.

ويمكننا أن نحدد هؤلاء الشخوص الثانويين في :

1 ـ يعقوب.

2 ـ إخوة يوسف.

3 ـ الاخر الاصغر.

4 ـ العزيز.

5 ـ امرأة العزيز.

6 ـ نسوة المدينة.

7 ـ صاحبي السجن.

ومن الواضح ، ان مهمة البطل الثانوي ـ في أي شكل قصصي ـ تتمثل في ابراز هدف محدد ، وفي إلقاء الضوء على الشخصية الرئيسية ، مع ملاحظة ان بعض الأبطال الثانويين في القصص الأرضي ، قد يشكلون (وجهة نظر مبدع القصة نفسها) ، وقد يضطلعون بأدوار قد لا يتاح حتى للبطل الرئيسي ممارستها ، والمهم ان القصص القرآنية الكريمة تحدثنا بلغتنا التي نألفها ونتذوقها حسب استجابتنا التي ركبتها السماء وفق صياغة خاصة : تأخذ كلا من جانب الامتاع الجمالي والفكري بنظر الاعتبار ، وهو هدف الفن في كل أشكاله.

ان الابطال الثانويين في هذه القصة ، مارسوا أدوارا بالغة الأهمية ، بحيث يضطلع كل منهم بإبراز هدف محدد : يلقي ـ من جانب ـ إنارة على شخصية البطل يوسف ، ويبلور لنا ـ من جانب آخر ـ أفكارا معينة نفيد منها في تعديل السلوك.

ولعل كلا من يعقوب عليه السلام ، [اخوة يوسف] ، ينهضان بأدوار بالغة المدى بالقياس الى سائر الابطال الثانويين ، فيما تتجاذبهم من دوافع السلوك المتصل بدافع الابوة ، ودافع الحسد وسواهما.

كما ان [امرأة العزيز] تضطلع بمهمة خاصة تتصل بأحد (الدوافع) البشرية [الدافع الجنسي] ،... مثلما يظل سلوك [نسوة المدينة] قائما على دافع (الغيرة) والحسد والدافع الجنسي أيضا... في حين يظل سلوك [العزيز ـ ملك مصر] و[صاحبي السجن] ، متصلا بدوافع اخرى نتحدث عنها لاحقا.

ان ما يعنينا هنا ، أن نقف عند كل بطل ثانوي في القصة ، لاستخلاص المهمة الفنية التي نهض بها ، وتحديد موقعها العضوي من القصة.. ونبدأ بالبطل : يعقوب عليه السلام.

شخصية يعقوب

تظل هذه الشخصية ذات ملمح مأساوي في القصة ، نظرا للشدائد التي واجهتها. بيد ان المأساة هنا تكتسب جانبا عباديا يختلف عن المفهوم الأرضي للمأساة.

وأول ما يتبادر الى الذهن هو : دافع أو عاطفة (الابوة) التي تشكل من اقوى (الحاجات) إلحاحا عند الآدميين. وقد تضخم حجم هذا (الدافع) بعاطفة اخرى هي صغر سن ولده يوسف ،... ثم تضخم حجمه ثالثا بسمه (الجمال) الفائق الذي طبع ولده.

وفي ضوء هذا يمكننا ان نقدر مدى (الحب) الذي يكنه يعقوب لولده ، وبالمقابل ، ينبغي ان نقدر ايضا مدى (الألم) الذي سيلحق الاب حيال أي اذى يلحق بولده. ثم ينبغي ان نقدر مدى ضخامة المأساة في استجابة الاب ، عندما تضخم مأساة ولده ، الى الدرجة التي يفتقده ، وليس مجرد لحوق اذى به.

إن اول خيوط المأساة بدأت مع (الحلم) الذي قصه يوسف على أبيه. ويمكننا بسهولة ان نستكشف لغة المرارة في أعماق يعقوب ، وشدة تخوفه ، في رده على يوسف ، وتحذيره أياه من ان يقص رؤياه على اخوته : خشية ان يكيدوا به. قال لولده :

{يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} .

ان (الكيد) أو التآمر ليس مجرد مشاعر عدوانية تترجم الى سلوك لفظي وحركي عابر نألفه اعتياديا في سلوك غالبية البشر ، بل يعني حياكة عمل أو خطة للاطاحة بالشخصية وبحياتها ، وهو امر يكشف لنا عن مدى القلق والتمزق والتوجس الذي لف شخصية يعقوب ـ عليه السلام ـ منذ حدوث الرؤيا ، منعكسا في تحذيره الآنف الذكر.

أما من الزاوية الفنية ، فينبغي أن نتنبأ بالاحداث اللاحقة التي ستتحرك في بيئة القصة ، نتيجة لهذه الكلمة المحذرة من الكيد... أن هذا التحذير القائل : {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا ..} لم يرسم في القصة عبثا ، بل ينطوي على سمة فنية تتصل بالبناء العماري لهيكل القصة ، ألا وهي : تهيئة ذهن القارئ لأن يتوقع حدوث مأساة بالفعل : ولكن دون ان يتعرف تفصيلاتها.

ومن الحقائق المألوفة في حقل الادب القصصي ، ان عملية (التنبؤ) بما سيحدث ، تظل واحدة من ادوات الاثارة ، ولكن شريطة ألا تصبح بشكل جاهز ، والا فقدت القصة عنصر الاثارة بل ينبغي ان تحوم في دائرة ما هو (متوقع) ، مضافا الى تضبيب مستويات الحدث... فانت قد تتوقع مثلا أن يصيب بطلا ما أحد اشكال الاذى دون ان تتيقن ماذا سيحدث بالفعل : فقد يمرض مثلا أو يجرح ، أو يختطف ، أو يقتل ، أو يغترب الخ...

ومن هنا يجيء عنصر (التشويق) في القصة في معرفة ماذا سيحدث حيال البطل بديلا عن عنصر (التنبؤ) بالاحداث اللاحقة ، فإن عنصر (المفاجأة) سيلعب حينئذ دورا له فاعليته في هذا الصدد...

والمهم ، إن تحذير يعقوب لولده ، يتضمن [من الوجهة الفنية] عنصر (تنبؤ) بما سيحدث ،... بيد ان تضبيب أو عدم معرفة ما سيحدث ، هو الذي سيحقق لدى المتلقي عنصر اثارة كبيرة هو : التشويق لمعرفة هوية الحدث الذي سيواكب مصير يوسف عليه السلام.

والآن ـ خارجا عن السمة الفنية المذكورة ـ يعنينا أن نعيد إلى ذاكرتنا من جديد ، ان أول خيوط المأساة التي احاطت بيعقوب ـ عليه السلام ـ هي : توقعه لكيد أو مؤامرة كبيرة تحاك ضد ولده في حالة قصه الرؤيا على أخوته... كما ان القارئ يتوقع أيضا ان يكون قلق يعقوب ـ عليه السلام ـ بالغ الشدة لجملة من الأسباب : أولها ، ان يعقوب احدى الشخصيات المصطفاة التي لا تتحدث من خلال التنبؤات العادية ، بل تتحدث من خلال لغة (الوحي) ، مما يعني انها مقتنعة تماما بان (مؤامرة) ضخمة ستحاك ضد ولدها يوسف في حالة قصه رؤياه على الاخوة...

مضافا لذلك ، ان بعض النصوص المفسرة ، ذهبت الى ان (يعقوب) قد وعدته السماء بان يستعد لمجابهة الشدائد : إمتحانا لحادثة سابقة تتصل بأحد السائلين الذين شكك يعقوب ـ عليه السلام ـ بصدق جوعه...

إذن : كل أسباب القلق والخوف على مصير يوسف عليه السلام ، تأخذ الآن في اعماق يعقوب عليه السلام ، حجما كبيرا من الشدة.

ثم تبدأ الشدائد ، متجسدة في وقائع بالفعل ، بعد ان كانت مجرد احاسيس ومشاعر.. واول هذه الشدائد تبدأ مع طلب اولاده باصطحاب يوسف عليه السلام ، حيث عبر الأب عن بالغ تخوفه من هذا الطلب ، قائلا بمرارة :

{إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف : 13]

ان هذا التخوف ، يشكل عنصر إضاءة جديدة لمخاوف يعقوب وشدائده القلبية. كما انه يشكل [من الوجهة الفنية] إرهاصا جديدا بان (حادثة) ما ، ستحاك ضد يوسف عليه السلام.

وهنا تأخذ القصة طابعا فنيا بالغ الامتاع. فالقارىء قد يتوقع ان تسفر مصاحبة يوسف لأخوته عن حادثة افتراس من الذئب حقا. غير ان هذا التوقع سيخفت عندما تكشف القصة عن ان الافتراس لا يتم بالفعل ، بل ان ما يتم هو : حادثة (افتعال) لعملية افتراس الذئب ليوسف عليه السلام... ومن هنا ، يمكننا ان نستكشف مدى جمالية هذا المنحى من القص :

فأولا : سنعرف ان لهذا التخوف من افتراس الذئب ، حقيقة ستكشف القصة عنها ، وهي : ان اخوة يوسف ـ عليه السلام ـ سيجيئون الى ابيهم عشاء يبكون ، وسيقولون له : ان الذئب قد أكل يوسف ونحن عنه غافلون.

ثانيا : سيفاجأ القارئ بحدث جديد هو : القاء يوسف في البئر ، وليس افتراسه من قبل الذئب.

وبهذا المنحى من صياغة القصة ، تتحقق اثارة فنية كبيرة الامتاع ، حيث تقوم على عنصرين هما : المفاجأة ، ثم : التشويق لمعرفة ماذا سيحدث من تفصيل ونتائج من هذه العملية.

وواضح ، ان القصة تبلغ قمة الاثارة بقدر ما يتوفر فيها كل من (مفاجأة) ما حدث ، و(تشويق) لما سيحدث... وهذا ما حققته هذه الشريحة من تحرك البطل يعقوب ـ عليه السلام ـ في بيئة القصة.

ثم جاءت المرحلة الثالثة من خطوط المأساة ، بالغة قمتها : عندما بلغه خبر الذئب وافتراسه ليوسف عليه السلام.

لكنه أدرك كذب هذا القول منهم ، فخاطبهم بمرارة :

{بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [يوسف : 18] طبيعي ، ان نستكشف بسهولة ، ان (يعقوب) وهو يتعامل مع (الوحي) وليس مع موازين الأرض ، أدرك ـ كما قلناـ أن قضية الذئب لا واقع لها من الصحة. غير ان ما يعنينا من ذلك هو : هذه الفقرة (فصبر جميل) ، فيما تفصح عن دلالتين ، إحداهما : بلوغ المأساة قمتها ، بعد ان وقع ما كان يخشاه... الأخرى : ممارسته لفضيلة (الصبر) التي تستهدفها القصة في هذا الجزء منها.

ثم جاءت المرحلة الرابعة من خطوط المأساة ، بعد أن أخلي يعقوب ـ عليه السلام ـ من مسرح الاحداث [بدء من إلقاء يوسف في البئر ، فقضيته مع امرأة العزيز ، فلبثه في السجن ، فتعيينه خازنا على الارض] ،... جاءت هذه المرحلة بولد جديد يحمل بعضا من سمات يوسف ـ عليه السلام ـ هو : اخوه الصغير لأبيه (بنيامين)...

لقد اصبح يوسف ـ عليه السلام ـ خازنا ، واحتاج الجمهور الى الطعام ، ومنهم : أسرة يعقوب عليه السلام ، فيما اضطر الاخوة إلى توجه نحو يوسف. بيد ان (يوسف) ـ لحكمة خاصة ـ يطلب من الاخوة ان يصطحبوا أخاهم الصغير (بنيامين) ،... وجاؤا الى الاب ، فقال لهم :

{هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ}؟

ثم اوصاهم بهذه الفقرة التي تنضح بالمرارة والخوف :

{يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} [يوسف : 67]

ثم وقع المحذور الجديد وهو : ضياع (بنيامين) أيضا عبر حادثة (السرقة) التي افتعلها يوسف ـ عليه السلام ـ لحكمة خاصة... وعندها وجه يعقوب ـ عليه السلام ـ لاولاده نفس الفقرة التي عقب عليها على مصير يوسف عليه السلام ، قائلا : {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} , لكنه الآن ، يعلق بعض الآمال على يوسف وبنيامين ، قائلا :

{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا...} [يوسف : 83]

المهم ، ان هذه الواقع التي بدأت بالتخوف على (بنيامين) ، والأمر بدخول الاخوة من أبواب متفرقة ، ثم : إخباره بايداع (بنيامين) في السجن ،... هذه الوقائع تحفر في اعصاب يعقوب ـ عليه السلام ـ آثارا جديدة من الشدائد ، حتى توجت بنهاية موجعة كل التوجع ألا وهي فقدانه لعينيه ، فيما تكشف عن ذلك هذه الفقرة القصصية :

{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ..} [يوسف : 84]

لقد ظل يعقوب ـ عليه السلام ـ باكيا ، وذاكرا ليوسف عليه السلام ، حتى قال له اولاده :

{تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} [يوسف : 85]

وها هو يجيبهم :

{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ..} [يوسف : 86]

إذن : بلغت المأساة قمتها ، واشد ، حينما فقد يعقوب (يوسف) و(بنيامين) ، وبصره ، مضافا الى استحضاره ذكر يوسف إلى الدرجة التي ضج منها اولاده : كما لحظنا.

إن موقف الاولاد نفسه ، يضيف الى حجم المأساة ثقلا جديدا دون ادنى شك... فهاهم حينا يتهمونه او لنقل : يوجهون إليه كاملا لاذعا من نحو (حتى تكون حرضا) و(تكون من الهالكين)... وها هم حينا آخر يقولون له (انك لفي ضلالك القديم) ، وهذا بعد ان اطمأن يعقوب ـ عليه السلام ـ إلى حياة ولديه من خلال (القميص) ومن خلال (قنوات) غيبية ، أطلعته على ذلك.

في نهاية المطاف ، تظل شخصية (يعقوب) بصفته احد الابطال الثانويين في القصة ، (رمزا) أو (دلالة) أو (نموذجا) للأب ، أو لدافع البنوة بما يواكب هذا الدافع من شدائد لا مناص منها في عملية (الاختبار) ، ثم ما ينبغي ان يزامن هذا الشدائد من عملية (الصبر) التي تظل موضع تشدد القصة ، متمثلا فيما كرره يعقوب ـ عليه السلام ـ مرتين بقوله : (فصبر جميل) عند بلوغه خبر فقدان كل من يوسف وبنيامين.

مضافا لذلك ، نستكشف دلالة ثالثة في رسم هذه الشخصية الثانوية (يعقوب) ، ألا وهي : النتائج التي يفرزها (الصبر) والتوكل على الله ، فيما ينبغي ان نقف عندها أيضا.

لقد عاشت المأساة في اعماق يعقوب ـ عليه السلام ـ سنوات طوالا : بدأت مع حلم يوسف ـ عليه السلام ـ : بل مع تلك المقولة التي ارسلتها السماء الى يعقوب حينما أوحت له بان يستعد لمواجهة الشدائد ، متبلورة في ابتلائه بسلوك اولاده ، ففقدانه يوسف عليه السلام ، ثم فقدانه بنيامين أصغر أولاده ،... ثم ذهاب نور عينيه...

إلا ان لكل ليل صبحا.. ولكل شدة فرجا... وها هي خيوط الفرج تبدأ بالاقتراب... ، حيث تذكر لنا النصوص المفسرة أن جبرئيل بشر يعقوب ـ عليه السلام ـ بان ولديه لو كانا ميتين لبعثهما الله إليه ، موصيا إياه ان يصنع طعاما للفقراء قبال سلوكه السابق الذي منع الطعام عن جائع ذات ليلة عبر تصوره بكذب دعوى الجائع.

وتقول هذه النصوص أيضا ان يعقوب ـ عليه السلام ـ دعا الله أن يهبط عليه ملك الموت ، فأجابه سبحانه وتعالى إلى ذلك ، ولما سأل ملك الموت عن مرور روح ابنه يوسف ـ عليه السلام ـ عليه ، أجابه الملك بـ : لا. حينئذ خفت حدة المأساة في اعماق يعقوب ـ عليه السلام ـ وبدأ الفرج يلوح على الأفق ، حيث اطمأن يعقوب ـ عليه السلام ـ على سلامة ولده.

وفي ضوء هذا الأطمئنان ، وجه يعقوب ـ عليه السلام ـ الى اولاده هذا الطلب :

{يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف : 87]

وفعلا ، عندما ذهب اولاده الى اخيهم يوسف ، واخبرهم بحقيقة الأمر ، عندها قال لهم :

{ اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } [يوسف : 93] وما أن انطلقت القافلة التي تحمل قميص يوسف ـ عليه السلام ـ من مصر متوجهة نحو بادية الشام ، حتى هبت الصبا حاملة إلى يعقوب رائحة القميص ، فتوجه الى احفاده قائلا :

{ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ } [يوسف : 94]

إلا ان احفاد يعقوب فيما يبدو كانوا بمنأى عن معرفة عطاء السماء وما يحفل به من إعجاز ، وأبوا ألا ان يوجهوا الى جدهم قدرا من الألم حينما قالوا له :

{تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ } [يوسف : 95]

ولكن يعقوب ـ عليه السلام ـ ـ وهو المؤمن بعطاء السماء الذي لا حد له ـ كان على يقين تام بالبشارة.

ولذلك ما أن جاءه البشير والقى القميص على وجهه حتى تحققت البشارة فارتد بصيرا بعد العمى :

{فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا} [يوسف : 96]

وعندها قال لاولاده :

{أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يوسف : 96]

وهكذا ، بدأت المرحلة الجديدة من حياة يعقوب عليه السلام ،... بدأت بانفراج الأزمة ، بدأت بمسح المأساة من أعماقه ، فقد اطمأن إلى يوسف عليه السلام ، وعادت عيناه بصيرتين كما كانتا قبل المأساة...

ثم تتوجت هذه الحياة الجديدة بالتئام الشمل : حيث توجه وأهله أجمعون نحو مصر ، نحو ولده الذي تربع على عرش مصر. وعندها :

[رفع ـ أي يوسف ـ ابويه على العرش وخروا له سجدا].

وقال يعقوب عليه السلام ، مخاطبا يوسف : السلام عليك يا مذهب الأحزان.

نعم : لقد هتف يعقوب : معربا عن فرحته العظيمة ، عن ذهاب الحزن من أعماقه ، عن ذهاب مرحلة من حياته واستقبال مرحلة جديدة : مرحلة لم الشمل وعودة الأهل بعضهم الى البعض الآخر.

وإذن : نستخلص من حديثنا عن احد الابطال الثانويين ـ في قصة يوسف ـ عليه السلام ـ ـ وهو : البطل يعقوب عليه السلام ،... نستخلص جملة من الحقائق الفكرية والفنية من خلال الادوار التي مرت على هذا البطل.

إن أهم الافكار التي ينبغ استخلاصها من حياة البطل : يعقوب هو : تحمل الشدائد وضرورة التوكل على الله. فالشدائد ينبغي ألا تحمل الشخصية على الجزع منها واليأس من الفرج الذي يتبعها. فيعقوب ـ عليه السلام ـ بالرغم من فقدانه لولديه الأثيرين لديه جدا. وبالرغم من طول المسافة الزمنية التي افتقد فيها ابنه يوسف عليه السلام ، لم ييأس من ورح الله ، حتى انه خاطب اولاده قائلا :

{ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [يوسف : 87]

هذه الفقرة أو الآية تمثل جوهر الأفكار التي تنطوي عليها حياة يعقوب ـ عليه السلام ـ في القصة. فالنص القرآني الكريم يشدد على هذا الجانب ، ويطالبنا ألا نيأس أبدا من عطاء السماء مهما امتد زمن المأساة وطال. بل إن هذا الجانب يلقي بأضوائه على كل أفكار القصة أساسا وليس من خلال الادوار التي قام بها يعقوب ـ عليه السلام ـ فحسب ، بل اننا لنجد ان خاتمة القصة ، أو التعقيب الذي أنهت السماء قصة يوسف ـ عليه السلام ـ به ، هذا التعقيب كان يحوم بدوره على فكرة عدم اليأس من نصرة السماء لعبدها : سواءا كان هذا العبد يتحرك من خلال همومه الذاتية : كما هو شأن يعقوب ـ عليه السلام ـ مع أولاده ، أو كان يتحرك من خلال همومه الاجتماعية أو الرسالية : كما هو شأن الأنبياء والمصلحين.

ولذلك جاءت خاتمة قصة يوسف ، تحوم على ابراز هذا الجانب من حياة الرسل :

يقول النص في الآية التي تسبق ختام السورة :

{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا } [يوسف : 110]

إذن : ينبغي ألا تفوتنا هذه الصلات الفنية بين أبطال ثانويين مثل يعقوب عليه السلام ، وبين افكار القصة بأجمعها : فيعقوب ـ عليه السلام ـ هو بطل ثانوي تجسدت حياته في جملة من الأدوار التي لحظناها في القصة. وكان جوهرها يتمثل في : تحمل الشدائد وعدم اليأس من نصرة السماء {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف : 18]

فهذه الاجابة الحاسمة ، تكشف عن ان كل الملامح الخارجية التي افتعلها الابطال بالنسبة للحدث ولأنفسهم ، قد فقدت فاعليتها ، وان ملامح الجريمة هي التي طغت عل كل شيء.

وفي هذا : عظة لمن اعتبر.

الدور الثالث لأخوة يوسف ـ عليه السلام ـ في هذه القصة : يتمثل في ذهابهم إليه وهو يتربع على عرش مصر ، بيده خزائن الأرض واقوات الناس.

لقد أصحاب القحط الأرض. ويوسف ـ عليه السلام ـ هو الذي يوزع القوت على الجمهور. وآل يعقوب احدى الأسر التي اضطرت الى الذهاب لمصر لتحصيل القوت. حيث جمع يعقوب ـ عليه السلام ـ اولاده وأمرهم بالذهاب الى مصر ، وفعلا ، قصدوا مصر :

{ وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} [يوسف : 58]

يبدو ان معرفة يوسف لهم وما تجدد له من حياته معهم ثم ما رآهم عليه الآن من الحرمان والفقر والمأساة التي كانت تظهر بارزة في وجوههم وأشياء من هذا القبيل تلمح من خلال هذه الجملة (فعرفهم وهم له منكرون) وقد رأى أنكارهم له أيضا من جملة تلك المآسي والحرمان.

{وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [يوسف : 59]

كأن يوسف يريد بقوله (اخ لكم من ابيكم) أن يشعرهم ويلفتهم الى واقع الامر وأنه يعلم كل شيء ولكنهم لم يفهموا هذا التلميح.

{فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [يوسف : 60 - 69]

{فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف : 70]

{قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} [يوسف : 71 ، 72]

{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} [يوسف : 73]

{قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ} [يوسف : 74 - 76]

{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا} [يوسف : 77]

{قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف : 78]

{قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} [يوسف : 79]

{ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف : 80 - 82]

هنا : النصوص القصصية ، تسرد لنا دورا ثالثا يضطلع به الإخوة.

طبيعي ، لا تحدث عن الاسباب التي دعت يوسف ـ عليه السلام ـ الى ان يطالبهم بأخيه ، ثم يحتجزه لديه ، بل : ذاك امر نرجىء الحديث عنه عندما نتناول البطل الرئيسي في القصة أي : يوسف عليه السلام.

اما الآن ، فيهمنا ان نوضح دور الإخوة في هذه الشريحة من القصة ، وهو دور مماثل من جانب لدورهم مع يوسف ـ عليه السلام ـ من حيث عملية الاصطحاب ، لكنه مختلف عنه من حيث دوافع السلوك.

ان نقاط التلاقي والافتراق في هذا الدور ، تتمثل في ما يلي :

1 ـ من حيث نقاط التلاقي

لقد اصطحبوا في هذا الدور أخا أصغر لهم هو (بنيامين). ومن قبل اصطحبوا أخا أصغر هو يوسف. كما انهم اعطوا اباهم عهدا بأن يحفظوا يوسف من الأخطار ،... وهنا أيضا رددوا نفس العبارة ، حيث قالوا : (وإنا له لحافظون) بالنسبة الى بنيامين. مع ملاحظة ان كلا من بنيامين ويوسف ، يشكلان موضع (حسد) من الأخوة.

2 ـ واما حيث نقاط الافتراق

فإن دوافع السلوك في هذا الدور ، تظل مختلفة عن الدور السابق مع يوسف.

فهنا بالرغم من كرههم لبنيامين ، إلا انهم لم يظهروا نوايا سيئة حياله في هذه الرحلة. ففي رحلتهم مع يوسف عليه السلام ، كانوا هم المطالبين بذلك : اما في رحلتهم مع بنيامين فإن خازن الأرض هو الذي طالبهم بذلك ، أي : إنهم اكرهوا على ان يصحبوا بنيامين لاسباب تتصل بالحصول على الطعام. وتبعا لذلك ، اضطر أحدهم ـ وهو الاكبر ـ ان يعطي مؤثقا لأبيه يتكفل من خلاله بارجاع بنيامين سالما ، دون ان يكون ذلك بدافع من رغبة ، بل بدافع من الحصول على الطعام.

ولهذا السبب ـ سنجد في الدور الرابع للأخوة ـ أن الاخ الذي اعطى موثقا لابيه بارجاع بنيامين ،... هذا الاخ ظل باقيا في مصر ولم يرجع مع الاخوة عندما احتجز يوسف أخاه بنيامين في حادثة افتعال السرقة.

ومهما يكن ، فإن اخوة يوسف في هذا الدور ، لم يضمروا اية نوايا سيئة مع اخيهم الاصغر بنيامين ، بل انهم امتثلوا أمر أبيهم باصطحابه والمحافظة عليه والدخول من ابواب متفرقة الخ...

ولكن هذا الدور المتسم بالحرص على بنيامين ، قد خبأت له الاقدار حوادث مفاجأة لم تخطر ببال الاخوة قط...

وإذا كان الاخوة قد طبخوا مؤامرة خطيرة على يوسف ، فان يوسف الآن ، يتهيأ لطبخ مؤامرة عليهم : من خلال الاخ الأصغر بنيامين : حيث سيضع الكيل في رحل بنيامين ، ويتهم الجماعة بالسرقة ، حتى يحتفظ ببنيامين ، ويبقيه معه ، لأسباب نفصلها فيها بعد : حينما نتحدث عن دور البطل الرئيسي يوسف عليه السلام.

اما الآن ، فيهمنا ان نتحدث عن ردود الفعل التي لحقت الإخوة في مواجهتهم ليوسف ـ عليه السلام ـ أولا وهم لا يعرفونه ، وفي ردود الفعل التي لحقتهم بعد اطلاعهم على حادثة السرقة المفتعلة.

ثم يهمنا بعد ذلك : ان نبين هذا النمط من البناء الهندسي للقصة ، حيث يقوم البناء على خطوط متوازنة من طبخ المؤامرات ، ثم وقوع الاخوة الصغار ضحية هذا التآمر ،... ثم وجود الفارق بين نمطين من التآمر : احدهما ينطلق من ظاهرة (الحسد) والنزعة العدوانية بعامة ، مقابلا للنزعة الخيرة التي انطوت المؤامرة الثانية عليه : حيث حيكت لأسباب انسانية تستهدف المصلحة الخيرة التي ستسفر عنها كل الحوادث والمفاجآت في القصة.

وأخيرا ، يهمنا ان نبين أيضا عنصر (المفاجأة) في القصة وهو عنصر فني له خطورته الكبيرة في ميدان الشكل القصصي.

والآن ، نتقدم أولا بتوضيح الجانب الفكري ، متمثلا في ردود الفعل التي صدرت عن الاخوة تجاه يوسف عليه السلام ، عندما دخلوا عليه وهم لا يعرفونه.

وتقول النصوص المفسرة ، ان يوسف ـ عليه السلام ـ حينما قابلهم وهم يعتزمون الحصول على الطعام : سألهم عن هويتهم ، فأجابوه بانهم من ارض الشام.

ولما قال لهم : أخشى ان تكونوا جواسيس على بلادنا ، أجابوه بانهم اولاد نبي من انبياء الله وهو يعقوب عليه السلام ، وان اباهم لشخص محزون.

ثم سألهم عن سبب حزن أبيهم : فأجابوه بانهم قد كان لهم اخ صغير صحبوه ذات يوم في الصيد ، فأكله الذئب.

هنا ، يعنينا ان نشير الى ان الاخوة مارسوا في هذا الموقف ، نفس السلوك السابق : القائم على الكذب. وهو موقف سيترك أثره على يوسف ـ عليه السلام ـ دون ادنى شك ، حيث يقتنع تماما بان الاخوة لا يزالون عند سلوكهم السابق.

ومما عزز هذه القناعة ، ان اخوة يوسف ، اضافوا الى موقفهم السابق ، موقفا سلبيا جديدا يكشف عن إصرارهم على الصدور من الاعماق الحاسدة ، والى ان تنفيذهم لعملية إلقاء يوسف في البئر لم تشف أعماقهم من الحسد. ففي حادثة افتعال السرقة للكيل ، وجهوا ليوسف ـ وهم لا يعرفونه بطبيعة الحال ـ وجهوا له تهمة السرقة عندما قال لهم : أن اخاهم الاصغر بنيامين قد سرق صواع الملك. هنا قال إخوة يوسف ـ عليه السلام ـ :

{إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف : 77]

هذه الإجابة ، تكشف عن أن اخوة يوسف ـ عليه السلام ـ لا يزالون يصدرون عن موقف حاسد ليوسف بالرغم من انهم تخلصوا منه في حادثة إلقائه في البئر... انهم ، مع ذلك كله ، يتهمونه بالسرقة دون ان يكون هناك مسوغ لهذه التهمة.

والمهم ، ان يوسف ـ عليه السلام ـ اكتشف هذه الحقيقة ، وانها لحقيقة بالغة الأهمية دون ادنى شك ، ما دامت تفصح عن حقيقة الأعماق الحاسدة لهؤلاء الإخوة ،حتى انه صرح بمرارة ، متحدثا مع نفسه ، قائلا :

{أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} [يوسف : 77]

امرأة العزيز

هذه الشخصية الثانوية ، لعبت في القصة دورا لافتا للانتباه ، لا يقل في أبعاده المأساوية عن المؤامرة التي حاكها اخوة يوسف عليه السلام.

ان كلا من اخوة يوسف ـ عليه السلام ـ وامرأة العزيز ، يجسدان بناء هندسيا قائما على (الموازنة) الفنية في حركة القصة : من حيث انطوائهما على دلالات (متجانسة) ، ومن حيث تأثيرهما على شخصية يوسف ـ عليه السلام ـ وتحديد المصائر التي انتهى البطل اليها.

وهاتان الشخصيتان ـ في الآن ذاته ـ تتحركان من مواقع متفاوته ، وتفرزان دلالات متفاوتة أيضا. ومن هنا يمكننا ان نستكشف خطورة الفن الذي (يجمع) بين المتضادات ، ويضاد بين الوحدات المتماثلة ، أو لنقل : الفن الذي يحقق عنصر (التضاد) من خلال (التماثل) ، و (التماثل) من خلال (التضاد).

ثمة مؤامرتان. أحداهما تنطلق من دافع (الحسد) ، والأخرى من [الدافع الجنسي] ، وهما متضادتان... غير انهما تقتادان الشخصية الى سلوك مماثل هو : التآمر. الاولى يمثلها رجل ، والثانية تمثلها امرأة ، وهما متضادتان ، لكنهما تتماثلان في تخطيط السوء.

الأولى ، يمثلها أخوة ، أقارب. والثانية يمثلها من الاباعد ، امرأة غريبة ، وهما متضادتان... الاولى : حادثة إلقاء في البئر ، والثانية : حادثة إلقاء في السجن ، وهما متماثلان.... الاولى : محاولة (تخلص) من يوسف. الثانية ، محاولة (تعلق) بيوسف ، وهما متضادتان... وهكذا...

اذن : كمن هو جميل ، وممتع : مثل هذا البناء الهندسي لمنطقين من ابطال القصة الثانويين ، فيما يقوم الهيكل على عنصر التضاد ، والتماثل ، والوحدة بينهما...؟

ولكن ، لندع عمارة القصة فنيا ، ولنتجه إلى امرأة العزيز لملاحظة الدلالات الفكرية لسلوكها ، وانعكاس ذلك على شخصية البطل يوسف عليه السلام.

فيما يتصل بالدافع الجنسي ، لا حاجة الى الحديث عنه ، بقدر ما ينبغي لفت الانتباه الى (المقارنة) بين سلوك امرأة العزيز ويوسف ، حيث يمكننا ان نستخلص بسهولة : إمكانية السيطرة على الدافع الجنسي : من خلال سلوك يوسف ذاته. ثم ، نتائج مثل هذه السيطرة التي حولت يوسف ـ عليه السلام ـ [وهو عبد اشترته إحدى القوافل بدراهم معدودة] إلى (ملك) ،... وبالمقابل ، تحولت زوجة الملك ، الى [امرأة بائسة] ، فيما تقول النصوص المفسرة ان امرأة العزيز قالت له بعد ان التقته ملكا وقد افتقرت [الحمد لله الذي جعل الملوك بالمعصية عبيدا ، والعبيد بالطاعة ملوكا].

هذه الفقرة التي ذكرتها بعض النصوص ، تلقي كلمة حاسمة في تحديد نتائج التحكم والسيطرة على الدافع الجنسي ، ونتائج عدم السيطرة ، فيما تجعل الملوك عبيدا بسبب من المعصية ، وتجعل العبيد ملوكا بسبب من الطاعة ، وكفى بذلك عظة لمن اعتبر.

اذن : الدلالة الاولى التي نستخلصها من هذه الشخصية ، هي : ان الالتواء في السلوك الجنسي ، ومحاولة ممارسته بنحوه غير المشروع ، يقتاد الشخصية إلى نتائج ليست في صالح الممارس : حيث اخفقت امرأة العزيز في تحقيق الممارسة. فضلا عن أنها قادتها الى المصير البائس الذي نقلته النصوص المفسرة.

الدلالة الثانية لهذه الشخصية ، هي : ان المرأة التي لا تخاف الله ، قد تتحول من شخصية (محبة) الى شخصية (معادية) في ساعات محدودة [ في حالة عدم تحقيق حاجاتها غير المشروعة] ، حتى وصل الأمر إلى ان تودع البطل في السجن ، فضلا عن تشويه سمعته ، على النحو الذي سردته القصة مفصلا. ومن هنا ندرك أهمية الحقيقة التي اشار اهل البيت ـ عليهم السلام ـ الى ما مؤداه : من ان المرأة تصبر على (الحب) اعواما ، لكنها لا تكتم (كراهيتها) ساعة. حتى انها لا تتورع البتة من ايقاع الرجل في التهلكة : سواءا كان ذلك متصلا بتشويه سمعته ، أو بأنهاء حياته.

أما فيما يتصل بالإنارة التي القتها هذه الشخصية على البطل يوسف عليه السلام ، فتتمثل في كشفها أولا عن نظافة يوسف ، وصبره ، وتقواه ، وايثاره السجن على ما هو محرم ، حتى انها اضطرت ـ في نهاية المطاف ـ الى الاقرار بنزاهة يوسف عليه السلام ، وهو ما يشكل قمة الانارة في مهمة هذه الشخصية الثانوية ، شخصية يوسف عليه السلام.

وقد ترتب على ذلك ، أن تحولت هذه الشخصية من امرأة سيئة ، الى امرأة ايجابية أعلنت عن مفارقة سلوكها ، وأقرت بنظافة يوسف عليه السلام ، أي : رسمت هذه الشخصية ـ حسب لغة الادب القصصي ـ شخصية (نامية) وليست (مسطحة) ،... شخصية ، بدأت في أول القصة تخاطب زوجها : (ما جزاء من أراد بأهلك سوء). وانتهت بهذا الاقرار : (انا راودته عن نفسه)... بدأت (كاذبة) وانتهت (صادقة).

ولا يغب عن ذاكرتنا ، ان اخوة يوسف ـ عليه السلام ـ بدورهم ، بدأوا ـ في القصة ـ وهم متآمرون ، وانتهوا (تائبين) ، مما يشكل بعدا جديدا من عناصر (التماثل) الفني ين نمطي الشخصيات الثانوية التي سبقت الاشارة الى صياغتها متضادة من خلال التماثل ، ومتماثلة من خلال التضاد.

والمهم ، ان دلالة (التعديل) في السلوك ، ينبغي ألا نغفلها ايضا عبر وقوفنا على هذه الشخصية الثانوية (امرأة العزيز).

نسوة المدينة

كان اخوة يوسف ـ بصفتهم جزء من الابطال الثانويين في القصة ـ قد جسدوا ظاهرة (الحسد) كما لحظنا.

ويبدوا أن النص القصصي يريد أن يلفت انتباهنا الى هذه الظاهرة بكل محدداتها ، بما في ذلك : الفروق بين الجنسين ، فابرز لنا ظاهرة الحسد أو الغيرة في العنصر النسوي أيضا ، في نطاق التجارب الخاصة بالمرأة.

ولنقرأ النص القصصي أولا :

"وقال نسوة في المدينة : امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا ، إنا لنراها في ضلال مبين :

{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف : 31 ، 32]

إن ما يلفت الانتباه لدى نسوة المدينة ، أن الدافع إلى انتقادهن امرأة العزيز لم يكن فيما يبدو موضوعيا نابعا من إحساسهن بالفضيلة ، بل كان نابعا من الحسد والغيرة ، حيث وجدن ان امرأة العزيز حظيت برجل حرمن هن منه.

إن النص القرآني الكريم ، يريد ان يبرز في هذا الدور الثانوي لنسوة المدينة... يريد ان يبرز لنا ظاهرة كم هو حري بالمرأة ان تلتزم بها في نطاق علاقتها بالجنس الآخر.

انه يريد ان يقول للمرأة : عليك أن تتحركي في السلوك من خلال الموضوعية لا من خلال الذات. عليك أن تنهي عن المنكر لانه منكر فحسب لا لأنه منكر بالقياس الى سواك ، وغير منكر بالنسبة إليك.

فالمفروض ان تنتصر المرأة للفضيلة : حبا بالفضيلة ، والتزاما بأوامر الله سبحانه وتعالى : لا أن يكون الانتصار نابعا من الغيرة او الحسد : ففي مثل هذا لسلوك تكون المرأة قد سلكت مفارقتين أو جريمتين : الجريمة الأولى : أنها لا تنهى عن المنكر إذا كان ذلك متصلا بحاجتها الذاتية. والجريمة الثانية : انها تفتعل إنكار المنكر وتلبس قناع الفضيلة زيفا لا حقيقة.

والدليل على ذلك كله : ان النص القصصي قدم لنا تجربتين احداهما لفظية والاخرى عملية ، ليدلل لنا على السلوك المنكر لدى نسوة المدينة.

أما التجربة اللفظية فتمثل في قول امرأة العزيز من خلال هذه الفقرة : {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} .

فلقد وصفهن الله بسمة (المكر) على لسان امرأة العزيز وإلا ، لكان يخلع عليهن صفة ايجابية لو كن حقا نسوة يحرصن على الفضيلة.

وأما التجربة العملية ، فقد ابرزها النص أيضا من خلال تحرك امرأة العزيز : حيث هيأت لهن وسائد أو أعدت لهن وليمة وأمرت يوسف ـ عليه السلام ـ بالخروج عليهن بعد ان هيأت امامهن مجموعة من السكاكين : حيث كانت النتيجة ان ينخلع لبهن من الاثارة الى الدرجة التي قطعن ايديهن انبهارا بدلا من تقطيع الفواكه مثلا...

ان هذه التجربة العملية تدلنا بدورها على ان نسوة المدينة لم يكن نقدهن لامرأة العزيز نابعا من الفضيلة والالتزام بمبادئ السماء ، بدليل انهن وقعن في نفس السلوك المنكر الذي صدرت عنه امرأة العزيز.

وخارجا عن ظاهرة الحسد أو الغيرة ، فإنما يمكن استخلاصه من هذا الدور الثانوي لنسوة المدينة ، يتمثل أيضا في جملة من الحقائق ، لعل ابرزها هو : تجنب عنصر الاثارة أساسا.

إن لقاء الرجل اساسا بالمرأة ، ينبغي ان يتم في تحفظ بالغ المدى. والمشرع الاسلامي ـ على سبيل المثال ـ حينما يمنع لقاء الجنسين لغير ضرورة ، انما يأخذ عنصر الاثارة بنظر الاعتبار ، أي : إنه يمنع المحادثة أو النظر أو الخلوة بين الجنسين : بغية تجنب الاثارة ، والا فان الاثارة تحصل بالضرورة إلا من عصم الله.

من هنا حصل تقطيع الايدي مثلا نظرا لتوفر عنصر الاثارة.

بل إن هذا العنصر دفع امرأة العزيز الى ان تتمادى في المنكر والى ان تخلع قناع الخجل الذي ينبغي ان تصدر عنه بعد الفضيحة ، لكنها ركبت غيها واعترفت قائلة : { وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ } [يوسف : 32]. بل إنها ذهبت اكثر من ذلك ، حيث تشجعت على ان تطالبه من جديد بممارسة المنكر ، حتى وصل الأمر الى التهديد بإيداعه في السجن ، قائلة : {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ} [يوسف : 32]

ان هذا الإعلان الصريح عن المنكر ، انا صدرت امرأة العزيز عنه ، لأنها وجدت ان نسوة المدينة قد قطعن ايديهن من الاثارة ، مما شجعها الى ان تتمادى في الغي ، على النحو الذي أوضحناه.

إذن : الظاهرة الاخرى التي يمكن استخلاصها ، بعد الحسد أو الغيرة ، في الدور الثانوي لنسوة المدينة ، هي : ضرورة أن يتجنب كل من الجنسين مواطن الاثارة من محادثة أو نظر أو خلوة بينهما.

وأما الظاهرة الفكرية الثالثة التي ينبغي استخلاصها أيضا ، من هذا الدور الثانوي لبطلات نسوة المدينة ، هي : ضرورة أن يصدر المرء عن سلوك موضوعي في تصرفاته لا أن يتلبس بقناع الفضيلة تحت دافع ذاتي ملوث يحن الى الرذيلة في اعماق نفسه.

هذا كله ، من حيث القيم الفكرية لبطلان نسوة المدينة.

وأما من حيث القيم الجمالية أو الفنية ، فإن هذا الدور ينطوي على إمتاع حافل بالإثارة من حيث الرسم الخارجي لملامح الابطال ، وللبيئة التي تحركوا من خلالها. فقد رسمت البيئة وهي مائدة طعام ، ووسائد ، وسكاكين لتقطيع الفواكه.

ثم رسمت ملامح الأبطال الخارجية وهي : مرأى أيد تقطع بالسكاكين بدلا من تقطيع الفواكه : في غمرة مرور يوسف ـ عليه السلام ـ وفي غمرة جلوس امرأة العزيز مراقبة عن كثب : ردود الفعل في هذا الميدان.

إن هذا المرأى الممتع فنيا ، قد أحكم ـ من حيث البناء الهندسي ـ حينما نلاحظ الصلة العضوية أو التلاحم بين رسم البيئة ورسم ملامح الابطال : أي بين مرأى الفواكه والسكاكين ، ومرأى الأيدي التي تقطعت بعد ذلك.

والمعروف ـ في لغة الادب القصصي ـ أن الفن يبلغ قمته العالية حينما يكون ثمة ترابط أو صلة بين وصفين خارجيين : أحدهما لعنصر (البيئة) والآخر لعنصر (الابطال) : حيث يكشف الترابط بين وصف البيئة [سكاكين : فواكه] ووصف الملامح الخارجية [تقطيع الأيدي] عن إحكام هذا المبنى القصصي ، وما يواكبه من الامتاع الفني في هذا الصدد.

البطل : (العزيز) أو (ملك مصر)

يتفاوت المفسرون في تحديد شخصية (العزيز) الذي اشترى يوسف.

ولا يهمنا تحديد هويته بقدر ما يهمنا ان نتعرف على دوره في القصة ، بصفته بطلا ثانويا ينطوي دوره على (أفكار) تستهدفها القصة ، كما ينطوي على مهمات فنية في تطوير أحداث القصة.

ودور هذا البطل ينحصر في ثلاث وقائع :

أولها : موقفه من يوسف في صراعه مع امرأة العزيز.

الثاني : رؤياه التي فسرها يوسف.

الثالث : توليته ليوسف على خزائن الأرض.

أما موقفه من يوسف في صراعه هذا الأخير مع امرأة العزيز ، فيتميز بكونه صادرا عن شخصية ضعيفة لا تستطيع حسم الأمور بقدر ما تنصاع لأوامر امرأة متحكمة ، تستبد بها أهواؤها ، الى الدرجة التي تفرضها على زوجها. بالرغم من معرفة زوجها تماما بالمنكر الذي صدرت امرأته عنه.

ويتمثل موقفه المتميع هذا ، في انصياعه لأوامر امرأته بحبس يوسف ، بالرغم من معرفته تماما ببراءة يوسف ونظافته من التهمة الموجهة إليه.

إن الشاهد من أهل امرأة العزيز أوضح بما لا لبس فيه أن يوسف كان بريئا كل البراءة. بل ان امرأة العزيز نفسها أقرت ببراءته. إلا ان العزيز ، مع ذلك كله وقع تحت تأثير امرأته التي استعطفت زوجها من ان سمعتها ستسوء ما لم يسجن يوسف.

وحتى اذا انسقنا مع التفسير الذاهب إلى ان ايداعه يوسف في السجن لم يكن بتحريض من امرأة العزيز بل من قبل مستشاري العزيز أو أهله حيث رأوا ان إيداعه في السجن يشكل انقاذا لسمعه امرأة العزيز...

أقول... حتى مع هذا الافتراض ، فإن انصياع العزيز إلى مثل هذه الاوامر ، يعد تعبيرا واضحا عن شخصية ضعيفة لا تنصاع الى الحق بقدر ما تنصاع الى موقف عاطفي منكر...

وإلا كيف يسمح الانسان لنفسه ، أن يوقع الأذى بشخصية نظيفة مثل يوسف ، بغية انقاذ سمعة زوجته... كيف لا يفكر بسمعة يوسف مع انه بريء : ثم يفكر بسمعة امرأته مع انها غير بريئة...؟؟

ان مثل هذا الموقف ، يعد ـ دون أدنى شك ـ نقطة ضعف كبيرة تسجل على العزيز.

وأهم ما ينبغي استخلاصه من عظة في هذا الصدد ، هو : إن الانصياع لأوامر المرآة يفسد الشخصية ويوقعها في سلوك منكر ، وهو امر تؤكده السماء لنا ، حينما تطالب الرجل بالا ينصاع لزوجته ، بل المفروض أن تنصاع الزوجة لزوجها ما دام الرجل قواما عليها حسب الحكمة التي انطوى التشريع عليها.

أما العظة الثانية التي ينبغي أن نستخلصها في هذا الصدد ، هي : ضرورة أن يصدر المرء في سلوكه عن الحق ، والتزام جانب الحيدة والموضوعية ، لا أن يسمح لعواطفه وذاتيته بالتحكم في الأمور ، وبخاصة في مواقف قضائية خطيرة تتصل بسمعة الشخصية وشرفها.

الدور الثاني لشخصية الملك في هذه القصة ، هو : رؤياه التي رآها عن البقرات والسنابل. ثم تفسير يوسف لهذه الرؤيات بواسطة أحد السجينين اللذين كانا مع يوسف ، حيث كان الذي نجا منهما قد تولى مهمة التعريف بشخصية يوسف وقدرته على تأويل الأحلام.

وفعلا ، بعد أن فسر يوسف لهذا الوسيط ، رؤيا الملك... حينئذ استدعى الملك يوسف. إلا أن يوسف قبل ان يواجه الملك ، قال للوسيط : إرجع الى الملك واسأله عن النسوة اللاتي قطعن أيديهن... وقد نفذ الملك هذا الطلب ، وسأل النسوة عن حقيقة الأمر ، فأجبته ببراءة يوسف... مما اضطر امرأة العزيز إلى الاقرار بدورها ببراءة يوسف...

ويبدو أن تنفيذ الملك لهذا الطلب ، كان بمثابة تفريج عن أزمته النفسية التي كان يعاني مرارتها دون أدنى شك : وهو يعرف تماما ان هذا الشخص البريء قد أودع السجن ظلما وعدوانا... فجاء هذا الطلب تفريجا لازمته من جانب ، وفرصة كبيرة لا نقاذ يوسف ، وبخاصة ان هذا الامر قد اقترن بالافادة من شخصية يوسف ، بصفتها شخصية علمية قدمت عطاءها العلمي في ميدان تفسير الأحلام وهو ميدان قد انعكست خطورته على الحقل الاقتصادي الذي انطوى عليه الحلم ، فالبلد على أبواب كارثة اقتصادية... وها هو يوسف ، يقدم تخطيطا إقتصاديا لتلافي الكارثة...

وإذا كان الأمر كذلك ، فإن اقتران هذه الافادة العلمية مع إثبات براءته ـ عن طريق نسوة المدينة وامرأة العزيز ـ يعدان فرصة ذهبية لإخراج يوسف من السجن ، والافادة منه ، فضلا عن اقتران ذلك كله ، بتخليص الملك من أزمته النفسية التي نجمت من ظلم الملك ليوسف.

اذن : كانت خطوة انقاذ يوسف من السجن ، أول تغيير في سلوك الملك ، أو لنقل : حسب المصطلح القصصي : أول خطوة في (نمو) الشخصية ، وانتقالها من السلب الى السلوك الايجابي.

ثم ، كانت الخطوة النهائية في نمو السلوك نحو الايجاب ، هي : تعيين الملك ليوسف خازنا على الأرض...

وهذه هي قمة التقدير لشخصية يوسف ، والتكفير عن الخطأ السابق...

وهكذا ـ بهذا الدور الثالث للبطل : الملك ـ تنتهي علاقة الملك بالقصة... وتبدأ الأحداث والمواقف تأخذ منعطفا آخر في القصة : يتصل بيوسف واخوته وابويه...

ومما لا شك فيه ، أن لهذا الدور الأخير ، أهمية خطيرة كل الخطورة ، لانه دور حاسم في تطوير الوقائع ، والسماح لشخصيات يعقوب وبنيامين وأخوة يوسف بالتحرك في مجالات جديدة ، فضلا عما ينطوي عليه من تطوير لشخصية يوسف نفسه ، ثم انعكاس ذلك على الحقل السياسي والاقتصادي للبلد.

البطل : يوسف

تحدثنا عن الأبطال الثانويين في قصة يوسف ، وعن مختلف أدوارهم ، بدء بيعقوب ، فأخوة يوسف ، فامرأة العزيز ، فنسوة المدينة... وانتهاء بالعزيز.

أما الآن فنتحدث عن البطل الرئيس في هذه القصة ، وهو يوسف نفسه...

ومما لاشك فيه ، ان دور هذا البطل ينطوي على (أفكار) أو (عظات) بالغة الخطورة ، اذا ضممناها إلى (الأفكار) التي استخلصناها من الأبطال الثانويين. ثم إذا فرزنا الأفكار التي استقل بها البطل يوسف وميزته بشخصيته المحددة.

إن الصبر على الشدائد يجسد سمة بارزة في سلوك يوسف.

ومما لا شك فيه ، ان يعقوب والد يوسف قد ميزته سمة الصبر المذكورة أيضا. بيد ان الشدائد على يعقوب كانت متميزة عن الشدائد بالنسبة الى ولده يوسف...

كانت الشدائد بالنسبة إلى يعقوب منحصرة في دافع (الأبوة) وما صاحب هذا الدافع من إحباط يتصل بالمشاعر التي يفجرها الدافع المذكور.

اما الشدائد التي تعرض لها يوسف فانها متصلة بأكثر من دافع ، فضلا عن انها تجاوزت نطاق المشاعر إلى دائرة الشدائد الخارجية.

ان هذه الشدائد بعضها داخلي صرف ، وبعضها خارجي يسحب آثاره على المشاعر الداخلية...

ونحن سنتجاوز الحديث عن الصدمات الداخلية الصرف التي تعرض لها يوسف : وهي ـ عادة ـ تتمثل في تحمل مشاعر الحسد من قبل إخوته مثلا ، وفي تحمل صدمات الفراق : فراق والده الذي كان يحيطه برعاية خاصة : حرم منها أمدا طويلا من الزمن...

أقول : سنتجاوز الحديث عن أمثال هذه الشدائد مع انها ذات ثقل كبير في ميزان الشخصية واستجابتها لهذه المواجهة... نتجاوزها لنتحدث عن شدائد رافقت رحلته مع إخوته ، ومع واقعه البئر ، ومع حادثة بيعه الى الآخرين ، ومع حادثة امرأة العزيز ، ومع حادثة السجن ، ومع وقائع السجن نفسه : ثم ما صاحب ذلك من مواقف افرزها نمط تعامله مع السماء ومع الآخرين وما استتبع ذلك مع صراع سحب شدائده النفسية الكبيرة على شخصية يوسف.

لنلاحظ ـ على سبيل المثال ـ موقفه من احد صاحبيه في السجن ، حينما فسر له رؤياه ، وعلم أنه سيحظى بمقابلة الملك... وغيرها قال لصاحبه : اذكرني عند الملك. ولكن صاحبه نسي هذا الطلب ، فلبث يوسف بعدها في السجن بضع سنين.

إن هذه الواقعة لا تتجسد شدتها في ان يمكث يوسف في السجن لبضع سنين أخرى ، بل إن شدتها تتمثل في نمط تعامله مع السماء ومع الآخرين ، بحيث تركت آثارا عميقة لديه ، تهون عندها قضية السجن نفسه بما ترافقه من شدائد نفسية وجسمية..

إن لنا أن نتصور مبلغ الشدة في أعماق يوسف ، عندما يدرك انه قد استعان بالبشر بدلا من الاستعانة بالله في تخليص نفسه من السجن أو في اثبات براءته من التهمة الموجهة إليه : بحيث كلف صاحبه بأن يتوسط لدى الملك...

ان الشخصيات الرفيعة التي تجسد صفوة البشر ، ليؤلمها كل الألم أن تقع ذات يوم في مثل هذا السلوك... إنها تدرك تماما أن الله لوحده هو المهيمن على الكون كله... فما قيمة مخلوق مثل الملك حيال الله خالق الملك وسواه؟؟

تقول النصوص المفسرة : نقلا عن الامام الصادق ـ عليه السلام ـ :

جاء جبرائيل ـ عليه السلام ـ فقال : يا يوسف من جعلك أحسن الناس؟ قال : ربي. قال : فمن حببك إلى أبيك دون اخوانك؟ قال : ربي قال : فمن ساق إليك السيارة؟ قال : ربي. قال : فمن صرف عنك الحجارة؟ قال : ربي. قال : فمن أنقذك من الجب؟ قال : ربي. قال : فمن صرف عنك كيد النسوة؟ قال : ربي. قال : فإن ربك يقول : ما دعاك إلى أن تنزل حاجتك بمخلوق دوني؟؟ إلبث في السجن بما قلت بضع سنين....

ان علينا أن نتصور مدى هذه الشدة النفسية على يوسف وهو يتلقى هذا التذكير من جبرائيل!!

لا شك : إن هذه الشدة تهون قبالها شدة السجن وما يرافقها من الشدائد النفسية والجسدية ، لانها عملية تذكير بعلاقة العبد بالله ، وكيفية نسيان مثل هذه العلاقة. انها شدة نفسية بالغة المدى لا يمكن أن يتحسسها إلا الصفوة التي محضها الله حبا خالصا حياله... ولذلك ، كان وقع هذه الشدة على يوسف ، كما يصفه النص المفسر على النحو التالي :

[فبكى يوسف عند ذلك ، حتى بكى لبكائه الحيطان ، فتأذى ببكائه أهل السجن ، فصالحهم على أن يبكي يوما ويسكت يوما. فكان في اليوم الذي يسكت : أسوء حالا...].

اننا لو تأملنا هذا النص ، لا دركنا مبلغ الشدة في اعماق يوسف : فحتى في اليوم الذي كان يسكت عن البكاء فيه ، انما كان حاله اشد الما من حاله وهو يبكي... وهذا يعني ان اليوم الذي كان لا يبكي فيه ، إنما يصرفه بالصراع وبالتوتر وبالتمزق وبالندم وبمعاودة التفكير... كل أولئك أشد ألما على النفس من البكاء الذي قد يختزل أو يساهم في تفريج الألم...

هذه واحدة من الشدائد النفسية التي كابد منها يوسف أشد المكابدة...

وعلينا أن نتصور سائر الشدائد التي صاحبت يوسف في رحلته...

والآن : لنتابع هذه الشدائد.

ولكن الاهم من ذلك : أن نتابع الاستجابة على الشدائد ، أي : الصبر على الشدائد وهو ما يستهدف النص من التشدد عليه من هذه القصة.

ترى : ما هي هذه الشدائد ؟

وكيف استجاب لها بطلنا يوسف ؟؟

أول شدة يكابدها يوسف ، تتمثل في شدة بدنية ونفسيه... هي : إقتياده من قبل إخوته الى الصحراء ثم إظهار مشاعرهم العدائية نحوه والبدء بممارسة الضرب حياله... حتى انه بدا يستغيث بهم واحدا واحدا فلا يغيثه أحد ، بل انهم هموا بقتله وهو يصرخ : ياأبتاه لولا أن يتدخل أحد الأخوة فيمنعهم من قتل يوسف...

إن هذه الشدة ليست بضئيلة البتة ، بل إنها ذات وقع كبير على يوسف دون أدنى شك…

لونا أن نتصور أن أخا صغيرا مثل يوسف وهو المدلل لدى أبيه يلاحظ فجأة أن أخوته الذين يمثلون أقرب الأرحام يظهرون له العداء المنكر وهو وحيد في الصحراء ثم ينهالون عليه بالضرب ، بل ويهمون بقتله وهو يستغيث ولا يغاث...

ثم يكبر حجم الشدائد ، حينما يصل الأمر الى إلقائه في البئر...

ولنا أن نتصور أيضا : كم هو مرعب ومأساوي مرأى أخ صغير يمسكه مجموعة من الإخوة قد انتزعت الرحمة من أعماقهم ثم يدلونه في بئر... لا شك ، انه مرأى مرعب ، رهيب ، مدمر...

ومما زاد في رعب هذا المنظر أو المرأى هو : الطريقة التي استخدموها في عملية القائه في البئر... فلقد جردوه من ثيابه وهو يستغيث : ردوا علي القميص أتوارى به... وكان جوابهم : ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا يؤنسنك... حقا : انه لمرأى مرعب تزحمه مشاعر يوسف وهي في حالة الاستغاثة التي تفجر الرحمة حتى في الحجارة...

وتتوالى الشدائد على يوسف...

فها هو ينقذ من البئر.. بيد أنه سرعان ما يشاهد إخوته يهرعون نحو القافلة أو السيارة ، ليبيعوه بثمن بخس : دراهم معدودة...

وعملية البيع ذاتها : تعد شدة نفسية كبيرة كما هو واضح.

وتتوالى الشدائد من جديد على يوسف...

لكنها الآن تأخذ منعطفا آخر...

فها هو يقع في صراع حاد مع امرأة العزيز :

ثم يشاهد فجأة زوجها على الباب...

ثم يتطور الأمر إلى أدخاله في السجن وإلصاق التهمة المنكرة به ، بالرغم من الأدلة التي أثبتت براءته...

وعلينا ألا نمر عابرا على مثل هذه الوقائع وما تصاحبها من الشدائد النفسية ، وبخاصة لدى صفوة نظيفة كل النظافة... كم تسحقها مثل هذه الأنماط من الصراع ، وكم تؤلمها مثل هذه التهم...

وأخيرا ، تجيء شدائد السجن بنمطيها النفسي والجسمي... ولا تعقيب لنا على مثل هذه الشدائد... فالسجن لوحده إيذاء نفسي وجسدي يرشح بأكثر من مأساة...

لكنه, مضافا إلى ما تقدم ، فقد واكبت حياته في السجن شدة نفسية كبيرة هانت عندها شدائد السجن ، ألا وهي عتاب جبرائيل على النحو الذي تحدثنا عنه مفصلا....

إن مكابدة يوسف لهذه الشدائد ، ينبغي ألا نتركها دون أن نلاحظ كيفية استجابته حيالها... فالمهم ـ وهذا ما تستهدفه السماء من وراء قص مثل هذه الحكايات ـ أن تستجيب الشخصية المؤمنة لهذه الشدائد ، بعملية (الصبر) ، وهي الاستجابة التي تصدر عنها ـ عادة ـ صفوة البشر.

إن يوسف لشخصية صابرة متميزة في هذا الميدان. ويكفي أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قد ثمن ظاهرة الصبر لدى يوسف ، حيث روي عنه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ :

(لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره ، والله يغفر له : حين سئل عن البقرات العجاف والسمان. ولو كنت مكانه لما اخبرتهم حتى اشترط أن يخرجوني من السجن. ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه ، والله يغفر له : حين أتاه الرسول فقال : ارجع إلى ربك. ولو كانت مكانه ولبثت في السجن ما لبثت ، لا سرعت الاجابة وبادرتهم بالباب ، وما ابتغيت العذر. إنه كان لحليما ذا أناة.

إن هذا التثمين من النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لموقف يوسف عليه السلام ، كاف ، في تسجيل خطورة ظاهرة (الصبر) لدى يوسف ، وإنها لشهادة جديرة بالتسجيل.

إذن : استخلاص عظة (الصبر) على الشدائد ، ينبغي أن نضعها في الاعتبار ونحن نتحدث عن بطل القصة يوسف.

 (السماح) بصفته واحدا من أنماط السلوك الذي تطالبنا السماء به ، يشكل سمة ملحوظة في شخصية يوسف... حيث تترافق مع سمة الصبر التي وقفنا عليها.

ولو لم يكن إلا عفو يوسف عن اخوته الذين أذاقوه أشد ألوان العذاب... لو لم يكن في القصة إلا هذا الموقف من يوسف حيال إخوته ، لكفى به سمة عظيمة في شخصيته...

 (الارادة) سمة ثالثة من سمات الشخصية لدى يوسف.

ولا حاجة بنا الى التعقيب على هذه السمة العظيمة التي تميز أسوياء الناس عن مرضاهم ، بل تميز رجة السوية بين الأسوياء أيضا.

ويكفي ، أن يوسف قد مارس إرادته في أشد الدوافع إلحاحا ، وفي أشد المنبهات إثارة ، حتى انه هتف قائلا : (السجن أحب إلي)... إنه اختار السجن الطويل. من خلال ممارسته للإرادة ـ وكابد ما كابد : تحقيقا لمبادئ السماء التي جسدتها ظاهرة (الإرادة) كما هو واضح.

أما السمات الأخرى التي طبعت شخصية يوسف فتتمثل في سمتين خطيرتين ، احدهما : السمة العلمية ، والأخرى : السمة الاجتماعية.

أما السمة العلمية ، فقد تحددت بوضوح في قدرته الفائقة على تفسير الأحلام : بدء بأحلام صاحبيه في السجن ، وانتهاء برؤيا الملك...

وواضح ، ان هذه السمة تظل جزء من سمة معجزة منحتها السماء ليوسف عندما بلغ أشده حيث صرح النص القرآني الكريم بوضوح في هذا الصدد :

{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف : 22]

السمة الاجتماعية التي غلفت شخصية يوسف عليه السلام ، تعد تتويجيا للسمات الأخلاقية والعلمية التي طبعت شخصيته.

لقد قال له الملك : { إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف : 54] وأجابه يوسف : { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف : 55] ثم عقبت السماء على ذلك : {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}

لقد أراد الملك أن يجعله مستشارا خاصا له : {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} .

بيد أن الملك عندما أعاد على يوسف قص رؤياه ، وفصلها يوسف من جديد ، وكان مما اقترحه على الملك : ان يجمع الطعام ، ويزرع زرعا كثيرا في السنين المخصبة ، ويبني الخزائن للطعام بقصبه وسنبله علفا للدواب ، وأن يرفع الناس من طعامهم الخمس ، حتى يكفي الطعام لمصر ومن حولها ، فيمتارون منه : وعندها تجتمع من الكنوز ما لا يجتمع لأحد.

هنا ، أحس الملك بصعوبة تحقيق هذه الخطة الاقتصادية قائلا : من لي بهذا ومن يجمعه (أي : الطعام).

وعندها أجابه يوسف : {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} ومنذ ذلك الحين تولى يوسف هذه المهمة.

ويقول الامام الرضا ـ عليه السلام ـ ان يوسف جمع خلال الأعوام المخصبة الطعام وكبسه في الخزائن ، ثم باعه في السنين المجدبة موزعا على سبع سنين : كل سنة بقيمة تبادلية خاصة هي : النقد والجواهر والدواب والعبيد والعقار والمزارع والرقاب ، حتى اجتمعت لديه كل الأموال وفق هذه الخطة... وحتى قيل في حينه : [ما رأينا ولا سمعنا بملك أعطاه الله من الملك ما أعطى هذا الملك حكما وعلما وتدبيرا].

وقد رد يوسف بعد ذلك كل هذه الأموال إلى أصحابها بما في ذلك : عتقه لمن تملكهم ، وبما في ذلك : خاتم الملك وسريره وتاجه ، مبينا للملك أن اجراءاته الاقتصادية المذكورة لم تكن من أجل دافع التملك أو السيطرة ، وانما من أجل إنقاذهم... ولذلك ، فأنا ارد إليهم كل الأموال وأرد إليك سريرك ، ولكن شريطة أن تحذو حذوي في المنهج السياسي للبلد.

وعندها : ثمن الملك هذا التوجيه السياسي ، وأعلن ايمانه بالله...

إن ما يعنينا مما تقدم ، أن نستخلص الدلالة الفكرية لهذه السمة التي طبعت شخصية يوسف من خلال اضطلاعه بتحمل المسؤولية...

لقد عقبت السماء على تولي يوسف للمسؤولية ، بهذه الفقرات :

{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.

فهذه الفقرات توضح لنا أن منح يوسف هذه المسؤولية (الملك) انما تشكل عطاء أو نعمة في الدنيا ، فضلا عن العطاء الأخروي (ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون).

ومعطيات هذه النعم ليست لمجرد انها تحقيق لدافع التملك أو السيطرة... فهذان الدافعان لا قيمة لهما عند الصفوة البشرية ، بل هما وسيلة لتحقيق مصالح الآخرين ، على النحو الذي حققه يوسف فعلا : وحيث انتهى به الأمر إلى رد كل الأموال والتخلي عن الملك...

ولا يغب عن بالنا أيضا ، كما تشير النصوص المفسرة ، أن الملك نفسه قد أعلن ايمانه ، وان الآخرين أيضا أعلنوا ايمانهم ، نتيجة وقوفهم على السياسة الحكيمة التي انتهجها يوسف : وهي سياسة مستوحاة من مبادئ السماء التي ألهمته إياه دون أدنى شك.

إذن : الشخصية المؤمنة ، الصابرة... الشخصية التي كابدت ألوان المهانة ، وفقدت التقدير الاجتماعي... قد كافأتها السماء بتقدير اجتماعي لا يدور ببال أحد قط الى الدرجة التي سيطرت بها على مصائر الجمهور... وهذا كله في حساب العطاء الدنيوي.

أما العطاء الآخروي فهو خير من ذلك ، كما أشار النص القرآني الكريم.

هذا ، إلى ان ذلك كله ، إنما يتم في نطاق الالتزام بمبادئ السماء...

ثم ما يترتب على هذا الالتزام من تحقيق معطيات أخرى ، هي : إرشاد الآخرين وتوجيههم الى مبادئ السماء أيضا. وهو ما حصل فعلا من إيمان الملك وإيمان الجمهور.

وهذا المعطى الأخير له قيمته الخطيرة دون أدنى شك... وأعني بذلك : أن يكون الملك أو الاضطلاع بأية مسؤولية كبيرة كانت أو صغيرة... وسيلة للهداية... لإرشاد الآخرين نحو الايمان بالله ومبادئه.

وبعد : هناك أحداث ومواقف ، لم نتحدث عنها في قصة يوسف... وبمقدور المتلقي أن يستخلص منها دلالات متنوعة ، تظل حائمة على الأفكار التي لحظناها في القصة بكل شخصياتها الثانوية والرئيسية..

كما اننا لم نتحدث عن البناء الفني للقصة إلا عابرا...

ان الحديث عن البناء الفني للقصة ، يتطلب مساحة أكبر من المساحة التي حددت أفكار القصة. فكل دور من الأدوار التي لحقت الشخصيات الثانوية : يعقوب ، إخوة يوسف ، أحفاد يعقوب ، امرأة العزيز ، نسوة المدينة ، الأخ الأصغر ليوسف ، العزيز ، صاحبي السجن ، الشاهد... كل دور لهذه الشخصيات قد صيغ وفق حوار وسرد مليئين بالأسرار الفنية : من اختزال أو تفصيل ، ومن اقتصاد لغوي ، ومن عرض مدهش...

هذا فضلا عن عناصر المفاجأة والتشويق... وفضلا عن حركة القصة وتموجاتها وإيقاعها... وفضلا عن بنائها الزمني ونمو الأحداث من خلاله بنحو مدهش ، نجدنا قاصرين عن التحدث عنه ، إلا من خلال تخصيص مساحة كبيرة لها ، عسى ان نوفق لذلك في مجال آخر.




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .



جامعة الكفيل تكرم الفائزين بأبحاث طلبة كلية الصيدلة وطب الأسنان
مشروع التكليف الشرعي بنسخته السادسة الورود الفاطمية... أضخم حفل لفتيات كربلاء
ضمن جناح جمعيّة العميد العلميّة والفكريّة المجمع العلمي يعرض إصداراته في معرض تونس الدولي للكتاب
جامعة الكفيل تعقد مؤتمرها الطلابي العلمي الرابع